Tasawwuf Thawra Ruhiyya
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
10
فالحكمة عندهم، أو «الفهم» كما يسميها أوائل الصوفية، ليست نوعا من العلم يكتسب بالنظر العقلي، بل هي العلم الباطن الذي يلقى في القلب إلقاء ويدرك القلب حلاوته ذوقا، وبذلك تتقابل حكمة الصوفية وحكمة الفلاسفة تقابل الأضداد.
يذكر أبو طالب المكي من بين المحجوبين عن فهم القرآن: «من نظر إلى قول مفسر يسكن إلى علم الظاهر أو يرجع إلى عقله أو يقضي بمذاهب أهل العربية واللغة في باطن الخطاب.» ويقول: «هؤلاء كلهم محجوبون بعقولهم، مردودون إلى ما يقدر في علومهم، موقوفون على ما تقرر في عقولهم ... وهؤلاء مشركون بعقولهم وعلومهم عند الموحدين، فهذا داخل في الشرك الخفي.»
11
وقد اعتبر هذا من الشرك الخفي لأن من يفهم القرآن اعتمادا على عقله أو اتباعا لمفسر، يشرك بالله؛ لأنه لا يعقل القرآن عن الله، ولا يعقل كلام الله على ما هو، بل بحسب ما يمليه عليه عقله، أو يمليه عليه عقل غيره من المفسرين، والعاقل الكامل من عقل عن الله كما يقول الحديث.
وإذا عرفنا أن معاني القرآن تنكشف لكل صوفي بحسب استعداده الروحي وبحسب وقته وحاله، أدركنا لماذا يختلف الصوفية في مشاربهم ونزعاتهم واتجاهاتهم الروحية. فإن ما يغلب على أحدهم من الأحوال نتيجة لتلاوته القرآن، غير ما يغلب على الآخر، والحقيقة أن كل صوفي عالم روحي قائم بذاته، وأن الطرق الصوفية المؤدية إلى الله هي بقدر عدد هذه العوالم الروحية، وإذا عرف بعض قدماء الصوفية التصوف بأنه «إدراك الحقائق» فليس لهذا التعريف من معنى إلا أنه إدراك الحقائق الإلهية كما يدركها كل صوفي على حدة، وبمقدار استعداده الروحي وتكوينه.
الحقيقة والشريعة
سبق أن ذكرنا أن الحقيقة في عرف الصوفية هي المعنى الباطن المستتر وراء الشريعة، وأن الشريعة هي الرسوم والأوضاع التي تعبر عن ظاهر الأحكام وتجري على الجوارح، وقد أجمع الصوفية في كل عصر على ضرورة التزام الشرع واتباع الدين، ولكنهم لم يفهموا في أي وقت من الأوقات من الدين حرفيته، ولا من الشريعة مجرد طقوسها، بل كانوا دائما ينحون في فهم الدين والشريعة نحوا يختلف قليلا أو كثيرا عن نحو الفقهاء، وفي هذا تظهر ثورتهم عليهم. نعم أوجس بعض أوائل الصوفية خيفة من المبالغة في التفرقة بين الشريعة والحقيقة مما قد يؤدي إلى التراخي في القيام بواجبات الشرع، فألحوا في المطالبة بظاهر الشرع، وفي هذا يقول سهل بن عبد الله التستري المتوفى سنة 273 (أو سنة 283): «ما من طريق إلى الله أفضل من العلم (يعني العلم بالشرع)، فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلمات أربعين صباحا.» ويقول أبو سعيد الخراز المتوفى سنة 277: «كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل.» ويقول أبو بكر الزقاق الكبير، وكان من أقران الجنيد: «كنت مارا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت الشجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.»
1
ومما يدل على أن التزام الشريعة والاقتداء الدقيق بسنة الرسول كان من دأب قدماء الصوفية، تلك الصيحة المدوية التي صاحها أبو القاسم القشيري في مطلع رسالته (التي ألفها حوالي سنة 440ه) في وجه صوفية عصره، مطالبا إياهم بالرجوع بالتصوف إلى سيرته الأولى، وذلك لما رأى منهم من التواني والفتور في مسائل الشريعة اعتمادا على ما سموه بالحقيقة. يقول: «إن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم كما قيل:
Unknown page