84

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

وإذن فالدافع الذي يحفز الفنان إلى الخلق سيترك وراءه وجها غريبا ممزقا للعالم، لأنه فعل، وفعل ضار متجبر، ولذلك فليس عجيبا أن تتردد كلمة القسوة كثيرا في نصوص رامبو، حتى لتصبح إحدى المفاتيح التي يتوسل بها من يريد أن يطرق أبوابه.

والخيال الدكتاتوري المتسلط يعكس نظام المكان، ويكفي أن نذكر بعض الأمثلة على ذلك من نصوص رامبو: المركبات تسير على درب السماء. في أعماق بحيرة يرقد صالون. البحر يسبح فوق قمم الجبال العليا. قضبان السكك الحديدية تنفذ في الفندق وتسير فوقه ...

ولكن الخيال المتسلط يعكس كذلك العلاقة السوية بين البشر والأشياء: «الموثق معلق من سلسلة ساعته» (ص59)، وهو يجمع بين أمور متباعدة كل التباعد، ويضم المحسوس والخيالي في سياق واحد «متكدر إلى حد الموت من دمدمة لبن الصباح، وليل القرن الأخير» (ص163). وهو يحقق رغبة بودلير عندما يصف الأشياء بألوان تنطبق عليها في الواقع، كأن يقول مثلا: «عشب أزرق، مهر أزرق، عازفو بيان خضر، ضحك أخضر، أقمار سوداء.» وهذا الخيال الذي ينطلق بعيدا عن العالم يجمع أشياء لا تجمع في الواقع لأنها بطبعها واحدة (كأن يجمع كلمات مثل أتنا وفلوريدا) وبذلك يزيدها حسية، ولكنه يجردها في نفس الوقت من كل صلة بالواقع. يقابل هذا ما نجده عند رامبو من شغف شديد بتجريد الكائنات المفردة من كل تحديد موضعي أو زمني أو غير ذلك من وسائل التحديد وذلك باستعماله كلمة «كل» قبلها: «كل جرائم القتل وكل المذابح»، «كل الثلوج» ... مما يلخص هذه المفردات ويرتفع بها فوق مستوى الواقع، وكلها أساليب يلجأ إليها الخيال المتسلط الذي يقلب في الواقع بملء يديه، ويطرحه إلى أبعد ما يستطيع، ويحوله إلى «ما فوق الواقع».

وتمتد الرؤى الحالمة - كما رأينا عند بودلير - إلى الكائنات غير العضوية، لنكتسب منها صلابة وغربة عن الواقع والمألوف: «في ساعات المرارة أتخيل كرات من اللازورد (السفير) والمعدن» (ص170). ومن أكمل القصائد النثرية التي تدل على هذا كله قصيدة «زهور» من مجموعة الإشراقات. إن عباراتها ترتفع شيئا فشيئا كالأمواج، وتخلق إحساسا بالتوتر تساعد خاتمة القصيدة على إزالته ولكنها مع ذلك لا تساعد على فهمها. وصورها تتحرك حركات أشبه ما تكون بمنحنيات خالصة يرسمها الخيال المطلق واللغة المطلقة. ويستفيد الخيال واللغة من الكائنات غير العضوية التي ترد في القصيدة في خلق جو من اللاواقعية ونسج غلالة شفافة من الجمال السحري: عتبة ذهبية. قطيفة خضراء. قطع من البللور تسود كقطع البرونز في الشمس؛ وتتفتح قمعية على سجادة ذات شبكات من الفضة والعيون وخصلات الشعر، قطع من الذهب منثورة على العقيق، وأعمدة من خشب البلاذر (الماهاجوني) تحمل كنيسة من الزمرد، أفرع نحيلة من الياقوت. وفي مثل هذه البيئة تتحول الزهور والورود إلى شيء غير واقعي، وترتبط بالسم الكامن في القمعية بقرابة خفية. ففي أعماق هذا الخيال المتسلط يتحد الجمال المسحور مع العدم والدمار. وإليك هذه القصيدة لتنظر فيها بنفسك:

من فوق عتبة مذهبة، بين الأربطة الحريرية، والأقنعة القاتمة وبقع القطيفة الفضية، والأقراص البللورية التي تسود كقطع البرونز في الشمس؛ أرى كيف تنفتح القمعية على سجادة ذات تلافيف من الفضة والعيون، والشعر.

بقع من الذهب الأصفر مبذورة فوق العقيق، أعمدة من خشب البلاذر (الماهاجوني) تحمل قبة كنيسة من الزمرد، باقات من الساتان الأبيض وأعواد نحيلة من الياقوت تحيط بوردة الماء.

أشبه بإله له عينان زرقاوان هائلتان وأعضاء من الثلج، البحر والسماء يجذبان حشود الورود الشابة الجميلة إلى الممرات المرمرية ...

وفي هذه القصيدة وغيرها نلاحظ كيف تجتمع النقائض وتخلق التنافر والنشاز الذي يميز شعر رامبو. فالنباتات السامة تأتي مع الورود الجميلة، والقذر البشع يتجاور مع الذهب الناصع، وكأن هذا هو الشكل العام للصورة التي تخلعها المخيلة الخلاقة على مبدعاتها المتنافرة الناشزة. وقد لا يكون هذا النشاز في الصورة بل في الكلمة. فكثيرا ما نصادف تنافرات لغوية حادة، أعني مجموعات من الكلمات التي تؤلف بين موضوعات أو قيم متضادة في أضيق مجال لغوي ممكن. انظر مثلا إلى هذه التعبيرات: شمس سكرى بالقطران. صباح يوم من أيام يوليو له طعم الرماد الشتوي. نخيل نحاسي. أحلام تشبه زبل الحمام ... وكثيرا ما تستمتع بالكلام عن شيء مريح، أخاذ، مألوف، ثم لا تلبث أن تصدمك في ختام النص كلمة سوقية أو حوشية أو وحشية. وتخرج من قراءتك لمعظم النصوص وأنت تقول لنفسك. هذا شعر يحب النهايات المفتوحة - كما يقال في لغة المسرح - لا النهايات المقفلة، ينطلق بك - ومعذرة للتشبيه المعاصر الأخاذ - على صاروخ تدفعه قوة خيال محموم أو في أرجوحة تموج بالصور والألوان والأضواء والأصوات والرؤى المختلطة المتداخلة. إلى أين؟ ربما إلى ما فوق هذا العالم أو ما وراءه. ربما في رحلة البحث عن المجهول؟

وقد يلفت انتباهنا في هذا الشعر نوع آخر من التنافر أو النشاز بين ما يقال والطريقة التي يقال بها، أو بين المضمون والأداء. فالشاعر ينشد واحدة من أجمل قصائده وأكثرها غموضا وغرابة بنغمة الأغنية الشعبية (التي تأبى الغموض بطبيعتها)، وأعني بها قصيدة «أغنية أعلى الأبراج». وفي قصيدة أخرى «الباحثات عن القمل» نراه يضع الوسخ وحمى الشهوة وعادة البحث عن القمل في شعر الرأس؛ يضع كل هذا في أصفى وأعذب لغة غنائية يمكن تصورها! ويظهر العماء والعدم والعبث في أوجز تعبير، وتصطف الأضداد والمتناقضات إلى جانب بعضها البعض كأنها شيء طبيعي محايد، بغير «لكن» أو «مع ذلك» أو «على الرغم من ذلك». وهذه قصيدة «أغنية أعلى الأبراج» التي تحررت قليلا في ترجمتها، وحاولت أن أحافظ على شيء من نغمها الأصلي، واضعا كل ما زدته عليها بين قوسين:

شبابي الخامل،

Unknown page