Tawil Zahiriyyat
تأويل الظاهريات: الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي وتطبيقه في ظاهرة الدين
Genres
12
انبهرت الحضارات الأخرى بتفسير كل شيء من وجهة نظر أوروبا، وسمي استغلال العالم الكشف الجغرافي مع أنه بداية الاستعمار من وجهة نظر الشعوب المستعمرة، وأصبحت ظروف أوروبا هي مقاييس تصنيف العالم؛ فهناك البلاد المتقدمة والبلاد المتخلفة. ومن أجل التخفيف من حدة التصنيف، استبدل بلفظ «المتخلفة» لفظ «النامية» أو «في طريق النمو»، وصنفت أنماط تفكير الشعوب غير الأوروبية على أنها «عقلية بدائية»، بل وصل الأمر إلى درجة تقسيم أجناس البشر إلى آرية وسامية.
وظهر نفس الشيء في الميادين الأكثر مادية للاقتصاد والسياسة؛ فقد اعتبرت البلاد غير الأوروبية كمصادر للمواد الأولية من أجل تصنيع الغرب، ثم كأسواق لبيع المنتجات الأوروبية. وتمت صياغة عدة معاهدات وتحالفات، وأقيمت القواعد العسكرية ومناطق نفوذ في البلاد غير الأوروبية من أجل الدفاع عن أوروبا.
وتجلت داخل كل حضارة خارج أوروبا هذه الظاهرة «الانبهار بأوروبا»، والتي تكونت من نسيان جذور الفرد في حضارته الخاصة ثم الانحياز إلى أوروبا والاغتراب فيها باعتبارها الحضارة الوحيدة التي يجد فيها كل فرد جذورا بديلة، طوعا أو كرها؛ ومن ثم تقع كل حضارة خارج أوروبا في دائرة النسيان. أصبحت الحضارة الأوروبية ممثلة للإنسانية كلها.
أصبحت ظاهرة الوعي الأوروبي مشكلة بالنسبة للدراسات الفلسفية، سواء داخل الحضارة الأوروبية أو خارجها. لم تكتمل الدراسات بعد في الداخل. حصلت نتائج جزئية فحسب خاصة بأزمة العلوم وانهيار الحضارة، ولم يتم دفع هذه النتائج إلى أقصى مداها، وكان من الطبيعي ألا يستطيع الملاحظ الفيلسوف أو الباحث أن يتخلص كلية من الأثر الذهني لحضارته، وباعتباره مسئولا عن بنيتها فإنه لم يكن باستطاعته إصلاحها. ويستطيع ملاحظ غير أوروبي أن يكون مشاهدا منصفا لأنه لا يخضع لتأثير البنية الذهنية للحضارة المدروسة، وفي الخارج تم تناول المشكلة بطريقة دفاعية وخطابية، وتحت أثر حماس التحرر الوطني والثقة الشديدة بالنفس تمت معالجة الوعي الأوروبي عن طريق الهجوم العنيف على القوى الاستعمارية الأوروبية. وكان ذلك طبيعيا نظرا لأن التحرر الوطني لم يكتمل بعد.
13
وفي الحالة الراهنة للدراسات حول الوعي الأوروبي هناك تياران على طرفي نقيض؛ الأول يمثله العلماء الأوروبيون، والثاني الخطباء اللاأوروبيون من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. الأول نتيجة غياب أية مسافة بين الملاحظ وموضوعه؛ لأن الملاحظ أوروبي، وعيه هو نفسه الانطباع الذهني الذي أعطته إياه حضارته. والثاني نتيجة المسافة الشاسعة بين الملاحظ وموضوعه؛ فالملاحظ خطيب، مثقف أو سياسي، يدافع عن وطنه الروحي أكثر مما يدرس موضوعه. ولا تستطيع النظرة القصيرة للأول ولا الطويلة للثاني أن تساعد على تقدم البحث الفلسفي. يستطيع الوعي المحايد وحده أن يتجاوز اغتراب الأول والثاني، وأن تكون له فرصة رؤية أفضل، وحكم أدق. (2) الوعي المحايد والوعي المغترب
ليست الحضارة إلا النتاج المشترك من مجموع الوعي الفردي للجماعة.
14
وبناء الحضارة هو نفسه بناء الوعي الفردي. كذلك يخضع كل تحليل للحضارة يقوم به الوعي الفردي الذي ينتسب إليها إلى هذه الحضارة ذاتها التي تترك انطباعها على ذهن الباحث. وكل تحليل يقوم به باحث لحضارة ينتمي إليها هو في نفس الوقت تحليل لبناء الوعي الفردي للباحث. ولما كان يجد نفسه محددا في وضع معين، فإن تحليله يتم طبقا لهذا الوضع. يتم كل تحليل للحضارة طبقا لوجهة نظر الباحث واضعا نفسه في «زاوية نظر» حضارته. ومن هنا تأتي ضرورة الوعي المحايد ودوره، والذي ينتمي إلى حضارة أخرى، والذي يمكن الحكم عليها دون أي حكم مسبق. الشعور المحايد خال من أي انطباع من الحضارة المدروسة.
Unknown page