Thaqafatna Fi Muwajahat Casr
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
إن الحديث عن الحضارة وقضية التقدم والتخلف للأمة العربية، ما كان ليستثير نشاطنا الفكري ، لو أن بنا مواتا نزل بنا إلى حفرة الحضيض، وكذلك ما كان ليستثير نشاطنا لو أننا قد علونا في حضارة العصر إلى ذروة الأوج؛ ففي الحالة الأولى ينعدم الوعي، فلا فكر ولا نشاط، وفي الحالة الثانية تتحقق الطمأنينة والرضى، فلا قلق ولا تساؤل، لكننا من مدارج الصعود في منزلة بين المنزلتين؛ ولذلك كان لا بد لنا من مثل هذا النشاط الفكري، نتحسس به الطريق، حتى لا نضل عن الجادة المستقيمة لنبلغ ما نريد ونبتغي.
حياتنا بين الأمس واليوم
1
ولدت في أوائل هذا القرن، قبل أن تفجع البلاد في دنشواي بعام واحد، ولما اكتمل لي الوعي بالدنيا وأحداثها كان قد انقضى من القرن ثلاثة عقود، كنت قبلها أسمع عن أقطار الأرض البعيدة، وكأنني أسمع عن عالم من ضباب، وأسمع عن جسام الحوادث في وطني، فأفهم الجمل مفككة ومتناثرة، ولكني لا أكون لنفسي منها قصة مفهومة.
أما دنياي القريبة مني، التي ألفتها حولي؛ فقد كانت بسيطة إلى حد السذاجة، أعقد ما فيها هي الكتب التي صادفتني فطالعتها، والتي حدث أن كانت في مجموعها أميل إلى «الأفكار» المجردة التي تعرت عن دم الحياة ولحمها؛ ومن هنا كانت الفجوة سحيقة بين ساعات أقضيها داخل الكتاب، وساعات أقضيها خارجه؛ وليس بي حاجة هنا إلى القول بأنني عشت أربعين سنة في بيت لم يعرف جهازا واحدا من أجهزة الحضارة الحديثة؛ إما لأنها لم تكن قد وجدت بعد، وإما لأنني كنت لا أملك ثمن اقتنائها، فلا راديو، ولا تلفزيون، ولا ثلاجة، بل ولا النور الكهربائي استخدمته خلال سنوات طويلة من حياتي، وكان أول فيلم سينمائي شهدته هو فيلم «سفينة العرض» - في أوائل الثلاثينيات - وإني لأذكر الآن كيف خرجت من شهوده ذاهلا لهذا العالم العجيب الذي لم أفتح أبوابه قبل ذاك؛ حتى التلفون لم يدخل بيتي إلا بعد أن انقضى من القرن نصفه، وبدأ نصفه الثاني.
لم يكن غريبا علي عندئذ أن ألتقي مع ألوف الناس من رجال ونساء، فلا أجد بينهم إلا قلة قليلة جدا أصابت شيئا من التعليم، وخصوصا في عالم النساء؛ ولذلك كان أول فرض يرد على الخواطر بالنسبة إلى أي امرأة تربطك معها روابط الحديث أو المعاملة؛ أنها تجهل القراءة والكتابة، فإذا كان الأمر بينكما يقتضي توقيعا، توقعت منها أن تخرج ختمها لتختم، أو أن تعد إبهامها لتبصم؛ حتى لقد كان من المفارقات التي تلفت النظر أن ترى سيدة وفي يدها جريدة أو كتاب، ودع عنك أن ترى سيدة على وجهها منظار، وكنت تحس عن الفئة القليلة المتعلمة، أنها كنقطة الزيت في قدح الماء، لا تندمج فيه مهما تحركت في أرجائه، كأنما تلك الفئة في أمتها عنصر أجنبي دخيل.
ولم يكن غريبا علي أن أجد ألوف الناس من رجال ونساء، يولدون ويعيشون ويموتون في مكان واحد، كأنهم نبات ينمو ويذبل وهو في موضعه! كانت الأكثرية العظمى من أهل القرية تسمع عن العواصم القريبة منهم، وكأنهم يسمعون حكايات من ألف ليلة وليلة تروى لهم عن الهند والسند؛ ولا يدخل القرية رجل من المدينة - وهم يعرفونه من ثيابه - حتى يتجمع الغلمان يرقبونه من بعيد بنظرات متطلعة، ويطل النساء من نوافذ الدور وأبوابها، مسدلات على الوجوه أغطية تحجب منها شيئا وتترك شيئا للرؤية؛ وإذا لم يكن في متناول إحداهن غطاء رفعت إحدى ذراعيها على وجهها لتؤدي لها ما يؤديه الغطاء.
كنت إذا ذهبت إلى القرية خلال أشهر الصيف، لا ألبث أن أدخل مع الناس هناك في ضروب من الحديث، لم أفهمها كل الفهم، ولم أجهلها كل الجهل؛ هي ضروب من الحديث تكثر فيها كلمات «الحجز» و«البروتستو» و«المحضر» و«البورصة» و«البنك» و«الخواجة»؛ ولم يكن للناس من حديث في أواخر الصيف إلا عن أسعار القطن، ترتفع وتنخفض لأسباب مجهولة، فتسري موجة من الفرح أو موجة من الحزن، وكان الشعور العام هو أن تلك الأسعار الصاعدة الهابطة هي ضربات القدر، تأتي من حيث لا تدري كيف جاءت؛ وحدث ذات مساء، وجمع من الرجال يسمرون وهم جلوس على «دكتين» متقابلتين أمام دكان البقال؛ أن سأل سائل وهو جاد: من ذا الذي يرفع هذه الأسعار يوما ويخفضها يوما؟ وأجاب مجيب وهو جاد أيضا، فقال: لقد سمعت أن هاتفا من السماء يهبط ساعة الفجر، يعلن في همس غير مسموع بما يقرر أسعار اليوم. ولم يعترض أحد على الجواب.
وكان مألوفا غاية الألف أن تسمع عن أحد الموسرين أنه أفلس بين يوم وليلة، كأن الأمور تتحرك بأصابع العفاريت الخافية على الأبصار؛ فترى آثارها المفاجئة ولا ترى محركاتها، وكان من أعقد الألغاز التي حيرتني فترة طويلة من مرحلة الشباب، تلك الحالات الكثيرة التي كان يقترن فيها موت رب الأسرة بخراب أسرته ودمارها، من بيع وتبديد وإفلاس، ولم يكن من باب اللغو في الحديث أن تجري ألسنة الناس بهذه العبارة التي تقول إنه «موت وخراب للديار»؛ لكثرة ما اقترن الحادثان وكأنهما علة ومعلول. وكذلك كان مما له مغزى حقيقي من واقع الحياة، أن يطلب الرجل «الستر» في حياته، كأنما هو على يقين أن هذا الستر سينكشف يوما عن خواء، وإذن فالدعاء لله هو أن يجيء ذلك اليوم بعد وفاته.
لم أكن واسع المعرفة بالزراعة وحياة المزارعين - من ملاك الأرض أو مستأجريها - لكن المعرفة القليلة التي حصلتها من تتبع الحياة وأطوارها في بعض من عرفتهم، كانت كافية لرسم صورة تقريبية لتلك الحياة، كيف يجري تيارها وكيف تتعاقب أطوارها؛ فقد كان الشيخ .. (وهذا مثل حقيقي بقيت لي منه ذكريات) يملك نحو عشرة أفدنة ملكا خاصا (وتلك هي أحسن الحالات، فلا هو بمستأجر عليه أن يدفع الإيجار من محصوله، ولا هو مدين - أول الأمر - مطالب بدفع فوائد الدين من محصوله)، وكانت حياته أول أمرها تجري بين يديه عسلا ولبنا؛ لكن الأعوام لم تمهله إلا قليلا، حتى فاجأته بعيال من زوجتيه، بلغت عدتهم عشرة بين بنين وبنات؛ وأقول «فاجأته» لأنه كان يبدو على كر الأعوام، كأنه على غير وعي بتكاثر نسله؛ ثم أراد له الله عند المفاجأة بهذا العبء الثقيل أن تزداد فداحة العبء بمرض أصابه، تطلب منه السفر المتصل إلى المنصورة حينا، وإلى القاهرة حينا ؛ فأخذت حصيلة أرضه تعجز عن الوفاء بعيش عياله ونفقات علاجه؛ فكان لا مناص من اقتراض على المحصول قبل مجيئه، والقرض لا يكون إلا بفائدة مرتفعة، ويجيء وقت المحصول، ويجيء معه صاحب القرض، فالأرجح أن يقدم له محصول عيني لقاء ماله، وهنا تكون الخطوة الثانية من الغبن الفادح؛ إذ يغلب أن يأخذ الدائن ما يأخذه من ناتج الأرض بثمن قليل؛ بحيث لا يبقى لصاحب الأرض إلا نزر يسير من ناتج أرضه، ونزر أيسر منه من مال سائل؛ ويجيء العام التالي، فتزداد الحاجة إلى القروض، لا من أجل عياله وعلاجه فقط، بل فوق ذلك من أجل الإنفاق على الأرض لفلاحتها، لكن صاحب المال هذه المرة لا يكفيه أن يقرض ماله على محصول الأرض، لأن ذلك قد لا يكفي؛ وإذن فلا بد من رهن جزء من الأرض ضمانا للدين؛ ويحدث بالفعل أن يعجز الرجل عن سداد دينه، فتذهب القطعة المرهونة من أرضه، وهكذا دواليك، على مر عدد من السنين، ثم تزداد العلة بالرجل ويموت، فيقترن موته باجتماع الدائنين لتصفية ما تركه لأولاده، فإذا الباقي لأولاده صفر من الأرض، وبقية الديون، ومع ذلك كله فقد عاش الرجل «مستورا» - في عرف الناس - لم ينكشف عنه الستر إلا بعد موته، فكان العري والجوع نصيب أبنائه من بعده.
Unknown page