150

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

ونسوق مثلا آخر لتوضيح هذا الكلام عن الشعر الخالص من «الأنا» ومن النزعة البشرية بقصيدة «الصرخة» التي يجدها القارئ في هذه المجموعة (وقد كتبها لوركا في سنة 1921م):

منحنى

10

صرخة ... يمضي من جبل

إلى جبل ... إلخ.

والقصيدة لا تؤكد على المكان ولا على الصرخة، بل على هذا الشكل الهندسي الذي تبرزه كموضوع رئيسي تتكون منه بعد ذلك أو تنبني عليه موضوعات أخرى كالمكان، والليل، والجبال، وأشجار الزيتون. ويصبح المنحنى أو الإهليلج - الذي صار نصفه موضوعا ونصفه الآخر استعارة - قوس قزح أسود ثم قوس كمان «ترتعش تحته أوتار الريح الطويلة». وإذا سألنا أنفسنا من أين تأتي هذه الصرخة لم نتلق جوابا. فالصرخة هناك، بل تكاد تكون هي وحدها الموجودة. ولكن هل هي صرخة إنسان؟ إن القصيدة تتكلم قبل نهايتها عن الناس الذين سمعوا هذه الصرخة: «الناس في الكهوف يعلقون المصابيح في الخارج.» غير أن هذا لا يخلع على النص صفة إنسانية. أضف إلى ذلك أن البيتين الأخيرين موضوعان بين أقواس ، وكأن القصيدة تلقي نظرة من بعيد على أولئك البشر الذين وقفوا حائرين أمام تلك الصرخة التي تصدر عادة عن الإنسان ومع ذلك فقد قطعت صلتها بكل إنسان.

الصرخة إذن شيء محايد مجهول، خط من النغم يصل اليوم وأمس وغدا إلى الجبال والرياح وأشجار الزيتون ولكنه مقطوع الصلة بالإنسان، أو نحن نجهل على الأقل أنه يخرج من صدر إنسان.

وهناك أمثلة أخرى يستطيع القارئ أن يجدها في شعر رافائيل ألبرتي، تتحدث عن موضوعات مألوفة كالبكاء على الحب، ولكنها تدخلها في نسيج شفاف معقد وتستوحي خيوطها من اكتشافات المدنية والعلوم الحديثة، وتملؤها بالإشارات السريعة إلى السفن والطائرات والكازينات والبارات والبنوك المغلقة ... إلخ. وأوضح مثل لهذا قصيدته «الآنسة» س «المدفونة في ريح الغرب» (1926م)، فهي لا تتكلم عن حزن شخصي بل تضع الحزن في الأشياء وتعبر عنه من خلال أمور مضحكة أو سخيفة أو عادية أو كونية أو فلسفية، وتزيد بهذا من صلابته وتجرده من العاطفية والانفعال. والغريب أنه ليس هناك شخص واحد يبكي في القصيدة، بل أشياء كعمود التليفون الذي يحزن لأن الآنسة س لا ترسل حديثها منه، وكالشمس التي صعقتها الكهرباء والقمر الذي تفحم!

ويطول بنا المقام لو تتبعنا ما سميناه بالتجريد أو التعرية من النزعة البشرية في الشعر الحديث. ويكفي أن يلقي القارئ نظرة سريعة على نماذج من شعر سان-جون بيرس، هذا الشعر المجيد الذي يتغنى بعظمة الطبيعة وروائع الأعمال البشرية في بناء فني رفيع، ولكنه يدور في مناطق عجيبة منزوعة عن المكان والزمان، يصعب أن يهتدي القارئ فيها أو يجد في أجوائها النفسية الغريبة قدرا قليلا من الفرح أو البهجة، ويكفي أيضا أن يطلع على شعر «رافائيل ألبرتي» أو «خورخه جيان» ليرى إلى أي مدى يمكن أن يخلو الشعر من الوصف المباشر العاطفة الحزن والفجيعة والمرارة ويؤثر، على الرغم من ذلك بصوره وخياله ومفرداته اللغوية وبنائه الفني، أعظم تأثير. إن الشاعر يحول الناس والأشياء إلى صور ومقولات مجردة. إنه يتجرد عن عواطفه الشخصية لينظر إلى الأشكال الخالصة في المكان والنور. ومن العبث أن نسأل أين يعبر الشعر الحديث عن الفرح وأين يعبر عن الحزن. فمثل هذه المضمونات التي لا يمكن أن يستغني عنها الشعر بالطبع، ترف علوا أو هبوطا في منطقة تستطيع النفس أن تنظر فيها وتحس بأبعد وأشجع وأصلب وأنقى مما تستطيعه نفس عادية حساسة. ولعل هذا يفسر لنا كيف أن بعض الشعر الحديث الذي استطاع أن يتعرى من «معطف الأنا» - إن صح هذا التعبير - قد جعل من الأشياء موضوعه الوحيد.

إن الشاعر يستطيع الآن - كما يفعل الشاعر الفرنسي فرانسيس بونج (ولد في 1889م) الذي يرفض أن يسمي شعره شعرا - أن يتكلم عن باب أو رغيف خبز أو قوقعة أو شمعة أو سيجارة بطريقة أشبه ما تكون بالفينومينولوجيا الشعرية إذا جاز أن نستعير هذا التعبير من فلسفة هسرل في الظاهريات! لا لكي يصف الأشياء وصفا واقعيا أو يشوهها ويغيرها، بل ليظهرها جامدة أشد الجمود أو ليضفي على الجماد منها حياة لا واقعية غريبة. والمهم أنه يستبعد الإنسان من شعره ويحاول كما يقول: «أن يولد الأشياء من الكلمات».

Unknown page