Thaqafa Islamiyy Fi Hind
الثقافة الإسلامية في الهند
Genres
هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالي والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة، فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بما أخذ مدركة لهم؛ وذلك أن الإنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك، وإدراكه نوعان: إدراك العلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم، وإدراك الأحوال القائمة من الفرح والحزن والرضا والغضب والصبر والشكر وأمثال ذلك، فالروح العاقل والمتصرف في البدن ينشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهي التي يتميز بها الإنسان، وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم من الأدلة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم والمتلذذ به، والنشاط عن الحمام والكسل عن الإعياء، وكذلك المريد في مجاهدته لا بد وأن ينشأ عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة، وتلك الحالة إما أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد، وإما أن لا تكون عبادة وإنما تكون صفة حاصلة للنفس، من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات، ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة، قال
صلى الله عليه وسلم : «من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة.»
والمريد لا بد له من الترقي في الأطوار، وأصلها كلها الطاعة والإخلاص، ويتقدمها الإيمان ويصاحبها، وتنشأ عنها أحوال وصفات ونتائج وثمرات، ثم تنشأ عنه أخرى إلى مقام التوحيد والعرفان، وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل، فتعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله، وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية؛ فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة النفس في سائر أعماله، والنظر في حقائقها؛ لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري، وقصورها من الخلل فيها كذلك، والمريد يجد ذلك بذوق ويحاسب نفسه عن أسبابه، ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس؛ لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة، وغاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال، وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطلعوا على أنها خالية من التقصير أولا.
فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والترك، والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاما ويترقى منها إلى غيرها، ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم، ومصطلحات في ألفاظ تدور بينهم؛ إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة، فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف، اصطلحنا على التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه، فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه، وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وصنف مخصوص في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك فلما كتبت العلوم، ودونت كتب رجال من أهل هذه الطريقة، في طرقهم من الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما فعله القشيري في الرسالة والسهروردي في العوارف وأمثالهما، صار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط، وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم.
ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم، وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه وتجددت نشوته، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما، وبكشف حجاب الحس يتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك، فتعرض حينئذ المواهب الربانية والعلوم الدينية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة، وهذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم، وكذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها، ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم، فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة، ويتعوذون منه إذا هاجمتهم، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم تقع لهم بها عناية، وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - كثير منها، وتبعهم في ذلك أهل الطريقة مما اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم.
ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والمدارك التي وراءه، واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعلمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر، حتى يحصل للنفس إدراكها لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها، فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ، وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش، ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة، ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية، وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك، وقصرت مدارك من لا يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك، وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم، وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق ردا وقبولا؛ إذ هي من قبيل الوجدانيات. انتهى، ملخصا من تاريخ ابن خلدون، وله كلام تفصيلي في ذلك إن شئت الاطلاع فارجع إليه. (1) نشأة الطرق الصوفية
ثم إن هؤلاء المتأخرين الذين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والمدارك التي وراءه، اختلفوا في طرق الرياضة وتعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح، فانشعبت منهم طرق كثيرة، أشهرها الطريقة القادرية للسيد الإمام عبد القادر الجيلاني، والطريقة السهروردية للشيخ شهاب الدين السهرودي، والطريقة الچشتية للشيخ معين الدين حسن السنجري، والطريقة النقشبندية للشيخ بهاء الدين محمد نقشبند البخاري، والكبروية للشيخ نجم الدين كبري البغدادي، والمدارية للشيخ بديع الدين المدار المكنپوري، والقلندرية للشيخ قطب الدين الجونپوري، والشطارية للشيخ عبد الله الشطار الخراساني، والعيدروسية للشيخ عفيف الدين عبد الله العيدروس الكبير الحضرمي.
ثم انشعبت من تلك الطرق المذكورة طرق أخرى، كالصابرية والنظامية من الطريقة الچشتية، والمجددية والأحسنية والعلائية من الطرق النقشبندية، وغيرها من غير تلك الطرق، وكل من الطرق المذكورة وصل إلى الهند، ونشأة ونمى ودخل فيه خلق كثير لا يحصون بحد وعد. (1-1) الطريقة القادرية
أما الطريقة القادرية فهي للسيد الإمام عبد القادر الجيلاني - رضي الله عنه، ومدارها على التقرب بالنوافل ودوام الذكر، بحيث يتحقق الحضور مع الله سبحانه في جميع تقلباته في الأشغال، ولهذه الطريقة شعب كثيرة وأشغال متنوعة، وأما رجال هذه الطريقة من أهل الهند فهم كثيرون، منهم الشيخ محمد بن شاه مير بن علي بن مسعود بن أحمد بن صفي بن عبد الوهاب ابن الشيخ عبد القادر الجيلاني المشهور بمحمد غوث المتوفى سنة 923، أخذ عن أبيه عن جده وهلم جرا، وقدم الهند وسكن بمدينة أچ، ومنهم الشيخ بهاء الدين الجنيدي المتوفى سنة 921، وهو أخذ عن أبي العباس أحمد بن الحسن بن موسى بن علي بن محمد بن الحسن بن محمد بن أبي النضر بن أبي صالح بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر المذكور عن أبيه عن جده وهلم جرا، ومنهم الشيخ قميص المتوفى سنة 992، ابن أبي الحياة بن محمود بن محمد بن أحمد بن داود بن علي بن أبي صالح النضر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر المذكور عن أبيه عن جده وهلم جرا، ومنهم الشيخ كمال الدين الكيتهلي المتوفى سنة 971 أخذ عن فضيل عن گدارحمان عن شمس الدين العارف عن گدارحمان بن أبي الحسن عن شمس الدين الصحرائي عن عقيل عن بهاء الدين عن عبد الوهاب عن شرف الدين القتال عن عبد الرزاق عن أبيه الشيخ عبد القادر الجيلاني المذكور. (1-2) الطريقة الچشتية
أما الطريقة الچشتية فهي لإمام الطريقة الشيخ معين الدين حسن السنجري المتوفى سنة 627، وچشت قرية شيوخه، ومدارها على الذكر الجلي بحفظ الأنفاس، وربط القلب بالشيخ علي وصف المحبة والتعظيم، والدخول في الأربعينيات، مع دوام الصيام والقيام وتقليل الكلام والطعام والمنام، والمواظبة على الوضوء وربط القلب بالشيخ، وترك الغفلة رأسا، ولهم أشغال غير ما ذكرناه.
Unknown page