Taysir Ilm Usul al-Fiqh
تيسير علم أصول الفقه
Publisher
مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤١٨ هـ - ١٩٩٧ م
Publisher Location
بيروت - لبنان
Genres
تيسيرُ
علم أصول الفقه
تأليف
عبد الله بن يوسف الجُديع
Unknown page
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذبالله من شرورِ أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنَّ شرف العلمِ لا يخفى، وهو درجاتٌ ومنازلُ تعرفُ بما تتَّصلُ به، فسمُوُّها من سُمُوِّه، وقدْرها من قدْرهِ، فلذا كان أعلاها علومَ الدِّين التي تُدركُ بها معانيه وأسرارُه، وإنما شرُفتْ وعظُم قدْرُها لصِلتها بالله ربِّ العالمين، فهي العلومُ الموصلَةُ في الحقيقةِ إليهِ، وهذا معنى أكبرُ من علُوم الشَّريعةِ المقنَّنةِ بالاصطلاحِ، بل هو شاملٌ لما يُحقِّق من العلومِ أسبابَ الوُصولِ إلى الله عزَّوجلَّ، فيندرجُ تحتهُ كلُّ علمٍ أدَّى إلى هذه الحقيقةِ وإن أُلصِقَ بالدُّنيا في عرفِ النَّاسِ، لكن من العلمِ ما يصيرُ إلى هذه الحقيقةِ بالمقاصِدِ والنِّيَّات، ومنه ما هو من هذه الحقيقةِ بأصلهِ، كالعومِ التي يُدركُ بها مرادُالله ورسولهِ ﷺ، فهذه علومٌ باقيةٌ كطريقٍ موصلٍ إلى الله وإن فسدتْ في طلبها النِّيَّاتُ
1 / 5
والمقاصدُ، على أنه ما من إنسانٍ يسعى لتحصيلهَا فيجدُ لذَّتَها عندَ الطَّلبِ إلاَّ وجرَّتْهُ بنفسهَا إلى الإخلاصِ، كما قال مجاهدٌ ﵀: طلبْنا هذا العلمَ، وما لنا فيه كبيرُ نيَّةٍ، ثمَّ رزقَ الله بعدُ فيهِ النيَّةَ [أخرجه الدَّارمي بسندٍ حسنٍ] .
وأعظمُ العُلوم الَّتِي يُدْرِكُ بها مُرادُالله تعالى ورسولِهِ ﷺ[علمُ أُصولِ الفقهِ]، فإنَّ الله تعالى أمرَبتدبُّرِ خِطابِهِ فقالَ: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:٢٩]، كما قال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:٢٤]، وقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:٨٢]، وأعظم ما يؤتاه الإنسانُ من المعرفةِ فقهٌ في دينهِ يُعرِّفهُ بمعبودِهِ ﵎ ويوصلهُ به، وذلك لهُ من المغاليق التي لا تفتحُ إلا بالإخلاص وسؤال الله تعالى التَّوفيق مع بذلِ الجُهدِ في استعمالِ الآلةِ الَّتي هي مفاتيحُ ذلك، والفتحُ فيها علامةٌ على أنَّ الله تعالى أراد الخيرَ بصاحبهَا، كما قال النبيُّ ﷺ: «من يُرِدِ اللهُ بهِ خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّينَ» [متَّفقٌ عليهِ] .
وتلك الآلةُ هي (أصول الفقهِ)، فهي مفتاحُ الفقه في الدِّين، لكنْ أرأيتَ إن كان مفتاحُك لا أسنانَ لهُ، أوْ لَهُ أسنانٌ لكنَّهُ لمْ يُصْنعْ لهذا البابِ، أتظنُّ أنْ سيفتحُ لكَ؟ كذلك مفتاحُ الأصولِ، فإنه لا بدَّ له من أسنانٍ، ولا بُدَّ أن يكونَ للفِقْهِ، فإنْ خرَجَ عن هذا الوصفِ فليسَ علمًا
1 / 6
لأصولِ الفقهِ، أُشيرُ بهذا إلى أنَّ التَّأصيلَ لهذا العِلمِ خرجَ به كثيرٌ من المنتسبين إليه عمَّا قُصِدَ بهِ، فجاءُوا ليضَعُوا القوانينَ لفقهِ الكتابِ والسُّنةِ، وجلُّهم لا يعلمُون مخارجَ السُّننِ وكثيرٍ من الكتابِ والسُّنةِ وهو ليسَ من أهلهما؟
على أنَّ هذا العلمَ ابتدأ صناعتَهُ وتقنينَهُ على أقربِ صُورةٍ إلى الاستيعابِ والكمالِ الإمامُ أبوعبد الله الشَّافعيُّ المتوفَّى سنة (٢٠٤هـ) في كتابهِ العظيمِ (الرِّسالة)، بناهُ على دلائل الكتابِ والسُّنةِ، بعيدًا عن التكلُّفِ وما لا يترتَّبُ عليه فائدةٌ أو عملٌ، وكانتْ تلكَ الأصولُ منثورةً في طرقِ الأئمَّةِ في الفقهِ قبل الشَّافعيِّ فيها التَّجريدُ والاستدلالُ، فمنْ جاء بعدَهُ بقيتْ فيهم طائفةٌ قليلةٌ على أثرهِ من جميعِ الفُقهاءِ غيرِ الحنفيَّةُ فسلكُوا طريقًا أقربَ إلى الصَّوابِ من أولئكَ الَّذينَ جاءُوا بعدَ الشَّافعيِّ، فإنهمْ نظرُوا في فُروعِ المذهبِ المنقولةِ عن الإمامِ أبي حنيفة وأصحابهِ وتأمَّلُوا طريقةَ فقْهِهمْ، فاسْتَفَادُوا منها التَّأصيلَ، فجاءتْ كُتُبُ كثيرٍ من مُصنِّفيهِمْ في الأصُولِ نافعَةً، من أمثالِ الإمامِ أبي بكْرٍ
1 / 7
الجَصَّاصِ المتوفَّى سنةَ (٣٧٠هـ)، لكن دخلَ متأخِّروهمْ فيما دخلَ فيهِ غيرُهم، وهذا العلمُ لصِلتِهِ بالكتابِ والسُّنةِ يجبُ أن تُستفادَ أصولُهُ منهما، فلذا كان أحسنُ الطُّرُقِ في تقنينِهِ وتأصيلهِ طريقَةَ الشَّافعيِّ ﵀ ومن جرى على مِنْهَاجِهِ.
وهذَا الكتابُ الَّذِي بين يديكَ عوْدَةٌ بهذا العلمِ إلى ذلكَ المِنهاجِ، بأُسلوبِ مناسبٍ للعصرِ في الشَّرحِ والإيضاحِ، سلكْتُ فيه أسْلوبَ التَّقسيمِ والتَّنويعِ مع التَّمثيلِ بأدلَّةِ الشَّريعةِ للمسائلِ الأصوليَّة، وتمييزِ الصَّحيحِ منها بالأدلَّةِ، وأهمُّ خصلةٍ حرصتُ عليها فيه تجنُّبُ تلكَ المسائل الَّتي حُسبتْ على هذا العلمِ وليست منهُ، مع إسقاطِ التَّمثيلِ والاستدلالِ بما لا يثبُتُ من جهَةِ النَّقلِ كالأحاديثِ الضَّعيفةِ، واستدْراكِ قضايا أُصوليَّةٍ كثيرةٍ تفتقرُ إلى ذكرهَا أكثرُ كتُبِ الأصولِ وهي من صميمِ هذا العلمِ، أدَعُ تمييزهَا لمن شاء المُقارنَةَ لهذا الكتابِ بغيرهِ من كتُبِ الأصولِ، كما حرصتُ أن لا يفوتَ شيءٌ لهُ اتِّصَالٌ بهذا العلمِ مما يقعُ منثورًا في كتبِ الأصولِ المتفرقةِ ما جرى منها تصنيفهُ على طريقةِ الشَّافعيِّ أو الحنفيَّةِ أو أهلِ الكلامِ إلاَّ أوردُهُ في هذا الكتابِ، وشرطتُ أن لا أذكر فيه حديثًا أو أثرًا في موضعِ الاستدلالِ والاستشهادِ إلاَّ وهو ثابتٌ من جهةِ النَّقلِ، ولا أُقلِّدُ في عزْوِ الأخبارِ إلى كتبِ الحديثِ، بلْ أستخرجُها من أصُولهَا كالصَّحيحينِ والسُّنَنِ وغيرهَا، كما لا أُقلِّدُ في الحكمِ على إسنادٍ، بل
1 / 8
هي نتيجةُ البحثِ والدِّراسةِ.
ولا أدَّعي في هذا الجُهدِ الكمالَ، لكنِّي قصدْتُ إليه بما آتى الله عزَّوجلَّ من العلمِ والقوَّةِ، فإن كان مُحقِّقًا للغايةِ منهُ فهذا ما أرْجوهُ، وإن كان دُون ذلك فحسْبِي أن يكونَ مُشاركَةً ومُحاولَةً لتذليلِ صِعابِ هذا العلمِ وتيْسِيرِهِ، الأمْرُ الَّذي ليسَ لي فيهِ فضْلُ تفرُّدٍ أدَّعيهِ، بل قد سبقَ إليهِ علماءُ كِبارٌ لم نزَلْ نقْطِفُ من نِتاجِ علمِهم، وسنبقى إن شاء اللهُ، كالشَّيخِ عبد الوهَّاب خلاَّف ﵀، والعلاَّمةِ الفقيه عبد الكريم زيدان مدَّ الله بعُمرِهِ ونفعَ به في كتابيهِما في الأصولِ.
وأُنبِّهكَ إلى أنِّي قصدتُ إلى تركِ إثقالِ الكتابِ بالحواشي في عزْوِ المسائل الأصولية إلى الكتبِ المختلفةِ إرادَةً للتَّخفيفِ، واكتفيتُ بذِكرِ أسماءِ المراجعِ آخرِ الكتابِن لأني لم أعمدْ إلى سياقِ الألفاظِ من تلكَ المراجع بحروفها لأكونَ مضطَرًّا إلى عزوِهَا في أصلِ الكتابِ، وما يكونُ من كثيرٍ من التَّعاريفِ والمصطلحاتِ والتَّقسيماتِ محكيًّا بألفاظه في كتبِ الأصولِ، فهذا النَّمطُ لم أرَ ضرورةً لعزوِهِ لأنَّ الأصوليِّين تواردوا على ذكرهِ، فتراهُ مكرَّرًا بحروفهِ في أكثرهَا من غيرِ عزوٍ لقائلٍ في الغالبِ، لأنها مصطلحات أشْبهَت التَّفسيراتِ اللُّغويَّة، وحسبُ الباحثِ أن يقول فيها: «تفسير هذا اللَّفظِ في اللُّغة كذا»، فكذلك المُصطلحُ الأصوليُّ.
1 / 9
ومن جملةِ ذلك تركي لتفصيلِ التَّخريجِ والتَّحقيقِ للأحاديث والآثارِ، فإنَّ هذا لو أوردتُه لصارَ الكتابُ ضِعفَ حَجْمِهِ، وليسَ إيرادُه من لوازمِ علم أُصولِ الفقهِ.
وسمَّيتهُ (تيسيرُ علم أصول الفقه) على ما قصدتُ إليه فيهِ من تقريبِ هذا العلم وتيسيرهِ على طالبهِ، وتهيئةِ الأسبابِ الواجبِ تحصيلُها للمجتهدِ، ويأتي واحدًا من أهمِّ علومِ الآلةِ الَّتي أرجو أن تكون لي مشاركَةٌ في تسهيلِ عرضها، كما أنَّه يأتي باكورةَ إصداراتِ المركز الّضذي أنشأناهُ في أرضِ المهجرِ بريطانيا (مركز البحوث الإسلامية)، والَّذي نطمعُ أن يُحقِّقَ المقصودَ به لخدمةِ العلومِ الإسلامية على أتمِّ وجهٍ وأكملهِ.
والله عالى أسألُ التَّوفيقَ والسَّداد في القولِ والعمَلِ، وأن يجعلَ هذا الكتابَ قُرَّةَ عينٍ لأولي الألبابِ، وأن يغفر لي ما زلَّ به اللِّسانُ والقلَمُ، هو حسبِي ونِعمَ الوكيلُ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بهِ.
وكتب
أبومحمَّدعبد الله بن يوسف الجُديع
يوم عرفة ذ٤١٧هـ الموافقُ للسَّادس عشرَ من نيسان ١٩٩٧م
في مدينة ليذز - بريطانيا ـ
1 / 10
أصول الفقه
"تعريفه:
"الأصولُ: جمعُ أصلٍ، وهو لُغةً: ما ينبني عليه غيرُهُ.
واصطلاحًا: يُطلقُ (الأصلُ) على أمورٍ، منها:
١-الدليلُ، ومنه: قولهمْ: (أصل هذه المسألةِ الكتابُ والسُّنة) .
٢-الرَّاجحُ، كقولهم: (الأصلُ في الكلامِ الحقيقة) أي لا المجازُ، لأنها أرجحُ منه.
٣-القاعدةُ، ومنهُ قولهُم: (الأصلُ أنَّ الفاعلَ مرفوعٌ) .
٤-الاستصحابُ، ومنه قولُهم: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحَةُ)، وسيأتي بيانُ معناهُ.
والفقهُ؛ لغةً: الفهمُ
واصطلاحًا: العلمُ بالأحكامِ الشَّرعيَّة العمليَّة المُكتسبة من أدلَّتِها التَّفصيليَّة.
تفسير التَّعريف:
١-الأحكام: جمع حُكمٍ، وهو: إثباتُ شيءٍ لشيءٍ.
٢-الشَّرعيَّة: المستفادة من الشَّريعةِ، فتخرُج منها أحكامُ العقلِ
1 / 11
المحضة.
٣-العمليَّة: المتعلقة بأفعالِ المكلَّفين، فيخرجُ منها الأحكامُ الاعتقاديَّة والسُّلوكيَّة.
٤-المكتسبة: المستفادة بطريقِ النَّظرِ والاستدلالِ، فيخرُجُ من الفقهِ نوعانِ من العلمِ:
[١] علم الله تعالى أو رسولهِ ﷺ، فأما علمُ الله تعالى فهو وصفٌ لازمٌ له علىوجه الكمالِ، ولو عُلِّق بالاستنباط لكانَ نقصًا يُنزَّه عنه ﷾، وأمَّا علمُ رسولهِ ﷺ فمصدرهُ الوحيُ الَّذي هو من علمِ الله تعالى.
[٢] علمُ المقلَِّد، فإنه لم يستفدْهُ بالنَّظر والاستنباطِ، إنما حملهُ عن غيرهِ.
٥-الأدلَّة: جمعُ (دليلٍ) وهو لغةً: الهادي.
واصطلاحًا: ما يُستدل بالنَّظر الصَّحيح فيه على حكمٍ شرعيٍّ عمليٍّ على سبيل القطعِ أو الظَّنِّ.
٦-التَّفصيليَّة: الجزئيَّة أو الفرعيَّة.
والأدلَّة التفصيليَّة، هي كلُّ دليلٍ يختصُّ بمسالةٍ معيَّنةٍ، كاختصاصِ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا﴾ [الإسراء:٣٢] بحرمةِ الزِّنا، فهذه الآية دليلٌ تفصيليُّ يختصُّ بمسألةٍ معيَّنةٍ هي الزِّنا، وهو
1 / 12
غيرُ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ [الإسراء: ٣٤]، فهذا دليلٌ تفصيليُّ على مسألةٍ معيَّنةٍ أخرى هي حرمَةُ أكلِ مالِ اليتيمِ.
وأصول الفقه:
هي القواعد والأدلَّة العامَّةُ الَّتي يُتوصَّلُ بها إلى الفقهِ.
من أمثلة القواعدِ:
١-الأمر للوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينةٌ عن ذلكَ.
٢-النَّهي للتَّحريمِ حتَّى تصرِفه قرينةٌ عن ذلك.
٣-العامُّ شاملٌ لجميعِ أفرادِهِ ما لم يرِدِ التَّخصيصُ.
والأدلَّةُ هي مصادرُ التَّشريعِ، كـ: الكتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقياسِ.
الفرق بين القاعدة الأصولية والفقهية:
القاعدةُ الأصوليَّةُ هي: دلالةٌ يهتدي بها المجتهدُ للتَّوصُّلِ إلى استخراجِ الأحكامِ الفقهيَّة، فهي آلتُهُ الَّتي يستعملُها لاستفادَةِ تلكَ الأحكامِ، كالقواعدِ الثَّلاثِ المتقدِّمة.
أما القاعدةُ الفقهيَّةُ؛ فهيَ الجملةُ الجامعةُ من الفقهِ تندرجُ تحتهَا جزئياتٌ كثيرةٌ، بمنزلةِ النُّصوصِ الجوامعِ للمعاني، كالمُناسبةِ الَّتي تُلاحظها بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (الأمور بمقاصدها)، وبين قوله ﷺ:
1 / 13
«إنما الأعمال بالنِّيات» أو بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (المشقَّةُ تجلِبُ التَّيسيرَ» وقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، فالقاعدة الفقهيَّةُ جملةٌ جامعةٌ لجزئيَّاتٍ كلُّهنَّ من بابها وموضوعها، بمنزلةِ المستفاد من آيةٍ جامعةٍ أو حديثٍ جامعٍ، كالمثاليين المذكورين.
ولو تأمَّلتَ اعتبار جميع التصرفات بالمقاصد فكم تُرى يندرجُ تحت ذلك من المسائل الفرعيَّةِ في العبادات والمعاملاتِ والجناياتِ والعقوباتِ، فأفعال المصلِّي والمزكي والبائع والمشتري والنَّاكح والمُطلق والسَّارق والزَّاني والقاتل والحالفِ والقاضي، إلى غير ذلك ممَّا تعتبرُ فيه النِّياتُ والإراداتُ كلُّه مندرجٌ تحت هذه الجملةِ، فلمَّا جاءتْ على الاستيعاب للأمورِ الكثيرةِ سمِّيتْ (قاعدة)، ولما كانتْ في المسائلِ الشَّرعيَّة العمليَّة سميَّتْ (فقهيَّة)، وهذه بخلافِ (الأصوليَّة) فإنَّها لا تندرجُ تحتها الفروعُ العمليَّة، إنما هي أداةٌ لمعرفتها من الدَّليلِ الشَّرعِّ، ومن خلالِ دراسةِ قواعدِ الأصولِ في هذا الكتابِ ستعلمُ حقيقةَ المقصودِ بقولنا (أداة) أو (آلة) .
1 / 14
مباحث الأحكام
1 / 15
١ـ معنى الحكم
"تعريفه:
هو: خطابُ الشَّارعُ المتعلِّق بأفعالِ المكلَّفين اقتضاءً أو تخييرًا أوْ وضعًا.
"شرح التعريف:
خطابُ الشَّارعُ: هو خِطابُ الله تعالى المُباشرُ كالوحي بالقرآنِ والسُّنة، أو المبنيُّ على خطابه المُباشر كالإجماعِ والقياسِ.
المتعلقُ بأفعالِ المكلفينَ: المراد بالأفعال ما هو آتٍ في التَّعريف، وأمَّا المكلفُ فسيأتي تعريفه في (المحكوم عليه) .
اقتضاءً: أي: طلبًا، ويندرجُ تحتهُ: مطلوبُ الفعلِ، ومطلوبُ التَّركِ، وكلٌّ من المطلوبينَ ينقسمُ إلى: لازمٍ، وغير لازمٍ.
تخييرًا: أي متساوٍ فعلُهُ وتركُهُ.
وضعًا: ما جعلهُ الشَّارعُ سببًا لشيءٍ، كدُلوكِ الشَّمس لوجوبِ الصلاةِ، أو شرطًا لشيءٍ، كالوضوءِ لصحَّةِ الصَّلاةِ، أو مانعًا من شيءٍ، كالقتل مانعًا من الإرثِ، أو حكمُ الشَّارع بصحَّةِ شيءٍ أو فسادِه أو بُطلانهِ، أو شدَّتِهِ أو خِفَّتهِ.
...
1 / 17
٢ـ أقسام الحكم
الحكم التكليفي
"تعريفه:
هو ما اقتضى طلبَ فعلٍ من المكلفِ، أو طلبَ كفٍّ، أوخيِّرَ فيه بين الفعلِ والتَّركِ.
وسمِّي (تكليفيًّا) لأنه يقعُ بامتثالهِ كلفةٌ.
وتسميتهُ (تكليفيًّا) جرى على التَّغليبِ، وإلاَّ فإن ما خيَّر فيه الشَّارع ليس فيه تكليفٌ في الحقيقة.
أقسامه:
يُلاحظُ من التَّعريف أن الحكم التَّكليفي يمكنُ أن يندر تحتهُ خمسةُ أقسامٍ، هي:
١- الواجب
*تعريفه:
لغةً: السَّاقطُ والواقعُ، يقالُ: (وجبَ الحائطُ) إذا سقطَ، ومنه قوله تعالى في النُّسكِ: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ [الحج: ٣٦] أي: ذبِحتْ فسقطتْ ووقعتْ إلى الأرضِ.
وفيه معنى الثبوتِ واللُّزومِ، فإنَّ ما يسقطُ يستقرُّ بسقوطهِ ويلزمُ
1 / 18
الوضعَ الَّذي يسقطُ عليه، ومن ثمَّ قيلَ: (وجبَ البيعُ) أيْ: ثبتَ واستقرَّ ولزِمَ، وهذا أصلُ معنى الواجبِ في الاصطلاحِ.
واصطلاحًا: هو ما طلبَ الشَّارعُ فعله على وجهِ اللُّزومِ، ورتَّب على امتثالهِ المدحَ والثَّوابَ، وعلى تركهِ مع القُدْرةِ الذَّم والعقابِ.
صيغته:
الصِّيغُ الدَّالة على إفادةِ الوجوبِ في نصوصِ الكتابِ والسُّنةِ كثيرةٌ أهمُّها:
١-صيغة الأمرِ بلفظِ الإنشاءِ، بفعلِ الأمرِ (افْعَلْ) كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [الأنعام: ٧٢]، أو المضارعُ المجزومِ بلامِ الأمرِ كقوله تعالى: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: ٩]، أو اسمِ فعلِ الأمر كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥]، أو المصدر النَّائب عن فعلِ الأمرِ، كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد:٤] .
وسيأتي في مبحث (الأمر) في (قواعد الاستنباط) بيانُ دلالة هذه الصِّيغة على الوُجوبِ.
٢-صيغةُ (أمرَ) وما يتصرَّفُ عنها، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل:٩٠]، وقوله: ﴿إِنَّ
1 / 19
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨]، وقوله ﷺ: «وأنا آمركمْ بخمسٍ الله أمرني بهنَّ: السَّمعِ والطَّاعةِ، والجهادِ، والهجرةِ، والجماعةِ»، (جزءٌ من حديثٍ صحيحٍ أخرجه التِّرمذِيُّ وغيرهُ) .
٣-صيغة (كتبَ) و(كُتِبَ)، كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:٢١٦]، وقوله ﷺ: «إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتُمْ فأحسنُوا القِتلَةَ، وإذا ذبحتُم فأحسنُوا الذِّبح، وليُحِدَّ أحدُكمْ شفْرَتَهُ فليُرِحْ ذبِيحتَهُ» [أخرجه مسلمٌ من حديثِ شدَّاد بنِ أوسٍ] .
٤-صيغةُ (فرضَ) وما يتصرَّفُ عنها، كقوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور:١] أي: أوجبنا العمل بها.
وعن عبد الله بن عباسٍ ﵄: أنَّ رسول الله ﷺ لمَّا بعثَ معاذً إلى اليمنِ قال: «إنكَ تقدُمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فليكُن أوَّل ما تدعوهمْ إليهِ عبادَةُ الله عزَّوجلَّ، فإذا عرفُوا الله فأخبرهم أنَّ الله فرض عليهمْ خمسَ صلواتٍ في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرْهُم أنَّ الله قد فرض عيهم زكاةً تُؤخذُ من أغنيائهم فترَدُّ على فُقرائهِم، فإن أطاعُوا بها فخذْ منهمْ وتوقَّ كرائمَ أموالهِم» [متفق عليه] .
٥-صيغة (لهُ عليك فِعلُ كذا) كقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
1 / 20
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]، وقوله ﷺ في حقِّ الرَّجل على امرأته: «ولكم عليهنَّ أن لا يوطئنَ فُرشَكُمْ أحدًا تكرهُونهُ، فإنْ فعلنَ ذلكَ فاضْرِبُوهنَّ ضربًا غير مُبرِّحٍ» [أخرجه مسلمٌ من حديث جابربن عبدِالله]، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٣٤] .
٦ـ صيغةُ الخبر الَّتي فيها تنزيل المطلوب منزلةَ التَّامِّ الحاصل تأكيدًا للأمر به، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤] .
٧ـ ما ورد فيه ترتيبُ المؤاخذة على تركِ الامتثالِ، كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩]، وقول النبي ﷺ: «من لا يرحمُ لا يُرحمُ» [متفقٌ عليه من حديث جريرِ بن عبد الله وأبي هريرة] .
٨ـ وصفُ تركِ الامتثالِ بالمخالفةِ، كحديث أبي هريرة ﵁ قال: «شرُّ الطَّعام طعامُ الوليمةِ، يُدعى لها الأغنياءُ ويُتركُ الفقراءُ، ومن تركَ الدَّعوةَ فقد عصَى الله ورسولَهُ» [متفق عليه]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: ١١] .
٩ـ ما رُتِّب على تركه عدمُ الاعتدادِ بالعملِ، كقوله ﷺ: «لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بفاتحةِ الكتابِ» [متفقٌ عليه من حديث عُبادة بنِ
1 / 21
الصَّامت]، وقوله ﷺ: «لا نكاحَ إلاَّ بوليٍّ» [حديث صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّننِ وغيرهُمْ] .
"مسائل:
١ـ الفعل النَّبويُّ إذا جاء تفسيرًا لواجبٍ مجملٍ كقوله ﷺ: «صلُّوا كما رأيتمُوني أصلِّي» [أخرجه البخاريُّ من حديث مالك بن الحُويرِثِ]، وقد صلَّى بفعلهِ، وقوله ﷺ: «لِتأخُذُوا مناسِككُمْ» [أخرجه مسلمٌ من حديث جابر بن عبد الله]، وقد حجَّ بفعلهِ، هلْ يكونُ ذلكَ الفعلُ واجبًا؟
التَّحقيقُ الَّذي عليه أكثرُ أهلِ العلمِ أنَّ البيانَ بالفعلِ واقعٌ على ما هوَ واجبٌ كالرُّكوعِ والسُّجودِ في الصَّلاةِ، وعلى ما هو مندُوبٌ كرفعِ اليدينِ وصفِّ القدمينِ ووضعِ اليُمنى على اليسرَى، فمجرَّدُ الفعلِ النَّبويِّ لم يُحل المندوبَ منها واجبًا، وذلك لوْ صحَّ فإنَّهُ يعني أنَّ المندوباتِ في حقِّه ﷺ انقلبتْ واجباتٍ بفعلهِ في حقِّ أمَّتهِ، وهذا معنى لا يُتصورُ، فالتكليفُ في حقِّه ﷺ مقطوعٌ بأنهُ آكدٌ منهُ فبي حقِّ أمَّتِهِ.
فلا يصلُحُ إذًا إطلاقُ أنَّ فعل النبي ﷺ إذا كان بيانًا لواجبٍ فكلُّ أجزاءِ ذلك الفعلِ واجبةٌ على أمَّتهِ، وإنما يُستفادُ وجوبُها من غير ذاتِ الفعلِ، وتبقى مشروعيَّةُ المتابعةِ للنَّبي ﷺ واجبةً في الواجبِ، ومندوبةً في المندوبِ.
1 / 22
٢ـ (الفَرْضُ) هوَ (الواجبُ) عند جمهورِ الفُقهاءِ، فيقولونَ: (صومُ رمضانَ واجبٌ) كما يقولونَ: (فرضٌ)، ويقولونَ: (زكاةُ الفِطرِ فرضٌ) كما يقولونَ: (واجبةٌ) .
وخالفهم في ذلكَ الحنفيَّةُ - وهو رِوايةٌ عن الإمامِ أحمد - ففرَّقوا بينَ (الفرضِ) و(الواجبِ) لا من جهَّة التَّعريفِ المتقدِّم، وإنما من جهةِ طريقِ ورودِ الدَّليل الدَّال على الوجوبِ أو الفرضيَّةِ، فكان عندهم ما وردَ الدَّليل الدَّالِّ على الوجوبِ أو الفرضيَّةِ، فكان عندهُم ما وردَ بدليلٍ قطعيِّ الورودِ كالقرآن والحديثِ المتواترِ فهو فرضٌ، وما وردَ بدليلٍ ظنِّيِّ الوُرودِ كحديثِ الآحادِ الصَّحيحِ فهو واجبٌ، وعليه فـ (الواجبُ) أدنَى في الحتميَّةِ عندهُم من (الفرضِ) بهذهِ الحيثيَّةِ.
ومذهبُ الجمهورِ أصحُّ وأرجَحُ، لرُجحانِ وجوبِ العملِ بحديثِ الآحادِ الصَّحيحِ، كما سيأتي بيانُهُ في الكلامِ على (دليلِ السُّنَّة) في أدلَّةِ الأحكامِ، لكن يُستفادُ من هذا مُراعاةُ طريقةِ الحنفيَّةِ عندَ النَّظرِ في كتُبِهِم في الفُروعِ.
٣ـ مسألةُ (ما لا يتِمُّ الوَاجبُ إلاَّ بهِ فهوَ واجِبٌ):
ما يتوقَّفُ عليه الإتيانُ بالواجبِ، وهوَ مقدِّمتُهُ الَّتي ينبنِي عليها تحصلُهُ، يرجعُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
[١] ما لا يدخُلُ تحتَ قُدرةِ العبدِ.
1 / 23
مثلُ: زوالِ الشًّمسِ لوجوبِ صلاةِ الظُّهرِ، فهذهِ مقدِّمةٌ لا تَتِمُّ صلاةُ الظُّهرِ إلاَّ بها لكنَّها ليستْ تحتَ قُدرَةِ المُكلَّفِ.
فهذا القِسمُ لا يندرجُ تحتَ المسألةِ المذكورةِ.
[٢] ما يدخُلُ تحتَ قُدرةِ المكلَّفِ لكنَّهُ غيرُ مأمورٍ بتحصِيلِهِ.
مثلُ: بُلوغِ النِّصابِ لوجوبِ الزَّكاةِ، والاستطاعَةِ لوُجوبِ الحجِّ، فإنَّه تحتَ قُدرتِه أن يجمعَ النِّصابَ، وأن يكتسِب لِيُحقِّق الاستِطاعةَ للحجِّ، لكنَّ ذلكَ لا يجبُ عليهِ.
فهذا لا يدخلُ أيضًا تحتَ المسألةِ المذكورَةِ.
[٣] ما يدخُل أيضًا تحتَ قُدرَةِ المكلَّفِ وهو مأمورٌ بتحصِيلِهِ.
مثلُ: الطَّهارةِ للصَّلاَةِ، والسَّعيِ للجُمُعَةِ، فهذا يجبُ عليهِ الإتيانُ بهِ، وهو المقصودُ بالقاعدَةِ.
ومن هذا التقسيمِ يُلاحظُ أنَّ هذهِ المسألةِ ليستْ قاعدَةً لإثباتِ وُجوبِ ما لم يرِدْ بِوُجوبهِ دليلٌ، إنما هي مسألةٌ قُسِّمتْ عليهَا مقدِّماتُ الوَاجبِ، أمَّا أن يُقالَ: تثبُتُ بها واجباتٌ لا دليلَ عليها إلاَّ هذه الجُملةِ فهذا ما لا وجودَ لهُ على التَّحقيقِ، وسيأتِي في (قواعِدِ الاستنباطِ) في مبحثِ (إشارَةِ النَّصِّ) ما يُبيِّنُ أنَّ مقدِّماتِ الواجبِ واجبةٌ بنفسِ دليلِ ذلكَ الواجبِ.
٤ـ لم يرِدِ استعمالُ لفظِ (واجب) في نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ
1 / 24