Tasis Mitafiziya Akhlaq
تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق
Genres
كيف يصبح الأمر الأخلاقي ممكنا؟
يعد الكائن العاقل نفسه، بوصفه عقلا ، جزءا من العالم المعقول، ولا يسمي عليته «إرادة» إلا لمجرد كونه علة فاعلة في هذا العالم، ولكنه يشعر كذلك من ناحية أخرى بأنه قطعة من العالم المحسوس الذي توجد فيه أفعاله كمجرد ظواهر لتلك العلية، غير أن إمكان هذه الأفعال لا يمكن أن يدرك من طريق هذه العلية التي لا نعرف عنها شيئا، بل ينبغي بدلا من ذلك، من حيث إنها تكون جزءا من العالم المحسوس، أن تفهم من ناحية تحددها بظواهر أخرى، ونقصد بها الرغبات والميول. فإذا كنت إذن عضوا في العالم المعقول وحده، فإن جميع أفعالي ستكون مطابقة كل المطابقة لمبدأ الاستقلال الذاتي للإرادة الخالصة، وإذا كنت قطعة من العالم المحسوس فحسب، فلا بد في هذه الحالة من أن نحسب أنها مطابقة تمام المطابقة للقانون الطبيعي للشهوات والميول، وبالتالي لتنافر الطبيعة. (ستقوم الأفعال في الحالة الأولى على المبدأ الأعلى للأخلاق، وفي الحالة الثانية على مبدأ السعادة) «ولكن لما كان العالم المعقول يحتوي على الأساس الذي ينبني عليه العالم المحسوس كما تنبني عليه تبعا لذلك قوانينه»،
18
وكان إذن بالقياس إلى إرادتي (التي تنتمي بكليتها إلى العالم المعقول)
19
المبدأ المباشر للتشريع، ولما كان من الواجب كذلك أن يتصور على هذا النحو، فسوف يكون علي، بوصفي عقلا، وإن أكن من ناحية أخرى كائنا ينتمي إلى العالم المحسوس، أن أعرف أنني خاضع لقانون العالم الأول [أي العالم المعقول]؛ أي للعقل الذي يحتوي على هذا القانون في فكرة الحرية؛ ومن ثم للاستقلال الذاتي للإرادة، كما سيتعين علي تبعا لذلك أن أعد قوانين العالم المعقول أوامر أخلاقية مطلقة بالنسبة لي والأفعال المطابقة لهذا المبدأ واجبات.
وهكذا تصبح الأوامر الأخلاقية المطلقة ممكنة لأن فكرة الحرية تجعلني عضوا في عالم معقول، يترتب على هذا أنني لو لم أكن إلا عضوا في هذا العالم وحده، لأصبحت جميع أفعالي مطابقة دائما للاستقلال الذاتي للإرادة، غير أنني لما كنت أرى نفسي في الوقت عينه عضوا في عالم محسوس، فإن أفعالي يجب أن تكون مطابقة له. هذا الواجب المطلق يعبر عن قضية تركيبية قبلية من حيث إن الإرادة الواقعة تحت تأثير الشهوات الحسية تنضاف إليها كذلك فكرة هذه الإرادة نفسها، ولكن من جهة أن هذه الإرادة تنتمي إلى العالم المعقول؛ أي من جهة كونها إرادة خالصة وعملية في ذاتها تحتوي على الشرط الأعلى للإرادة الأولى بما يتفق مع العقل، ويشبه هذا على وجه التقريب أن عيانات العالم الحسي تنضاف إليها تصورات الفهم التي لا تدل بذاتها إلا على صورة القانون بوجه عام، فتجعل القضايا التركيبية القبلية ممكنة، وهي تلك القضايا التي ترتكز عليها كل معرفة بالطبيعة.
إن الاستعمال العملي للعقل الإنساني المشترك
20
يؤكد صحة هذا الاستنتاج. ما من إنسان حتى أخس الأشرار، بشرط أن يكون قد اعتاد استخدام عقله في الأمور الأخرى، لا يتمنى، حين نعرض عليه أمثلة على إخلاص النيات، والأمانة في مراعاة المسلمات الطيبة، والتعاطف والإحسان لعامة الناس (مع ارتباط هذا كله بتضحيات كبيرة بالمنافع وبالراحة الشخصية) أن يكون هو أيضا على مثل هذا الخلق. قد لا يتمكن، بسبب ميوله ودوافعه، أن يحقق هذه الأمنية في شخصه، ولكن الأمل لا يبرح يراوده في الوقت نفسه لأن يتحرر من هذه الميول التي تثقل كاهله. وهكذا يقيم الدليل على أنه، بإرادة متحررة من دوافع الحساسية، يضع نفسه بالفكر في نظام للأشياء مختلف كل الاختلاف عن نظام شهواته في مجال الحساسية؛ إذ إنه لا يستطيع أن يتوقع من هذه الأمنية أية متعة شهوانية، ولا أن ينتظر منها إشباعا لميل من ميوله الحقيقية أو المتخيلة (فلو كان الأمر كذلك لفقدت الفكرة نفسها التي أغرته على هذه الأمنية ما تمتاز به من سمو ورفعة شأن)، بل كل ما يستطيع أن ينتظره منها هو قيمة باطنة أعظم لشخصيته، ولكنه يعتقد أنه هو هذا الشخص الأفضل إذا وضع نفسه في موقف عضو منتم للعالم المعقول، تجبره على ذلك، على غير مشيئته، فكرة الحرية؛ أي فكرة الاستقلال عن العلل المحددة للعالم الحسي، وهو في هذا الموقف يشعر بإرادة خيرة تؤلف باعترافه هو نفسه قانون إرادته الشريرة من حيث إنه عضو في عالم حسي: هذا القانون الذي يعترف بسلطانه حتى وهو يخرقه ويتعدى عليه. وإذن فما ينبغي عليه من الوجهة الأخلاقية، هو ما يريده بالضرورة من تلقاء نفسه بوصفه عضوا في عالم معقول، ولا يتسنى له أن يتصور ما ينبغي عليه تصوره كواجب إلا بمقدار ما يعد نفسه في ذات الوقت عضوا في العالم المحسوس.
Unknown page