Tasawwuf Thawra Ruhiyya
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
الوعي الصوفي
لا بد أن نعترف إذن بأن للصوفية نشاطا روحيا خاصا يعلن عن نفسه في صورة ما نسميه «التجربة الصوفية» وبأن هذا النشاط الروحي ليس واحدا من أضرب النشاط العقلي المعروفة، ولكنه شيء فوق الوعي العقلي، وإن شئت فسمه وعيا ساميا.
ويبدأ هذا الوعي في الوقت الذي تستيقظ فيه النفس؛ أي في الوقت الذي تخرج فيه النفس عن مألوف عادتها: أي عن الحال التي اصطلحنا على تسميتها «بالحال العقلية الطبيعية»: بأن يتحول فيها مركز الشعور من المراتب الدنيا إلى المراتب العليا، ثم يتحول تبعا لذلك مركز الاهتمام من «الذات» إلى موضوع جديد تجد النفس في الوصول إليه واللحاق به، وهذا التحول في مجرى الحياة الروحية هو الذي اصطلح متصوفة الإسلام على تسميته «بالتوبة» ولكنهم لا يقصدون بها الإقلاع عن الذنوب، أو التحول المفاجئ من عقيدة، أو من دين إلى دين، وإنما يقصدون بها شيئا آخر أبعد وأعمق من هذا كله، بل شيئا هو أساس هذا كله، وهو التجرد عن النفس أو التخلص من النفس - والنفس هنا اسم مرادف لجميع الشهوات والرغبات البدنية - والإنابة التامة إلى الله.
وإذا كان خروج الإنسان إلى هذه العالم يسمى ميلادا طبيعيا، فخروج الصوفي إلى العالم الروحي الذي يتحكم فيه وعيه السامي يسمى ميلادا روحيا، وإذا كان من خصائص التوبة في أية صورة من صورها أنها تصطبغ عادة بصبغة وجدانية عميقة ومفاجئة، فمن خصائص التوبة الصوفية أن يصحبها أعنف حالة وجدانية معروفة: إذ يصحبها ذلك الشوق الملح نحو الله، وشعور ديني عميق وحساسية دينية قوية.
والتوبة بمعنى التحول في الموقف الديني من عقيدة إلى عقيدة في الدين الواحد، أو من دين إلى آخر، أو التوبة بمعنى التصميم والعزم الصادق على الإقلاع عن الذنوب والآثام، قد تكون وثيقة الصلة بالتوبة الصوفية وخطوة سابقة عليها، وتاريخ التصوف الإسلامي وغير الإسلامي حافل بأسماء الرجال والنساء الذين هرعوا إلى الطريق الصوفي إثر أزمة نفسية حادة انتهت بهم إلى توبة من النوع الأول، ثم أسلمتهم إلى التوبة الصوفية.
على أن القاعدة غير مطردة في هذا الشعور الصوفي: كيف يجيء ومتى يجيء. فبينما نراه - وذلك في أغلب الأحيان - يأتي عقب أزمة نفسية حادة وفترة غم شديد واضطراب عظيم يحصل من تحول الحياة الروحية عن عالمها العادي المألوف إلى عالم جديد غير عادي وغير مألوف، نراه في بعض الأحيان يعرض فجأة في حالة هدوء تام، ومن غير أن يصحبه أو يسبقه ذلك الصراع النفسي الذي أشرنا إليه، ومن الصوفية من هم وسط بين هذين الطرفين، فإن التحول في مجرى حياتهم النفسية يحدث على فترات يتعاقب عليها اللذة والألم، فمن قبض شديد إلى بسط، ومن غم شديد إلى فرح، ومن خوف شديد إلى رجاء، ومن ظمأ شديد إلى الاتصال بالخلق إلى ظمأ أشد منه إلى الاتصال بالخالق، ومن أظهر الأمثلة على النوع الأول توبة أبي حامد الغزالي، استمع إليه وهو يصف أزمته النفسية وحيرته واضطرابه وهو موزع الفكر بين عالمين قبل أن يستقر له قرار في الطريق الصوفي. يقول:
فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فينفرها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل.
1
وهكذا استمر النزاع محتدما في نفس الغزالي وانتهى آخر الأمر إلى غم شديد ومرض مقعد وحبسة في اللسان. ثم هدأت العاصفة، وانخرط الغزالي في سلك الصوفية، وخلا خلوتهم وراض نفسه برياضاتهم، فاستيقظ فيه الشعور وانكشفت له أحوال القوم، ونزلت الطمأنينة إلى قلبه بعد الحيرة الطويلة.
وقريب من الغزالي في هذا الصدد القديس أوغسطين الذي عبر عن هذه التجربة بعبارته الشعرية المعروفة، وهي أنه وقف بين عالمين قويين يجتذبانه: الجمال الإلهي الذي يجذبه نحو الله، وثقل المادة الجسمانية الذي يجذبه بعيدا عنه.
Unknown page