Tariq Ikhwan Safa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Genres
إلى قوله: ... ومنها تخرجون ،
23
عرض لها عند ذلك من الدهشة والأهوال والمصائب، مثل ما عرض لقوم من ركاب البحر لما اشتدت بهم الريح، واضطرب بهم البحر، وهاجت بهم الأمواج، وكسر بهم المركب، وغرقوا في قعر البحار، وغاصوا في ظلمات الماء ... فكما أن أولئك القوم في الوقت الذي انكسر بهم المركب تراهم بين غائص في الماء، أو طائف، أو متعلق بخشبة أو بحبل، أو يركب بعضهم كتف بعض، يقول كل واحد: نفسي نفسي، من شدة الأهوال، لا يفكر بغيره، ولا يريد النجاة إلا لنفسه، ولا يهمه سواها، ولا يذكر شيئا مما كان فيه قبلا، فهكذا حال النفوس في هذه الدنيا وكونها مع هذه الأجساد وما ابتليت به من ظلمات هذه الأجساد، من هموم المعاش، وخوف الجوع، وألم العطش، وأوجاع الأمراض والسقام ... فمن أجل هذه الشدائد والمصائب صارت النفس لا تذكر شيئا مما كانت فيه من أمر عالمها ومبدئها ومعادها، كما قال الله، جل ذكره:
وإذا ذكروا لا يذكرون .
24
واعلم أيها الأخ أن النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وأبصرت ذاتها، وعرفت جوهرها، وأحست بغربتها في عالم الأجسام، ومحنتها وغرقها في بحر الهيولى ... وتنسمت بروح عالمها وريحانها، اشتاقت إلى هناك، ومالت إلى الكون في ذلك العالم، ومقتت الكون مع الأجساد، وزهدت في نعيم الدنيا، وتمنت الموت الذي هو مفارقة الجسد والخروج من ظلمة الأجسام، فيكون مثلها في ذلك كمثل قوم خرجوا من الحبس والمطامير مع ضوء الصبح، فشاهدوا هذا العالم بما فيه دفعة واحدة» (48: 4، 184-185). «الأرض بما عليها من المدن والقرى والجزائر التي في البحار، وما فيها من المساكن، كلها حبوس ومطامير وسجون ومضائق للنفوس الجزئية ، وكذلك جميع أشخاصها من النبات والحيوان ذوات النفوس، كلها قيود وأغلال وكبول للنفوس المتعلقة بما يجذبها إلى أسر الطبيعة، وكلها برازخ، ولكنها متفاوتة الصفات ومتغايرة الدرجات، ومتباينة الصور من الضيق والاتساع والاتضاع والارتفاع والآلام واللذات؛ ومنها ما هو في العذاب المهين والذل المقيم، مثل البهائم المستعملة والحيوانات المذبوحة في الهياكل والبيع، والنبات الذي هو في غاية الذل والهوان؛ وأكملها صورة وأتمها بنية وأعلاها منزلة الصورة الإنسانية، فهي صراط مستقيم وكتاب مبين وطريق قويم، وهي المطية التي من سار عليها قاصدا، وكان في سيره على الحق معتمدا، فلا شك أنه يصل بها إلى دار السعادة ويفارق دار الهوان؛ ومن خلى زمام مطيته وتاه في محجته، يوشك أن تعدل به المطية إذا خلى زمامها، إلى طريق الهلكة» (جا: 53-54).
أما عن ماهية خطيئة النفس الجزئية التي أهبطت بسببها إلى عالم الأجسام، فلا يحدثنا الإخوان عنها إلا بشكل غامض لا يروي غليل قارئهم: «وكان الأصل في ذلك [أي في زلة النفس] أن النفس الجزئية كان منها فتور عن قبول فوائد النفس الكلية، والمواد العقلية، فأهبطت إلى عالم الجسم، وجعل لها واسطة لتناول العلوم بالحس واللمس، لتتصور بتأمل المحسوسات المركبات صور الأشياء المعقولات الروحانيات المجردات من الهيولانيات. فإذا فارقت [النفس] المحسوسات، وبقيت آثارها [أي آثار المحسوسات] فيها، وشاهدت الصور العقلية المجردة من الهيولى، كان ذلك معينا لها على طلب الاتحاد بها، والكون بحيث هي [أي الصور] في جنة المأوى والفردوس الأعلى. فلذلك قال سبحانه: ... وأتوا به متشابها ...
25
وقولهم: ... هذا الذي رزقنا من قبل ...
26
Unknown page