The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani
السيرة النبوية - راغب السرجاني
Genres
سلسلة السيرة النبوية_السيرة وبناء الأمة
أعظم مخلوق وطئ الثرى هو محمد ﷺ، وقد جعل الله ﷿ في حياته من العبر والعظات ما يجعل كل ناظر فيها يتعجب منها، ويأخذ من حياته ﵊ نبراسًا يستضيء به، فهو شخصية عظيمة جدًا، كيف لا وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ﵊، وكل حركة من حركاته مؤيدة بالوحي.
1 / 1
عظم مكانة النبي ﷺ وكبير مقامه بين الخلق
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فها نحن اليوم مع موضوع من أهم الموضوعات في حياة المسلمين، بل في حياة الأرض بأكملها، نحن مع سيرة رجل هو أعظم رجل خلقه الله ﷿ منذ خلق آدم وإلى يوم القيامة.
الناس عادة يتفوقون في مجال ويتأخرون في آخر، لكن هذا الرجل تفوق في كل مجال، تفوق في عبادته، في معاملاته، في شجاعته، في كرمه، في حلمه، في زهده، في حكمته، في ذكائه، في تواضعه، في كل شيء، إن هذا الرجل بحق قد سبق غيره! فمع سيرة الإنسان الذي خاطبه الله ﷿ وقال له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤].
بل قد أقسم الله جل وعلا بحياة هذا الرجل فقال: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر:٧٢].
مع سيرة الرجل الذي لن يحاسب الله ﷿ الخلائق يوم القيامة إلا عندما يشفع لهم، وكل نبي في الموقف لن يشفع حتى لأتباعه المؤمنين به إلا بعد أن يشفع هذا الرجل.
مع سيرة الرجل الذي لن ندخل الجنة إلا خلفه، ولن نروى يوم القيامة إلا من حوضه وكوثره، وهذا متوقف على معرفتنا بسيرته ونهجه، واتباعنا له فيهما، فإن صنعنا ذلك كانت لنا النجاة في الدنيا والآخرة، وإن جهلنا طريقته أو خالفناها قيل لنا: سحقًا سحقًا.
نحن أمام سيرة رسول الله ﷺ، الماحي الذي محا الله ﷿ به الكفر، وأول من يبعث من الخلائق يوم القيامة، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب المقام المحمود والحوض المورود ﷺ.
أمام سيرة الرجل الذي فتحت له أبواب السماء ليخترقها بجسده إلى ما بعدها، لما صعد رسول الله ﷺ مع جبريل في رحلة المعراج إلى السماء وطرق الباب أجاب الملك فقال: (من؟ قال: جبريل.
قال: ومن معك؟ قال: محمد.
قال: أو أرسل إليه؟ قال: نعم) ففتح باب السماء، ودخل رسول الله ﷺ إلى مكان لم يدخله بشر قبل ذلك وهو حي.
نعم، هذا هو الرجل الذي وصل إلى مكان لم يصل إليه بشر، ولم يتجاوزه حتى جبريل الملك العظيم، ويصل إليه رسول الله ﷺ.
إنه الرجل الذي شاهد الجنة والنار بعينه لا بعقله.
ونحن هنا لا نقارن عظمة هذا الرجل ﷺ بعظمة بوذا وكونفوشيوس وهتلر ولينين وستالين كما فعل صاحب كتاب الخالدون المائة، وإن كان قد جعل أعظمهم محمدًا، والعجيب أنك تجد الناس فرحين بذلك الكتاب.
إن مقام هذا الرجل لا يسمح إلا بأن نضعه في مصافِّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ في رتبة أعلى من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وكل أنبياء الله ﷿ عليهم الصلاة والسلام أجمعين، في مقام ضخم جدًا نقارنه بالملائكة أجمعين، بملك الأرزاق، بملك البحار، بملك الجبال، بحملة العرش، بل وبجبريل ﵇، جبريل لما وصل إلى سدرة المنتهى لم يستطع أن يتقدم، وقال لرسول الله ﷺ: (لو تقدمت خطوة لاحترقت)، ولكن الرسول ﷺ مكنه الله ﷿ أن يتقدم، فتقدم للقاء الله ﷿.
إن عظم مقام هذا الرجل جعل له ذكرًا خالدًا، وعلى قدر هذه العظمة يجب أن يكون اهتمامنا بسيرته وحياته، وبكل دقيقة مرت من حياته الشريفة ﷺ.
1 / 2
حال أمة الإسلام في الوقت الحاضر
إخواني في الله! إن دراسة السيرة النبوية مهمة في كل زمان، وهي ولا شك في زماننا أهم، فحال الأمة وما أصيبت به من تصدع وتفكك وانهيار في أجزاء، وانحلال في أجزاء أخرى، ما هو إلا أزمة خطيرة تمر بها أمة الإسلام، ونجد تباينًا كبيرًا بين ما وصف الله ﷿ به هذه الأمة في كتابه الكريم وبين حال الأمة الواقع الذي نراه بأعيننا، فالله ﷿ يقول في كتابه مثلًا: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:١١٠].
ويقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:١٤٣].
ثم تأتي بعد ذلك لتنظر إلى واقع المسلمين وحالهم، فتجد التأخر في كل المجالات التي يجب أن تنافس أمتنا غيرها فيه، فمثلًا على الصعيد العسكري انظر إلى أي دولة إسلامية، وضع في الحسبان أن على مساحة الأمة الإسلامية أكثر من ستين دولة، تجد أن معظم الدول الإسلامية تسليحها أقل من تسليح الدول المحاربة لها.
ولأول مرة في التاريخ نسمع عن دولة تؤمر بتدمير أسلحتها بنفسها وإلا عوقبت، والدول المحيطة من دول العرب والمسلمين اعتقدت أن هذا هو الطريق الأمثل للنجاة، ثم تتتابع إليها الخطابات الحادة، والكلمات اللاذعة: ما زال هناك سلاح لم يدمر، ما زال هناك سلاح مداه طويل، ما زال هناك سلاح عند عدوك مثله ويصبح الأصل أن تدمر الدولة أسلحتها بنفسها، وإلا عوقبت.
لأول مرة في التاريخ نسمع عن دول توقع على نفسها أنها لا تنتج سلاحًا يمتلكه عدوها، بل ونفتخر بهذا الأمر، ويعلن بصيغة الفخر، وأننا نشارك في هذه المعاهدات، مع أن معظم دول الأرض عندها نفس السلاح، وتصبح منتهى أحلام المسلمين أن ينزع السلاح من إسرائيل فقط، مع أنهم يعلمون أن فرنسا وإنجلترا وأمريكا وروسيا وحتى كوريا تمتلك نفس السلاح، لكن لا ينزع السلاح من هؤلاء.
وما هذا في الحقيقة إلا تأخر عسكري رهيب لم يسبق في تاريخ المسلمين.
أما الجانب الاقتصادي فإن التأخر فيه غير مفهوم مع إمكانيات الأمة الضخمة، فأمة الإسلام مشتهرة بالبترول والمعادن والكميات الهائلة من منتجات المواد الخام، ومن سيطرتها على ممرات بحرية، ولا أحد يعرف ما سبب هذا التخلف الضخم مع كل هذه الأمور؟! كذلك يوجد تأخر علمي، بل فجوة هائلة بيننا وبين غيرنا تقدر بمئات السنين، لا أقول بعشرات السنين أو بآحاد السنين.
تأخر حتى في الوحدة، فلا تجد دولتين مسلمتين إلا وبينهما صراع ونزاع على الحدود.
وهذا أمر يشق كثيرًا على النفس.
حتى في المجال الأخلاقي، نحن دائمًا نقول: إن الحضارة ليست هي الأشياء المادية فقط، ليست السلاح أو المعمار أو الأموال، بل الحضارة أشياء كثيرة مجتمعة مع بعضها، ومن أهمها الأخلاق، ثم انظر إلى الأمور الأخلاقية في العالم الإسلامي، لا تسأل عن كيفية التعامل بين الجيران في البلاد الإسلامية، أو كيف يعامل الموظفون الجمهور، أو ما هي أخبار الرشوة والفساد، وأخبار الإعلام وشاشات الأفلام، والإباحية المفرطة في الأغاني والإعلانات والشوارع وفي كل مكان، حتى في أماكن العلم كالجامعات والمدارس نرى أمورًا كنا نتخيل أنها لا توجد إلا في ملهى ليلي، ثم وجدناها في الجامعة، في مكان العلم، في المكان الذي يفترض أن تركز الناس فيه أكثر تركيز على رفعة هذه الأمة.
1 / 3
عوامل بناء الأمة وتحقيق النصر
من المؤكد أن القرآن حق لا باطل فيه، وصدق لا كذب فيه، فالقرآن يقول: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:١١٠]، ويقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:١٤٣].
فإذا كان القرآن صادقًا وحقًا، فالخلل والعيب فينا نحن عندما لم نطبق تعاليمه، ولم نطبق سنة نبينا ﷺ جيدًا، لذلك حصل فينا ما حصل.
وأنا مع هذا كله لا أدعوكم إلى الإحباط، ولكن أدعوكم إلى إعادة بناء الأمة الإسلامية، وترميم الصدع الكبير الذي حدث، فيها، وأقول لكم: هناك أمل كبير في إعادة البناء، بل هناك يقين في إعادة البناء، ووالله لسوف تقوم الأمة من جديد وتنهض؛ لأن هذا ما وعد الله ﷿ به، والله لا يخلف الميعاد، إن الله ﷿ يقول في كتابه: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر:٥١]، ليس فقط يوم القيامة، بل في الحياة الدنيا أيضًا.
يقول الرسول ﷺ في الحديث الشريف: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) فسيبلغ ملك أمة المسلمين حتمًا مشارق الأرض ومغاربها، فهذا وعد ملك الملوك على لسان الصادق المصدوق ﷺ.
لكن في مسألة اليقين لا بد من الحديث عن نقطتين عليهما محور هذه المسألة.
1 / 4
اليقين الجازم بوعد الله بالنصر
النقطة الأولى: أننا نريد يقينًا مثل يقين الصحابة ﵃ أجمعين خاصة في غزوة الأحزاب، والأحزاب متجمعة حول المدينة المنورة في عشرة آلاف رجل، وهذا رقم ضخم جدًا في زمان الجزيرة العربية وقت رسول الله ﷺ.
ضائقة شديدة جدًا، والرسول ﷺ في وسط هذه الضائقة يضرب الحجر الضخم الذي استعصى على الصحابة ويقول: (الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله! إني لأرى قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله! إني لأرى قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله! إني لأرى قصور صنعاء من مكاني).
تخيل حال الصحابة وهم يسمعون بشرى رسول الله ﷺ بفتح فارس والشام واليمن وهم في هذه الضائقة ماذا كان حالهم؟! أما المؤمنون فقد قالوا كما حكى الله ﷿ عنهم في كتابه الكريم: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٢٢].
في هذه الضائقة علموا أن نصر الله ﷿ قريب؛ لأن نصر الله ﷿ يأتي بعد اشتداد الأزمات، لكن المنافقون لما شاهدوا الفجوة الواسعة بين إمكانيات المسلمين في المدينة المنورة، وبين إمكانيات الأحزاب، قالوا كما حكى الله ﷿ عنهم في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب:١٢]، هكذا قال المنافقون لما اعتمدوا في تقييمهم على رؤية الفجوة الواسعة الضخمة بين حال المؤمنين في هذه اللحظة وبين حال الكافرين، لم يقدروا قدر الله ﷿، لم يقدروا عظمة الله ﷿، لم يقدروا قوة الله ﷿، ولما كان المنافقون لا يؤمنون كان هذا هو التقييم اللائق بهم، أما المؤمنون الصادقون الذين يعلمون قدر الله ﷿ وعظمته فقد علموا أن النصر قريب؛ لأن الأزمة اشتدت.
وها هي الأزمة قد اشتدت على الأمة الإسلامية واستحكمت حلقاتها، وسيأتي النصر إن شاء الله رب العالمين.
1 / 5
الدور المنوط بكل فرد وجماعة في بناء الأمة وفق المنهج الشرعي
النقطة الثانية: ما هو دورك في بناء هذه الأمة الإسلامية؟! نحن دائمًا ننتظر أناسًا من الخارج تأتي لتعيد بناء الأمة الإسلامية من جديد، لكن أين الدور الذي كلفك الله ﷿ به لإعادة إعمار الأمة الإسلامية، أو لإعادة ترميم الأمة الإسلامية لكي تعود إلى الصدارة كما وصفها الله ﷿ بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:١١٠] ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر:٣٨] ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام:١٦٤].
إن قصر كل الناس في أعمالهم فلن يحاسبك الله ﷿ إلا على تقصيرك أنت فقط، وهذا من عدل الله ﷿.
كل واحد منا يريد أن يعيد بناء الأمة على طريقته، وعلى منهجه، فهناك من يقول: إن كنا نريد أن نعيد بناء الأمة الإسلامية لا بد وأن نأخذ المنهج الاشتراكي، ورغم ما استفاض من أنه منهج خطأ، إلا أن بعض الدول ما زالت مستمرة في النفاح عنه، مع أن الدول التي اخترعته قد تخلت عنه.
ثم جماعة أخرى تقول: نأخذ المنهج الرأسمالي.
وأخرى تقول: نجرب القانون الفرنسي، وأخرى الإنجليزي، وأخرى الإيطالي وهكذا نلملم من الشرق ومن الغرب، ونختلف ونتصارع ونتشاحن؛ لأننا مختلفون على المناهج، فعندما يأتي وقت الاختلاف من نحكم؟ اسمع لنصيحة رسول الله ﷺ في مثل هذا الموقف، يقول ﷺ في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه عن العرباض بن سارية ﵁ وأرضاه، قال: (وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا)، وهذه هي المشكلة التي نحن واقعون فيها الآن، يا ترى بمنهج من نأخذ؟ نأخذ بمنهج الشرق أو الغرب!! ثم قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
من هنا كانت دراسة حياة رسول الله ﷺ، ودراسة حياة الخلفاء الراشدين المهديين أمرًا حتميًا لمن أراد أن يهتدي إلى الطريق الصحيح لبناء الأمة الإسلامية، ولن ينفع أن نبنيها على غير منهج رسول الله ﷺ.
1 / 6
سبب الاقتصار على ذكر بعض جوانب العهد المكي في حياة النبي ﷺ
في هذه المجموعة من الدروس نتحدث عن جانب من حياة رسول الله ﷺ، وهو العهد المكي من السيرة النبوية، وليس الغرض من وراء هذا المجموعة استقصاء كل واقعة حدثت في حياة رسول الله ﷺ في مكة، فهذا أمر يطول شرحه، ويعجز البيان عن وصفه لأمور:
1 / 7
كثرة الوقائع والتفاصيل المسجلة في حياته ﵊
الأمر الأول: أن الفترة المكية قد سجلت كل وقائعها بدقة، وبالذات منذ مبعث رسول الله ﷺ إلى أن مات، كل لحظة في حياة رسول الله ﷺ منذ أن بعث وإلى أن مات سجلت، ولم تسجل حياة إنسان على وجه الأرض بهذه الدقة، حتى دخل التسجيل إلى أدق تفاصيل حياة الرسول ﷺ، ولعل من حِكَمِ زواجه ﷺ من عدد كبير من النساء: أن ينقلن الحكمة التي تعلمنها من حياة رسول الله ﷺ الشخصية الداخلية التي لا يراها غيرهن، وما هذا التسجيل الضخم الدقيق إلا لأنه ﷺ قدوة كاملة، وليس بعده نبي إلى يوم القيامة، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:٢١].
إذًا: نحن مطالبون باتباع رسول الله ﷺ في كل خطوة من خطوات حياتنا، في رضاه وغضبه ﷺ، في حزنه وسروره، وفي حله وترحاله، إذا رضي فهذا هو الموضع الذي يجب أن نرضى فيه، وإذا غضب فهذا هو الموضع الذي يجب أن نغضب فيه.
1 / 8
التنوع في حياته ﵊
الأمر الثاني الذي جعل إحصاء كل أمر في حياة الرسول ﷺ أمر صعب: التنوع العجيب في حياة رسول الله ﷺ، فتارة يكون مطاردًا معرضًا للأذى والاضطهاد كما في حادث الهجرة، يخرج الرسول ﷺ هو وأبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه فارين من أهل مكة، ورسول الله ﷺ في ذلك مطلوب الرأس، وكذلك أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه، إلى أن يصلا إلى المدينة المنورة بعد أيام من الفرار، وفي نفس سيرة هذا الرجل العظيم ﷺ تجد أنه ممكنّ في الأرض، يرسل الرسائل إلى كل عظماء الأرض: من محمد ﷺ إلى كسرى عظيم فارس.
من محمد ﷺ إلى قيصر عظيم الروم.
إلى المقوقس عظيم مصر.
انظروا الفرق الضخم الهائل بين حالة كان يعيشها ﷺ، وبين حالة أخرى عاشها ذاته، تارة تجد أنه ﷺ يعاهد قومًا، وتارة يحاربهم، تارة يكون فقيرًا معدمًا يربط على بطنه حجرين من الجوع، ولا يوقد في بيته النار ثلاثة أهلة في شهرين، وفي وقت آخر من السيرة تجد أن هذا الرجل ذاته قد أصبح غنيًا تأتيه الأموال من كل بقاع الجزيرة العربية، وينفق الأموال في سبيل الله إنفاقًا غير مسبوق، يعطي هذا مائة من الإبل، وهذا مائة من الإبل، وهذا أكثر، وهذا أقل ينفق إنفاقًا عجيبًا! هذا هو نفس الرجل الذي كان يتعامل مع المشركين واليهود والنصارى والمنافقين والمؤمنين، فتارة ينتصر عليهم، وتارة يهزم.
كل تنوع ممكن يحصل في حياة أمة قد حدث في حياة رسول الله ﷺ.
إذًا: هذا أمر يجعل إحصاء كل مواقف السيرة أمر صعب جدًا، خصوصًا وأنت تريد أن تلاحظ كل هذه المتغيرات في حياة رسول الله ﷺ ضمن مجموعة واحدة من الدروس.
1 / 9
أثره ﷺ في بناء الجيل الفريد الذي غير مجرى التاريخ
الأمر الثالث: أن هناك جيلًا رائعًا عظيمًا عاش مع رسول الله ﷺ، هذا الجيل العظيم خلق أحداثًا لا نهاية لها، تعجز عشرات المجلدات عن حملها.
وهكذا الإنسان العظيم إذا عاش في مجتمع من الناس ليست لهم قيمة يضيع بينهم، لكن الرجل العظيم هو من يعيش في وسط عظماء يتفاعلون معه بصورة إيجابية في كل لحظة من لحظات الحياة، يتحركون بحمية، يفكرون بجدية، يتناقشون بفهم ووعي وإدراك، يفكرون بذكاء، وكل واحد من هؤلاء الصحابة قصة ضخمة في حد ذاته، فهذا أبو بكر مثلًا يحتاج إلى عشرات المجلدات لوصف مواقفه مع رسول الله ﷺ، كذلك عمر وعثمان وعلي وعائشة وحفصة وصفية، وكل المهاجرين والأنصار، آلاف من الكتب والمراجع كتبت عن هؤلاء الصحابة، وكل هذا في النهاية هو جزء من سيرة رسول الله ﷺ.
1 / 10
حياة النبي ﷺ كلها أحداث عظيمة
الأمر الرابع: الأحداث العظيمة التي تحدث في حياة الناس، كلما عظم الحدث احتاج إلى دراسة وتحليل ووصف وشرح، أحيانًا تمر على حياة الناس عشرات السنين دون حدث عظيم يؤثر في حياة مجموع البشر، لكن الأحداث المؤثرة تحتاج إلى تفصيل ودراسة، ممكن تجد دولة تعيش عشرات السنين دون أن تجد في حياتها حدثًا ضخمًا مؤثرًا.
فمثلًا عندما حدث في مصر حرب رمضان المباركة، نسأل الله ﷿ أن يعيد للمسلمين أمثالها، كم جرى لها من تحليل ودراسة رغم أنها وقعت من عقود، وإلى الآن نكتب عنها، وسيظل يكتب عنها المحللون والمؤرخون؛ لأنها حدث كبير.
كيف وحياة الرسول ﷺ كلها أحداث ووقائع؟ ففي سنة (٩٢) حدثت موقعة حربية ضخمة هي غزوة بدر، وفي (٣هـ) غزوة أحد وبنو قينقاع، وفي (٤هـ) بنو النضير، وفي (٥هـ) الأحزاب وبنو قريظة وبنو المصطلق وهكذا هي حياة رسول الله ﷺ، وانظر كم نحتاج إلى تحاليل ودراسات.
1 / 11
قواعد في دراسة السيرة النبوية
السيرة معين لا ينضب، وفي كل زمن ينظر المفكرون في هذه السيرة يستخرجون منها الجديد، مع أن الحدث نفسه قد فكر فيه من قبل آلاف من المفكرين والمحللين، إلا أن هناك أثرًا ملحوظًا من أحداث السيرة النبوية، وهدفًا كبيرًا نحن نفكر فيه، وهو إعادة بناء الأمة الإسلامية بدراسة السيرة النبوية المطهرة المشرفة، وأي دراسة للسيرة سنخرج منها بفوائد، لكن نحن نريد أن نضع بعض القواعد التي لو جعلناها نصب أعيننا أثناء دراسة كل حدث سنستفيد استفادة أكبر وأعمق، وسنضع لهذا الأمر أربع قواعد، فكل حدث حاول أن تلاحظ فيه هذه القواعد، وكل موقف يمر عليك جرب أن تطبق عليه هذه القواعد.
1 / 12
السيرة النبوية المصدر الثاني للتشريع في دين الإسلام
القاعدة الأولى: أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الدين الإسلامي؛ إذ المصدر الأول بلا جدال هو القرآن الكريم، والمصدر الثاني هو السنة المطهرة.
والسنة: هي كل قول أو فعل أو تقرير لرسول الله ﷺ.
بمعنى: أن أي فعل فعله أحد الصحابة وأقره عليه رسول الله ﷺ بأن سكت عنه أو استحسنه فهو من السنة المطهرة، وليس من الممكن أن تعرف السنة من غير دراسة السيرة النبوية.
إذًا: مصادر التشريع الرئيسية هي القرآن والسنة، وهناك مصادر أخرى كثيرة، مثل: الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب والعرف إلى مصادر كثيرة اختلف الفقهاء في ترتيبها، لكن لم يختلف أحد في أن القرآن هو المصدر الأول والسنة هي المصدر الثاني، وليس عنهما بديل.
السنة في غاية الأهمية في التشريع الإسلامي، وكذلك السيرة لا بد منها لفهم السنة في التشريع الإسلامي، يقول الله ﷿ في كتابه الكريم: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل:٤٤]، من غير السيرة ومن غير السنة لن تستطيع أن تفهم القرآن الكريم.
عندما نمر على حدث من أحداث حياة رسول الله ﷺ، فنحن نمر على أمر من الأمور التشريعية في الدين الإسلامي لحياة المسلمين؛ لأننا ندرس في السيرة الدين، فليست دراسة السيرة مجرد شيء لطيف نقرؤه، أو نتسلى بقراءته، أو مجرد سيرة رجل عظيم، هذا هو دينك، هذا هو الذي ستقابل به الله ﷾ وسيسألك عنه، ولو فهمت السيرة بشكل صحيح وطبقتها ستقابل ربك بوجه حسن، وبعمل صالح.
ثم أحذركم من طائفة بعضهم من المسلمين تشك في أمر السيرة النبوية، وتزعم أنها تكتفي بالقرآن الكريم، وقد تنبأ الرسول ﷺ بهذه الطائفة في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي، يقول رسول الله ﷺ: (يوشك رجل منكم متكئ على أريكته يُحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله ﷺ مثل الذي حرم الله).
ونحن أيضًا نقول لهم: استمعوا إلى كلام الله ﷿ في القرآن الكريم الذي تؤمنون به، يقول الله ﷿ في كتابه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء:٨٠].
ويقول: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ [النساء:٦٥] أي: يحكموك أنت يا محمد ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥].
ويقول ﷾: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧].
والصحابة ﵃ ما كانوا يفرقون بين قرآن وسنة، أما لو كان أحد لا يؤمن بالقرآن أصلًا وبأوامر القرآن فلا داعي للكلام معه، إذ الأمر معه منقطع.
إذًا: فكل حدث في سيرة الرسول ﷺ قد يكون أمرًا تشريعيًا، حتى وإن كان جزئيًا من الدين، لا بد أن تنتبه له لكي تطبقه، وإذا لم تطبقه فلعلك أن تضل وتبعد، ثم يقال لك: سحقًا سحقًا.
1 / 13
التعرف الصحيح على شخصية النبي ﷺ
القاعدة الثانية: هي التعرف على شخصية رسول الله ﷺ، نريد أن نعرف من هو رسول الله ﷺ؟ هو خير البشر أجمعين، وخاتم المرسلين، وسيد الأولين والآخرين هو أعظم شخصية سارت على هذه الأرض منذ بدء الخلق وإلى يوم القيامة، فهو شخصية جديرة بالدراسة، وهناك أشياء كثيرة نريد أن نعرفها عن شخصية رسول الله ﷺ، ونضعها في أذهاننا بوضوح عند كل موقف من مواقفه ﷺ.
أهم شيء في حياة رسول الله ﷺ: هو أنه رسول من عند رب العالمين.
لقد شاء الله ﷿ ألا يكلم عباده في الدنيا كفاحًا، وأبقى ذلك نعيمًا لمن دخل الجنة، وشاء كذلك أن يخاطب عباده عن طريق رسول من البشر، ومن كل الخلق اختار محمدًا ﷺ ليبلغ الناس الرسالة العالمية عنه ﷾.
إذًا: رسول الله ﷺ في حقيقته ما هو إلا ناقل عن رب العزة ﷾، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣ - ٤]، وعلى هذا القدر من الأهمية يجب أن يؤخذ حديث رسول الله ﷺ، وعلى هذا القدر من العظمة يجب أن تؤخذ سيرة رسول الله ﷺ، هذه السيرة هي النموذج العملي التطبيقي الذي رسمه الله ﷿ لخلقه كي يقتدوا به ويقلدوه.
والسيرة هي المنهج الذي نمشي عليه، وهي الدليل في الصحراء، ومن غير الدليل سوف نهلك لا محالة.
فلو ثبت أن رسول الله ﷺ فعل فعلًا ما، فهو ما أراده الله ﷿ منا، حتى لو كان هذا الفعل من النوافل! فهي ليست من اختراع الرسول ﷺ، فهناك من يظن أن الظهر فرضه ربنا ﷾ علينا أربع ركعات، ثم اجتهد الرسول ﵊ وقال: أربع ركعات قبلها وأربع ركعات بعدها، الأمر ليس كذلك، فالله ﷿ قد شرع للفرائض رواتب من السنن جاءت قبله وبعده، وجعل هذه فرضًا وجعل هذه نافلة، وكل شيء في الأخير مرده إلى الله ﷾.
حتى لو اختار رسول الله ﷺ في أمر ما خلاف الأولى، حيث كان من المفروض أن يختار كذا، ولكنه اختار رأيًا آخر أقل منه درجة، فإن الوحي يأتي ليعدل المسار ويختار لرسول الله ﷺ الاختيار الأكمل، الذي يصلح لهذه الأمة في زمانه وإلى يوم القيامة.
إذًا: دراسة السيرة من هذا المنظور تعطي لها قدرًا عظيمًا جدًا من الأهمية، نحن لا ندرس أي شخصية، نحن ندرس شخصية رسول من رب العالمين، وليس فقط أي رسول! بل خير الرسل وخاتم النبيين.
هذه القاعدة الثانية من القواعد التي من المفروض أن نضعها في أذهاننا عند كل حدث من أحداث السيرة النبوية؛ لأننا نتعامل مع وحي من رب العالمين.
1 / 14
كيفية محبة الرسول ﷺ
القاعدة الثالثة: هي أن نتعلم كيف نحب الرسول ﷺ؟ حب الرسول ﷺ يجب أن يفوق كل حب، إن لم يحدث هذا الحب فهناك خلل في الإيمان، يقول الرسول ﷺ في الحديث الشريف: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
ويقول: (لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)، رواه البخاري ومسلم.
وكلنا نحفظ الحوار اللطيف الذي دار بين رسول الله ﷺ وبين عمر بن الخطاب، فقد جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي)، كلنا يحب نفسه، ولكن انتبه وقف وقفة صادقة مثلما وقف عمر مع نفسه، وراجع نفسك: هل أنت تقدم أحكام رسول الله ﷺ في كل شأن من شئون حياتك، أم أن حبك حب سطحي، تقدم حب أشياء كثيرة فوق حب رسول الله ﷺ؟! إن كان سيدنا عمر قال: يا رسول الله! أنا أقدم حبك على كل شيء إلا نفسي، فقال له ﷺ: (لا والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فأنت الآن والله! أحب إلي من نفسي، فقال ﷺ: الآن يا عمر) يعني: الآن اكتمل الإيمان، الآن اكتمل الصدق مع الله ﷿، لن تكون صادقًا مع الله ﷿ في اتباعه وفي محبته إلا باتباع رسوله ﷺ، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:٣١].
إن دراسة السيرة تعين على حب رسول الله ﷺ.
وحب رسول الله ﷺ قضية محورية في إيمان العبد، والتعرف السطحي على شخصية ما لا يتولد عنه عميق حب، إنما التعرف على دقائق الحياة، واكتشاف مواطن العظمة المختلفة في الشخصية هي التي تولد الحب في قلب الإنسان، ولا أحسب إنسانًا صاحب فطرة سليمة يقرأ أو يسمع عن رسول الله ﷺ ولا يحبه، وكلما عرفته أكثر كلما أحببته أكثر، وكلما أحببته أكثر زاد إيمانك، إنها علاقة تفاعلية في غاية الأهمية في حياة المؤمنين.
اقرأ عن أي موقف من مواقف السيرة، ضع إصبعك بصورة عشوائية على أي موقف من مواقف رسول الله ﷺ في حياته، منذ ولد وإلى أن مات ﷺ، اقرأ في حياته كلها عن معاملاته: كيف كان يتعامل في بيته مع زوجته، مع بناته؟! كيف كان يتعامل مع أصحابه؟! كيف كان يتعامل مع أعدائه؟! اقرأ عن جهاده، عن أي غزوة قادها ﷺ، عن صدقه، عن أمانته، عن شجاعته، عن تقواه، عن عبادته، عن قضائه، عن سياسته، عن المعاهدات التي عقدها ﷺ كالحديبية مثلًا.
اقرأ عن الهجرة، عن بدر، عن أحد، عن فتح مكة، عن أي موقف وستحب رسول الله ﷺ حبًا عميقًا.
لقد عدَّ الله ﷿ محمدًا ﷺ نعمة ومنة منه على الخلق، قال الله ﷿ في كتابه: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران:١٦٤].
إذًا: من القواعد الهامة جدًا التي تضعها في تفكيرك وأنت تدرس السيرة: أنك تحب رسول الله ﷺ بقدر ما تستطيع، ركز في كل حدث من سيرته ﷺ أن تزرع هذا الحب في قلبك وإلا لن تنجو، قال الله ﷿ في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:٢٤]، المسألة ليست فقط ارتفاعًا في قدر الإيمان، بل المسألة مسألة تهديد بأن تكون من الفاسقين، كما قال الله ﷿: ﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة:١٠٨].
1 / 15
تعلم الحكمة في التعامل من خلال دراسة سيرة النبي ﷺ
القاعدة الرابعة والأخيرة التي نضعها في عقولنا أثناء دراسة هذه السيرة الشريفة: أن نتعلم الحكمة من خلال دراستنا لجزئيات حياة رسول الله ﷺ بكيفية وضع الأمر في نصابه، كيف تفضل رأيًا على رأي آخر؟ حياة رسول الله ﷺ هي الحكمة بعينها، إذا اختار رأيًا ما، فهذا هو الرأي الحكيم، إذا فعل فعلًا ما، فهذا هو الفعل الحكيم، هكذا دراسة السيرة تعلمنا الحكمة في أرقى صورها.
مثلًا: حكمته ﷺ في فن امتلاك القلوب، كيف كان الرسول ﷺ يكسب قلوب الذين يتعامل معهم؟ فهو ﷺ لم يكن يمتلك قلوب أصدقائه فقط، بل كان يمتلك قلوب أعدائه أيضًا، وهذه حكمة جديرة بالتأمل، والوقوف معها طويلًا.
حكمة أخرى في منتهى الأهمية، وهي حكمة المرحلية، والاعتراف بما يسمى بفقه الواقع؛ فإن الرسول ﷺ كان في فترة من فترات حياته يطوف بالكعبة، فما رفع معوله ليكسر صنمًا، وكان بها ثلاثمائة وستون صنمًا، ثم يأتي وقت آخر على الرسول ﵊ لا يقبل فيه بوجود صنم واحد في جزيرة العرب، وعندما يفتح مكة يبعث خالدًا إلى الطائف لكي يكسر الأصنام التي هناك، فهذا وضع وهذا وضع، فلا يصح أن تقول: إن الرسول ﷺ عمل كذا في يوم كذا أو في سنة كذا دون دراسة الملابسات والظروف التي كانت حول الموقف الذي عمله رسول الله ﷺ، والكلام هذا لن يستقيم إلا عن طريق دراسة السيرة.
وعاش الرسول ﷺ في مكة ثلاثة عشر عامًا بعد البعثة وفيها الرايات الحمر المعلقة على خيام الزانيات، فهناك من تعلن عن نفسها أنها تزني، والرسول ﵊ كان يعيش بينهم، ولم يحطم خيمة من خيام الرايات الحمر في وقت من الأوقات، ولكن يأتي ظرف آخر لا يتنازل رسول الله ﷺ فيه عن إقامة الحد على امرأة واحدة زنت، فإن الغامدية لما زنت أقام الرسول ﷺ الحد عليها؛ لأنها زنت، فهذا وقت وهذا وقت.
وكان الرسول ﷺ في زمن يعاهد اليهود، وفي زمن آخر يحاربهم، فلا يصح أن تقول: أنا أعاهد اليهود كما عاهدهم، من غير دراسة الظروف والملابسات التي كانت حول تلك المعاهدات في زمان رسول الله ﷺ، لم يأت هذا وقت الحرب، ولا يجوز أن أحارب في وقت معاهدة، لن نعرف هذا إلا عن طريق دراسة السيرة.
كذلك الحكمة في اختيار القرار المناسب في الوقت المناسب، فقد كان الرسول ﷺ يكف يده يومًا عن القتال، ويومًا يقاتل من قاتله، ويومًا يقاتل كل الكفار.
كان يمر الرسول ﷺ على آل ياسر - ياسر وسمية وعمار - وهم يعذبون تعذيبًا أليمًا شديدًا أدى إلى قتل ياسر وسمية ﵄، يمر عليهم وهم يعذبون فيكتفي ﷺ بقوله لهم: (صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة) لم يرفع ﷺ سيفًا ليدفع به أبا جهل الذي كان يعذبهما، ولم يأمر أحدًا من شبابه أو من أتباعه الأقوياء كـ الزبير بن العوام أو سعد بن أبي وقاص أو فرسان الصحابة الأشداء في ذلك الزمن لقتل أبي جهل، أو أبي سفيان، أو أبي لهب، وعنده مبررات كثيرة تدفعه لذلك، كأن يقول: من أجل أن تسير الدعوة في مكة، ولكن لم يفعل ﷺ، لكن في يوم آخر من أيام رسول الله ﷺ سير جيشًا كاملًا لحرب اليهود في بني قينقاع لقتلهم رجلًا مسلمًا، بعد كشف عورة امرأة مسلمة واحدة من قبل يهودي.
تخيل الفرق الضخم بين الموقفين! وسير الرسول ﷺ جيشًا لحرب الروم، وهي دولة في منتهى الضخامة في ذلك الزمان؛ لأنهم قتلوا رجلين من المسلمين، لكن هذا زمن وزمن مكة آخر.
أول العهد في المدينة غير آخر العهد في المدينة، غزوة بدر غير غزوة أحد.
انتبه وأنت تدرس كل موقف إلى الظروف المحيطة بذلك الموقف، فإنك لو فعلت ذلك ستستطيع أن تفهم ما يسمى بفقه الواقع، أو بحكمة المرحلية في حياة رسول الله ﷺ.
حكمة أخرى أيضًا في غاية الأهمية في حياة الرسول ﷺ، هي التدرج في التربية، والتدرج في تغيير المنكر، مثل: تحريم الخمر حرم بالتدرج، وليس مرة مُنع الناس عن الخمر، كذلك التدرج في تحريم الربا، وفي أمر الناس بالجهاد في سبيل الله، كل هذا أخذ مراحل ومراحل طويلة، وكل مرحلة نصل إليها نبني عليها مرحلة أخرى.
وهناك حكمة أخرى رائعة في حياة رسول الله ﷺ، هي حكمة الوسطية، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:١٤٣]، لا إفراط ولا تفريط.
ما هو تعريف الإفراط؟ وما هو تعريف التفريط؟ في كل جزئية من جزئيات الحياة أنت لك تعريف، وأنا لي تعريف، وذ
1 / 16
بعض مراجع السيرة النبوية
مما ينبغي أن يعلم أن السيرة النبوية تؤخذ من عدة كتب، وكثير من الناس يغفلون عن دراسة السيرة من خلالها، وهي كتب الأحاديث وشروح الأحاديث، مثل كتاب البخاري ﵀، وفتح الباري في شرح صحيح البخاري لـ ابن حجر العسقلاني رحمهما الله.
كذلك صحيح مسلم وشرح النووي لصحيح مسلم.
كذلك الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة ومسند الإمام أحمد بن حنبل ﵏ جميعًا.
ومن كتب السيرة الهامة: سيرة ابن هشام، فقد نقل معظم سيرته عن ابن إسحاق، وسيرة ابن إسحاق ﵀ ليست موجودة، فالذي بقي وهو كتاب سيرة ابن هشام، ولكن هناك أحداث كثيرة غير موثقة في كتاب سيرة ابن هشام، لذلك لا بد أن تدرس كتابًا محققًا، هناك كتاب اسمه صحيح سيرة ابن هشام، للأستاذ مجدي فتحي السيد وهو كتاب طيب.
أيضًا كتاب صحيح السيرة النبوية لـ إبراهيم العلي.
وكتاب زاد المعاد في هدي خير العباد للعلامة ابن القيم ﵀.
وكتاب السيرة النبوية لـ ابن كثير ﵀.
والرحيق المختوم للمباركفوري.
والسيرة النبوية للصلابي، والأساس في السنة لـ سعيد حوى، هو كتاب كبير يقع في أربع مجلدات.
وفقه السيرة للبوطي.
وفقه السيرة للغزالي.
والمنهج الحركي للسنة النبوية لـ منير الغضبان.
والسيرة النبوية دروس وعبر للدكتور مصطفى السباعي، وهو كتاب صغير لكنه يحتوي على معلومات هامة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 / 17
سلسلة السيرة النبوية_من الظلمات إلى النور
قبل بعثة النبي ﷺ كان العالم يعج بصور شتى من الانحرافات العقدية والأخلاقية والطبقية والاستعباد والاغتصاب للحقوق بكل صورها لا يختص ذلك ببلد دون آخر، والفارق هو في ازدياد فئة لنوع من الشر على فئة أخرى، وما ذاق أهل الأرض العدل إلا بالنور الساطع من شمس النبوة على أرجاء العالم.
2 / 1
حال العالم قبل البعثة النبوية
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثاني من سلسلة الدروس الخاصة بالمرحلة المكية من سيرة رسول الله ﷺ.
في هذا الدرس نتحدث عن الوضع في العالم قبل بعثة رسول الله ﷺ.
ولسائل أن يسأل: لماذا الحديث عن الفترة السابقة للإسلام؟ بمعنى: أننا في هذه الدروس نتحدث عن قواعد بناء الأمة الإسلامية، فما الذي يدفعنا للحديث عن فترة سابقة لفترة الإسلام؟ أقول: لن تدرك قيمة النور إلا إذا عرفت الظلام، ويكفي لبيان ذلك ذكر حديث رسول الله ﷺ في صحيح مسلم عن عياض بن حمار ﵁، فإنه ﵊ في هذا الحديث وضح حال الأرض قبل بعثته ﷺ، فقال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب)، وصل حال الأرض إلى حالة من التردي والضياع الشديد، إلى الدرجة التي يمقتهم فيها الله ﷿، والمقت هو شدة الكراهية، وكلمة (بقايا) توحي بأنهم مجرد آثار، وليس ثمة أثر مباشر لهم في واقع الناس، وهذه البقايا لم تكن مجتمعات، يعني: ما كانت مثلًاَ مجتمعًا صالحًا في مكان ما على الأرض، بل كانوا أفرادًا معدودين، رجل في مدينة، ورجل في مدينة أخرى يبتعد عنه مئات أو آلاف الأميال، وهكذا.
تعالوا نخترق الزمان والمكان، نخترق الزمان بالوصول إلى ما قبل بعثة رسول الله ﷺ، ونخترق المكان بالوصول إلى كل بقعة على الأرض كانت تعاصر رسول الله ﷺ، ونتجول بين الشرق والغرب.
تعالوا نرى حال الناس، والملوك، والأخلاق، والطباع، ونرى ما يسمى بالحضارات في ذلك الزمان.
2 / 2
حال الدولة الرومانية قبل البعثة النبوية
أول شيء يلفت الأنظار في ذلك الزمن دولة ضخمة جدًا تمتلك نصف الأرض تقريبًا وهي الدولة الرومانية، ومن ضخامتها سمى الله ﷿ سورة من سور القرآن الكريم بسورة الروم، ذكر فيها قصة الروم مع الفرس، قال الله: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم:٢ - ٤] إلى آخر الآيات، ولكن ما هي الدولة الرومانية؟ كانت الدولة الرومانية ضخمة جدًا، مساحتها ممتدة على ثلاثة أرباع أوروبا مقسمة إلى قسمين رئيسيين، دولة رومانية شرقية وعاصمتها القسطنطينية، كان يحكمها القيصر هرقل في زمن رسول الله ﷺ، وقيصر هذا لقب للملك الذي يحكم الدولة الرومانية.
وأما الدولة الرومانية الغربية فكانت عاصمتها روما، وهذه سقطت قبل البعثة النبوية ولم تبق إلا الدولة الرومانية الشرقية.
كانت هناك خلافات عقائدية عقيمة بين طوائف النصارى في أطراف الدولة الرومانية الشاسعة، فالدولة الشرقية أرثوذكسية، والغربية كاثوليكية، ودارت بينهما حروب فني فيها الآلاف والآلاف على مدار السنين، وظلت هذه الحروب مشتعلة حتى العهد القريب، وإلى الآن هناك خلافات عقائدية ضخمة، وحروب بين الطوائف المختلفة من النصارى.
أما الجوانب الأخلاقية فقد كانت في انحدار شديد في هذه الدولة، مثل تأخر سن الزواج، أو بمعنى أصح اختفى الزواج، وفضل الجميع العزوبة على الزواج؛ لأن تكاليف الزواج كانت غالية والناس كلها فقراء، الأموال كثيرة جدًا في الدولة، ولكنها مجموعة في أيدي قلة قليلة من رجال الدولة الرومانية الواسعة، فأدى ذلك إلى انحلال رهيب بين أوساط الناس، وانتشر الزنا في كل مكان، واختلطت الأنساب.
وأصبحت الرشوة أصلًا في التعامل مع موظفي الدولة، فأي مصلحة تريد أن تقضيها لابد أن تقدم بين يديها رشوة.
والضرائب ضخمة باهظة على كل سكان البلاد، وهي على الفقراء أكثر منهم على الأغنياء.
الوحشية الشديدة في الطباع؛ فمن وسائل التسلية التي كانت في الدولة الرومانية الشرقية: وسيلة صراع العبيد مع الوحوش المفترسة في أقفاص مغلقة، والوزراء والأمراء ينظرون من الخارج، ويستمتعون برؤية الأسد أو النمر وهو يأكل العبد بعد قتال يدوم قليلًا أو كثيرًا.
نحن نتعجب من هذه الصورة، ونقول: هذه كانت عادة مجتمعات مظلمة، ولكننا نرى أيضًا في إسبانيا صراع الرجال مع الثيران، وكيف يدمر الثور أو يقتل الرجل والناس تشاهد وتصفق وتهلل، وهي صورة كما يسمونها من صور الحضارة.
أيضًا هناك حروب بربرية همجية وحشية، على سبيل المثال: في عهد اسفسيانوس أحد قياصرة الرومان، حاصر اليهود في أورشليم (القدس) سنة (٧٠ م) خمسة أشهر كاملة، انتهت في سبتمبر سنة (٧٠ م) ثم سقطت المدينة بعد هزيمة مهينة عرفها التاريخ، لماذا نقول: هزيمة مهينة؟ لأن الرومان قتلوا أبناء اليهود ونساءهم بأيديهم، يعني: يجبر كل يهودي أن يمسك بزوجته وأولاده ويقتلهم بنفسه، هكذا أتى الأمر الروماني إلى دولة اليهود المحاصرة داخل مدينة القدس، الغريب أن اليهود أطاعوا ووافقوا على ذلك، وقاموا به من شدة الرعب، وطمعًا منهم في النجاة، وهم أحرص الناس على حياة، وخرجوا يقتلون أبناءهم ونساءهم بسيوفهم، ثم خرجوا للرومان الذين بدءوا بعمل قرعة بين كل اثنين من اليهود، أيهما يقتل أخاه إلى أن صفوا كل اليهود الموجودين في القدس ولم ينج منهم إلا الشريد، أو أولئك الذين كانوا يسكنون في أماكن بعيدة.
إذًا: هذه كانت صورة من صور الحرب الرومانية التي كانت تتميز بالشراسة وأشد أنواع الهمجية المتخيلة.
كان العبيد في المجتمع الروماني ثلاثة أضعاف الأحرار، ومعاملة العبيد كانت في منتهى القسوة، لدرجة أن أفلاطون الفيلسوف صاحب فكرة المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) التي ألفها وتخيلها في عقله، هذه المدينة الخيالية المثالية يقول فيها: إنه لا يجب أن يعطى فيها العبيد حق المواطنة.
مع أنهم من أهل البلد، لكن ليست لهم أي قيمة في بلاد الرومان.
كانت هذه لقطات سريعة من حال الدولة الرومانية في العهد السابق لبعثة رسول الله ﷺ.
2 / 3