Thawrat Shicr Hadith
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
كان لهذه المشاعر والأفكار التي اعتملت في نفس بودلير وعقله أثرها القوي الذي امتد إلى يومنا الراهن. لقد قال بودلير مرة في حديث له: «أتمنى أن أرى مراعي حمراء وأشجارا زرقاء.» وجاء رامبو فنظم شعرا في مثل هذه المراعي والمروج العجيبة، ورسمها فنانو القرن العشرين في لوحاتهم. وليس من قبيل الصدفة أن يصف بودلير الفن النابع من الخيال الخلاق بأنه فن يعلو على الطبيعة أو فوق الطبيعة.
إنه الفن الذي يجرد الأشياء من شيئيتها فيحيلها إلى خطوط وألوان وحركات وظواهر وأعراض قائمة بنفسها، ويلقي عليها ضوءا سحريا يمحو واقعيتها ويعلن عن سرها. ولن يدهشنا بعد ذلك أن يأتي الشاعر جيوم أبوللينير فيشتق من تعبير بودلير السابق «فوق الطبيعية» تعبيره فوق الواقعية (السيريالية) فيواصل ما بدأ بودلير، ويؤسس حركة فنية وأدبية لا يزال لها دور كبير حتى اليوم. (12) التجريد والأرابيسك
لم يكن الخيال الذي تحدث عنه بودلير ملكة أفلتت من كل قيد، بل قوة ترتبط أوثق ارتباط بالعقل الذي يحكمها ويحدد لها الطريق. ويكفي أن نقرأ هذه العبارة التي يقولها في إحدى رسائله: «إن الشاعر هو العقل الأسمى، والخيال هو أكثر القدرات نصيبا من الروح العلمية» (المراسلات، 1، ص368).
ولا زالت المفارقة التي تنطوي عليها هذه العبارة صادقة إلى اليوم. إنها مفارقة تدل على أن الأدب الذي اقتحم اللاواقع فرارا من عالم سادت فيه الصنعة وجرده العلم من أسراره لا يزال مع ذلك يطمح في تعبيره عن هذا اللاواقع إلى نفس الدقة والذكاء والإحكام الذي جعل من الواقع شيئا ضيقا وسخيفا وسطحيا. أي أن الأدب الذي ثار على العلم لم يتخل عن دقته ومنهجه، ولذلك كان من الطبيعي أن ينتهي بودلير إلى القول بفكرة جديدة وهي فكرة التجريد. وقد سبق لنوفاليس أن استخدم نفس الفكرة لتحديد ماهية الخيال. وكان هذا بدوره أمرا مفهوما طالما أن الخيال هو الملكة القادرة على خلق اللاواقع. أما بودلير فيستخدم في الغالب كلمة «مجرد» بمعنى «عقلي» أي «لا شيء». ونستطيع أن نلاحظ في هذا بداية الفن والشعر المجرد، كما نستطيع أن نقول إن بودلير قد توصل إليها من فكرته عن الخيال المطلق التي تجد المعادل الموازي لها في الخطوط والحركات المتحررة من الأشياء والموضوعات. هذه الخطوط والحركات هي التي يسميها بودلير «الأرابيسك» ويقول إنها أكثر الرسوم نصيبا من العقل (ص1192). ولقد حاول نوفاليس، وبو، وجوتييه أن يقربوا بين الأرابيسك والمسخرة (الجروتيسك). وجاء بودلير فزادهما قربا، وجمع في مذهبه الاستطيقي بين المسخرة والأرابيسك والخيال برباط متين. فالخيال في رأيه هو ملكة الحركات المجردة - أي الخالصة من الأشياء - للعقل الحر؛ أما المسخرة والأرابيسك فهما نتاج هذه الملكة.
وإذا كان الخيال الخلاق يحول الأشياء إلى خطوط وألوان فإنه يجعل من اللغة أو من العبارة الشعرية مجموعة من «الأرابيسكات» أي من الخطوط والمنحنيات المتحركة المتحررة من المعنى. والعبارة الشعرية - كما يقول بودلير نفسه في كلمة كان يريد أن يقدم بها لزهور الشر - هي مجموعة من الأصوات والحركات الخالصة يمكن أن تكون خطا أفقيا أو خطا صاعدا أو هابطا، كما يمكن أن تكون خطا حلزونيا أو متعرجا تتلامس حوافه، ومن هنا يتلامس الشعر والرياضة والموسيقى؛ جمال يتسم بالنشاز، تنحية القلب عن مكانه القديم في الشعر، تعبير عن حالات وجدانية شاذة، مثالية فارغة من المعنى أو دائبة في البحث عنه، تخليص الأشياء من شيئيتها، غموض ونزوع إلى الأسرار مستمد من الطاقات السحرية الكامنة في اللغة ومن إطلاق الخيال بغير حدود، تقريب اللغة الشعرية من تجريدات الرياضة والموسيقى. تلك هي بعض الملامح التي اكتشفها بودلير في وجه الشعر الحديث، وهي خطى بدأها هذا الشاعر العظيم، وكان على الأجيال التي جاءت بعده أن تسير فيها وتواصل الطريق.
إنه شاعر تركت عليه الرومانتيكية آثار جراحها. لكنه استطاع أن يحول عبث الرومانتيكية إلى جد خالص، وأن يقيم بناء شامخا من بعض الخواطر المتناثرة التي وجدها عند أعلامها. صحيح أن واجهة هذا البناء تدير ظهرها لهم، ولكنها لا تخلو مع ذلك من لمساتهم؛ ولذلك نستطيع أن نقول عن شعر خلفائه إنه رومانتيكية خلعت عنها الرومانتيكية. وماذا تكون هذه المفارقة إلى جانب المفارقات التي ينطوي عليها هذا الشعر كله؟!
الفصل الثالث
رامبو (1854-1891م)
عبرت عما لا سبيل للتعبير عنه. *** (1) خصائص عامة
حياة لم تتجاوز السابعة والثلاثين عاما، موهبة شعرية تفجرت في سن الصبا ثم لم تلبث أن توقفت بعد أربع سنوات، صمت أدبي مطلق، ضياع بين أوروبا والشرق الأدنى وأواسط أفريقيا، حيرة متصلة بين أعمال متباينة تقلب فيها بين جيوش الاستعمار، والمحاجر، وشركات التصدير، تجارة البن والجلود في عدن، السفر مع القوافل لشراء الأسلحة وبيعها لنجاشي الحبش، كتابة التقارير للجمعيات الجغرافية عن مناطق لم تكتشف في الصومال، رحلات دائمة مع الحر والبرد والجوع والشقاء، علاقة جنسية شاذة مع شاعر آخر كبير (بول فيرلين)، مرض التيفوس، بتر ساق، موت مبكر في مرسيليا، تطور شعري مذهل في غضون أعوام قليلة تفوق فيه الشاعر على نفسه وتراثه وخلق لغة شعرية أصيلة لم تزل حتى اليوم هي لغة الشعر الحديث، تلك هي بعض الحقائق البارزة في حياة رامبو وشخصيته.
Unknown page