167

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

pure

تدور حول هذه الفكرة. ويظهر أن المبدأ الشعري الذي قال به «إدجار ألن بو» وأشرنا إليه من قبل قد ثبتت صحته في حركة الشعر الجديد. فالشاعر الكاتب الأمريكي الكبير يرى أن يصمم الشاعر قصيدته مبتدئا بقوة النغم اللغوي أو الطاقة الصوتية السابقة على المعنى، فإذا تم له ذلك استطاع أن يضفي عليها المعنى الذي سيظل على الدوام شيئا ثانويا. وقريب من هذا ما يقوله الشاعر الألماني «جوتفريد بن من أن القصيدة تكون قد تمت بالفعل قبل البدء فيها، ولكن المؤلف لا يكون قد عرف نصه بعد.»

وشعر «بن» نفسه من أصدق الأمثلة على أصالة الكلمة وتقدم الصوت على المعنى. ولعل هذا هو الذي مكنه من معالجة أبعد الموضوعات عن الشعر وجعلها مع ذلك شاعرية. وقصيدته عن «شوبان» التي تجدها في غير هذا الموضع؛ هي في الحقيقة سيرة حياة بالأنغام. فليس المضمون فيها سوى مجموعة شذرات تشير إلى أحداث وتأملات ومونولوجات (أحاديث ذاتية)، صيغت في عبارات مبتورة.

والحدث في هذه القصيدة لا يسير في مسار الزمن العادي من الحياة إلى الموت، بل يعكس هذا الاتجاه. وهو لا يجد حرجا من ذكر أبعد الألفاظ عن الشعر، فيحدثنا بأسماء بعض الآلات الموسيقية أو «ماركتها»، ومقدار المكافأة التي كان يتقاضاها الموسيقي العظيم، وأسماء العظماء الذين كان يعزف أمامهم وعناوين بيوتهم بمنتهى الدقة، وبعض التفصيلات الخاصة بأسلوب شوبان في الفن. ولا ينسي «بن» أنه طبيب للأمراض الجلدية فيورد جزءا من التشخيص الطبي لمرض شوبان الفتاك (مع نزيف وتكوين بثور ... إلخ). غير أننا نحس مع هذا كله بشيء يشبه الرعشة تتخلل كل هذه التفاصيل الموضوعية والاصطلاحات العلمية والشذرات والجمل الناقصة، شيء ينبع منها ويطغى عليها في وقت واحد. وإذا دلت هذه القصيدة التي لا تنسى على شيء، فإنما تدل على أن الشاعر يستطيع أن يتخلى عن الموضوعات التقليدية التي كان يدور حولها الشعراء، وأن يقترب كثيرا من لغة النثر دون أن يحطم جوهر الشعر نفسه.

وفي شعر رامون خيمنيث، وهنري ميشو، وتوماس إليوت شواهد كثيرة على هذا التأثير السحري - بل المغنطيسي في بعض الأحيان - الذي يأتي من نغم الألفاظ، أو من تكرار بعض الأبيات بشكل مستمر، أو من مجرد اللعب بالمقاطع والألفاظ أو بداياتها بحيث تخلق توافقات إيقاعية أو تركيبات موسيقية تنفذ إلى الأذن مباشرة وإن لم تصل إلى العقل، وما ذلك إلا لأن هذا الشعر ينظر إلى اللغة بوصفها طاقة نغمية قبل كل شيء، ولا شك أن أبرز ممثليه من الشعراء العقليين هما الشاعران فاليري الفرنسي وجيان الإسباني، وكلاهما يستحق منا وقفة قصيرة. (10) بول فاليري (1871-1945م)

مات مالارميه في سنة 1898م، وبدا عندئذ كأن الحركة التي كان رائدها وكاهنها الأكبر قد ماتت معه. صحيح أن الشعر الفرنسي أخرج بعده عددا من أقطابه المتميزين (مثل جان موريا وفرانسيس جام وهنري دورينير وبول كلوديل) ولكن لم يكن واحد منهم من أتباع مالارميه ولا كان من «الرمزيين» بمعنى الكلمة. تساءل الناس: هل أضاع «المعلم» كل هذه السنوات الطويلة في البحث عبثا عن الرؤية الشعرية الحقة؟ أم تراه كان يبحث عن رؤيته هو وحده؟ ولكن الجواب لم يلبث أن جاء بعد سنوات قليلة. لقد غرس المعلم بذوره في أحد تلاميذه والمعجبين به، وكان لهذه البذور أن تنمو وتزدهر. كان هذا التلميذ هو «بول فاليري» الذي طالما أعجب بأستاذه وكتب بعض قصائد شبابه تحت تأثيره، ولكن التلميذ رأى أن يبتعد فترة ليجد نفسه، وأن يصمت ليكتشف طريقه الخاص به، فعكف من سنة 1898م إلى سنة 1917م على دراسات علمية وتحليلية دقيقة، وظل عازفا عن نشر الشعر حتى ظهرت قصيدته «آلهة القدر الشابة»

19

في سنة 1917م، وظهر معها بوضوح أنه تعلم من دروس أستاذه ومبادئه، وأن الحركة الروحية التي ذبلت أو كادت تنطفئ في أواخر القرن التاسع عشر قد عادت مرة أخرى إلى الحياة. وتجلى كذلك بوضوح أنه وإن لم يكتب شعرا في هذه الفترة الطويلة التي قاربت العشرين عاما، فقد كان في أعماق نفسه مشغولا بالتفكير فيه، وأن الدراسات العلمية والرياضية والفنية التي عكف عليها قوت موهبته وزادته معرفة بنفسه، وبلورت ذوقه وأفكاره.

و«آلهة القدر الشابة» مشهورة بصعوبتها، حتى لقد قيل إنها من أعقد ما كتب في الشعر الفرنسي وأشده غموضا. ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نحدد موضوعها الذي اختلف عليه الشراح والمفسرون. ولكننا قد نقترب منها قليلا لو عرفنا شيئا عن الصراع الذي كان يدور في كيان صاحبها فيوزع نفسه ويكاد يمزقها. إنه الصراع الذي عانى منه معظم حياته بين الفنان والشاعر والإنسان في نفسه، وبين المفكر العقلي الصارم الدقيق الذي يميل إلى التحليل والتأمل والاستقلال والتجرد. ولا بد أن هذا الصراع بين العقل والجسد هو الذي أعاده إلى الشعر وأجرى قلمه بهذه القصيدة الغامضة العجيبة، وليست القصيدة مجرد تسجيل لصراع نفسي، ولا تتضمن أية إشارة إلى حياة الشاعر الشخصية بل ولا تمس موضوعا محددا. وهي كذلك ليست من نوع القصائد الدرامية أو القصصية التي تتناول موضوعا أو موضوعات معينة، وإنما هي قصيدة رمزية تقوم على أسطورة غامضة وتعبر عن حالات شعورية متعددة أشبه بحالات المد والجزر وتتفاوت أمواجها بين التردد والتصميم، بين العزلة الهادئة والانفعال الجارف، بين الإقبال على دفء الحياة والعزوف عنها إلى برودة الفكر. وتتداخل كل هذه الأمواج في بعضها البعض فلا نتبين معالم ولا حدودا. قيل مثلا في تفسيرها إنها «مونولوج» آلهة قدر شابة تواجه مشكلة الاختيار بين عزلتها السماوية ومسئولياتها الأرضية. وقيل إنها رحلة في مجاهل الوعي الإنساني بين غرائب الموت والحياة. وقيل إنها أحلام شاعر راقد في فراشه. وقد تكون القصيدة شيئا من هذا كله وقد لا تكون. إنها بطبيعتها لا تقبل التحديد في شكل معين، ولا تقرر موضوعا بل تحدث أثرا وتشير إلى حالة. وربما لم نبعد عن الصواب كثيرا إذا قلنا إنها حالة صراع واجهه الشاعر نفسه وألبسه هذه الرموز الغائمة وهذه الأسطورة الغامضة.

وطبيعي أن يقارن القارئ بين هذه القصيدة وبين قصيدة مالارميه أو حواريته القصيرة «هيرودياد»، وهي هذه العذراء العنيدة الباردة برودة الثلج التي أراد أن يجسد فيها رغبة الإنسان في البعد عن كل الرغبات والعواطف والتجرد من كل الانفعالات والغرائز، فهل أراد فاليري كذلك أن يعبر «بآلهة القدر الشابة» عن الصراع بين الرغبة في الحياة الدافئة الفعالة، وبين الرغبة الأخرى في التأمل المستقل المجرد من كل العواطف والانفعالات التي يوحي بها الجسد أو توحي بها الحياة؟

Unknown page