ولنتذكر أن مثل هذا الشعر قيل في أوقات الشدائد يوم كان الباكون على البرامكة معرضين للقتل، أليس هذا الولاء الصادق من شعب التصوف؟
وكان في الأندلس شاعر اسمه محمد بن عيسى، وهو المعروف بابن اللبانة، وهو شاعر كان منقطعا إلى المعتمد بن عباد، وله فيه مدائح، فلما أفل نجم المعتمد وخانته أيامه، وغدر به زمانه، ظل ابن اللبانة ملتزما عهد الوفاء، وكانت له مع أبناء أميره المغلوب نوادر تدل على غزارة المروءة ونبل الطبع؛ ومن حديث ذلك أنه «كان للمعتمد على الله ولد يلقب بفخر الدولة، رشحه للملك من بعده، وجعله ولي عهده، ولقبه بالمؤيد بنصر الله، فعاقته الفتنة عن مراده، وحالت الأقدار بينه وبين إصداره وإيراده، فما برح بفخر الدولة تغير الأيام بعد الفتنة إلى أن أسلم نفسه في السوق وتعلم من الصنائع صنعة الصواغ».
13
ومر ابن اللبانة بذلك الأمير الذي جنت عليه الليالي فحولته إلى صانع ينفخ الفحم في دكان صائغ، فتمثل ما كان عليه، وتفجع لما صار إليه، واندفع يبكيه بهذه القصيدة العصماء:
أذكى القلوب أسى، أبكى العيون دما
خطب وجدناك فيه تشبه العدما
أفراد عقد المنى منا قد انتثرت
وعقد عروتنا الوثقى قد انفصما
شكاتنا فيك يا فخر الهدى عظمت
والرزء يعظم فيمن قدره عظما
Unknown page