173

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

هذه اللحظة هي ذروة العمر كله، هي التي يهب فيها الإنسان نفسه ويبقى على الرغم من ذلك هو نفسه، كمثل ما يكون العاشق ولا يكون في اللحظة التي يطبع فيها المحبوب قبلته على شفتيه. هذه المفارقة التي تعبر عنها «عذوبة أن نكون ولا نكون» لها دلالتها على نظرة فاليري إلى طبيعة الإلهام والخلق الفني. كانت نظرة القدماء إلى الإلهام أن الشاعر هو أداة أو وسيلة تنطق بلسانه قوة إلهية خفية. فهوميروس يبدأ إلياذته بأن يطلب من ربة الفن أن تنبئه عن غضبة أخيل. ولكن فاليري يرى أن هذه النظرة ساذجة وغير علمية، وأن فكرة الإلهام أو القوة الخفية التي توحي للشاعر وتسيطر عليه فكرة لا تتفق مع ملاحظته للواقع. إن العملية الشعرية تسير على نحو آخر، فهناك كما يقول أبيات من الشعر «يجدها» الإنسان وهناك أبيات أخرى «يصنعها صنعا». ومن السهل أن نفهم المراد بالجزء الثاني من هذه العبارة، أما الجزء الأول فلا يزال سرا خفيا. قد يستطيع علم النفس أن يقدم له تفسيرا ولكنه تفسير غير كاف ولا مقنع. فهو قد يصطنع له سببا من الأسباب، ولكنه يقصر عن تفسير البهجة التي تصحبه أو القوة التي يرد بها عليه؛ ولذلك يظل الفعل الشعري شيئا غامضا محفوفا بالأسرار، ويثير من المشاعر والانفعالات ما لا يعبر عنه إلا الشعر نفسه. إن الخلق الشعري يحتوي دائما على عنصر المصادفة. فما من شاعر يستطيع أن يتنبأ بما ستنتهي إليه قصيدة بدأ في تأليفها. صحيح أنه يبدأ بفكرة معينة، فإذا مضى في عمله اكتشف أن فكرته وأسلوبه وهدفه قد تغير، وأن كل جهد يبذله وكل عقبة تصادفه إنما تبدل أفكاره وتزيدها غنى. وقد فطن مالارميه إلى هذا الرأي وعبر عنه بكلمته المشهورة التي ذكرناها في الصفحات السابقة: «ما من رمية زهر تستطيع أن تلغي الصدفة.» - وقد تكون الصدفة التي يقصدها هي الواقع العرضي الذي تحاول لغة الشعر أن تلاشيه. وقد يكون تعبيرا عن البلبلة والحيرة المطلقة التي تواجه الشاعر في أثناء الخلق. فهو يلقي «زهرة» ولا يدري ماذا يكون حظه من التوفيق أو الفشل، لأن مادته تواجهه بمفاجآتها العديدة التي لم يكن يتوقعها أو يحسب حسابها.

ولكن ماذا يحدث لو تأخر هذا العطاء، لو تلكأت هذه الصدفة؟

هذا هو موضوع القصيدة الأخرى «التخيل». إن الملاك الذي يظهر في سطورها الأولى يوصي الشاعر بأن ينتظر في ثقة وهدوء (والملاك رمز آخر أخذه فاليري من معلمه مالارميه ويدل عنده على المثال المطلق للجمال والسلام). فقد تمر به أوقات يحس فيها بالعجز والعقم والإجداب، ولكن هناك قوى خفية تظل تعمل عملها في أعماقه دون أن يدرى، ولا بد أن يأتي الشعر في اللحظة المناسبة:

هذه الأيام التي تبدو لك فارغة

وضائعة في نظر العالم

لها جذور نهمة

كنبت الصحاري.

ولا بد أيضا أن ينتظر الشاعر في صبر وثقة وأمل، وأن يتأكد من أنه سيكافأ على هذا الصبر، وأن المفاجأة السعيدة لا شك آتية.

صبرا، صبرا،

صبرا في الأفق الأزرق!

Unknown page