Tasawwuf Thawra Ruhiyya
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
أما في القرنين الثالث والرابع فقد وضع الصوفية تعريفات دقيقة صريحة للتصوف عندما بدءوا يحولون أنظارهم إلى بواطنهم ويسجلون كل دقيقة من دقائق حياتهم الروحية، وكل ما يخطر بقلوبهم من خواطر وما يحسون من مواجد وأذواق.
وقد اختلفت تلك التعريفات وتطورت تبعا لتطور التصوف ذاته وما دخل في مجراه العام من تيارات ثقافية مختلفة، إسلامية وغير إسلامية، وقد لاحظنا أثر تلك الثقافات في البيئات المختلفة التي ظهرت فيهما «المدارس الصوفية» على ما سيأتي بيانه، وظهر هذا الاختلاف واضحا في تعريفات التصوف التي وصفها رجال هذه المدارس.
هذا، وقد جمعنا أكثر من ستين تعريفا للتصوف والصوفي وضعها أربعة وعشرون صوفيا عاشوا ما بين سنة 200 إلى سنة 400، وكانوا من فارس أو العراق أو الشام أو مصر، ولم نختر تعريفات لأحد من الصوفية بعد هذا التاريخ؛ لأنه لا جديد فيها زيادة على ما ذكره هؤلاء الأوائل. أما مصادر هذه التعريفات فهي: الرسالة القشيرية، وكشف المحجوب للهجويري (ترجمة الأستاذ نيكولسون)، وتذكرة الأولياء لفريد الدين العطار، ونفحات الأنس لعبد الرحمن جامي، وقد اقتبسنا طائفة من التعريفات التي أوردها الأستاذ نيكولسون في مقاله الذي سماه «نظرة تاريخية في أصل التصوف وتطوره» - وهو المقال الذي نقلناه إلى العربية في كتابنا «في التصوف الإسلامي وتاريخه» الذي نشر بالقاهرة سنة 1946 - ولكنا أضفنا تعريفات أخرى لم يذكرها نيكولسون، وشرحنا معاني كثير من هذه التعريفات بغية إظهار الفكرة الأساسية في كل تعريف، والحقيقة أن أي تعريف للتصوف لا يفهم في صورة واضحة جلية إلا في ضوء دراسة شاملة للتصوف ونظرياته وظواهره، وحياة الصوفية وأخلاقهم؛ ولهذا نحيل القارئ إلى ما ذكرناه في هذا الصدد في الفصول التالية من هذا الكتاب، وهي في صميم الحياة الصوفية، بعيدة بقدر المستطاع عن التفاصيل التاريخية المتصلة بترجمات الصوفية.
ولم نحاول - كما يتوقع بعض القراء - أن نضع تصنيفا للتعريفات التي اقتبسناها على أساس من الأسس لأنها لا تخضع لمثل هذا التصنيف، لصدورها عن قوم هم أصحاب أحوال لا أصحاب أقوال علمية أو فلسفية، وقد يكون للصوفي الواحد أكثر من تعريف للتصوف كما هو الحال في الجنيد والنوري والشبلي، من غير أن يربط بينها رابط أو يجمع بينها جامع؛ وذلك لأن الصوفي ابن وقته، فهو ينطق في كل وقت بما يغلب عليه الحال في ذلك الوقت. نعم قد يقال إن الغالب على تصوف ذي النون المصري الكلام في المعرفة،
7
وفي تصوف أبي يزيد البسطامي الكلام في الفناء، وفي تصوف رابعة العدوية الكلام في المحبة، وفي تصوف شقيق البلخي الكلام في التوكل، وفي تصوف الجنيد الكلام في التوحيد، ولكن ليس معنى هذا أن تصوف كل من هؤلاء كان منحصرا في المعرفة أو الفناء أو المحبة أو التوكل أو التوحيد. زد على ذلك أن بين التعريفات تداخلا جزئيا أو كليا، وبعضها يكرر معاني البعض الآخر بعبارات مختلفة، وهذا ما يجعل خضوعها للتصنيف العلمي أمرا عسيرا.
ولقائل أن يقول بعد كل هذا: وما قيمة هذه التعريفات إذن إذا كانت لا تعبر إلا عن أحوال شخصية فردية ولا يفي واحد منها في الإعراب عن حقيقة التصوف في جملته، أو شرح ماهيته؟ والجوب على هذا أن قيمتها فيها مجتمعة لا متفرقة، إذا كنا نبحث عن التصوف الإسلامي مطلقا لا تصوف فلان أو فلان؛ إذ خلالها جميعا تظهر شخصية ذلك التصوف وتبرز صفاته المميزة له. فهي بمثابة الزوايا المختلفة التي ينظر منها الصوفية الإسلاميون إلى حياتهم الروحية، أو بمثابة اللبنات المفردة التي يتألف منها البناء.
تعريفات التصوف والصوفي
مرتبة ترتبا زمنيا (1) معروف الكرخي المتوفى سنة 200 (1) «التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق» (القشيري، ص127). الحقائق مقابل الرسوم الشرعية: وليس المراد هنا الأخذ بباطن الشرع وحده دون ظاهره، بل وجوب النظر إلى باطن الشريعة (حقيقتها) بالإضافة إلى القيام برسومها، والمراد باليأس مما في أيدي الخلائق: الزهد فيما يملكه الناس من متاع الدنيا. فللتصوف في نظر معروف الكرخي جانبان: الزهد في الدنيا والنظر إلى حقيقة الدين وعدم الاكتفاء بظاهر تكاليفه. (2) أبو سليمان الداراني (المتوفى سنة 215) (2) «التصوف أن تجري على الصوفي أعمال لا يعلمها إلا الحق، وأن يكون دائما مع الحق على حال لا يعلمها إلا هو» (تذكرة الأولياء، ج1، ص233).
أي إن التصوف هو التجرد من الإرادة والشعور بالذات، وهذه هي حال الفناء التي لا يرى العبد فيها فاعلا سوى الله. ثانيا أن يكون الصوفي في حال اتصاله بالله على حال لا يعلمها إلا الله، وهذا هو الفناء أيضا. (3) بشر بن الحارث الحافي (المتوفى سنة 227) (3) «الصوفي من صفا لله قلبه» (تذكرة الأولياء، ج1، ص112).
Unknown page