169

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

فهي تصدق على آلهة القدر التي تتمزق بين السماء والأرض وتريد أن تبقى على الأرض حيث عضتها الأفعى. وهي تصدق كذلك على الشاعر الذي سئم صراعه مع الوعي اليقظ أو تخلى عنه ويريد الآن أن يستسلم لتجربة الحلم المضطربة.

من الصعب إذن أن نميز بين الشاعر ورمزه، بل ليس هناك ضرورة لذلك. علينا بدلا من هذا أن نتذوق الجو أو الأثر أو الحالة التي توحي بها القصيدة وأن نستمتع به ونعيشه ونتلقاه بالشعور والإحساس لا بالعقل أو الفهم. فالقصيدة لا تريد أن تعلمنا وتفيدنا بقدر ما تريد أن توحي وتؤثر وتبتعث جوا عاما تتماوج فيه مختلف المشاعر والتجارب والانفعالات. ولعلها تصور ما قاله فاليري نفسه من أن الشعر لا يهدف على الإطلاق لتوصيل فكرة محددة إلى إنسان ما. بل إن المهم فيه هو الكلمات وإيقاعها، والصور التي توحي بها، والتداعيات التي تثيرها. والتجربة أو الحالة التي تخلقها. ولو كانت القصيدة أقل غموضا مما هي عليه، أو لو استطعنا أن نميز بوضوح بين الشاعر وبين آلهته الشابة أو نضع أيدينا على أحداث أو أشياء محددة لفقدت أهم شيء فيها وهو هذه الحالة الغامضة التي يريد الشاعر أن يخلقها فينا؛ حالة التأرجح بين الحلم واليقظة، حيث تتجلى الصور المتألقة ثم تنداح في ضباب الغموض، وحيث نفهم معانيه في بعض اللحظات لنغوص من جديد في الحلم أو الضباب.

وليس المهم بالطبع أن يكون الشعر غامضا أو صعبا؛ فهذا شيء مألوف من الشعر الحديث، وإنما المهم أن ينقل إلينا في النهاية حالة نستطيع أن نقول إنها قريبة من الحالات التي نعرفها في أنفسنا، وإنها في غموضها أو وضوحها لا يمكن التعبير عنها بالنثر ولا بالوضوح الكلاسيكي القديم. بل إن مثل هذه الحالة التي توحي بها القصيدة بين الحلم واليقظة تقدم لنا صورا ورموزا تتجاوز نفسها، وتجعلنا ننظر إلى أنفسنا في ضوء جديد وكأنما نحن رموز لقوى كونية أكبر وأعظم. فالشاعر يرى نفسه أشبه بآلهة تخلت عن مسكنها السماوي الأعلى لتشارك في متاعب الحياة الفانية وعواطفها ومصادفاتها، أي يصور نفسه ممزقا بين أفكاره وأفعاله، بين عقله وجسده. ونحن نتعاطف معه ونشاركه هذه الحالة التي تتجاوز حدود طاقتنا البشرية العادية، ونحس أننا قد أصبحنا مركز الكون كله أو على الأقل مركز نظام هائل كبير، وأن كل ما نفعله أو نفكر فيه أو نحس به إنما يحمل دلالات أكبر وأعظم منا. انظر مثلا إلى هذا البيت:

الكون كله يتأرجح ويرتعش على برعمي!

أو إلى هذا البيت:

كل الأجسام المشعة ترتعش في صميم كياني.

لترى أن كل تغير في النغمة أو الرمز يفتح أفقا جديدا، ويكشف عن إمكانيات جديدة من البهجة أو الألم، توشك أن تكون كونية لا شخصية فحسب.

لم يعد الشاعر يرى نفسه بمثابة المركز من عالم خاص به، بل تحول إلى أفق أكبر منه، وأوسع، وكأنما حدثت - كما يقول س. م. بورا - ثورة كويرنيقية في عالم الشعر «الرمزي» استبدلت بمثاليته الرمزية نزعة مطلقة جعلت أفكار الروح الواحد هي أفكار الكل، كما جعلت تجربته الفردية هي تجربة الإنسان بوجه عام.

فالقصيدة تتحرك إذن بين طرفين، وتشير لصراع الآلهة الشابة - وصراع الشاعر نفسه - بين عالم السماء؛ عالم الأسرار والألغاز والانسجام والآلهة - وعالم الأرض، عالم الألم والمرارة والقبل والاحتضار والأجساد. وتختار الآلهة أن تعود إلى السماء. وينتهي صراعها عندما تتأكد من فشل الحياة وفزعها. والقصيدة يمكن كما قلت أن تكون تعبيرا عن صراع في نفس الشاعر بين فكره الدقيق وذاته الشاعرة، وما دام قد نجح في صياغة هذا الصراع في شكل فني فقد نجح إلى حد كبير في التخلص منه (وهذا ما تعلمنا تجارب الفنانين الكبار بوجه عام). ومع ذلك فإن نجاحه في إبداع قصيدة استلهمها من مشكلته الباطنة لا يعنى أنه نجح في حل مشكلة أخرى، وأعني بها منزلة الشعر في حياة تريد أن تخضع لقواعد العقل وتصر في نفس الوقت على رؤية الأشياء الواقعية على ما هي عليه.

أي أن مشكلة فاليري - وعدد كبير من الشعراء المحدثين - هي ربط الشعر بالتجربة المألوفة، والعثور على موضوعات لا تكون بالضرورة شاذة أو غير واقعية، والجمع بين اكتشافات العقل ورؤى الخيال. ولعل هذا هو الذي جعل فاليري يحس أن طاقته الشعرية تستطيع أن تتجاوز الحدود التي يحاول عقله التحليلي الدقيق أن يرسمها لها، وأن هناك عوالم أخرى غير العالم الذي يقع بين الحلم واليقظة كما صورته «آلهة القدر الشابة» لا تقل عنه أهمية وخصوبة وشاعرية، وأنه يستطيع أن يكون أقل غموضا وأقرب إلى التذوق (وإن بقي شعره في نهاية الأمر مقصورا على الصفوة التي تستطيع أن تتذوق ما فيه من دقة ورهافة، وتفهم ما تعنيه صراعاته ومشكلاته أو تشاركه فيها).

Unknown page