Tariq Ikhwan Safa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Genres
إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ... .
15 «واعلم يا أخي أن من يعتقد هذا الرأي، ويتحقق هذا الاعتقاد في أمر السماوات والأرض، فهو في دائم الأوقات يكون متعلق القلب بربه، معتصما بحبله ... داعيا له في جميع أوقاته، سائلا منه كل حوائجه، مفوضا إليه سائر أموره؛ فيكون بهذه الأوصاف قربه إلى ربه وحياة لنفسه وهدوء لقلبه ... فأما من يظن ويتوهم أن العالم مستقل بذاته، ومستغن في وجوده عن فيض باريه عليه بالمادة والبقاء والحفظ والإمساك، فهو يكون ... في حيرة وضلال، لا يدري لم ابتلي ولا كيف عوفي هو، ويكون جاهلا بربه حق معرفته، فيبقى محجوبا عن ربه طول عمره في دنياه
فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
16
ومن الآراء الجيدة والاعتقادات النافعة لنفوس معتقديها ... اعتقاد الإنسان العاقل وعلمه اليقين أنه متوجه إلى ربه وقاصد نحوه من يوم خلقه نطفة في قرار مكين، ينقله ربه وخالقه حالا بعد حال من الأدون إلى الأشرف والأفضل إلى أن يلقى ربه ...» (38: 3، 296-297). «ثم اعلم أن الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة كثيرة لا يحصى عددها، ولكن نذكر منها طرفا ... فمن ذلك رأي من رأى واعتقد أن العالم قديم لا صانع ولا مدبر له. وإن هذا الرأي مؤلم لنفوس معتقديه معذب لقلوبهم، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون صاحب هذا الرأي سعيد أهل الدنيا أو من أشقيائهم، فإذا كان من سعدائهم فإنه لا يدري من أين له هذا، وما هو فيه ... وقد علم يقينا أن الذي هو فيه من النعمة ورغد العيش لا يدوم له، وأنه مفارقه على رغمه مع شدة محبته للبقاء ... كلما ذكر الموت والفناء نغص عليه شهواته، فيعيش طول عمره خائفا من الموت ... ثم يموت على رغم وحسرة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرا ... وإن كان من أشقيائها فهو أسوأ حالا وأمر وأشر سيرة من غيره، وذلك أنه يفني العمر كله بجهل وعناء وتعب، وشقاء في طلب ما لم يقدر له ... فهو بجهله بربه يعيش طول عمره مغتما حزينا ضجرا لما رأى أنه فاته ما وجد غيره، ثم يموت بحسرة وغصة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرا ...
ومن الآراء الفاسدة الرديئة المؤلمة لنفوس معتقديها رأي من يرى ويعتقد أن العالم محدث مصنوع وله صانع واحد حكيم، ولكن لا يرى البعث والنشور والقيامة ولا الحشر والحساب ولا لقاء ربه. فمن يعتقد هذا الشأن ... يفني عمره كله في طلب الدنيا وإصلاح أمر المعاش لجر منفعة إلى جسده، أو دفع مضرة عنه، أو نيل شهوة أو الوصول إلى لذة، متمنيا للخلود في الدنيا مع علمه ويقينه أنه لا يدرك فيها ولا يبقى هو له، وأنه لا بد من الموت، ثم لا يرجع ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل ولا جزاء إحسان ، بل يموت بحسرة وندامة آيسا مما يرجوه المؤمنون» (42: 3، 521-522).
في الأخلاق
ترتبط الأخلاق عند إخوان الصفاء ارتباطا وثيقا بعملية الارتقاء النفسي. والإخوان هنا متشائمون بخصوص الطبيعة الإنسانية التي لا يرون أنها خيرة من حيث الأصل؛ لأن الإنسان ورد إلى الدنيا جاهلا توجهه غرائزه ورغباته الطبيعية التي يسعى لإرضائها دون حسبان لمسألة الخير والشر، وهو لا يغدو كائنا أخلاقيا إلا بالكد والاجتهاد من أجل تهذيب نفسه وإصلاح أخلاقه. ولما لم يكن بإمكان كل عاقل أن يفعل ذلك، نظرا لأن كل ما في السلوك الأخلاقي يتعارض مع ما هو مغروس في الجبلة الإنسانية من الرغائب والشهوات وحب الدنيا، فقد خفف الله تعالى على الناس وبعث الأنبياء بالوصايا الشرعية وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم. فالأصل في الأخلاق الحميدة الاكتساب لا الطبع، والخاصة من الناس تهتدي إلى السلوك الأخلاقي بموجب العقل، أما العامة فبموجب الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده. فمن هذب نفسه بسلوك إحدى هاتين الطريقتين أو كلاهما، فهو من أبناء الآخرة؛ ومن اتبع أخلاقه المغروسة في الطبيعة الإنسانية، فهو من أبناء الدنيا: «اعلم يا أخي أن الناس ينقسمون في سعادة الدنيا والآخرة وشقائهما أربعة أقسام: فمنهم سعداء في الدنيا والآخرة جميعا، ومنهم أشقياء فيهما جميعا، ومنهم أشقياء في الدنيا سعداء في الآخرة، ومنهم سعداء في الدنيا أشقياء في الآخرة. فأما السعداء في الدنيا والآخرة جميعا فهم الذين وفر حظهم في الدنيا من المال والمتاع والصحة ومكنوا فيها، فاقتصروا منها على البلغة ورضوا بالقليل وقنعوا به، وقدموا الفضل إلى الآخرة ذخيرة لأنفسهم، كما ذكر الله تعالى بقوله: ... وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ...
17
وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
Unknown page