فقال هأجوج مقهقها: لا يستبعد أنك ترينا يا أرجنتوس عباد الإله الجديد يسجدون للتراب والهواء والماء. - والنار أيضا يا عزيزي! ستراهم كالفراش يحوم حول لهيب المصباح إلى أن يحترق فيه، سترى إلههم الجديد لهيبا يلتهمهم! - مرحبا بهم! عندنا لهيب لا يطفأ! - إنهم لفي غنى عن لهيبنا يا صاح! إني لجاعلهم هشيما ملتهبا، يأكل بعضه بعضا.
فقال مأجوج: حقا إني أحس بحرارة مطبخ آخر شديد اللسع، فما هو المطبخ الآخر؟ - هو سوق الأوراق المالية كما قلت آنفا، مطبخ تشتعل فيه تلك الأوراق بلا انقطاع، وتختنق بلهباتها ودخانها الأنفاس، صارت أسهم الشركات وسنداتها سلعا تباع وتشرى كأنها الخبز والإدام والكساء، وعباد إله المال يتهافتون على البيع والشراء، والأسعار كلجج البحر الخضم تعلو وتسفل، والعباد يتخبطون فيها فيعتلي بعضهم ظهور بعض، بينا هم يغرقون في تلك اللجج الصاخبة. ليت عينك ترى سوق الأوراق في «وول ستريت
Wall Street » (في نيويورك)، وتشاهد أولئك العباد في حب إلههم هذا الذي يلقبونه «ذي أول ميطي دللر
The Almighty dollar » هناك ترى ألوفا محتشدين في هيكل المضاربات، وقد دفع كل منهم مائتي ألف ريال أجرة كرسي له في السنة، وهم لا يقعدون على ذلك الكرسي؛ لأن حرارة الأسعار هنيهة وبرودتها أخرى تقيمهم وتقعدهم، وصلاتهم في ذلك الهيكل ضجيج ولغط وجلبة وبلبلة ألسن، لم تسمع مثلها يوم برج بابل، لم يبق في الإمكان ابتلاء بني آدم نكبة أفدح من ذلك الجنون، هناك طردوا إله البرايا والأكوان، فولى ظهره عنهم تاركا إياهم لرحمة ربهم الثاني الذي لا رحمة له ولا عدل عنده، ألقاهم هذا الرب في مرجل من الأسعار يغلي، ويرتفعون فيه وسيغلون تبعا لارتفاع الأسعار وهبوطها، فبين ثانية وأخرى ترتفع ثروات إلى الأوج، وتهبط ثروات أخرى إلى الدرك الأسفل؛ لأنها ثروات قائمة في الهواء، هي أحلام في اليقظة، ينقضي النهار ويفرنقع أولئك العباد عن هيكلهم؛ بعضهم إلى البذخ والترف والتهتك والخلاعة والفجور، وبعضهم إلى البؤس واليأس فالانتحار، هذا مطبخ يغذي رأس المال غذاء هوائيا ويسمنه. - إي وربك! إني أره متورما جدا من شدة سمنته. - أجل هو كالمنطاد المنتفخ وجوفه مملوء غازا، فلا يلبث أن يتمزق من شدة الانتفاخ فيسقط ويكون سقوطه عظيما. - ولكن هذا المطبخ لا يغذي إلا فئة الرأسماليين، أو هو هيكل لا يحتوي إلا المتمولين، كأن إله المال حرم العامة من الغذاء. - لا، لا، لقد بنيت للعامة هياكل تأويهم جميعا، وهم يتزاحمون فيها كأولئك لتقديم القرابين والأضاحي على مذابحها.
فمنها هياكل التأمين (السيكورتاه) ضد الحريق، يقدم المتمولون كبارا وصغارا عشور عقارهم وسلعهم قرابين لشركات التأمين في هيكل العوام هذا، فالمحتال منهم يحرق عقاره أو متجره خلسة، ويأخذ قيمته من مجموع أعشار المغفلين الآخرين الذين لا يعرفون أساليب الاحتيال، وتبقى لرأس المال بقية وافرة تسمن بها الشركة، ومنها هياكل التأمين على الحياة تغري العوام المجاهدين في تحصيل الرزق بوفر كبير من المال لقاء أقساط صغيرة يدفعونها، حتى إذا عجز المؤمن عن تسديد الأقساط التهمت الشركة القسم الأكبر مما دفعه، وهكذا تنمو الشركة وتعظم وتتضخم على حساب العامة المغفلين. وهناك شركات لفنون التأمين العديدة، وكلها أداة نصب يحتال بها لقنص نتاج العامة المغفلين. - تعني أن المحتالين يتنعمون على حساب المغفلين؟ - لا يتنعم أحد؛ لأن المحتالين يحتال بعضهم على بعض أيضا في هيكل المضاربات حيث لا يطمئن لهم بال، فهم كالذئاب يتربصون بعضهم لبعض. ثم استنبطت هيكلا آخر جذابا، لا يضل عنه الفقير المعدم، يطمع بالربح منه كل معلل نفسه بالآمال حتى من الهواء، يؤمل أن تهبط الثروة عليه من الفضاء الخالي! - لقد فقت في اصطناع المعجزات موسى الذي استخرج من الصخرة ماء؛ لأنك تستخرج ثروة من الهواء، كأنك تجعل الهواء يتبلور ذهبا! - نعم، على مذبح «اليانصيب» (اللوترية) يتبلور الهواء ذهبا، بل ماسا! استنبطت مشروع اليانصيب ليغوى به الهائمون وراء الثروة، ينشدونها بقوة البخت، فيتمادون في شراء أوراقه، وكلما خابوا أملا مرة تجدد أملهم بالربح من «نصيب» آخر فيشترون، فهم يقترون على أنفسهم لكي يقدموا جهادهم ضحايا على مذبح الإله. وقد تفننت «بالنصيب» فنونا ، وجعلته ضروبا مغرية للجمهور، حتى إني جعلت هذا الاختراع الشيطاني أداة للمشروعات الخيرية، يمتص به دم الفقير بدعوى الإحسان إلى الفقير، بل سخرت به القصد الخيري لغرض «النصب»، وابتدعت إلى جنبه فنون المراهنات والقمار المختلفة كوسائل لاستنزاف دماء الناس؛ لكي تحرق على مذبح إله المال!
فقال مأجوج: نعما هذا الإله الذي خلقت يا أرجنتوس! ولكنه إله يسعد فريقا على حساب فريق آخر، فما زالت السعادة ترفرف على الأرض، وقد تدفقت على فئة، وإن كانت قد نضبت عن أخرى! - بل جعلتها سعادة ضئيلة مضطربة، لا يكاد نورها يلمع لقوم حتى ينطفي وينسدل عليهم ظلام الشقاء الدامس، فتكون منفعتهم أعظم من لذتهم، فيهبون لمقاتلة بعضهم بعضا «تنازعا لها»، فهم منذ خلقت لهم هذا الإله الفتان منشغلون في حرب دائمة عن خالقهم، حتى صار في عالم نسيانهم، وفيما هم لاهون في آمالهم ينغمسون في شقائهم، وفيما أن خيرات ربهم الأرضية تغمرهم غمرا يكدحون أي كدح في جمعها؛ لكي يحرقوها على مذبح الإله الذي خلقت، حتى إذا فاضت عليهم أتلفوها في حروبهم. لقد بلغ الشقاء منهم منتهاه حتى كفروا بخالقهم وهم يجدفون عليه، أليسوا لأجل المال يقتتلون؟ إذن لقد ابتدعت المال فتنة لبني آدم وجعلته أداة للآثام والمعاصي، لولاه لما عصي البشر وصايا موسى العشر، بل لولاه لما وجدت تلك الوصايا! أليس لأجل المال يسرق ابن آدم ويقتل ويكذب ويشهد زورا ... إلخ؟ أزل المال فلا يبقى لزوم للوصايا العشر التي نحتها موسى في اللوحين الحجريين، فهل نصر أعظم من هذا يا سادة؟!
فدوى المكان بالتصفيق ثم بالهتاف: مرحى مرحى، أرجنتوس خالق إله المال الشيطاني!
وبقي مأجوج مبهوتا برهة إلى أن قال: ولكن بين البشر حكماء كلما أدركوا أن إله المال شيطاني، وأن الوطن إله إبليسي، قاموا يدعون الناس إلى الاشتراكية التي تكسر تماثيل المال، كما كسر موسى تمثال أخيه هارون الذهبي، وإلى «الأممية» (إنترناسيوناليسم)؛ أي تآخي الأمم الذي يحطم أسلحة الحرب، فإذا نجح هؤلاء الحكماء عاد البشر إلى خالقهم، وأسبغ عليهم سعادة لا تنقضي ، سعادة الألف سنة الأبدية. - هذه مهمتنا منذ اليوم، وهي أن نحبط مساعي هؤلاء الحكماء، ولنا الأمل الكبير بإحباطها ما دامت الشهوة التي زرعتها سيدتنا ذات الدهاء يانعة في القلوب!
لهذا نريد أن تكون لنا حكومة ديموقراطية تستمد قوتها من مشورة الشعب؛ لكي تنجح في إحباط مساعي الحكماء.
فقالت فينوموس: إني أحبذ هذا الاقتراح، فلينتخب الشعب برلمانه منذ الغد، والحكومة تنزل على إرادة الشعب.
Unknown page