139

Thawrat Shicr Hadith

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Genres

تكلمنا في الفصول السابقة عن الخيال المتسلط أو الدكتاتوري. وهذا الخيال يظهر أيضا في شعر مالارميه لتحل صوره محل الواقع الذي لم يعد يهمه أن يصفه ولا أن يعرف نظامه الموضوعي. إنه يعمل بشكل أكثر هدوءا وهمسا مما كان عليه عند رامبو، ولكن هذا العمل الهادئ الهامس له وزن الفعل القائم على أساس أنطولوجي، كما تظهر فكرة التجريد ضمن الأفكار التي يوحي بها، على نحو ما رأينا عند كل من بودلير ورامبو. إن الخيال بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة يوازي التجريد، تؤكد هذا عبارة ترد في معرض كلامه عن ريتشارد فاجنر إذ يقول إن الروح الفرنسية - التي تكره حكايات الخوارق والأبطال - روح خيالية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ومجردة، أي شاعرية (ص544) والشاعرية هنا مقصورة بالمعنى الذي فهمه الإغريق عن الشعر من أنه صنعة وإنتاج. وبجانب هذه الفكرة نجد فكرة أخرى عن النظرة المطلقة التي يشرح مالارميه معناها في مقاله عن «الباليهات» (ص303-307) بقوله: «ليست الراقصة امرأة ترقص، بل هي استعارة تحتوي في ذاتها على صورة أولية من صور كياننا؛ سيف، أو كأس، أو زهرة ... إلخ. وهي لا ترقص، بل توحي بكتابة جسمها بشيء لا يستطيع النص أن يؤديه إلا بطريقة ملتوية» (ص304).

الرقص إذن تجسيم بصري للفكرة، أي أن الذي ينظر إلى الراقصة يرى من خلال مظهرها المادي صورة أولية من صور الوجود الإنساني، وهذا يأتي من «نظرة غير شخصية براقة، مطلقة» (ص306). قد يخيل إلينا أننا نلمس في هذا كله مسحة أفلاطونية، ولكننا لا نلبث أن نقرأ هذه السطور في نهاية المقال: «تقدم إليك الراقصة، من خلال النقاب الأخير الذي يبقى دائما، عري (أو صفاء) أفكارك وتسجل رؤيتك في صمت، في صورة رمز (أو علامة) هي الراقصة نفسها» (ص307).

لا نلبث كما قلت أن نتبين أن الفكرة غير أفلاطونية. فالذي ينظر لا يرى حقائق موضوعية ثابتة أو نماذج أولية خالدة - كما هو الحال مع المثل عند أفلاطون - بل يرى صورا أولية من عقله أو ذاته هو يسقطها على الظاهرة التي يراها ليحولها إلى علامات أو رموز تدل على ذاته وكيانه هو. ولا يتم هذا إلا «بنظرة مطلقة» تستطيع أن تنفذ في الظاهرة - دون أن تتحول مع ذلك عن ذاتها - لترى فيها رموزا على حركتها وجوهرها الباطن. ومن هنا يعد مقال «الباليه» أقوى دفاع عن فعل الخلق الحر المطلق من كل قيد، كما يصلح تعبير «النظرة المطلقة» أن يكون شعارا يصدق على الشعر المجرد عند مالارميه وأتباعه، بل يصدق كذلك على الرسم الحديث الذي يصرف النظر عن الموضوعات الخارجية ليستبدل بها بناء متشابكا من الخطوط والأشكال والألوان.

إذا طبقنا هذا الكلام على شعر مالارميه وجدناه يقلب نظام العالم الخارجي، ويجرد الظواهر والأشياء من النسق المألوف في الزمان والمكان. وهو في هذا قريب من شعر رامبو، وإن اختلف الأساس الفلسفي عندهما اختلافا شديدا. ويمكن أن نمثل لهذا ببعض إنتاجه ...

فأحد مقالاته (والمقالات أيضا أدب!) بعنوان «اللذة المقدسة» يبدأ بعبارات لا يمكن أن نفهمها بالمقاييس العادية إلا إذا ترجمناها على النحو التالي: «في الخريف يعود سكان باريس من الصيد ويذهبون إلى المسرح، ويسلمون أنفسهم لسحر الموسيقى.» فإذا نظرنا إلى النص الأصلي (388) وجدناه يقول: «الريح تدفع الناس للعودة من الأفق إلى المدينة عندما يرتفع الستار عن روعة الخريف المهجورة. رفيف لعب الأصابع، الذي تهدأ منه أوراق (الشجر)، ينعكس عندئذ في حوض الأوركسترا المتهيئ (للعزف).»

ويلاحظ أن هذه العبارة لا تتكلم عن الخريف إلا في صورة استعارة غير مباشرة، أي عندما يكون الكلام عن المسرح (الستار) وقائد الأوركسترا (لعب الأصابع) وبذلك يلتقي الخريف والمسرح في وحدة واحدة تزيد بالطبع عن كونها مجرد استعارة. كما أن تقديم التفاصيل الجزئية على الكل والأمور العرضية على الجوهر تعد من ناحية أخرى إحدى خصائص الأسلوب اللاواقعي الذي سيكون له صداه الكبير في شعر القرن العشرين. انظر مثلا إلى هذا البيت - من إحدى قصائده المبكرة - الذي يصف فيه ملاكا يحمل سيفا عاريا بقوله: «ملاك يقف في عري سيفه» (ص28 ). فيصف الملاك بما يميز السيف. أو حين يتكلم عن مجموعة من الراقصات فلا يذكر أشكالهن بل «شحوب الموسلين (نوع من القماش) العابر، الذي تبرز منه ابتسامة وذراع مفتوحة في حركة ثقيلة كحركة الدب» (ص276). فالراقصات يظهرن من خلال صفة جزئية واحدة ضمنت فيها صفة جزئية أخرى من كائن آخر يصعب علينا أن نتبين المقصود به في النهاية، وهو مهرج السيرك. أي أن الصفات العرضية تعزل عن الشكل الكلي الذي يحتويها وتتحول إلى صور لا واقعية متداخلة في بعضها البعض. وتبدأ إحدى القصائد المتأخرة بالإشارة إلى ستارة من الدنتيلا، ثم تتحدث المقطوعة الثانية فجأة عن خلاف عام أبيض لباقة ورد مع نفسها، يفر إلى النافذة الباهتة ويسبح أكثر مما يدفن (ص74). فنرى كيف جردت المخيلة ذلك الشيء من خصائصه المادية وحولته إلى مجموعة متشابكة من الحركات. إن الشاعر هنا لم يتلق مجموعة من الانطباعات من العالم الخارجي على طريقة التأثريين في الرسم، بل راح يطبع أشكالا خيالية على أشياء جردت تجريدا تاما من مادتها الواقعية. (17) الشاعر وحيد مع لغته

لعل هذه الأمثلة القليلة أن تكون مصداقا لقول مالارميه إن الشعر بناء منعزل. فالواقع أن شعر مالارميه أكثر أبنية الشعر الحديث عزلة وابتعادا ... لقد شيده بمواد قليلة ، وحاول في حرص وحذر أن ينقل المجال الفارغ اللامتناهي للمطلق إلى لغة أرضية تعبر عن رموزه في «نغم صامت منسجم» (ص648). ولقد قال مالارميه مرة في أحد أحاديثه إن الشعر قد ضل طريقه منذ أن «انحرف به هوميروس انحرافا عظيما.» وعندما سأله محدثه عما كان قبل هوميروس أجاب قائلا: «أورفيوس.»

فهو إذن قد حاول أن يرجع إلى هذا الشاعر الأسطوري البعيد، وأن يحقق فكرته عن الشعر كغناء يتحد فيه الشعر والفكر، والسر والمعرفة، ومن يدري؟ فلعله قد أحس بالقرابة التي تجمعه بهذا الشاعر القديم، أو لعل لغته الشعرية التي حاولت أن تعيد للكلمة بكارتها وأصالتها الأولى قد أعادته كذلك إلى هذا المنبع الشعري الأصيل القديم.

إن شعر مالارميه يجسد العزلة والوحدة الكاملة؛ فهو لا يحس بالحنين إلى التراث المسيحي أو الإنساني أو الأدبي، وهو يحرم على نفسه التدخل في شئون الحاضر، بل إنه يصد القارئ عنه ويأبى أن يكون بشريا، بالمعنى الذي أشرنا إليه مرارا من التجرد من النزعات والعواطف البشرية. وهو إلى وحدته أمام الماضي والحاضر وحيد تجاه المستقبل: «يجب على الشاعر أن يقوم بشيء واحد، هو أن يعمل في ظلال السر، ويوجه بصره إلى زمن يأتي فيما بعد أو لا يأتي أبدا»

47 (ص664). ولذلك فالوحدة هي رفيق الشاعر وقدره الضروري وسط مجتمع ينكره ويضع العقبات في طريقه.

Unknown page