Thawrat Shicr Hadith
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
التف حول مالارميه عدد كبير من المعجبين والمريدين الذين أحاطوه بشعائر الإعجاب والإجلال والإكبار التي تشبه الطقوس التي يقدمها المؤمنون للإله المعبود. ولكن مالارميه كان يملك لحسن الحظ من التواضع والذوق ما يجعله يوقف هؤلاء المريدين عند حدهم كلما بالغوا في إحراق البخور أمامه. ولعل عقيدته في الفن والشعر هي التي دفعت الحواريين إلى هذا التطرف. كان يؤمن بأن الشعر لغة لا يمكن أن تقوم مقامها أو تغني عنها لغة أخرى، وأنه هو المجال الوحيد الذي يمكن أن يقضى فيه على كل ما يتصف به الواقع من ضيق ومهانة وعرضية، ويخلق للإنسان في خضم السخف والتفاهة اليومية جزيرة التحرر والصفاء الروحي والعقلي. إنه يقول مثلا في خواطره التي كتبها ونشرها في سنة 1895م تحت عنوان «تنويعات على لحن واحد»: «إن الآخرين ينظرون إلى إنتاجي نظرتهم إلى السحب في الغسق وإلى النجوم، أي نظرتهم إلى شيء عقيم» (ص358 من الطبعة الكاملة)، أي أنه يريد أن يحقق لنفسه الحرية الكاملة، والنقاء التام، والتجريد الشامل. وهو بهذا يتابع الاتجاه الذي بدأ في الأدب والفن منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، عندما راح الأدباء يحاربون طبقة التجار ورجال الأعمال ويقاومون النزعة الوضعية التي أخذت تجرد العالم من أسراره باسم العلم والتقدم. ولا شك أن هذا الاتجاه كله صورة حديثة من صور السخط على العالم والواقع الضيق المحدود. ولا شك أن هذا السخط كان يظهر عند ذوي العقول المتفوقة والأرواح الكبيرة على اختلاف العصور والبلاد.
ولعل أفضل تمهيد لشعر مالارميه أو على الأصح لفلسفته في الشعر هو الرسالة التي كتبها في سنة 1865م إلى أحد أصدقائه وقال فيها: «نعم. أعرف أننا لا نعدو أن نكون صورا عقيمة من المادة، ولكننا أسمى منها لأننا اخترعنا (فكرة) الله والروح. بل إننا يا صديقي لنبلغ من السمو أنني أريد أن أظهر بمظهر المادة التي تعي الوجود ومع ذلك تلقي بنفسها بقوة في هذا الحلم الذي تعلم أنه لا وجود له، لكي تتغنى بالروح وبكل الانطباعات الإلهية التي تراكمت في نفوسنا منذ العصور الأولى، والأكاذيب المجيدة أمام هذا العدم الذي يسمى بالحقيقة! ذلك هو مشروع كتابي الشعري، وربما حمل هذا العنوان: مجد الكذب أو الكذب المجيد.»
بهذه العبارات يحدد مالارميه موقفه من التيار الوضعي في عصره ومن بودلير نفسه تحديدا واضحا. فليس الواقع ولا وقائع الوجود المادي ولا كل جهد يبذل في تصويرها إلا عدما، لا بل إنه هو التفاهة بعينها. وليست الطبيعة كما تصور بودلير؛ معبدا من الرموز الموجودة من قبل، وإنما الحلم بأكاذيبه المجيدة أو ما يمكن أن نسميه الجمال أو الحقيقة العليا شيء يخلقه الشاعر خلقا. ومع تسليم مالارميه بأن الحلم لا يمكن أن يخرج عن كونه حلما وأن المثال أو الفكرة كما يسميها في أكثر الأحيان لا يمكن أن يزيد عن كونه مثالا، فقد ظل على اعتقاده بأن الكلمات تستطيع إذا أخذت بمعناها النقي الخالص أن تحقق تحولا هائلا أشبه بتحول المعادن الخسيسة إلى ذهب على يد الكيميائيين القدماء.
أضف إلى هذا كله ما قاله في محاضرة مشهورة ألقاها في أكسفورد سنة 1894م: «إننا نعلم أن ما هو موجود ليس موجودا على وجه اليقين!» فهو يلخص في هذه العبارة إيمانه بأن الثروة الروحية التي يملكها الإنسان وتتجسم في قدرة الفنان أو الشاعر على الخلق هي كل شيء ولا شيء في وقت واحد!
إن المادية والعرضية التي يتصف بها الحاضر الذي يفلت في كل لحظة من حياتنا لا قيمة لها إذا قيست بماض انقضى ومستقبل لم يتحقق بعد. غير أنه إذا كان للماضي والمستقبل كل هذا الدور في حياتنا العقلية فإن الوعي نفسه يمكن أن يصبح عدما، اللهم إلا إذا استطعنا أن نتصل بتراثنا الحق بفعل إرادي هو فعل الشاعر. بهذا يصبح الخلق الشعري تفسيرا «أورفيا» للأرض لأنه سيستطيع عندئذ أن يصور الطيور والأشجار والنجوم كما لو كانت خيالات يتحكم فيها كما يشاء ليخلق «النموذج الأبدي» أي النموذج الكامل المجرد من المادية والصدفة، ومع ذلك فمهما نجح الشاعر بنوع من الكيمياء الشعرية في تنقية لغته وتعريتها من المادية والوصول بها إلى الكمال المجرد، فلن ينجح أبدا في إلغاء عنصر الصدفة أو «رمية النرد» التي يتعرض لها كل جهد بشري. •••
أراد مالارميه إذن أن يعبر عن كل ما يتصف بالثبات والضرورة؛ لذلك كان أبغض شيء إلى نفسه وتفكيره هو التغير والصدفة والواقع العرضي. وكل من يقرأ نثره بإمعان سيجد أنه يكثر من استخدام كلمة الصدفة
Hasard
للدلالة على الواقع العادي في مقابل الضرورة التي لا يملكها إلا العقل الذي يخضع لقانونه الخاص. ولعل هذا أن يفسر أيضا موقفه من الصحافة والصحفيين! كان يكره الجدل والدخول في المناقشات والمنازعات على صفحات الجرائد، ويضيق أشد الضيق بالضجيج الذي نسميه اليوم بالإعلام. وكان يؤمن بقوة الصحافة وسلطانها ولكنه كان يؤمن كذلك بخطرها على الأدب والفن، وكان يعلن نفوره من المخبرين الصحفيين الذين تهيؤهم الجماهير لتصوير كل شيء في صورة مبتذلة، ويتناولون كل ما هو نبيل وفريد بالكتابة السطحية السريعة تلبية لمطالب الحاجة اليومية. ولذلك فإن الكتاب في رأيه هو العمل العقلي الخالص الذي يستطيع أن «يقهر الصدفة كلمة كلمة» (ص387)، كما أن المفكر إنسان له يدان بسيطتان (ص412)، والبساطة هنا معناها أن لا مهادنة في الفكر ولا توسط. إنها بساطة الفكر المجرد، أو بساطة التجريد الذي يبتعد بنفسه عن عالم التجار والمنتفعين، كما يبتعد أيضا عن عالم الغرائز والطبائع البشرية المألوفة. إن الحداثة تصل لديه إلى أقصى مداها حين تطالب بسيطرة العقل الغريب عن الطبيعة، أو الروح التي تجردها نفسها من «البشرية» وهنا أيضا نلمح جانبا من دكتاتورية الشعر الحديث التي وصفناها عند الكلام عن رامبو، بل لعل مالارميه أن يكون قد تطرف - على طريقته - في هذه الدكتاتورية أكثر مما فعل رامبو.
كيف السبيل إلى تحقيق هذا المطلب الصعب الذي يبدو كأنه يفوق طاقة البشر بالعمل الصابر الدءوب؟ هذا العمل يتلخص في التجريب مع الكلمة بحيث تدل على معاني متعددة، وبحيث تكون هذه الدلالة علامة على توترات لا واقعية تمر بها النفس. والصعوبة - إن جازت المفارقة - تكمن في أن يكون تعدد المعاني هذا صائبا وموفقا.
لا أثر إذن للإلهام الذي يصفه الشاعر بأنه ذاتية فاسدة. إنه يتحدث عن «معمله»، عن «هندسة العبارات»، ويعالج إبداعه الشعري بمسئولية العالم المتخصص في «الفعل العقلي الخالص» وفي «السحر اللغوي». والمشكلة هي في إحالة هذا الفعل العقلي الخالص إلى «غناء»، ولكنه غناء يصدر عن «أستاذية باردة»، تعمل تحت ظروف صعبة غير مألوفة؛ ولذلك يقف منها الناس موقف العداء ويتهمها النقاد بالإلغاز والغموض (ص535). إن بيت الشعر الذي ينبع من هذه العقلانية الباردة ومن هذا العمل الصابر الدقيق يؤلف من الكلمات العديدة «كلمة جديدة شاملة»، تضمن «عزل اللغة» عن المصادفات العرضية، بحيث تدل على الجوهر، والحقيقة، والماهية، وبحيث يخيل للسامع أن الكلمة التي يسمعها في بيت الشعر كلمة غريبة عليه لم يسمعها أبدا من قبل، وتذكره بأن الموضوع الذي تسمية أو تصفه يسبح في جو جديد عليه (ص368).
Unknown page