189

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

وبين التفاصيل المرهقة واللانهاية غير المحددة تضيع - عن عمد - الخصائص العامة التي تميز الأشياء والمشاهد والمواقف. ولنأخذ لذلك مثالا من قصيدته «مدائح»؛ فهي تضم فيما تضمه جبينا بين أيد صفراء، ذكرى عن سهام ملقاة في بحر الألوان، سفن موسيقى على رصيف الشاطئ، جبالا من خشب أزرق، ولكن ماذا جرى للسفن؟ أصبحت أشجار نخيل. ثم هناك بحر أليف تلجأ إليه الأسفار غير المنظورة، مدرج كسماء فوق الحدائق، منتفخ بالثمار الذهبية والأسماك والطيور البنفسجية والعطور ترتفع إلى الأعالي الساحقة، و«بفضل شجرة القرفة في حديقة أبي، ترنح عالم غريب!» أجل عالم غريب. الإنسان الذي يحيا فيه مغامر يخاطر بنفسه في كل مكان وزمان، أمير يخطو نحو المجهول، إسكندر (ومن هنا يجيء عنوان أحد دواوينه من حملة الإسكندر «أنا باز») ولكن لا بد لهذا المغامر الفاتح أن يحطم كل ما سبقه. تقول بعض أبيات قصيدته أمطار: «امسحوا الوصمة من على عين الصالح المستقيم، وصمة الجدير الموهوب، امسحوا تاريخ الشعوب، الحوليات العظيمة والأخبار، امسحوا الواح الذكريات، امسحوا من قلب الإنسان أجمل كلمات الإنسان!» ذلك لأن الفاتح المغامر لا يريد أن «يوصم بخمر البشر وبكائهم». ولكن ما هو هدفه وأين يكون؟ الشاعر لا يجيب. إنه لا يزيد عن الكلام عن الانطلاق بعيدا عن الأوطان وبعيدا عن مسقط الرءوس، ولا يزيد عن الكلام عن «قصيدة لم تكتب أبدا». ولا شك أن القارئ قد لاحظ أنفاسا من رامبو؛ تحطيم المألوف رغبة في الانطلاق إلى المجهول، غير أن اللغة تقف عاجزة أمام المجهول. إن أقصى ما تستطيعه هو أن تنشد ألحانها الغريبة من أعماق الكلمات التي تقترب من الصمت أو تقترب من الجنون.

هنا نرى أيضا كما رأينا عند رامبو رغبة حارة في إبداع الصور المثقلة بالصفات الحسية التي لا تنتمي مع ذلك إلى أي واقع مألوف. ويكفي أن نذكر بعضا منها نختاره كيفما اتفق: «البحر في تشنجات الميدوزا»، «الصوف الأسود للإعصار»، «السماء ترضع عصارتها البنفسجية من إسفنجة الشجر الخضراء»، «إنسان يتأمل السماء ويريح ذقنه على النجم الأخير»، «وباء الروح في طقطقة الملح، في جير اللبن الحي»، «الرياضة المعلقة في جبال الملح الثلجية». إن كل عناصر الصورة حسية، ولكن الصورة في مجموعها تؤلف بين أجزاء لا تآلف بينها فتصبح صورا غير واقعية. هي إذن لا واقعية حسية. ومن العجيب أن سان-جون بيرس يمزج صوره كثيرا بالملح. لقد رأينا هذا عند رامبو، كما رأينا كيف تتكرر صورة «المنشار» التي وجدناها عند لوتريو في شعر إلوار ورسوم بيكاسو. لا بد إذن أنها ضرورة كامنة في بناء الشعر الحديث. وتتأكد هذه الضرورة إذا عرفنا أن الملح كان في الكتابات الكيمائية القديمة أحد العناصر الطبيعية الأساسية إلى جانب الزئبق والكبريت.

ولعل من مظاهر وحدة البناء المشترك أن أشعار سان-جون بيرس قد حظيت بمترجمين هم أنفسهم شعراء كبار؛ فقد ترجمه إليوت إلى الإنجليزية وأنجارتي إلى الإيطالية، كما قدره الشاعر الإسباني جيان أعظم التقدير، وقدم الشاعر النمسوي هوفمنستال سنة 1929م لديوانه «أنا باز» وأبدى بعض ملاحظاته العميقة الحساسة التي يقول فيها إن مالارميه وفاليري وسان-جون بيرس أفراد مبدعون، يلقون بأنفسهم في اللغة نفسها. وقد كانت هذه في رأيه هي طريقة الشعراء اللاتينيين في الاقتراب من اللاشعور، فهي لا تتم على طريقة الروح الجرمانية في تدفق نصف حالم، بل بتحطيم الأنظمة القائمة وبعثرة الأشياء في بعضها البعض على نحو ساحر قوي معتم ينبعث من سحر الكلمات والإيقاعات. (14-1) الخيال المتسلط

يقول «هوفمنستال» عن هؤلاء الشعراء إنهم أفراد مبدعون، وهذا القول يفضي بنا إلى فكرة طالما تحدثنا عنها أثناء الكلام عن رامبو، وهي فكرة الخيال المتسلط أو الدكتاتوري، فهذا الخيال هو في الشعر المعاصر أيضا أصل كل ما يصيب العالم الواقعي من تغيير وتحطيم. ولذلك فمن المستحيل أن نقيس إنتاج هذا الخيال بمقاييس الواقع أو نزنه بموازين الأحوال البشرية السوية، ولا بد أن نتخذ منه وسيلة للكشف والاهتداء فحسب. صحيح أن الشعر الغنائي كان في مختلف اللغات والعهود يلغي الفروق بين الواقع والظاهر أو بين ما هو موجود وما يبدو الخيال الشاعر كذلك، وصحيح أيضا أنه كان ولا يزال يخضع مادته لسلطان النفس الشاعرة التي تغيره وتحوره كما يتراءى لها. ولكن الجديد أو المعاصر حقا هو أن العالم الذي يبدعه هذا الخيال الخلاق وهذه اللغة المتميزة أصبح معاديا للعالم الواقعي كل العداء. ولقد قال بودلير في إحدى عباراته النقدية: إن الخيال أو المخيلة تبدأ بالتفكيك والتشويه ثم تواصل عملية إعادة البناء والتركيب بفضل قوانينها الخاصة، وهذه العبارة لا تصدق فحسب على الشعر في القرن العشرين، بل تؤكدها كذلك أقوال الشعراء أنفسهم، والفنانين التشكيلين كذلك. والشيء الذي يلفت النظر أن هذه الأقوال تصاغ على الجملة في صيغة سلبية أو عدوانية ظاهرة. فلوركا مثلا يصف شعر خيمنيث فيقول: «أي جرح نقي وكبير تركه خياله في البياض اللانهائي!»

ويلاحظ أورتيجا أي جاسيت أن «النفس الشاعرة تهاجم الأشياء الطبيعية، فتجرحها أو تميتها.» ودييجو يقول إن الشعر هو خلق لأشياء لن نراها أبدا. ومارسيل بروست يكتب قائلا إن عمل الفنان أشبه بتلك الحرارة الشديدة التي تعمل على تحلل التركيبات الذرية وتجميعها في تركيبات جديدة مختلفة عن سابقتها تمام الاختلاف. والشاعر الألماني جوتفريد بن يتحدث عن الروح الغربي فيقول: إن من طبعه القدرة على «تفكيك» الحياة والطبيعة ووضعهما في إطار جديد نابع من القانون الإنساني. وبيكاسو يصف فن الرسم بأنه «صنعة عميان» ويقصد بذلك أن الفن متحرر من كل اعتبار لعالم الموضوعات الخارجية. وكل هذا يدل على أن سلطان الخيال الذي بدأ في الظهور منذ أواخر القرن الثامن عشر قد وصل إلى أقصى قوته في القرن العشرين، وأن الشعر قد أصبح بما لا يحتمل الشك لغة التعبير عن عالم من خلق الخيال وحده، عالم يرتفع فوق الواقع أو يحطمه ويلغيه. (14-2) آثار الخيال المتسلط

عديدة هي آثار هذا الخيال الطاغية المتسلط على المضمون وأسلوب التعبير في الشعر الحديث، ويكفي أن نذكر بعض الأمثلة على لسان بعض الشعراء المعاصرين، فالمكان أيضا يتفتت في الشعر ويفقد تماسكه وأبعاده المعتادة. ولقد عاب الشاعر الألماني الكبير فريدريش شيلر مرة على إحدى القصائد بأنها تتحدث عن حافة الجبال ثم تتحدث بعد ذلك مباشرة عن مرعى في الوادي، وكان من رأيه أن الشاعر قام بطفرة «قطعت اتصال السياق». ويستطيع القارئ أن يقلب في بعض النصوص التي اخترناها من شعر إليوت أو سان-جون بيرس ليتبين بنفسه كيف تتنقل القصيدة الحديثة بين أجزاء المكان المتباعدة التي تفصل بينها مسافات شاسعة.

إننا نقرأ مثلا في شعر جوج تراكل - أكبر الشعراء التعبيريين الألمان - قوله: «قميص أبيض من النجوم يحرق الأكتاف التي تحمله.» فيلغي المكان بهذا المزج بين النجوم والوجه البشرى إلغاء تاما. وفي قصيدة «منطقة» للشاعر الفرنسي أبوللينير نلاحظ تجاور أمكنة عديدة في وقت واحد، فبراغ ومرسيليا وكوبلنز وأمستردام كلها مسرح واحد يدور فوقه حدث خارجي وداخلي واحد. وفي معظم الأحوال تختفي الإشارات المكانية أو تستخدم عكس استخدامها الصحيح. ففاليري مثلا يقول إن البحر ينام فوق القبور، ورافائيل ألبرتي يقول: «فوق النجمة الريح، وفوق الريح الشراع.» أضف إلى ذلك قلب النظام المألوف الذي رتبت الأشياء في العالم الخارجي بمقتضاه. فالشاعر الإيطالي كوازيمودو يقول إن الهواء يزفر أوراق الشجر المرة. والشاعر الإسباني جيان يقول إن الرطوبة المظلمة الملموسة تفوح برائحة الجسر. بل إن المثل الأخير يوضح كيف تستخدم الكلمة في غير موضعها؛ إذ نجد الرطوبة، وهي شيء غير مادي، توصف بأنها ملموسة، مع أن الجسر كان أحرى بهذا الوصف. وهذا الأسلوب (الذي أجازته البلاغة اليونانية القديمة وإن اقتصدت فيه أشد الاقتصاد) قد انتشر في الشعر الحديث منذ عهد رامبو ثم تغلغل اليوم في الشعر المعاصر ، لأنه فيما يبدو أقدر الأساليب على جعل الصور تتشابك في بعضها البعض بطريقة غير واقعية، وإضفاء الأهمية على الكلمات المستخدمة بعكس المقصود منها. وانظر مثلا إلى هذه الأبيات؛ فجاك بريفير يقول. «عجوز من الذهب معه ساعة في حداد.» بدلا من قوله «عجوز في حداد ومعه ساعة من الذهب.» وخيمنيث يقول: «غصن محزون وقلب جاف.» بدلا من قوله: غصن جاف وقلب محزون. والأمثلة عديدة يستطيع القارئ أن يكتشفها بنفسه من نصوص هذا الكتاب.

ولا يقتصر الأمر في هذا كله على المكان؛ فالزمان أيضا تصبح له وظيفة شاذة. إن الشاعر الحديث يؤمن فيما يبدو بكلام أينشتين، ويرى معه أن الزمان هو البعد الرابع الذي يضاف إلى أبعاد المكان الثلاثة بحيث يمكن - كما رأينا عند إليوت - أن تتجمع عناصر زمنية متفرقة في لحظة واحدة تقابلها صورة مكانية واحدة، أو أن تستخدم الصفات الزمانية بدلا من الصفات المكانية المنتظرة (وقصيدة فاليري عن المرأة من أوضح الأمثلة على هذا). ويصل الأمر في أغلب الأحوال إلى إلغاء التدرج العادي في مراحل الزمن، بل إلى إلغاء الزمن نفسه.

ويتم هذا في أغلب الأحوال عندما تتنقل القصيدة في حرية بين الأزمنة المختلفة، دون أن تكون هناك حاجة لذلك من ناحية المضمون فإذا استخدم الشاعر صيغ الأفعال لم تزد هذه عن كونها منظورا شعريا يعرض من خلاله شيئا مستقرا متجردا من الزمن أو مرتفعا عليه. بل قد لا تزيد هذه الأفعال عن كونها متنوعات نغمية وإيقاعية تفرضها طبيعة اللغة نفسها واتجاه سيرها. وقد يلجأ الشاعر إلى استخدام صيغ الأسماء للتعبير عن أحداث تجريبية تتم في عالم واقعي من شأنه أن يحتاج إلى الأفعال، ثم يعبر بصيغ الأفعال عن حدث لا واقعي يتم في زمن لا واقعي من شأنه أن يلغي التدرج الزمني ويمحو الفوارق الفاصلة بين المستقبل والحاضر.

وهناك قصيدة للوركا يمكن أن نسوقها دليلا على تحكم الخيال وخضوعه لقوانين ذاتية تختلف عن قوانين الواقع، واستبعاده للتسلسل الزمني والترابط العلي المألوف في المنطق والحياة. والقصيدة التي نعنيها هي قصيدة «صيادون» وتتألف من ثماني أبيات، تسير بطريقة بصرية تلخص الصور والأحداث. فهناك أربع حمامات يطرن إلى أعلى ثم يرجعن إلى الأرض وقد «جرحت ظلالهن.» والحدث بسيط غاية البساطة تعبر عنه لغة موجزة غاية الإيجاز، لا تفصح عن الترابط السببي بل تمثل له بواو العطف أو بتغيير المكان (أعلى - الأرض).

Unknown page