Thawrat Shicr Hadith
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
تتميز هذه الحركة «الرمزية» في القرن التاسع عشر بطابع صوفي عام، يتجلى في الاحتجاج على النزعة العلمية والوضعية والنزعات التجارية وتيار الواقعية الأدبية التي بدأت تسيطر على روح العصر، كما تتميز بالبحث عن «الحقيقة» بعد أن تزعزع الإيمان التقليدي بالدين والتراث، والانطلاق من العالم «الصغير الضيق الممل» - كما وصفه «بودلير» - إلى عالم مثالي مجهول أشد واقعية في رأيهم وأكثر كمالا، بحيث لا نعدو الصواب إذا قلنا إنهم أقاموا نوعا من عبادة الجمال المثالي أخلصوا لها وأفنوا حياتهم من أجلها واقتنعوا بها بعمق وإيمان. (2)
تتجلى هذه النزعة الجمالية أو على الأصح «الاستطيقية» في إيمان بودلير بالجمال المثالي الذي كان يقابل باستمرار بينه وبين حياته الغارقة في الخطيئة والندم، فظل شعره يتمزق بين السماء والأرض، والملاك والشيطان، والقداسة والذنب ، وهذا الإيمان أيضا هو الذي جعل فيرلين يتحدث بلغة شعبية غنائية بسيطة عن روحه وجسده معا، ويبرر البحث عن سعادة خفية محرمة. أما مالارميه فقد كان هذا الجمال المثالي المطلق هو كل شيء عنده، وكان التقرب إليه بتنقية اللغة من شوائب المادة والظاهر، وصياغة عبارات مظلمة ملغزة، نافذة موحية مع ذلك وساحرة الإيقاع؛ هو شغله الشاغل وقربانه الذي لا يكف عن تقديمه كالكاهن الزاهد المتبتل إلى إلهه المعبود ...
2 (3)
أثبتت هذه الحركة أن هناك أوجه تشابه عديدة بين التجربة الاستطيقية والتجربة الدينية والصوفية. فقد حاول مالارميه أن يصور الجمال المثالي في أشعاره بنفس الحماس الذي حاول به دانتي أن يصور عالمه غير المرئي في صورة مرئية. ولذلك فقد كان على دانتي أن يلجأ إلى الرموز المستمدة من عالمه المسيحي، وكان على مالارميه أن يلجأ إلى الرموز والاستعارات لينقل بها تجربته المتعالية فوق الطبيعة في لغة الطبيعة والأشياء المنظورة. ولذلك أيضا لم تكن دلالة الرمز مقصودة لذاتها أو لغرضها المألوف بل بقدر ما توحي بحقيقة تقع وراء عالم الحواس والمحسوسات. والواقع أن هذا كله ليس جديدا على لغة الشعر فقد سبقه إليه وليم بليك مثلا، ولا هو جديد على اللغة بوجه عام، فتلك طريقة معروفة في كل أدب صوفي. ولكن الجديد فيها هو دلالة الرموز على تجربة جمالية لا تجربة دينية، وإن كان صاحبها يتحدث عن رؤاه بنفس الحماس واللهب الذي يتحدث به المتصوف عن رؤاه الإلهية. وإذا كان الدين أو التصوف يطلب من المؤمن والمريد أن يخلص لصلواته وخلواته وتأملاته، فالشعر أيضا يطلب نفس الإخلاص في الصنعة والتركيز والبعد عن شواغل الزمان والمكان والوجود والعدم والفرح والحزن. ومع ذلك فلا يصح أن ننسى أنه على الرغم من هذا التشابه بين التجربتين إلا أن هناك اختلافات أساسية بين الرموز الدينية المستمدة بأكملها من العقيدة التي يفهمها الجميع ويشاركون فيها، وبين رموز التجربة الفنية المتميزة بذاتيتها وتفردها بحيث يصعب على الكثيرين أن يفهموها ما لم يفهموا عالم كل شاعر على حدة ويدرسوه بتعمق وصبر.
وستحاول الصفحات القادمة أن تلقي شيئا من الضوء على غوامض هذه الرموز وتمهد الطريق للمشاركة في تجاربها، دون أن تعد القارئ مع ذلك بأكثر من المحاولة التي قد توفق وقد تخيب! (4)
أهم ما يميز هؤلاء الشعراء هو إخلاصهم لذلك المثل الأعلى. ولقد حماهم هذا من الوقوع في الخطابية المباشرة أو تملق الجماهير أو الدعوات الأخلاقية البالية أو الانشغال بشيء ما خلا الجميل والجمال (الذي اتسع مدلوله عندهم فصار يسع القبح والقبيح كما سنرى). صحيح أن عالمهم ضيق وموضوعاتهم قليلة، ولكنه مع هذا عالم غني، إذ إن الرؤية التي تتجاوز الظاهر والمحسوس لا تعرف الحدود، وهو كذلك عالم مثير وغريب، إذ يتطلب الإخلاص في البحث عن لغة جديدة تناسب الرؤى التي لا تدركها لغة التفاهم البالية. (5)
اهتم هؤلاء الشعراء بالعنصر الموسيقي في الشعر، وجعلوا واجبهم الأساسي - كما يقول فاليري - أن يستردوا من الموسيقى ما أضاعه منها الشعراء.
أرادوا أن يؤدوا بالكلمات ما كانت تؤديه موسيقى فاجنر بالأصوات. فلقد كانت موسيقى فاجنر أشبه بالكشف العظيم الذي فتن العصر كله، حتى وصفها مالارميه بأنها «قمة المطلق المخيفة»، كما امتدحها فيرلين في أكثر من قصيدة. لذلك كان احتفالهم بالموسيقى من أهم ما حققه الشعر الفرنسي الحديث وأثر به على الشعر في إنجلترا وألمانيا أكبر الأثر، ولذلك أيضا نستطيع أن نفهم ما يريده مالارميه من الشعر عندما يقول إنه لا يفيد بل يوحي، ولا يسمي الأشياء بل يخلق جوها ويبعث أثرها. قد لا يكون هذا القول جديدا. ولكن الجديد هو مثابرته (أي مالارميه) على تحقيقه بحيث أصبح الشعر عنده نوعا من الموسيقى ورجوعا به إلى الغناء، أي إلى صميم الشعر نفسه. وإذا كانت قصائده لا تزال تحير الشراح والمفسرين، فذلك لأنها تريد التعبير عن تجربة استطيقية مطلقة وراء الفكر أو خارجه، أي وراء الكلمات الدالة، ومن هنا فهي تجاور الصمت، أي تجاور السر. إنها تحاول الاقتراب من الكلمات الصامتة، «والموسيقى التي لا تسمعها أذن»، أي من مثل أعلى للشعر الخالص المطلق، بحيث يكون كل شعر كتب قبله - إذا جاز لنا أن نستخدم لغة أرسطو - كالهيولى بالنسبة للصورة أو كالمادة بالنسبة للشكل. كان الهدف الذي يرجوه مالارميه هو تنقية الشعر حتى يخلق تجربة خالصة شبيهة بتجربة الجذب عند المتصوفين، ويبعث فرحة مطلقة تتجاوز كل الحدود التي فرضتها الطبيعة على الكلمات، بحيث تبدو وكأنها تنتمي لعالم مثالي بالغ الشفافية والغنائية والصفاء. فهل نجح مالارميه في الوصول إلى هذا الهدف البعيد؟ ألم يؤد به إلى عزلة عن حياة الناس أشبه بعزلة الكهان والنساك؟ ألم تنته به إلى احتقار الجمهور «والقبيلة» والاقتصار على نخبة أرستقراطية مثقفة من القراء؟ ألم تفض كثرة التفكير في الفن ونظرياته إلى عجز الفنان عن تحقيقها أو عقمه ويأسه؟ - كل هذه أسئلة سيحاول الكتاب أن يجيب عليها.
قلت إن منهج هذا الكتاب يقوم على دراسة النص وتحليله واستقراء الظواهر الفنية والفكرية منه. وليس معنى هذا أنه يدرس كل نص على حدة أو يقتطعه من مجموع السياق العام، بل معناه أنه يدرسه كجزء من كل، ويضعه في إطار البناء الفني الشامل الذي يبحث طابعه العام وظواهره المتصلة في غيره من النصوص عند صاحبها وعند غيره من الشعراء، ودلالتها على روح العصر ونظام الفكر. ومعنى هذا مرة أخرى أن الكتاب يتعمد البعد عن منهج آخر لا يزال يتبع للأسف بكثرة؛ وأعني به المنهج «الرومانتيكي» الذي يرى في الشعر امتدادا لحياة الشعراء أو انعكاسا لتجاربهم المعذبة التي يلاقونها في حياتهم.
3
Unknown page