تحيزت بعض الفرق للقدر وحاربت الشرع، وتحيز بعضها الآخر إلى الشرع وكذب القدر، والطائفتان في نظر ابن القيم ضالتان.
وآمنت فرقة ثالثة بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي، ولكنهم جعلوا مشيئة الله وقضاءه دليلا على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه، وقال بعضهم: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها!
وهذه كلها أقوال مشهورة؛ فالمعتزلة ينسبون الحرية للإنسان، وبهذا يصح عندهم الوعد والوعيد، والجبرية يثبتون القضاء والقدر ويعطلون حرية الفرد، وجاء الأشاعرة فقالوا بنظرية الكسب الأشعري التي أصبح يضرب بها المثل في الدقة والخفاء، حتى ليقال: أخفى من كسب الأشعري، وخلاصتها أن أفعال العباد مخلوقة لله مكسوبة لهم، فجمعوا بين الإرادتين.
أما أهل السنة فيختلفون عن هؤلاء جميعا، وهم غير الأشاعرة، فإن قلت إن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من الحنابلة، فلا تنافي بين الحنابلة وأهل السنة؛ أليس الإمام أحمد بن حنبل هو الذي ضرب حتى خلعت كتفه في محنة خلق القرآن، ورفض الجواب وقال: القرآن كلام الله، لا أقول مخلوقا أو غير مخلوق.
ورأي ابن القيم في القضاء والقدر يتلخص في شيئين: أنه هناك حكمة إلهية في كل ما خلقه الله وأمر به، وأن الخير من الله والشر من العباد.
الحكمة من صفات الله والحكيم من أسمائه الحسنى، ومن حكمته أنه خلق هذا العالم مركبا من أضداد؛ كالليل والنهار، والبرد والحر، والداء والدواء، وخلق الإنسان الطيب ومنه الخبيث.
فإن قيل: لم خلق الله الأضداد، وهلا جعلها كلها سببا واحدا؟ قال ابن القيم: وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إلا بخلق المتضادات والمختلفات وترتيب آثارها عليها، وإيصال ما يليق بكل منها.
وسأل ابن القيم أستاذه ابن تيمية: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة من المفاسد مشتملة على المصلحة الخالصة؟ قال ابن تيمية: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، ولو خلقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالما آخر غير هذا. أما حقيقة نفس الإنسان فإنها جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، فما حصل لها من كمال وخير فمن الله، وما حصل لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها، فإن قيل: لم لا تكون النفس خيرة، كان هذا بمنزلة أن يقال: هلا تجرد الغيث عما يحصل به من تغريق وتخريب وأذى، وهلا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم.
فكمال القدرة بخلق الأضداد، وكمال الحكمة تنزيلها منازلها، والعالم هو الذي يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولها لجميع ما خلقه الله ويخلقه.
أما الجديد في مذهب ابن القيم فهو مذهب المحبة بها يفسر جميع المشكلات السابقة، فقد خلق الله العالم وأحب من خلقه عبادته، فقال:
Unknown page