The Doctrine of Belief in Predestination and Decree among the Salaf and its Impact on the Believer
عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر عند السلف وأثرها على المؤمن
Genres
عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر عند السلف وأثرها على المؤمن
د: عبد المجيد بن محمد الوعلان
Unknown page
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران: ١٠٢]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء: ١]، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أما بعد:
فإن الإيمان أمره عظيم، إذ هو الأساس الذي تبنى عليه السعادة في الدنيا والآخرة، فهو من أعظم مراتب الدين، فإن جبريل لما جاء إلى النبي ﷺ في حضرة الصحابة، سأله عن الإيمان فقال: فأخبرني عن الإيمان، قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» ... ثم قال النبي ﷺ في أخر الحديث: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» (^١).
ففسر الإيمان على أنه الإيمان بهذه الأركان الستة. وركن الشيء: جانبه الذي يقوم عليه، فركن البيت، هو جانبه الذي يقوم عليه، فالإيمان يقوم على هذه الأركان الستة، فإذا سقط منها ركن لم يكن الإنسان مؤمنًا به لأنه فقد ركنًا من أركان الإيمان.
ولذلك كان لزامًا على كل مسلم أن يتعلم حقائق الدين ليتعرف على الطريقة الصحيحة لعبادة الله ﷿ القائل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات: ٥٦].
وتأتي أهمية هذا البحث لأنه دعوة للإيمان بالله تعالى وبقضائه وقدره، لأن الإيمان بقضاء الله وقدره، إيمان بالله تعالى وربوبيته، وملكه وتصرفه وخلقه، وإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن، وإيمان بسعة علم الله، وإحاطته بكل شيء، وتقديره للأشياء في الأزل وكتابته لها.
ومن أجل توضيح عقيدة أهل السنة والجماعة في قضية الإيمان بالقضاء والقدر جاء هذا البحث المختصر؛ حتى يعبد المسلمُ اللهَ على بصيرة وعلم، وحتى يتحقق له ثمرة هذا الإيمان في الدنيا والآخرة.
_________
(^١) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات القدر، ص (١/ ١٥٥ - شرح النووي)، دار الكتاب العربي، بيروت، ١٤٠٧ هـ.
1 / 1
خطة البحث:
يشتمل هذا البحث على مقدمة، وخمسة فصول، وخاتمة.
أما المقدمة فتشتمل على أهمية هذا الموضوع وخطة البحث.
أما الفصل الأول فيشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تحدثت فيه عن تعريف القضاء والقدر لغة وشرعًا.
المبحث الثاني: تحدثت فيه عن أهمية الإيمان بالقضاء والقدر ومنزلته من العقيدة.
المبحث الثالث: ذكرت فيه الأدلة على الإيمان بالقضاء والقدر من الكتاب والسنة.
أما الفصل الثاني:
تحدثت فيه عن مراتب القدر بالتفصيل والأدلة على كل مرتبة، وذكرت فيه أقسام التقدير.
أما الفصل الثالث: فيشتمل على فصلين:
المبحث الأول: تحدثت فيه على الأمور التي يدور عليها الخلاف في القدر، وسبب ذلك الخلاف.
المبحث الثاني: تحدثت فيه عن مذاهب الناس في القدر، فذكرت عقيدة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة. ثم ذكرت عقيدة أهل السنة والجماعة.
أما الفصل الرابع:
تحدثت فيه عن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح.
أما الفصل الخامس:
وتحدثت فيه عن العلمانية وصلتها بالانحراف في مفهوم القدر، وذكرت فيه تعريف العلمانية. وعقيدة الصوفية في القدر وكيف استغلت العلمانية المفهوم الخاطئ عند الصوفية لعقيدة القدر في الغزو الفكري للأمة الإسلامية.
الخاتمة: تحدثت فيها عن أهم النتائج التي توصلت إليها.
أما عملي في البحث فهو كالتالي:
١ - عزو الآيات إلى أماكنها في القران، وذلك ببيان اسم السورة ورقم الآية ووضعها بين قوسين ﴿﴾.
٢ - تخريج الأحاديث والآثار وذكر مصادرها ووضعها بين معكوفين «».
٣ - ترجمة للفرق الواردة في البحث.
٤ - عمل قائمة بالمراجع.
٥ - فهرس الموضوعات.
هذا وأسال الله ﷾ أن يجعل هذا الجهد القليل خالصًا لوجه الكريم، وأن ينفعنا به في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
د: عبد المجيد بن محمد الوعلان
awalaan@gmail.com
1 / 2
الفصل الأول
المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر لغة وشرعًا
القدر لغة: بفتح الدال وسكونها القضاء والحكم، وهو ما يقدره الله ﷿ من القضاء ويحكم به من الأمور. قال الله ﷿: ﴿أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا﴾ [القدر: ١] يعني الحكم (^١).
قال ابن فارس: القاف والدال والراء اصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته. وقدرت الشيء أقدره وأقدره -بسكون القاف وكسر الدال وضمها- من التقدير (^٢).
وفي القاموس القدر محركة: القضاء والحكم ومبلغ الشيء، والتقدير: التروية، والتفكير في تسوية أمر (^٣).
القضاء لغة: الفصل والحكم، وأصله القطع والفصل، وقضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، فيكون بمعنى الخلق.
قال الزهري: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه. وكل ما أحكم عمله، أو أتم، أو ختم، أو أودي، أو أوجب، أو أعلم، أو أنفذ، أو أمضي، فقد قضي وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الحديث (^٤).
والقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس، وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء، وهو القضاء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه (^٥).
معنى القضاء والقدر شرعًا:
هو أن الله ﷾ علم الأشياء كلها قبل وجودها وكتبها عنده وشاء ما وجد منها وخلق ما أراد خلقه (^٦).
_________
(^١) ابن منظور، لسان العرب (٦/ ٣٥٤٥)، تحقيق عبد الله الكبير وغيره، دار المعارف. القاموس المحيط، للفيروزآبادي، ص ٤١٤، ضبط وتوثيق يوسف الشيخ البقاعي، دار الفكر، بيروت، ١٤١٥ هـ.
(^٢) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ص (٥/ ٦٢)، الطبعة الأولى، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ١٤١١ هـ.
(^٣) القاموس المحيط، ص ٤١٤.
(^٤) لسان العرب (٦/ ٣٦٦٥)، النهاية في غريب الحديث والأثر (٤/ ٦٩)، الطبعة الأولى، تعليق صلاح عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت ١٤١٨ هـ.
(^٥) لسان العرب (٦/ ٣٦٦٥).
(^٦) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ص (٣/ ٣٧٤)، رقم ٤٠٨٨، الطبعة الأولى، جمع أحمد الدويش، مكتبة المعارف، الرياض، ١٤١٢ هـ.
1 / 3
تعريف أخر: هو التصديق الجازم بأن كل خير وشر فهو بقضاء الله وقدره وأنه الفعال لما يريد، لا يكون في ملكه شيء إلا بإرادته، ولا يخرج عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المحفوظ، وأنه خالق أفعال العباد من الطاعات والمعاصي (^١).
تعريف أخر: هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها (^٢).
وكل هذه التعاريف متقاربة وتشتمل على مراتب القدر الأربعة: العلم والكتابة والمشيئة والخلق.
الفرق بين القضاء والقدر:
قال الشيخ ابن عثيمين ﵀: " القدر في اللغة؛ بمعنى: التقدير؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)﴾ [القمر: ٤٩]، وقال تعالى: ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣)﴾ [المرسلات: ٢٣]. - وأما القضاء؛ فهو في اللغة: الحكم.
ولهذا نقول: إن القضاء والقدر متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن تفرقا؛ على حد قول العلماء: هما كلمتان: إن اجتمعتا افترقتا، وإن افترقتا اجتمعتا.
فإذا قيل: هذا قدر الله؛ فهو شامل للقضاء، أما إذا ذكرا جميعًا؛ فلكل واحد منهما معنى.
- فالتقدير: هو ما قدره الله تعالى في الأزل أن يكون في خلقه.
- وأما القضاء؛ فهو ما قضى به الله ﷾ في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، وعلى هذا يكون التقدير سابقًا" (^٣).
_________
(^١) عبد العزيز السلمان، الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، ص ٨٤، الطبعة التاسعة عشرة.
(^٢) عبد الرحمن المحمود، القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه، ص ٣٩، الطبعة الثانية، دار الوطن، الرياض، ١٤١٨ هـ.
(^٣) شرح العقيدة الواسطية: ٢/ ١٨٩. وانظر: فتح الباري: ١١/ ١٤٩، ٤٧٧، والقضاء والقدر للأشقر: ٢٤، والقضاء والقدر للمحمود: ٤٤.
1 / 4
المبحث الثاني أهمية الإيمان بالقضاء والقدر ومنزلته من العقيدة
الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، وهو داخل في الإيمان بالله ﷿ وبروبيته وأسمائه وصفاته، فمن صفاته ﷾ صفة العلم، والقدرة، والإرادة، والخلق، ومعلوم أن القدر إنما يقوم على هذه الأسس.
ولاشك أن الإقرار بتوحيد الله وربوبيته لا يتم إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فمن زعم أن هناك خالقًا غير الله تعالى فقد أشرك، والله تعالى، خالق كل شئ، ومن ذلك أفعال العباد (^١).
ولم يرد في القران التنصيص على وجوب الإيمان بالقدر، وإنما وردت أدلة مجملة تدل على تقدير الله للأشياء (^٢)، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)﴾ [القمر: ٤٩]، وقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢)﴾ [الفرقان: ١ - ٢]، وقوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (٣٨)﴾ [الأحزاب: ٣٨]، وقوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣)﴾ [المرسلات: ٢١ - ٢٣].
وقد ورد التنصيص على الإيمان بالقدر في السنة، في حديث عمر بن الخطاب ﵁ في سؤال جبريل ﵇ الرسول ﷺ عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خير وشره. قال: -يعني جبريل- صدقت» (^٣). وعن جابر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» (^٤).
_________
(^١) شرح العقيدة الطحاوية ص (٢/ ٣٥٦). الطبعة الأولى، تحقيق عبد الله التركي، شعيب الأرناؤط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ١٤٠٨ هـ.
(^٢) انظر: القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود، ص ٨٦، وشريط عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر، صالح آل الشيخ، تسجيلات النداء الإسلامية، الرياض.
(^٣) سبق تخريجه ص ١ حاشية رقم ١.
(^٤) رواه الترمذي: كتاب القدر، باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره، ص (٦/ ٣٥٦ - شرح تحفة الأحوذي)، رقم ٢٢٣١، الطبعة الثالثة، ضبط عبدالرحمن عثمان، مكتبة ابن تيمية، ١٤٠٧ هـ، وقد صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم ١٧٤٣، الطبعة الأولى، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، ١٤٠٨ هـ. وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم ٢٤٣٩، الطبعة الأولى، مكتبة المعارف، الرياض، ١٤١٢ هـ.
1 / 5
وعن طاوس قال: أدركت أناسًا من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر ﵄ يقول: قال رسول الله ﷺ: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (^١)، أو الكيس والعجز» (^٢). وعن أبي الدرداء ﵁ عن النبي ﷺ قال: «لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بالقدر» (^٣).
قال ابن عباس ﵄: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده) (^٤).
وقد قال ابن عمر ﵄ في الذين يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) (^٥).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا ثبت هذا - يعني تحقيق شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدًا رسول الله- فمعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره، وبقضائه وشرعه) (^٦).
وقال ابن القيم: (قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدا، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء؛ فإن إنكار القدر: إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها) (^٧).
_________
(^١) العجز: هو عدم القدرة، وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وتأخيره عن وقته، والكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور، ومعناه أن العاجز قد قدر عجزه والكيس قد قدر كيسه. ص (١٦/ ٢٠٥ - شرح النووي).
(^٢) رواه مسلم: كتاب القدر - باب كل شيء بقدر (١٦/ ٢٠٥ - شرح النووي).
(^٣) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد، انظر الجامع الصحيح في القدر، تأليف مقبل الو ادعي، ص ١٤، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. وهو في السلسلة الصحيحة رقم (٦٧٥)، الطبعة الرابعة، المكتب الإسلامي، بيروت، ١٤٠٥ هـ.
(^٤) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، ص (١/ ٣٢٢)، شرح أصول اعتقاد آهل السنة والجماعة للالكائي، ص (٤/ ٦٢٢)، الطبعة الثانية، تحقيق أحمد حمدان، دار طيبة، الرياض، ١٤١١ هـ.
(^٥) رواه مسلم: كتاب القدر - باب كل شيء بقدر (١٦/ ٢٠٥ - شرح النووي).
(^٦) التدمرية، شيخ الإسلام ابن تيمية، ص ١٣٠، الطبعة الثانية، مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ١٤٠٠ هـ.
(^٧) ابن القيم، شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص ٢٨، الطبعة الأولى، تصحيح السيد محمد بدر الدين الحلبي، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
1 / 6
المبحث الثالث: الأدلة على الإيمان بالقضاء والقدر من الكتاب والسنة
أولًا: الأدلة من القرآن:
قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)﴾ [القمر: ٤٩]، وقال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢)﴾ [الفرقان: ١ - ٢]، (أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره) (^١).
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٣٧) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (٣٨)﴾ [الأحزاب: ٣٧ - ٣٨]، (أي وكان أمره الذي يقدره كائنًا لا محالة وواقعًا لا محيد عنه ولا معدل فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن) (^٢).
وقال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: ١١]، (وهذا عام لجميع المصائب، في النفس والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم. فجميع ما أصاب العباد، بقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علمه، وجرى به قلمه، ونفذت مشيئته، واقتضته حكمته) (^٣).
وقال تعالى: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠)﴾ [الأعلى: ٥ - ١٠]، قال ابن كثير: (والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله ﷿ يجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر) (^٤).
_________
(^١) ابن كثير، تفسير القران العظيم، ص (٣/ ٣٢٠)، الطبعة الثانية، تقديم الدكتور يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت، ١٤٠٧ هـ.
(^٢) تفسير ابن كثير، (٣/ ٥٠٠).
(^٣) ابن سعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص (٧/ ٣٩٩)، مركز صالح بن صالح الثقافي، عنيزة، ١٤٠٧ هـ.
(^٤) تفسير ابن كثير، (٤/ ٥٥٤).
1 / 7
ثانيا: الأدلة من السنة:
عن عمر بن الخطاب ﵁ في سؤال جبريل ﵇ الرسول ﷺ عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خير وشره. قال: -يعني جبريل- صدقت» (^١). (في هذا الحديث أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، فقد ترك أصلًا من أصول الدين وجحده، فيشبه من قال الله فيهم: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥]) (^٢).
وعن جابر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» (^٣). قال الشيخ ابن باز ﵀: (وجميع الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب تدعوا إلى إيمان العبد بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وان ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطاه لم يكن ليصيبه، كما تدعوه إلى أن يسارع في الخيرات، وينافس في الطاعات، ويحرص على أسباب الخير، ويبتعد عن أسباب الشر) (^٤).
وعن طاوس، قال: أدركت أناسًا من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر ﵄ يقول: قال رسول الله ﷺ: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز» (^٥). وعن أبي الدرداء ﵁ عن النبي ﷺ قال: «لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بالقدر» (^٦).
وعن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله تعالى أن يذهبه من قلبي، فقال: لو أن الله تعالى عذب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله تعالى ما قبله الله تعالى منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت ابن مسعود فقال: مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال: مثل ذلك. قال: ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي ﷺ مثل ذلك (^٧).
_________
(^١) سبق تخريجه ص ١ حاشية رقم ١.
(^٢) عبد الرحمن بن حسن، فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص ٤٢٨، الطبعة الأولى، المكتبة التجارية، مكة، ١٤١٢ هـ.
(^٣) سبق تخريجه ص ٦ حاشية رقم ٤.
(^٤) مجموع الفتاوى للشيخ ابن باز، جمع عبد الله الطيار وأحمد بن باز، ص (٣/ ٤٩١)، الطبعة الأولى، دار الوطن، الرياض، ١٤١٦ هـ.
(^٥) سبق تخريجه ص ٨ حاشية رقم ٢.
(^٦) سبق تخريجه ص ٨ حاشية رقم ٣.
(^٧) حديث حسن، رواه أبو داود، انظر الجامع الصحيح في القدر، ص ١٤.
1 / 8
الفصل الثاني: مراتب القدر والأدلة على كل مرتبة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وتؤمن الفرقة الناجية - أهل السنة والجماعة- بالقدر خيره وشره. والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عليم بما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق ... ثم قال
وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله ﷾، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير، من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، ولا خالق غيره، ولا رب سواه) (^١).
فعلى هذا مراتب القدر أربعة، هي:
المرتبة الأولى: العلم:
وهو أن الله ﷾ علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي، وعلم مقاديرها، وأزمانها، وآجال العباد، وأرزاقهم وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢)﴾ [العنكبوت: ٦٢]، وقال تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)﴾ [الطلاق: ١٢]، (أي لتعلموا كمال قدرته وإحاطته بالأشياء، وهو معنى ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)﴾، فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنا ما كان) (^٢).
وقال تعالى: ﴿(٥٨) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ [الأنعام: ٥٩]، ومفاتح الغيب فسرها رسول الله ﷺ بأنها خمس لا يعلمها إلا الله وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)﴾ [لقمان: ٣٤] (^٣).
_________
(^١) ابن تيمية، العقيدة الواسطية، ص (٢٢ - ٢٣)، شرح الشيخ محمد بن مانع، مكتبة النهضة الحديثة.
(^٢) فتح القدير، للشوكاني، ص (٥/ ٢٤٨)، طبعة دار الفكر، بيروت، ١٤٠٣ هـ.
(^٣) الحديث رواه البخاري: كتاب التفسير-سورة الأنعام، باب ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو﴾ وفي تفسير سورة لقمان، باب ﴿إن الله عنده علم الساعة﴾ (٨/ ٢٩١، ٨/ ٥١٣ - فتح الباري)، تصحيح الشيخ عبد العزيز بن باز، دار الفكر.
1 / 9
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨)﴾ [طه: ٩٨] (أي هو عالم بكل شيء، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦)﴾ [هود: ٦]) (^١).
وعن عمران بن حصين ﵁ قال: قال رجل: يا رسول الله! أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: «نعم»، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: «كل ميسر لما خلق له» (^٢). وقد ترجم عليه البخاري بقوله: بابٌ جفَ القلمُ على علم الله، وقوله: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ (قال عياض: معنى جف القلم أي لم يكتب بعد ذلك شيئا، وكتاب الله ولوحه وقلمه من غيبه ومن علمه الذي يلزمنا الإيمان به) (^٣).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، كما تنتجون البهيمة هل فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها» قالوا: يا رسول الله: أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (^٤). والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
المرتبة الثانية: الكتابة:
وهو أن الله كتب جميع الأشياء من خير وشر، وطاعة ومعصية، وآجال وأرزاق، وغير ذلك، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)﴾ [الحج: ٧٠]، (يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه وأنه محيط بما في السموات والأرض فلا يعزب مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات قبل وجودها وكتب ذلك في اللوح المحفوظ) (^٥).
_________
(^١) تفسير ابن كثير (٣/ ١٧٢).
(^٢) رواه مسلم كتاب القدر: باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه (١٦/ ١٩٨ - شرح النووي)، ورواه البخاري كتاب القدر، باب جف القلم على علم الله، (١١/ ٤٩١ - فتح الباري).
(^٣) فتح الباري (١١/ ٤٩١).
(^٤) رواه البخاري، كتاب القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين، (١١/ ٤٩٣ - فتح الباري) ورواه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، (١٦/ ٢١٠ - شرح النووي)
(^٥) تفسير ابن كثير (٣/ ٢٤٥).
1 / 10
وقال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢)﴾ [الحديد: ٢٢].
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كتب الله مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء» (^١). (قال العلماء المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له) (^٢).
وفي الصحيحين من حديث علي ﵁ قال: كنا جلوسًا مع النبي ﷺ، ومعه عود ينكت به في الأرض، فنكس وقال: «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أومن الجنة» فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر ثم قرأ ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥)﴾ الآية [الليل: ٥]» (^٣) (وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم، وفيه رد على الجبرية، لأن التيسير ضد الجبر، لأن الجبر لا يكون إلا عن كره ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له) (^٤).
_________
(^١) رواه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم موسى، (١٦/ ٢٠٣ - شرح النووي).
(^٢) شرح النووي على مسلم، (١٦/ ٢٠٣).
(^٣) رواه البخاري: كتاب القدر، باب وكان أمر الله قدرًا مقدورًا (١١/ ٤٩٤ - فتح الباري)، ورواه مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (١٦/ ١٩٥ - شرح النووي).
(^٤) فتح الباري، (١١/ ٤٩٨).
1 / 11
أقسام التقدير خمسة (^١):
الأول: التقدير العام قبل خلق السموات والأرض:
وهو تقدير الرب لجميع الأشياء بمعنى علمه بها وكتابته لها ومشيئته وخلقه لما كان منها، ويدل على هذا النوع دلائل كثيرة منها قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)﴾ [الحج: ٧٠]، وقوله: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)﴾ [الطلاق: ١٢]، وقوله: ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)﴾ [الحج: ١٨]، وقوله: ﴿الله خالق كل شيء﴾ [الزمر: ٦٢]، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ أن النبي ﷺ قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (^٢).
الثاني: كتابة الميثاق حين أخذ على بني آدم وهم على ظهر أبيهم آدم:
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ الآية [الأعراف: ١٧٢]. وفي مسند الإمام أحمد عن أبي الدرداء ﵁ عن النبي ﷺ قال: «خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي» (^٣).
الثالث: التقدير العمري:
وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله وكتابة شقاوته وسعادته، وقد دل عليه حديث ابن مسعود ﵁ أن النبي ﷺ قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ...» (^٤) الحديث.
الرابع: التقدير السنوي:
_________
(^١) التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة، عبد الرحمن بن سعدي، ص ٧٨ - ٨٠، الطبعة الأولى، تعليق الشيخ ابن باز، ضبط علي حسن عبد الحميد، دار ابن القيم، الدمام، ١٤٠٩ هـ. وانظر: شفاء العليل ص ٦ - ٢٣، معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول للشيخ حافظ الحكمي (٣/ ٩٢٨ - ٩٤٠)، الطبعة الثالثة، ضبط وتعليق عمر بن محمود، دار ابن القيم، الدمام، ١٤١٤ هـ، والقضاء والقدر للمحمود ص ٦٦ - ٦٩.
(^٢) سبق تخريجه ص ١٢ حاشية رقم ٢.
(^٣) قال محقق الكتاب: رواه أحمد وابنه في الزوائد (٦/ ٤٤١) وإسناده صحيح.
(^٤) رواه البخاري كتاب القدر (١١/ ٤٧٧ - فتح الباري)، ورواه مسلم في كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (١٦/ ١٩٠ - شرح النووي).
1 / 12
وذلك يكون في ليلة القدر ويدل عليه قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)﴾ [الدخان: ٤]، وقوله تعالى: ﴿الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥) لَمْ﴾ [القدر: ٤ - ٥]، قيل يكتب في هذه الليلة ما يحدث في السنة من موت وعز وذل وغير ذلك، روي هذا عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير وأحد من السلف (^١).
الخامس: التقدير اليومي:
ويدل عليه قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: ٢٩]، عن أبي الدرداء ﵁ عن النبي ﷺ في تفسير ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ قال: «من شأنه أن يغفر ذنبًا ويفرج كربًا ويرفع قومًا ويضع آخرين»، علقه البخاري عن أبي الدرداء موقوفًا (^٢).
المرتبة الثالثة: المشيئة:
أي أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ليس في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه ولا يكون في ملكه إلا ما يريد. كما قال تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٩)﴾ [التكوير: ٢٨ - ٢٩]، قال ابن كثير: (أي ليست المشيئة موكولة لكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل بل ذلك كله تابع لمشيئته تعالى رب العالمين) (^٣).
وقال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)﴾ [المدثر: ٥٥ - ٥٦]، (وما يذكرون إلا أن يشاء الله - فإن مشيئة الله، نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير. ففيها رد على القدرية، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، ولا فعل حقيقة، وإنما هو مجبور على أفعاله. فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلًا، وجعل ذلك تابعًا لمشيئته) (^٤).
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١٣٧)﴾ [الأنعام: ١٣٧]. قال ابن كثير: (أي كان هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونًا، وله الحكمة التامة في ذلك، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون) (^٥).
_________
(^١) تفسير ابن كثير (٤/ ٥٦٨ - ٥٧٠).
(^٢) رواه البخاري في كتاب التفسير، سورة الرحمن (٨/ ٦٢٠ - فتح الباري).
(^٣) تفسير ابن كثير (٤/ ٥١٢).
(^٤) تفسير ابن سعدي (٧/ ٥٢٠).
(^٥) تفسير ابن كثير (٢/ ١٨٦).
1 / 13
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله ﷺ: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» (^١)، (معنى الحديث أنه ﷾ متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء، لا يمتنع عليه منها شيء ولا يفوته ما أراده) (^٢).
المرتبة الرابعة: الخلق والتكوين:
وهو أن الله ﷾ هو الخالق الموجد لجميع الأشياء، من ذوات وصفات وأفعال، ومن ذلك أفعال العباد. والأدلة على هذه المرتبة كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦)﴾ [الصافات: ٩٦]، (أي خلقكم وخلق أعمالكم) (^٣).
وقال تعالى: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ﴾ [الرعد: ١٦]، (قال الزجاج: والمعنى أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقًا) (^٤).
وقال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)﴾ [الزمر: ٦٢]، (هذه العبارة وما أشبهها، مما هو كثير في القرآن، تدل على أن جميع الأشياء - غير الله وأسمائه وصفاته- مخلوقة) (^٥).
عن حذيفة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته» (^٦)، (وتلا بعضهم عند ذلك ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦)﴾ [الصافات: ٩٦]، فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة) (^٧). (^٨)
_________
(^١) رواه مسلم: كتاب القدر، باب تصريف الله القلوب كيف يشاء (١٦/ ٢٠٣ - شرح النووي).
(^٢) شرح النووي على مسلم (١٦/ ٢٠٣).
(^٣) فتح القدير (٤/ ٤٠٢).
(^٤) فتح القدير (٢/ ٧٤).
(^٥) تفسير ابن سعدي (٦/ ٤٨٩).
(^٦) حديث صحيح، أخرجه البخاري، في كتاب خلق أفعال العباد ص ٣٩، الطبعة الثانية، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، دار عكاظ، جدة، وابن أبي عاصم في السنة بلفظ «إن الله خالق كل صانع وصنعته»، انظر الجامع الصحيح في القدر، ص ١٢٥.وقال الألباني حديث صحيح، كتاب السنة لابن أبي عاصم ص (١/ ١٥٨)، الطبعة الثانية، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ١٤٠٥ هـ. وهو مخرج في الصحيحة رقم (١٦٣٧).
(^٧) خلق أفعال العباد للبخاري، ص ٤٦.
(^٨) انظر: مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز، (٣/ ٤٧٦ - ٤٨٠)، معارج القبول (٣/ ٩٢٠ - ٩٤٠)، شفاء العليل (٢٩ - ٣٩).
1 / 14
الفصل الثالث: مذاهب الناس في القدر
المبحث الأول: سبب الخلاف في القدر
(الخلاف في القدر يدور حول أمرين:
أحدهما: ما يتعلق بالله تعالى، وذلك في مراتب القدر الأربع: العلم، والكتابة، والمشية، والخلق التي يثبتها أهل السنة والجماعة لله تعالى.
الثاني: ما يتعلق بالعبد، هل له إرادة ومشية أم لا، وهل له قدرة أم لا؟ وهل هو فاعل لفعله حقيقة أم لا؟) (^١).
وسبب ضلال الفرق، هو عدولهم عن الصراط المستقيم، الذي أمرنا الله باتباعه، فقال تعالى ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣]، والخوض في فعل الرب، قال شيخ الإسلام:
وأصل ضلال الخلق في كل فرقة هو الخوض في فعل الإله بعلة (^٢)
(فالقدرية النفاة الذين نفوا القدر قالوا: إن الله لا يريد الكفر والذنوب والمعاصي ولا يحبها ولا يرضاها، فكيف نقول إنه خلق أفعال العباد، وفيها الكفر والذنوب والمعاصي.
والقدرية المجبرة آمنوا بأن الله خالق كل شيء، وزعموا أن كل شيء خلقه وأوجده فقد أحبه ورضيه.
وأهل السنة والجماعة أبصروا الحقيقة كلها، فآمنوا بالحق الذي عند كل واحد من الفريقين، ونفوا الباطل الذي تلبس به كل واحد منهما.
فهم يقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدرًا، فهو لا يحبها، ولا يرضاها، ولا يأمر بها بل يبغضها، وينهى عنها) (^٣).
_________
(^١) عبد الرحمن المحمود، القضاء والقدر، ص ٣٠١.
(^٢) الدرة البهية شرح القصية التائية في حل المشكلة القدرية لشيخ الإسلام، تأليف عبد الرحمن بن سعدي، ص ٢٥، مكتبة المعارف، الرياض، ١٤٠٦ هـ.
(^٣) عمر الأشقر، القضاء والقدر، ص ١٠٣، الطبعة الثالثة، دار النفائس، الأردن، ١٤١٥ هـ.
1 / 15
المبحث الثاني: مذاهب الناس في القدر
أولًا: الجهمية (^١):
(زعموا أن عموم مشيئة الله، وعموم إرادته يقتضي: أن العبد مجبور على أفعاله، مقسور مقهور على أقواله وأفعاله: لا قدرة له على شيء من الطاعات، ولا على ترك المعاصي) (^٢).
(فهم يقولون أن العباد مجبورون على أعمالهم، لا قدرة لهم ولا إرادة ولا اختيار، والله وحده خالق أفعال العباد، وأعمالهم إنما تنسب إليهم مجازًا) (^٣).
ثانيًا: المعتزلة (^٤):
وهم قدرية في باب القدر. والقدرية (^٥) ينقسمون إلى قسمين:
القدرية الأولى:
وهؤلاء هم الغلاة الذين أنكروا القدر وأنكروا علم الله السابق بالأمور، (فيقولون إن الله لا يعلم أعمال العباد قبل أن يعملوها، ولا تعلقت بها مشيئة الله، فلما شنع عليهم المسلمون، وكفروهم بذلك: تحولوا عن قولهم الأول فأثبتوا العلم، وأنكروا القدر.
ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره، يقولون: ناظروا القدرية بالعلم فإن أنكروا العلم كفروا، وإن اعترفوا به خصموا) (^٦).
_________
(^١) الجهمية: أصحاب الجهم بن صفوان، وهو من الجبرية الخالصة. ظهرت بدعته بترمذ، وقتله مسلم بن أحوز بمرو في آخر ملك بني أمية، وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء. وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط. انظر: الملل والنحل للشهرستاني، ص ٣٦، الطبعة الثانية، دار مكتبة المتنبي، بيروت ١٩٩٢ م. والفرق بين الفرق للبغدادي، ص ١٩٤، الطبعة الأولى، تعليق إبراهيم رمضان، دار المعرفة، بيروت، ١٤١٥ هـ. ومعجم ألفاظ العقيدة، تصنيف عامر فالح، ص ١٢٨، الطبعة الأولى، مكتبة العبيكان، الرياض، ١٤١٧ هـ.
(^٢) الدرة البهية شرح القصيدة التائية، ص ٢٢.
(^٣) القضاء والقدر لعبد الرحمن المحمود ص ٣٠٢.
(^٤) المعتزلة: هم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وسموا بذلك لما اعتزلوا مجلس الحسن البصري ﵀، وأصول اعتقادهم خمسة، العدل، والتوحيد، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر: الفرق بين الفرق ص ١١٢، الملل والنحل ص ٢١، ومعجم ألفاظ العقيدة ص ٣٧٧.
(^٥) سموا بالقدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضًا، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص (١/ ٧٩)، و(٢/ ٧٩٧)، معجم ألفاظ العقيدة ص ٣١٦.
(^٦) الدرة البهية شرح القصيدة التائية ص ٢٠، مجموع الفتاوى (٨/ ٤٥٠)، جمع عبد الرحمن ابن قاسم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
1 / 16
(وقد تلاشت هذه الطائفة التي تكذب بعلم الله السابق أو كادت، يقول السفاريني: قال العلماء المنكرون لهذا انقرضوا، وهم الذين كفرهم عليه الإمام مالك، والشافعي، واحمد،غيرهم من الأئمة) (^١).
القدرية الثانية:
زعموا (أن أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم، لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، فأثبتوا قدرة الله على أعيان المخلوقات، وأوصافها، ونفوا قدرته على أفعال المكلفين، وقالوا: إن الله لم يردها ولم يشأها منهم، بل: هم الذين أرادوها وشاءوها، وفعلوها، استقلالًا بدون مشيئة الله) (^٢).
(فهؤلاء يقولون أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها، وهذا هو مذهب المعتزلة ومن وافقهم، فهم ينكرون مرتبتي المشيئة والخلق، فينفونها عن الله تعالى، ويثبتونها للإنسان) (^٣).
ثالثًا الأشاعرة (^٤):
وهؤلاء يقولون: (إن الله ﷾ خالق أفعال العباد، فيثبتون مرتبتي المشيئة والخلق، ولكن يقولون: إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله ﷾ أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارًا، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنًا لهما، فيكون الفعل مخلوقًا لله، إبداعًا وإحداثًا، ومكسوبًا للعبد، والمرء بكسبه إياه: مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلًا له) (^٥).
وبهذا خالفوا المعتزلة القائلين بأن الله لا يخلق أفعال العباد بل هم الخالقون لها. ولكنهم قالوا هي كسب للعباد. (فأرادوا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية، فجاءوا بنظرية الكسب، وهي في مآلها جبرية خالصة، لأنها تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير، أما حقيقتها النظرية الفلسفية فقد عجز الأشاعرة أنفسهم عن فهمها فضلًا عن إفهامها لغيرهم ولهذا قيل:
مما يقال ولا حقيقة تحته معقولة تدنوا إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام) (^٦).
_________
(^١) القضاء والقدر لعمر الأشقر، ص ٥٧.
(^٢) الدرة البهية شرح القصيدة التائية ص ١٧.
(^٣) القضاء والقدر لعبد الرحمن المحمود ص ٣٠٥.
(^٤) الأشاعرة: أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ويثبتون لله سبع صفات، ويقولون بتقديم العقل على النقل عند التعارض، ويؤولون آيات الصفات، ولا يحتجون بأحاديث الآحاد في العقيدة. معجم ألفاظ العقيدة ص ٤٢، الملل والنحل ص ٤٠، وانظر للفائدة: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود، مكتبة الرشد، الرياض.
(^٥) القضاء والقدر لعبد الرحمن المحمود ص ٣١١.
(^٦) منهج الأشاعرة في العقيدة، للشيخ سفر الحوالي، ص ٤٣، الطبعة الأولى، الدار السلفية، الكويت، ١٤٠٧ هـ. وانظر: شفاء العليل ص ١٢١.
1 / 17
رابعًا: عقيدة أهل السنة والجماعة:
قال الطحاوي ﵀ مبينًا عقيدة أهل السنة: (خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارًا، وضرب لهم آجالًا، ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلًا، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلًا، وكلهم يتقلبون في مشيئته، بين فضله وعدله، وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلًا من عنده) (^١).
ثم قال: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق. وقد علم الله فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملةً واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد، ولا ينقص منه. وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله.
وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسةً، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)﴾ [الأنبياء: ٢٣]، فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين) (^٢).
ثم قال أيضًا: (ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائنًا لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.
وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرًا محكمًا مبرمًا، ليس فيه ناقض، ولا معقب، ولا مزيل، ولا مغير، ولا ناقص، ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢)﴾ [الفرقان: ٢]، وقال تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (٣٨)﴾ [الأحزاب: ٣٨]، فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيمًا، أحضر للنظر فيه قلبًا سقيمًا، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرًا كتيمًا، وعاد بما قال أفاكًا أثيمًا) (^٣).
_________
(^١) العقيدة الطحاوية للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، ص ١٢ - ١٣، الطبعة الأولى، تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ١٤١٥ هـ.
(^٢) العقيدة الطحاوية ص ٢٢ - ٢٣.
(^٣) العقيدة الطحاوية ص ٢٦ - ٢٨.
1 / 18
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: (مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره، ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها، من أفعال العباد، وغير أفعال العباد وأنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته، وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه، وأنه - سبحانه - يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد، وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر آجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة، وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون) (^١).
إلى أن قال: (وسلف الأمة وأئمتها متفقون أيضا على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده، ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة، ومتفقون على أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرم فعله، بل لله الحجة البالغة على عباده) (^٢).
وقال: (ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع إيمانهم بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء أن العباد لهم مشيئة وقدرة، يفعلون بمشيئتهم، وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم: إن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، كما قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)﴾ [المدثر: ٥٤ - ٥٦]) (^٣).
وقال أيضا: (مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى خالق كل شيء ومليكه، لا رب غيره ولا خالق سواه، ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، والعبد مأمور بطاعة الله، وطاعة رسوله، ومنهي عن معصية الله، ومعصية رسوله، فمن أطاع كان ذلك نعمة ومن عصى كان مستحقًا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، ولا حجة لأحد على الله تعالى، وكل ذلك كان بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته، لكن يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها على فعلها ويكرمهم، ويبغض المعصية وينهى عنها، ويعاقب أهلها ويهينهم.
_________
(^١) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (٨/ ٤٤٩ - ٤٥٠).
(^٢) المرجع السابق (٨/ ٤٥٢).
(^٣) المرجع السابق (٨/ ٤٥٩).
1 / 19