Thawrat Shicr Hadith
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
غير أن هذه الأسباب لا ينبغي أن تخدعنا عن حقيقة لا مناص من التسليم بها، وهي أن ترجمة الشعر مشكلة من أعقد المشكلات، بل ينبغي أن تكون لدينا الشجاعة للاعتراف بأن الشعر لا يكاد يترجم، وأن هذه الصعوبة تصير استحالة كلما جربنا ترجمة الشعراء الذين اصطلح على تسميتهم خطأ أو صوابا بالرمزيين، وتبلغ هذه الاستحالة أقصاها في شعر مالارميه على وجه التخصيص.
وأحب أن أؤكد للقارئ أنني كنت على وعي بهذا كله، ولم أترك فرصة تفوتني بغير أن أشير عليه بالرجوع إلى الأصل كلما أمكن ذلك. ومع أنني التزمت دائما بالأمانة التامة في نقل النصوص، ولم أضف إليها شيئا من عندي إلا وضعته بين أقواس وأشرت إلى الضرورة التي ألجأتني إليه، فإنني أرجو القارئ أن ينظر إلى هذه الترجمات كلها كتجارب ومحاولات للاقتراب من روح الأصل (لا من جسده بالطبع فكل ترجمة هي حكم عليه بالإعدام)، ولا يمكن في نهاية الأمر أن تغني عن الأصل بحال من الأحوال.
إن الترجمة ضرورة نلجأ إليها اضطرارا، مجرد جسر نعبر عليه إلى الشاطئ الآخر، وسرعان ما ننسى الجسر ومن مده بعد أن نضع أقدامنا على بر الأمان! وإذا كنا نتفق على أن الخلق الأدبي عذاب ومعاناة، فالترجمة عذاب ومعاناة مضاعفة. إنها - على حد تعبير شوبنهور - نوع من تناسخ الأرواح فلا بد أن تتقمص روح المؤلف وفكره وإحساسه، ثم تنقلها في صبر وتعاطف وحب إلى جسد لغة أخرى. ولا بد أن تكون لديك القدرة على الفناء في النص الأصلي والقدرة على إفناء نفسك أمامه أي على القيام بفعل صوفي حقيقي فيه الخشوع والوجد ونكران الذات. وكلما تخليت عن نفسك وأنكرتها وجدتها وكسبتها كما يحدث في كل اتحاد صوفي، وكلما قضيت الأيام والأسابيع في البحث عن حقيقة نفسك ووجدتها في النهاية - كما يقول لوثر، وهو واحد من أعظم المترجمين في كل العصور - كانت الثمرة أحلى وأجل. فهل هناك أندر من المترجمين الصادقين في كل جيل؟ وهل هناك ضرورة أكثر إلحاحا من أن يتجه الأدباء وحدهم إلى ترجمة الأدباء، وأن يرفع التجار والمرتزقون أيديهم عنها؟!
هذا وقد رجعت إلى كل المجموعات الشعرية التي استطعت التوصل إليها، ولم أدخر وسعا في الالتزام بالأصل حتى في الحالات التي كنت أجهل فيها لغته، وذلك مثلا في النصوص الإسبانية التي كنت مع ذلك أستعين بمعلوماتي المتواضعة في اللغتين اللاتينية والإيطالية لأضاهيها بترجمتها في الإنجليزية أو الألمانية. أما النصوص الفرنسية فقد كنت أرجع فيها إلى الأصل بطبيعة الحال، وكان من حسن حظي أن وجدت الترجمة الألمانية الدقيقة لمعظم هذه الأصول. وأما الترجمات العربية السابقة لبعض النصوص فقد كنت أهتدي بها شاكرا جهود أصحابها ومشيرا إلى التعديلات التي رأيت إدخالها عليها. وسوف يجد القارئ بعض هذه المجموعات مثبتة في قائمة المصادر، وله أن يعود إليها إذا شاء.
وأخيرا فليغفر لي قارئ الكتاب عنوانه الطموح، وليكن شهادة وفاء للكنز المفقود، وتحية حب لقرائنا وشعرائنا الجدد، ورسالة أمل مفتوحة إلى كل أحباب الشعر والمؤمنين برسالته الخالدة في تنقية العالم، وتوحيد حطامه المبعثر، وإعادته إلى الكمال والخير والعدل والجمال، ودعوته الأزلية - بصوت الغناء - إلى تحرير الإنسان من ذنوبه التي اقترفها على مدار التاريخ في حق الطبيعة والحياة، وتذكيره على الدوام بعالم المثال وبأصله الإلهي النبيل.
5 (القاهرة) يوليو 1970م
عبد الغفار مكاوي
الفصل الأول
مدخل إلى الشعر الحديث
(1) بين الثورة والحداثة
Unknown page