قال أبو سعيد بن أبي الخير الصوفي:
أخذني شيخي من يدي وأجلسني في إيوان ومد يده فأخرج كتابا وأخذ يقرأ، فتطلعت إلى معرفة هذا الكتاب، فلمح الشيخ هذه الحركة فقال لي: يا أبا سعيد «إن مائة وأربعة وعشرين ألف نبي بعثوا ليعلموا الناس كلمة واحدة وهي «الله»، فمن سمعها بأذنه فقط لم تلبث أن تخرج من الأذن الأخرى، أما من سمعها بروحه وطبعها في نفسه وتذوقها حتى نفذت إلى أعماق قلبه وباطن نفسه وفهم معناها الروحي فقد انكشف له كل شيء.» إن الذين يكتفون بذكر اسم الله من غير عقل ولا قلب، ومن غير تفكير وتذوق، كمريض يعالج مرضه بترديد اسم الداء من غير أن يشرب نفس الدواء.
وإن كنت ذا مزاج فني فانظر الله في جمال العالم، وفكر في القوة التي نشرت هذا الجمال في كل شيء في اتساق وانسجام، انظره في جلال البحار وعظمة الجبال، وفي جمال الشمس تطلع وفي جمالها تغرب، وفي جمال الأشكال والألوان، في هندسة المحار، في شرشرة أوراق الأشجار.
إذا رق شعورك اهتز قلبك للصباح الباكر وجماله وجوه وأرضه وهوائه، وتشربته في لذة كما تتلذذ الماء البارد على ظمأ، وخفق للبحر وأمواجه وحركاته كأنه يجري في عروقك، وراعتك السماء ونجومها حتى كأنك تسكر من تردد النظر إليها، وغمرك زهو بهذا العالم كأنك وارثه ومالكه، وطربت من نغمات العالم، فخفق قلبك يناغمها، وأحببت العالم وما فيه ومن فيه، لأنه مصدر هذا الجمال الذي يبهرك وأحببت نفسك، لأنك تحب هذا الجمال، وأخيرا انبعثت من أعماق نفسك كلمة «الله» تغذى بها هذا الشعور الفياض المتموج ناشرا هذا الجمال، ولم تجد خيرا من أن تقرأ قوله تعالى:
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون * يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون * ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون * ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين * ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون * ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون * وله من في السماوات والأرض كل له قانتون * وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
هذا العالم بروحانيته العقلية وبروحانيته الفنية كتاب مفتوح للناس جميعا، لا فرق بين متعلم تعلما عاليا وغيره، بل قد يستفيد منه الأمي أكثر من المتعلم، والأمر يتوقف على الاستعداد وحسن التذوق وحسن التوجيه، وقد يستفيد إنسان من نظرة في حجر أو زهرة أو شجرة أو ثمرة ما لا يستفيد من معلم أو كتاب.
وكثير من الناس يخشون الآن كلمة الروحية، وخاصة المتعلمين ودعاة الإصلاح، وقد يرون أنها ضرب من الرجعية ومن آثار القرون الوسطى، والذي دعاهم إلى هذا أنه إذا ذكرت الحياة الروحية ذهب خيالهم إلى الأديرة وسكانها، والتكايا المنقطعين إليها، ورجال الذكر والموالد والمشعوذين من رجال التصوف، والدجالين من المنجمين وأمثالهم ممن هم عالة على الناس، فهذه الروحانية المزيفة، إنما نعني بالحياة الروحية حياة تؤمن بأن هذا العالم ليس مادة فحسب، وأن سيره لا يمكن أن يفسر بقوانين «داروين» وحدها من الانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، وبقاء الأصلح، فإن هذا إن صلح تفسيرا للتطور فلن يصلح تفسيرا لحياة الخلية وحياة العالم، ففينا بجانب المادة روح، وفي الأحياء روح، والله من ورائهم محيط.
وهذا الروح الأعلى هو الذي أودع في العالم قوانينه، ونشر فيه جماله، واتصال الإنسان بهذا الروح يسمو به، ويعلي من شأنه، ويرفع من ذوقه.
لعل أسمى ما قرره الإسلام ودعا إليه «الوحدانية» ولذلك كان شعاره دائما «لا إله إلا الله»، فالله خالق كل شيء من سماء وأرض وجبال وبحار وأشجار وحيوان وإنسان، هو رب العالمين لا رب غيره، وهو القادر على كل شيء، مدبر الكون وواضع قوانينه ومؤلف نظمه، وهو العالم بكل شيء:
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، كل شيء في الوجود يستمد منه وجوده وحياته، لا خلق إلا خلقه، ولا قوة إلا قوته، هو الحق وهو العدل، وهو المثيب على الخير والمعاقب على الشر:
Unknown page