الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
مقدمة
1 - نظرية التكوين
2 - صفة العالم
3 - معرفة النفس
4 - ارتقاء النفس والنجاة من أسر الطبيعة
5 - الآخرة والنشأة الثانية
6 - إسلام إخوان الصفاء
7 - طريق النجاة المشترك والمسائل التنظيمية
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
مقدمة
1 - نظرية التكوين
2 - صفة العالم
3 - معرفة النفس
4 - ارتقاء النفس والنجاة من أسر الطبيعة
5 - الآخرة والنشأة الثانية
6 - إسلام إخوان الصفاء
7 - طريق النجاة المشترك والمسائل التنظيمية
طريق إخوان الصفا
طريق إخوان الصفا
المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت ، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
ضرورة التأويل في الفكر الديني
إن النص المقدس بطبيعته نص إشكالي. هذه السمة الإشكالية تنطبق على النص المقدس الإسلامي، مثلما تنطبق على غيره من النصوص المقدسة لأديان الثقافات العليا. فكتاب التاو الصيني بقي موضع تأمل وإلهام العقول الصينية والشرق أقصوية، منذ أن وضعه الحكيم لاو-تسو قبل ألفين وخمسمائة عام من يومنا هذا، وما زال الجدل قائما بشأنه حتى الآن شرقا وغربا. وهذا هو حال الأوبانيشاد الهندي الذي تم تحريره في الزمن نفسه تقريبا، والذي ميزت كل فرقة هندوسية نفسها اعتمادا على طريقة فهمه وتفسيره؛ وأناشيد الغاثا التي وضعها زرادشت، والتي فهمهما مفكرو كل طور من أطوار الزرادشتية على طريقته وصولا إلى المجوسية المتأخرة؛ وأسفار الأنبياء في كتاب العهد القديم التي تشكل الجانب الروحي في التوراة؛ وكلمات يسوع البسيطة والملغزة في آن معا، والتي ما زال الخلاف قائما في تفسيرها وتأويلها.
تنبع إشكالية النص المقدس من عدة عوامل: (1)
يستخدم النص بنى لغوية وأسلوبية قديمة، متصلة بالعصر الذي دون فيه؛ فهو ينتمي إلى زمن ماض وبيئة ثقافية واجتماعية مغايرة تماما لبيئة عصر القارئ. (2)
يتسم النص بلغة أدبية راقية تستنفد كل الإمكانات البلاغية لعصرها، وهي أقرب إلى اللغة الشعرية من حيث الاختصار والإيجاز، وزخم الكلمة والعبارة؛ وهذا ما يبعدها عن أساليب التعبير النثرية المباشرة الخاصة بالعصر الحديث. (3)
رسالة النص الديني عاطفية روحانية، تتوجه إلى القلب قبل العقل، وهي تهدف إلى زرع الإيمان في تجاوز لطرائق البرهان؛ فإذا أخضعت بعد ذلك إلى التأمل العقلي، صار الإيمان والبرهان بحاجة إلى ما يؤلف بينهما. (4)
إن موضوعات النص الديني، من حيث طبيعتها، تتأبى على الصياغة بمفردات اللغة الاصطلاحية المعدة أصلا للتعامل مع المحسوس والملموس، والتي تغدو عرجاء كلما ابتعدنا عن التعامل مع ظاهر الموجودات في محاولة للتعبير عن بواطن العلاقة بين النهائي واللانهائي، بين المحدود والمطلق. هنا لا تجد اللغة بدا من اللجوء إلى الإشارات والرموز من أجل التعبير عما يصعب التعبير عنه بالوسائل المباشرة. (5)
يتوجه النص الديني إلى شرائح مختلفة من الناس تتوزع بين الجاهل والمتوسط والعالم، وعليه أن يصوغ رسالته إليهم على عدة مستويات، بحيث تفهم كل شريحة منهم على قدر استيعابها، وذلك انطلاقا من الأبسط الظاهر إلى الأعمق الباطن ، من غير الوقوع في التناقض بين المستويات. (6)
على الرغم من ارتباطه بزمان معين ومكان معين، فإن النص المقدس في الديانات العالمية التي تعتمد التبشير بين الأقوام كافة، يسمو على الزمان والمكان، ويتوجه إلى الإنسان في كل زمان ومكان. وهذا يستدعي بالضرورة احتواءه على معان قريبة مباشرة، وأخرى بعيدة تنفتح تدريجيا بمرور الزمن وبالتطور المعرفي للإنسان. أي إن سعة التجربة المعرفية لكل جيل سوف تقود إلى إدراك مستويات للنص لم يكن بمقدور الجيل الأسبق إدراكها. (7)
إن الكلمات في أي لغة كانت، محتملة للمعاني، والأفهام تذهب في طلبها كل مذهب، كما تتعدد دلالات العبارة الواحدة حتى لو أراد بها قائلها معنى واحدا. وتتعقد هذه المشكلة كلما اتسعت الشقة الزمنية بين المرسل والمستقبل. (8)
لا تنتظم مقولات النص المقدس في كل متسق، وهو لا يعبر عن نفسه بشكل خطي ينطلق من المقدمات إلى نتائجها، على طريقة النص الفلسفي، وإنما عبر لمحات وومضات وإشراقات.
إن إشكالية النص المقدس هذه، قد دعت بالضرورة إلى نشوء علم على هامش النص يعنى بفهمه من خلال التفسير والتأويل. ينصب جهد التفسير بالدرجة الأولى على المشكلات اللغوية للنص، وترجيح معنى معين من المعاني المحتملة للكلمة الواحدة، أو دلالة بعينها من دلالات العبارة نفسها، مستندا في ذلك إلى اللغة الاصطلاحية، وما تواتر إلى المفسر من وجهات نظر الأجيال السابقة الأقرب إلى زمن النص. أما التأويل فيتابع العملية التفسيرية من أجل الكشف عن المستويات الباطنية للنص، مزودا بعلوم متنوعة تتجاوز علم اللغة لتغطي كامل المساحة المعرفية المتاحة لأهل العصر؛ ذلك أن حجم التجربة المعرفية للإنسان في مواجهة النص المقدس، هو الذي يقود إلى إدراك عمقه وتعدد مستوياته الباطنية.
إن المفسر كلما تجاوز التفسير الحرفي القريب للنص، ازداد توغلا في التأويل الذي يشكل المستوى الأعمق من التفسير. مثال ذلك قوله تعالى في القرآن الكريم:
هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ...
1
وقوله:
الرحمن على العرش استوى .
2
إن أكثر أهل التفسير الحرفي تزمتا، وهم المشبهة والمجسدة ، يفسرون العرش والاستواء بأن لله عرشا يجلس عليه كما يجلس الملك؛ وهذا ما يتنافى وتنزيه الذات الإلهية وبعدها عن التشبه بأحوال البشر، وهو القائل:
ليس كمثله شيء .
3
أما أهل التأويل فيعطون بعدا معنويا للعرش والاستواء، وهم في ذلك على عدة مذاهب؛ فالبعض يقول: إن العرش والاستواء هما للتعبير عن سلطة الله المطلقة على العالم، معبرا عنها بما تثيره هاتان الكلمتان من مفهوم السلطة على مستوى الجماعات الإنسانية. ويقول البعض الآخر اعتمادا على الحديث القدسي: «ما وسعني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن»، إن عرش الرحمن هو قلب الإنسان. وقد نسير مع إخوان الصفاء في تأويلهم العقلي الذي يعتمدون فيه على الحصيلة العلمية لعصرهم، ونقول: إن عرش الرحمن هو الحد الفاصل بين العوالم المادية والعوالم الروحانية، والذي رأوه في الفلك الخارجي للكون الذي دعوه بالفلك المحيط، حيث تنتظم النجوم الثابتة لتشكل حافة الكون المعروف. وباستخدام المفاهيم العلمية الحديثة، هو تلك المجرات الأبعد من الكون الأحدب التي تتباعد عن مركزه بسرعات خيالية، وتشكل حدا بين المعلوم والمجهول.
مثال آخر، قوله تعالى في وصف الجنة وأحوال أهلها:
في جنات النعيم * على سرر متقابلين * يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون * وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون
4
وقوله:
على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين ،
5 ... وزوجناهم بحور عين
6
وأيضا:
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات
7
إن أهل الحرف يصرون حتى يومنا هذا على أن لذات أهل الجنة هي لذات مادية جسدانية، آخذين الوصف القرآني على ظاهره، أما أهل التأويل فيرون في وصف اللذات المادية إشارة للعارفين المتحققين إلى ما وراء ظاهر الوصف المادي من معان روحانية؛ لأن الانتقال إلى الجنة يكون بالروح لا بالجسد، على ما يقوله إخوان الصفاء في رسائلهم . نقرأ في الرسالة 30: «أكثر [الله] في القرآن من وصف محاسن الجنان وسرور أهلها ولذات نعيمها، فتارة وصفها أوصافا جسمانية على قدر طاقة القوم، مثل قوله تعالى:
على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين .
8
ذكر هذا وبين على قدر قبول أفهامهم، لا بمعنى أن هذه الأشياء ستوجد في الجنة على حالات جسمانية، بل ستوجد أشياء روحانية: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ... وتارة وصفها بأوصاف هي بين الروحانية والجسمانية، مثل قوله تعالى:
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن ... .
9
أما ترى يا أخي أنه قال: مثل الجنة على سبيل التشبيه والتمثيل، ليقرب من الفهم تصورها؛ لأنه يقصر الوصف عنها بحقائقها؟ وإنما خاطب كل طائفة من الناس بحسب عقولهم ومراتبهم في المعارف والفهوم؛ لأن دعوة الأنبياء عليهم السلام عموم للخاص والعام جميعا ومن بينهما من طبقات الناس. وقد صرح المسيح، عليه السلام، في وصف الجنان بأوصاف غير جسمانية ... لأن خطابه كان مع قوم قد هذبتهم التوراة وكتب الأنبياء، عليهم السلام، وكتب الحكماء أيضا، وكانوا غير محتاجين إلى الإشارات والتنبيهات، بل كانوا متهيئين لصورها مستعدين لقبولها. فأما سيد الأنبياء وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وآله، فقد اتفق مبعثه في قوم أميين من أهل البوادي، غير مرتاضين بالعلوم، ولا مقرين بالبعث والنشور ... فجعل أكثر صفة الجنان في كتابه جسمانية، ليقربها من فهم القوم، ويسهل تصورها عليهم، وترغب نفوسهم بها.» (30: 3، 76-78).
هذا هو الوجه الموضوعي لعملية التأويل. ولكن للتأويل وجه آخر ذاتي يقول به المتصوفة؛ فالقرآن لم ينزل على قلب محمد
صلى الله عليه وسلم
مرة واحدة فقط، ولكنه في حالة نزول دائم على قلوب المؤمنين، ونزوله في القلب جديد لا يبلى إلى يوم القيامة، فهو الوحي الدائم؛ ذلك أن العارف الذي فتح قلبه للقرآن، يتلقاه وكأنه أنزل عليه للمرة الأولى مثلما نزل على قلب محمد، ويغدو قادرا على تلمس مستوياته الباطنية دون وسيط. قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ... .
10
فالآيات المنزلة في الآفاق هي الوجه الظاهر للقرآن، والذي يراه الناس فيما خرج عنهم، أما الآيات المنزلة في أنفسهم فهي الوجه الباطن للقرآن، والذي يراه العارفون في ذواتهم كشفا وبيانا، فنزول القرآن على القلوب يكون بحسب استعدادها لتلقيه، وهذا معنى قوله تعالى:
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ... .
11
أي أنزل القرآن من السماء إلى الأرض كما أنزل المطر من الغيم، فاحتملت القلوب من علم القرآن بحسب اتساعها في المعارف وصفاء جواهر النفوس، مثلما تحمل الأودية من سيل المطر بحسب سعتها وجريانها.
يجد التأويل أصوله في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف. فقد نبه الباري عز وجل إلى وجود نوعين من الآيات في كتابه العزيز، بعضها محكم وبعضها متشابه، أي يشتبه على القارئ معناه للوهلة الأولى. فالمحكم واضح للجميع، أما المتشابه فيتطلب التأويل؛ أي التبصر في معانيه الباطنية. قال تعالى:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ... .
12
وهذه الآية يجب أن تقرأ وفق بعض المفسرين من أهل التأويل، على أن الواو الواقعة بين «الله» و«الراسخون في العلم» هي واو العطف وليست استئنافية؛ فالله والراسخون في العلم معه هم الذين يعرفون تأويل الآيات المتشابهات. وهذا الرأي هو الأصوب، وإلا فما معنى امتلاء القرآن بآيات لا يعرف تأويلها إلا الله وحده، وهو الكتاب الذي أنزل هدى للناس كافة؟
لقد أعان الله على فهم القرآن عن طريق «العلم» و«الحكمة» اللذين وهبهما لأنبيائه، وأتاح لمن يشاء من عباده الارتقاء على مدارج العلم وصولا إلى الحكمة التي هي غاية العلم القصوى. قال تعالى:
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
13
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
14
الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان .
15
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
16 ... وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم .
17 ... فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ... .
18
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل .
19 ... قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ... .
20
وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ... .
21
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ... .
22
ولعل في قوله تعالى: ... هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ...
23
أوضح إشارة إلى ارتباط فهم بواطن القرآن بدرجة تحصيل العلم؛ فآياته خالية من الألغاز لدى «الراسخين في العلم» وهم ليسوا بحاجة إلى تأويله لأنفسهم بل إلى العامة من الناس؛ لأنهم يرون آياته في أنفسهم، وإليهم أشار تعالى بقوله:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ...
24
وفي هذا يقول إخوان الصفا في الرسالة 40: «فمن مواهب الله الجزيلة وعطاياه الجميلة لبعض عباده، التي خص بها قوما دون قوم، هي الحكمة البالغة كما ذكر بقوله: ... ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ...
25
يعني به علم القرآن خاصة، وتفسير آياته ومعاني أسراره ... حيث يفسر قوم آيات الله على خلاف ما هو معناه، كما فسروا الاستواء بالجلوس والتمكن على العرش، والرؤية بالنظر إلى الجسم المشار إليه، وبالسمع والبصر فسروا الأعضاء الإلهية، وفسروا الكلام بالنطق والحروف، وبالنزول الانتقال من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وغير ذلك من الآيات التي لا يعرف تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون ويعرفون تأويل آياته وأسراره، ويقولون: آمنا به، كل من عند ربنا، فهذا قول الحكماء الربانيين والعلماء المتفلسفين» (40: 3، 344).
وقد عني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
منذ بداية الدعوة بشرح وتفسير آيات القرآن لأصحابه. وهم القرشيون الذين نزل القرآن بلغتهم ولهجتهم، وما عرفوا قصد الحق من بعض التعابير والآيات، ورأوا فيها رموزا وإشارات تتطلب الرجوع إلى النبي من أجل بيان تأويلها. ولما كان النبي عارفا بكل بواطن القرآن وظواهره، فقد كان يفسر آياته على وجهين، الأول: ظاهري يتعلق بمستوى فهم العامة، والثاني : باطني يتعلق بمستوى فهم الخاصة. لهذا يروى عنه قوله: «إن للقرآن ظهرا وبطنا، ولبطنه سبعة أبطن.» ولهذا فقد بث في صحابته المقربين تأويلات للكتاب لم يظهرها للعامة. ويروى عن عبد الله بن عباس أنه قال في الآية 12 من سورة الطلاق:
26 «لو فسرت هذه الآية كما سمعتها من رسول الله لرجمتموني.» ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «ورثت من رسول الله علمين، الأول: بثثته فيكم، والثاني: لو بثثته لقطع مني هذا البلعوم.» وقال ابن عباس: «لو فسرته لكنت فيكم الكافر المرجوم.»
وقد بقي هذا العلم الباطني متوارثا في الخاصة من الأجيال الأولى للمسلمين، يدارونه ويحجبونه إلا على من هو أهل له. وفي هذا يقول الإمام الشيعي السادس جعفر الصادق، مقتبسا عن الإمام علي، كرم الله وجهه: «إن ها هنا - وضرب على صدره بيده - لعلوما جمة لو وجدت لها حملة.» ويروى عن ابنه موسى الكاظم، الإمام السابع لدى الاثني عشرية، بيتان من الشعر تتداولهما حلقات الصوفية إلى يومنا هذا:
يا رب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
هذا الموقف المزدوج للرسول
صلى الله عليه وسلم
في نقله لمضامين القرآن، يفسره محيي الدين بن عربي بازدواجية «النبوة» و«الولاية» في شخصه، أو ازدواجية «الشريعة» و«الحقيقة». فالنبوة مختصة بالظاهر، والولاية مختصة بالباطن؛ ولكن للولاية الأولوية على النبوة بسبب أولوية الباطن على الظاهر؛ والنبوة تتضمن الولاية، ولكن الولاية لا تتضمن النبوة. فكل نبي ولي، ولكن ليس كل ولي نبيا؛ وسلسلتا النبوة والولاية ممتدتان منذ أول الأنبياء آدم عليه السلام. فإذا التقتا في شخص معين، يكون هو الرسول المبعوث في أمته، وإذا افترقتا يكون هو الولي العارف العالم القادر على فهم الشريعة وباطن الشريعة. وهؤلاء هم ورثة الأنبياء القادرون بما وهبهم الله بما حصلوا من علم على نشر الحقيقة وتبيانها للناس على قدر استيعاب عقولهم ودرجاتهم في المعرفة. ولهذا قال
صلى الله عليه وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء». وإذا كانت سلسلة الأنبياء قد انقطعت بالبعثة المحمدية، فإن سلسلة الأولياء مستمرة إلى يوم القيامة؛ لأن الباطن لا يتوقف عن التفتح باستمرار.
فإذا كان القرآن كلام الله، فإن هذا الكلام لم يرسل لكي تفهمه فئة من الناس ذات معارف عقلية معينة في زمن معين، وإنما لكي يفهمه البشر عبر مراحل عصورهم، وما يحمله تقدم العصور من توسع في الآفاق وزيادة في المعارف. فرسالة النص المقدس ذات وجهين، وجه تاريخي يتبدى في زمان معين ومكان معين، ووجه آخر يسمو على التاريخ وتقلباته ليتبدى جديدا أبدا. والوسيلة المثلى للجمع بين هذين الوجهين وقراءة أحدهما في الآخر، هي متابعة عملية التفسير والتأويل. إن على كل عصر أن يكشف عن بطن من بطون القرآن التي أشار إليها الحديث الشريف، لا يتعارض وظاهره؛ لأن الظاهر أساس الباطن والمدخل إليه؛ والتوكيد على الباطن يجب ألا يقود إلى نسخ الشريعة أو إضعافها، مثلما أن التوكيد على الظاهر يجب ألا يعمينا عن المعاني الروحانية للنص. ذلك أن الشريعة إذا تجردت من بواطنها تغدو مجرد عبادات شكلانية منقطعة عن معانيها الروحانية، والحقيقة إذا فارقت أصولها في الشريعة تؤدي بنا إلى الغلو في التأويل والانقطاع عن جوهر الإسلام.
ولقد أعطى التأويل ثماره في بيئتين فكريتين إسلاميتين هما البيئة الاعتزالية والبيئة الشيعية. ولكن بينما يؤكد المعتزلة على إعمال العقل في القرآن وفي الحديث النبوي الشريف، من أجل الكشف عن بواطن معانيهما ورد المتشابه إلى المحكم، فإن الشيعة ينظرون إلى التأويل على أنه إرث روحي تواتر إلينا من الرسول وآل بيته الكرام، عبر سلسلة الأئمة المتحدرين من صلبه، والذين اعتبروا بمثابة القيم على القرآن، يفسرونه ويوضحون للناس ما خفي من معانيه اعتمادا على علمهم المتوارث. قد تعلم علي على يد رسول الله وكان أقرب الناس إليه، وعنه حمل علم القرآن وتأويله ثم بثه في أولاده، ولهذا قال الرسول: «من كنت مولاه فعلي مولاه.» وقال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها.» وقال: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.» وقال : «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا.» ووصف علي هذه العلاقة الوثيقة التي ربطته بالنبي فقال: «كنت من رسول الله مثل الفصيل [أي صغير الجمل] من أمه، أحذو حذوه.»
هذا العلم المتواتر عن الرسول والمتوارث في سلسلة الأئمة، ينقطع عند الشيعة الاثني عشرية باختفاء الإمام المهدي الثاني عشر؛ لأن الإمامة قد توقفت باختفائه. أما الشيعة الإسماعيليون الذين استقلوا عن التيار الشيعي الرئيس بعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق، فقد تابعوا الإمامة عن طريق نسب ابنه الأكبر إسماعيل، الذي توفي قبل والده بعد أن أوصى له، وذلك في سلسلة غير منقطعة من الأئمة، ووصلوا بمفهوم الإمامة إلى أقصى نتائجه المحتملة، من خلال عقيدة تجعل الإمام في مركز الكون.
كما أثمر التأويل في الحلقات الصوفية والفلسفية، التي حرضها الفكر الشيعي على تثبيت مواقعها في مواجهة الفقهاء وأهل الحرف. وكان إخوان الصفا من بواكير الحلقات الفلسفية التي أسست لمذهب إسلامي كوني يقوم على التأويل والتفسير الدينامي للكتاب. والإخوان على تأثرهم بالاعتزال، وبالبيئة الشيعية التي صدروا عنها، إلا أنهم مستقلون عن الشيعة وعن المعتزلة وبقية المذاهب الإسلامية، ويتسم مذهبهم بالأصالة على الرغم من أن كل التيارات الفكرية والروحانية لعصرهم قد صبت فيه ورفدته. وقد مارس تأثيرا في الفلسفة الإسلامية التي بلغت طور النضج بعده، كما مارس تأثيرا على المذاهب الإسلامية التي تفرعت عن المذهب الشيعي، ولا سيما الإسماعيلية التي قامت فلسفتها السامقة على قاعدة مكينة من فكر إخوان الصفاء.
مقدمة
إخوان الصفاء وخلان الوفاء، جمعية سرية تأسست على الأغلب في مدينة البصرة حاضرة الثقافة الإسلامية، في زمن ما من النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وتركت لنا ميراثا فكريا وروحيا متميزا، بقيت آثاره فاعلة في الثقافة العربية عبر عصورها، يتمثل في اثنتين وخمسين رسالة لم يذكر مؤلفوها أسماءهم، تستغرق في الطبعات الحديثة نحو ألفين وخمسمائة صفحة، تبحث في شتى معارف عصرهم من فلسفة وعلوم وإلهيات، وتهدف إلى التأسيس لمذهب إسلامي ذي طابع كوني ، يستغرق المذاهب كلها ويوحد بينها. نقرأ في الرسالة 45، على سبيل المثال: «وبالجملة، ينبغي لإخواننا أيدهم الله تعالى، أن لا يعادوا علما من العلوم أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا لمذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعا.» وغايتهم من ذلك كله هي فهم الشرط الإنساني والعمل بما يوجبه هذا الفهم، من أجل حياة عقلية ونفسية وروحية متوازنة في هذا العالم، تعد الإنسان إلى الخلود الروحي في العالم الآخر.
يلف الغموض نشأة هذه الجماعة وتنظيمها وعدد أعضائها، على الرغم من أنها نشطت في عصر حكم الأسرة البويهية في بغداد، وهي فترة موثقة لنا تمام التوثيق. وقد تضاربت فيها أقوال القدماء وتباينت الآراء، ومعظمها متأخر عن عصر الإخوان، وذلك عائد إلى الطابع السري للجماعة ولجوئها إلى التقية والستر، على انتشارها الواسع في جميع أرجاء العالم الإسلامي. وفي الحقيقة، فإنه لا يتوفر لنا إلا خبر تاريخي واحد يمكن الركون إليه، جاءنا عن المؤلف أبو حيان التوحيدي المعاصر للإخوان، وعلى وجه التحديد لمن ألف الرسائل منهم. فقد أورد التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» وفي كتابه الآخر «المقابسات» هذه الحوارية التي جرت بينه وبين ابن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي، نحو عام 372ه على الأرجح:
قال الوزير للتوحيدي: إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولا يريبني، ومذهبا لا عهد لي به، وكناية عما لا أحقه، وإشارة إلى ما لا يتوضح شيء منه. يذكر الحروف ويذكر اللفظ، ويزعم أن الباء لم تنقط من تحت واحدة إلا لسبب، والتاء لم تنقط من فوق اثنتين إلا لعلة، والألف لم تمد إلا لغرض، وأشباه هذا. فما حديثه؟ وما شأنه؟ وما دخلته؟ وما خبرته؟ قد بلغني أنك كنت تغشاه وتجلس إليه وتكثر وتورق له ...
فقال التوحيدي: أيها الوزير، إنك كنت تعرفه قبلي قديما وحديثا بالتربية والاختبار والاستخدام، وله منك الأخوة القديمة والنسبة المعروفة.
قال الوزير: دع هذا وصفه لي.
قال التوحيدي: هناك ذكاء غالب، وذهن وقاد، ويقظة حاضرة، وسوانح متناحرة، ومتسع في فنون النظم والنثر ... وتبصر في الآراء والديانات، وتصرف في كل فن ...
قال الوزير: فعلى هذا ما مذهبه؟
قال التوحيدي: لا ينسب لشيء ولا يعرف برهط، لجيشانه بكل شيء، وغليانه في كل باب ... وقد أقام بالبصرة زمانا طويلا، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم: أبو سليمان محمد بن معشر البستي ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوقي، وغيرهم. فصحبهم وخدمهم. وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته. وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة ... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال. وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها، وأفردوا لها فهرسا، وسموها رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ولقنوها للناس، وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل وطلب رضوانه.
تعطينا هذه المحاورة معلومات لا بأس بها عن جماعة الإخوان. فقد جرت، كما قلنا، نحو عام 372ه، وهو العام الذي تولى فيه ابن سعدان الوزارة في خدمة البويهيين الفرس، الذين حكموا إلى جانب بني العباس من عام 334 إلى عام 447ه. ومن صيغة الماضي التي استخدمها التوحيدي في وصف زيد بن رفاعة، وكون الرسائل مبثوثة في الناس في فترات سابقة على المحاورة، نستدل على أن زمن تأليف الرسائل ربما يعود إلى أواسط القرن الرابع، في وقت كان فيه أبو حيان شابا يجلس إلى زيد ويورق له، أي ينسخ له كتبه. فإذا كانت الرسائل قد وضعت في هذا الزمن فعلا، وهي زبدة فكر الإخوان ولا يعرف لهم غيرها، فإن التنظيم السري لا بد وأن يكون قد تشكل قبل هذا الزمن، وربما في أوائل القرن الثالث أو قبل ذلك، وكان يعتمد في دعاوته على مجموعة من التعاليم الغنوصية العرفانية مبثوثة في مرجع أكثر اختصارا من الرسائل، تتحدث عن الأصل السماوي للنفس الإنسانية، وهبوطها إلى عالم المادة، والوسائل العرفانية الكفيلة بتحريرها وعودتها إلى مصدرها، وهذه هي المحاور الرئيسة التي قامت الرسائل بعد ذلك بتطويرها، وتقديمها في إطار موسوعي أشمل احتوى على كل المعارف المتاحة لذلك العصر.
وتقدم لنا الرسائل نفسها إشارات تدل على زمن تأليفها. في معرض نقدهم لعقيدة الإمام الغائب عند الشيعة الاثني عشرية، يقولون في الرسالة 42: «ومن الآراء الفاسدة والاعتقادات المؤلمة لمعتقديها رأي ... من يرى ويعتقد أن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين. واعلم أن صاحب هذا الرأي يبقى طول عمره، منتظرا لخروج إمامه، متمنيا لمجيئه، مستعجلا لظهوره، ثم يفني عمره ويموت بحسرة وغصة لا يرى إمامه، ولا يعرف شخصه من هو» (42: 3، 532). فإذا عرفنا أن الإمام المهدي قد اختفى في سن صغيرة نحو عام 265ه، وأضفنا إلى ذلك الفترة الزمنية اللازمة لترسخ هذه العقيدة بعد مرور الوقت الكافي لوفاة الإمام، لوصلنا إلى أواسط القرن الرابع، وهذا ما يتطابق مع ما استنتجناه من المحاورة.
تشير المحاورة بشكل مباشر إلى المقر الرئيس للجماعة، وهو البصرة، حيث التقى زيد بن رفاعة بجماعة جامعة لأصناف العلم، فصحبهم وخدمهم. كما تذكر من أعضائها الرئيسين إلى جانب زيد أربعة؛ هم: المقدسي، والزنجاني، والمهرجاني، والعوقي، وجميع هؤلاء لم يكونوا من الشخصيات الفكرية البارزة في ذلك العصر، والمؤلفات التي تعزى إلى بعضهم لم تكن بمستوى ووزن الرسائل. وعلى الرغم من أن كل الباحثين يعزون تأليف الرسائل إلى زيد بن رفاعة وهؤلاء الأربعة، إلا أنني أرجح أن يكون هؤلاء الأربعة هم أصحاب الرسائل من دون زيد «الذي صحبهم وخدمهم» على حد تعبير التوحيدي، ويبدو أنه كان أصغر منهم سنا. وإني أستند في هذا الترجيح إلى ما للرقم الرباعي من أهمية في فكر الإخوان، فأصل الأعداد كلها هو من الواحد إلى الأربعة، وعدد مراتب الوجود أربعة، وعدد أقسام رسائلهم أربعة، ويقوم تنظيمهم على الرقم أربعة. فعلى قمة الهرم يتربع أربعة أشخاص هم بمثابة القيادة العليا، وهؤلاء الأربعة منتقون من أربعين، والأربعون منتقون من أربعمائة، والأربعمائة منتقون من أربعة آلاف، ووراء الأربعة آلاف عدد لا يحدده النص من «الأنصار» الذين يدعونهم بالتائبين المخلصين (الرسالة التاسعة).
وتدلنا المحاورة على السمة العامرة لمذهب الإخوان الذي يعتمد على التوفيق بين الدين وفلسفات العصر وعلومه، حيث قال التوحيدي: «وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة ... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال.» وهناك تتمة لما أوردناه من المحاورة تضيء بعض جوانب هذه المسألة. فقد سأل الوزير أبا حيان التوحيدي عن المقدسي الذي يبدو أنه كان الأبرز بين الأربعة، وعن رأيه في الشريعة والفلسفة، فروى التوحيدي عنه قوله: «الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء. والأنبياء يطببون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فيحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلا. فبين مدبر المريض وبين مدبر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف؛ لأن غاية تدبير المريض أن ينتقل به إلى الصحة ... وغاية تدبير الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة قد أفاده كسب الفضائل وفرغه لها وعره لاقتنائها؛ وصاحب هذه الحال فائز بالسعادة العظمى وقد صار مستحقا للحياة الإلهية، والحياة الإلهية هي الديمومة والخلود. وإن كسب الفضائل من يبرؤ من المرض بطب صاحبه أيضا، فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل؛ لأن إحداهما تقليدية والأخرى برانية، وهذه مظنونة وهذه مستيقنة، وهذه روحانية وهذه جسمانية، وهذه دهرية وهذه زمانية.»
وفي حديث التوحيدي تلميحات صائبة إلى روحانية مذهب الإخوان، وجنوحهم إلى السلم في نشر مذهبهم الذي يخلو من المطامح الدنيوية والسياسية، واعتناقهم لمثل اجتماعية عليا، والطابع الأخوي لتنظيمهم، عندما قال: «وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة.» فرسالتهم على ما نجد في ثنايا الرسائل أخلاقية بالدرجة الأولى، تحث على تهذيب النفس وتطهيرها من الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة المؤلمة لأصحابها، والارتقاء بها فوق عالم المادة الذي يعتبرونه سجنا للنفوس الإنسانية. ولكن هذه السمة الخلاصية لمذهبهم لم تكن تعني انسحاب الفرد من العالم والانكفاء على نفسه من أجل تدبير خلاصها؛ لأن على الفرد في سعيه لخلاصه الفردي أن يساعد النفوس الأخرى على الخلاص أيضا، وذلك عن طريق نشاط جمعي واسع تقوم به جماعة الإخوان، التي جعلت من نفسها نموذجا للمجتمع الجديد المنشود الذي تحث تعاليمهم على بنائه. وقد وجهوا النقد اللاذع إلى الفساد السياسي والاجتماعي السائد في زمنهم، والتدهور الأخلاقي الذي يسم العلاقات الاجتماعية، وشخصوا أمراض المجتمع، وأشاروا إلى طرائق الإصلاح.
أما عن جدة هذا المذهب، وعدم انتمائه إلى أحد المذاهب الإسلامية المعروفة من شيعة أو معتزلة أو إسماعيلية أو قرمطية، فنجده في قول التوحيدي: إن زيدا ورفاقه «قد وضعوا فيما بينهم مذهبا»، ولم ينسبهم إلى أحد. ولو كان على دراية بصلتهم بإحدى الجماعات السياسية أو الفكرية أو الدينية، لما تردد في ذكر ذلك. وهذا الرأي الذي يصدر عن شخصية مرموقة عاصرت إخوان الصفاء، وعرفت بعضا من أعضائها البارزين، هو أكثر مصداقية من آراء بعض المؤلفين الإسماعيليين المتأخرين على إخوان الصفاء بنحو قرنين أو أكثر، والذين يؤكدون انتماء الإخوان إلى الإسماعيلية. وهذه مسألة سوف نتعرض لها في حينها عندما نتحدث عن «إسلام إخوان الصفاء» في أحد الفصول القادمة. وأكتفي هنا بالقول: إن فكرة الإمامة، وهي حجر الرحى في الفكر الشيعي عامة والفكر الإسماعيلي خاصة، لم تكن موضع توكيد لدى الإخوان، وهم في أكثر من موضع في رسائلهم يستبعدونها من مذهبهم. ومن ذلك قولهم في الرسالة 47: «واعلم أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة، فليس يحتاجون إلى رئيس يرأسهم ويأمرهم وينهاهم ويزجرهم ويحكم عليهم؛ لأن العقل والقدرة لواضع الناموس يقومان مقام الرئيس الإمام. فهلم بنا أيها الأخ أن نقتدي بسنة الشريعة ونجعلها إماما لنا» (47: 4، 137) وفي الحقيقة، فإن أي تشابه بين فكر الإخوان وفكر فلاسفة الإسماعيلية المتأخرين عليهم، إنما يعكس تأثير الإخوان في الإسماعيلية وليس العكس، وأثناء القرن الرابع الهجري لا نجد أي أثر فكري إسماعيلي بارز كان يمكن له أن يرفد فكر الإخوان.
وهنالك إشكالية في حديث التوحيدي تتعلق بعدد الرسائل، فهو يقول: إنهم قد صنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها. ولكننا نجد أن عدد الرسائل في فهارس المخطوطات التي وصلت إلينا هو اثنتان وخمسون رسالة، على الرغم من أن الإخوان يذكرون في ثنايا الرسائل تارة أنها اثنتان وخمسون وتارة أخرى أنها واحد وخمسون، وفي مطلع رسالتهم الثانية والخمسين وفق الفهرست يقولون: «وهذه هي آخر الرسائل من القسم الرابع، وهي الحادية والخمسون.» كما وأنهم يشيرون إلى تصنيفهم لرسالة إضافية دعوها بالرسالة الجامعة، واعتبروها بمثابة تلخيص للرسائل، من أجل إتاحة الفرصة لمن لم يطلع على الرسائل كلها وفاته بعضها، لربط ما فاته بما تحصل لديه. فما هو عدد الرسائل بالضبط؟ في الحقيقة نحن لا نملك سوى الالتزام بالعدد 52 الوارد في فهرست الرسائل، وهذا ما فعلته في إشارتي إلى مراجع المقتبسات، حيث اعتبرت الرسالة الثانية والخمسين هي الرسالة الأخيرة. أما عن الرقم 51، فيبدو أن الإخوان بعد انتهائهم من كتابة الرسائل، قد بثوها في اثنين وخمسين رسالة، وفيما بعد عندما وضعوا الرسالة الجامعة في وقت لاحق على نشر الرسائل، أرادوا الحفاظ على الرقم 52 وهو رقم يحمل دلالة رمزية، قاموا بضم رسالتين إلى بعضهما في رسالة واحدة، وهما على الأغلب الرسالة الأولى من القسم الثالث المعنونة «في المبادئ العقلية على رأي الفيثاغوريين»، والرسالة التي تليها والمعنونة «في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء»، وجعلوا العنوان المشترك لهما «في المبادئ العقلية». وأما عن الرقم خمسين الذي ذكره التوحيدي، ففي ذلك أكثر من تفسير؛ فإما أن التوحيدي أورد رقما تقريبيا لم يتوخ فيه الدقة، وإما أن ما وصله من الرسائل لم يتجاوز الخمسين، وإما أن الإخوان في ذلك الوقت لم يكونوا قد بثوا الرسالتين الأخيرتين في الوراقين ولم يكن متداولا منها إلا خمسون.
على أنني، في الحديث عن عدد رسائل إخوان الصفاء، أود أن أثير مسألة قد لا نستطيع فيها الوصول إلى قول فصل على ضوء معلوماتنا الحالية؛ وهي انتماء الرسالة الجامعة إلى الرسائل الأصلية للإخوان، وكون مؤلفي الرسائل هم فعلا واضعوها. إن القراءة المدققة لهذه الرسالة لا يمكن إلا أن تقود إلى ملاحظة اختلافها عن رسائل الإخوان، فهي غامضة في تعابيرها، وتفتقد إلى حيوية وسهولة أسلوب الإخوان الذي يتوجه إلى عامة المثقفين لا إلى خاصتهم على الرغم من أن هدفها المعلن هو تلخيص الرسائل والربط بين أفكارها، وتوضيح غاياتها؛ كما أنها تحتوي على عدد من الأفكار التي تتناقض مع ما ورد في الرسائل، وعلى الأخص فيما يتعلق بمسألة الإمامة. ولعل من قرأ الفلسفة الإسماعيلية التي بدأت بواكيرها تتفتح في القرن الخامس الهجري، يستطيع ملاحظة الشبه بين أسلوب فلاسفة الإسماعيلية وأسلوبها. فهل قام بوضعها أحد المفكرين الإسماعيليين ممن أرادوا إعطاء طابع إسماعيلي للرسائل؟ إن الأمر غير مستبعد، لا سيما أن الأفكار الإسماعيلية التي يقال عن وجودها في الرسائل مبثوثة في هذه الرسالة بالذات. أما عن ورود ذكر الرسالة الجامعة في أكثر من موضع في الرسائل، فيمكن تفسيره في هذه الحالة بأن النساخ الذين بدءوا بعد ذلك بنسخ الرسالة الجامعة هذه إلى جانب الرسائل الأصلية، قد حشروا عنوان الرسالة الجامعة إلى جانب بقية العناوين. هذه اللمسة التحريرية على الرسائل تغدو ممكنة إذا عرفنا أن الحلقات الإسماعيلية هي التي صارت معنية فيما بعد بتوريق وتداول الرسائل، بعد زوال تنظيم إخوان الصفاء.
نأتي الآن إلى مضمون الرسائل وموضوعاتها ومنهج الإخوان في صياغتها. فقد تكلم الإخوان في شتى فروع المعارف الفلسفية والعلمية، في زمن لم يكن فيه العلم قد استقل عن الفلسفة. وعلى حد قول التوحيدي فإن الإخوان صنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها. فلقد كتبوا في علم العدد، والمنطق، والفلك، والطبيعيات، والجغرافيا، والبيئة الأرضية، وعلم النفس، والإلهيات، وذلك بأسلوب لا يصعب حتى على قارئ العربية الحديث. يقولون في الرسالة 15: «عملنا في هذه الرسائل، وأوجزنا فيها القول، شبه المدخل والمقدمات، لكيما يقرب على المتعلمين فهمها، ويسهل على المبتدئين النظر فيها.» ويقولون في الرسالة الأولى: إن الفلاسفة «لما بحثوا عن علم النفس بقرائح قلوبهم، واستخرجوا معرفة جوهرها بنتائج عقولهم، دعاهم ذلك إلى تصنيف الكتب الفلسفية. ولكنهم لما طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن فهم معانيها، وثقلت على الباحثين أغراض مصنفيها. ونحن قد أخذنا لب معانيها وأقصى أغراض واضعيها، وأوردناها بأوجز ما يكون من الاختصار في اثنتين وخمسين رسالة.» ولكن الإخوان لم يقصدوا إلى إنتاج موسوعة معرفية، وهي الصفة التي تلصق بالرسائل من قبل معظم الباحثين، بقدر ما قصدوا إلى سعادة الإنسان في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى؛ وهذه السعادة تبتدئ باستلام طريق المعرفة.
وضع الإخوان رسائلهم في أربعة أقسام، يختص كل قسم منها بموضوع من موضوعات الفلسفة. ويبدو أن كل واحد من الأربعة الذين يتربعون على قمة الهرم التنظيمي، كان مسئولا عن إعداد قسم من هذه الأقسام، وهي: (1)
القسم الرياضي، ويدعون رسائله بالرسائل الرياضية التعليمية، وعددها أربع عشرة رسالة. (2)
القسم الطبيعي، ويدعون رسائله بالرسائل الجسمانية الطبيعية، وعددها سبع عشرة رسالة. (3)
قسم النفسانيات والعقليات، ويدعون رسائله النفسانية العقلية، وعددها عشر رسائل. (4)
قسم الآراء والديانات، ويدعون رسائله بالناموسية الإلهية والشرعية الدينية، وعددها إحدى عشرة رسالة.
أما الرسالة الجامعة، فقد أفردوا لها مجلدا خاصا يستغرق في الطبعات الحديثة نحو 350 صفحة. وهم في نهاية فهرستهم للرسائل في مقدمة الكتاب، يصفون ما ورد فيها بأنه مجرد نماذج لما في حوزتهم من الحكمة والمعارف، يعرضونها على طالبي العلم علهم يرغبون في الاطلاع على مزيد مما لديهم. يقولون في مقدمة الرسائل التي تحتوي على الفهرست: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن مثل صاحب هذه الرسائل مع طالبي العلم ومؤثري الحكمة ومن أحب خلاصه، واختار نجاته، كمثل رجل حكيم جواد كريم، له بستان خضر نضر بهج مونق معجب طيب الثمرات، لذيذ الفواكه، عطر الرياحين ... أراد لكرم نفسه وسخاء سجيته أن يدخلها كل مستحق ... فنادى في الناس أن هلموا وادخلوا في هذا البستان، وكلوا من ثمارها ما اشتهيتم، وشموا من رياحينها ما اخترتم ... فلم يجبه أحد ... فرأى الحكيم من الرأي أن وقف على باب البستان، وأخرج مما فيه تحفا، وطرفا ولطفا من كل ثمرة طيبة، وفاكهة لذيذة، وريحان زكي ... فكل من مر به عرضها عليه ... حتى إذا ذاق وشم وفرح به ... واشتاق إلى دخول البستان وتمناه، وقلق إليه ولم يصبر عنه، قال له عند ذلك: ادخل البستان، وكل ما شئت، وشم ما شئت، واختر ما شئت.» (فهرست الرسائل: 1، 45-46).
ولكن على الرغم من هذا التقسيم المنهجي للرسائل وتوزيعها على أربعة أقسام، لكل قسم منها موضوعه الخاص ولكل رسالة فيه موضوعها أيضا، إلا أن الإخوان لم يتقيدوا بهذا التقسيم؛ فهم لا يستنفدون الموضوع الواحد في رسالة واحدة أو قسم بعينه، بل نراهم يعودون إليه في رسائل أخرى وقسم آخر، لمزيد من المعالجة والتطوير، أو قد يكررون حرفيا ما قالوه سابقا دون تغيير؛ الأمر الذي يؤكد تعدد المؤلفين، كما يؤكد ما أوردته سابقا عن وجود مرجع مشترك لهم سابق على كتابة الرسائل. وينجم عن ذلك عدم اقتصار الرسالة الواحدة على موضوعها المعلن في العنوان، واحتوائها على الكثير من الاستطرادات التي تعالج أفكارا خارجة عن السياق. وهذه في رأيي أبرز الصعوبات التي تواجه قارئ الرسائل، الذي لا يستطيع الإحاطة بأي موضوع تعالجه، أو فهم جانب من جوانب مذهب الإخوان إلا بعد الانتهاء من قراءة الرسائل جميعها، وكان على قدر من النباهة يمكنه من ربط شتات الأفكار والتأليف فيما بينها عبر كل مرحلة من المراحل.
يقوم مذهب الإخوان على التوفيق بين الدين والفلسفة، وهو طريق اختطه قبلهم الفيلسوف الكندي، ولكنهم كانوا أول من وصل به إلى أقصى غاياته. فإذا كان على المرء أن يبدأ أولا بالإيمان الذي هو التصديق والإقرار بما أخبر الأنبياء، إلا أن الإنسان العاقل لا يلبث حتى يضع إيمانه هذا موضع التفكير العقلي. وهنا يأتي دور الفلسفة، وطلب المعارف الحقيقية التي تقود إلى تصديق العقل بعد تصديق القلب. نقرأ في الرسالة 46: «ومن أجل هذا دعت الأنبياء أممها إلى الإقرار أولا، ثم طالبوها بالتصديق بعد البيان، ثم حثوهم على طلب المعارف الحقيقية. والدليل على صحة ما قلنا، قوله عز وجل :
الذين يؤمنون بالغيب ، ولم يقل الذين يعلمون بالغيب؛ ثم حثهم على طلب العلم بقوله:
فاعتبروا يا أولي الأبصار ؛ ثم مدحهم قال: ... يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ...
1
فكفى بهذا فرقا بين العلم والإيمان.»
وفي هذا الوقت كان الغرب المسيحي يشهد قيام عملية مشابهة من التوفيق بين الدين والفلسفة، ابتدأت بأول الفلاسفة المسيحيين الكبار وهو كليمنس الإسكندري (ت 215م) الذي اعتبر الفلسفة اليونانية هبة من الله. وقد أسس في الإسكندرية مدرسة لتأهيل معلمي الديانة المسيحية كانت تدرس الفلسفة اليونانية وعلى وجه الخصوص فلسفة أفلاطون. ثم خلفه تلميذه أوريجين (ت 254م) الذي ألف دراسات للكتاب المقدس مبنية على التفكير الفلسفي، واعتبرت بعض كتاباته خارجة عن المعتقد القويم. وقد بلغت هذه الحركة ذروتها مع ظهور كتابات القديس أوغسطين (ت 340م) الذي يعتبر من أبرز الأفلاطونيين المحدثين في الفكر المسيحي، وأكثر المفكرين أثرا في تاريخ الكنيسة. فقد سار أوغسطين على نهج الأفلاطونية المحدثة وصبغه بالصبغة المسيحية، وبفضل مؤلفاته تحولت الفلسفة إلى مصدر من مصادر علم اللاهوت المسيحي؛ ويمكن تشبيه دوره بالدور الذي أداه الفيلسوف الكندي في الثقافة الإسلامية. وفي القرن العاشر الميلادي (الذي نشط فيه إخوان الصفاء) ولدت الفلسفة المدرسية المسيحية (= السكولائية)، عندما عكف رهبان الأديرة على دراسة وترجمة العديد من المخطوطات الفلسفية اليونانية التي كانت محفوظة لديهم، ووضعوا لها الشروح والتفسيرات. وكان من أوائل هؤلاء المدرسين جون سكوت إريجينا، الذي حاول التوفيق بين مفهوم الأفلاطونية عن الفيض الإلهي وتعاليم المسيحية في الخلق والتكوين (ت 877م). وقد بلغت الفلسفة المدرسية عصرها الذهبي في زمن إنسلم أسقف كانتربري (ت 1109م)، الذي أكد بأن على المؤمن أن يجتهد في فهم ما سبق وأن يؤمن به، وذلك اعتمادا على العقل؛
2
وهذا عين ما قال به إخوان الصفاء.
كما يقوم مذهب الإخوان على التوفيق بين الأديان؛ لأن في كل منها جانبا من الحقيقة. يقولون في الرسالة 42: «فاعلم أن الحق في كل دين موجود، وعلى كل لسان جار، وأن الشبهة دخولها على كل إنسان جائز ممكن ، فاجتهد يا أخي أن تبين الحق لكل صاحب دين ومذهب مما هو في يده، أو مما هو متمسك به، وتكشف الشبهة التي دخلت عليه، إن كنت تحسن هذه الصناعة ... ثم اعلم أن الأنبياء، عليهم السلام، لا يختلفون فيما يعتقدون من الدين سرا وعلانية ... وأما الشرائع التي هي أوامر ونواه وأحكام وسنن، فهم فيها مختلفون ... ثم اعلم أن اختلاف الشرائع ليس بضار، إذا كان الدين واحدا» (42: 3، 486-487، 501).
لذلك، فإن التعصب هو آفة العقول يعميها عن رؤية الحقائق: «... ثم اعلم أنه ينبغي لمن يريد أن يعرف حقائق الأشياء أن يبحث أولا عن علل الموجودات وأسباب المخلوقات، وأن يكون له قلب فارغ من الهموم والغموم والأمور الدنيوية ... ويكون غير متعصب لمذهب أو على مذهب؛ لأن العصبية هي الهوى، والهوى يعمي عين العقل، وينهى عن إدراك الحقائق» (40: 3، 376).
من هنا، فإن مذهب الإخوان هو استمرار وتكملة لكل معارف الإنسانية، وعلومهم مأخوذة من أربعة مصادر رئيسية: «أحدها: الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة، من الرياضيات والطبيعيات، والآخر: الكتب المنزلة التي جاءت بها الأنبياء ... والثالث: الكتب الطبيعية، وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك، وأقسام البروج، وحركات الكواكب ومقادير أجرامها، وتصاريف الزمان، واستحالة الأركان، وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات ... والنوع الرابع: الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون» (45: 4، 42).
لقد تأثر الإخوان بالفلسفة اليونانية، ووضعوا فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو في درجة تعادل درجة الأنبياء، واستشهدوا بأقوالهم في سياق واحد مع أقوال عيسى المسيح والرسول الكريم، كما تأثروا بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي نشطت في المشرق العربي في العصر الهيلينستي، لا سيما فيما يتعلق بنظرية الفيض الإلهي التي تفسر كيفية ظهور العالم عن الله؛ وصبت في إنائهم الفكري تيارات قادمة من الهند وفارس، والصابئة المحليين في حران وهم أصحاب عقيدة كوكبية تقدس الأجرام السماوية. ولكنهم خرجوا من ذلك كله بمذهب أصيل أسس لغنوصية إسلامية أعطت ثمارها بعد ذلك في الفكر الصوفي، ولدى الفرق الإسلامية ذات الطابع الفلسفي وهي: الإسماعيلية والنصيرية والدرزية.
الإخوان والغنوصية
الغنوصية مذهب فضفاض لا يقوم على أيديولوجيا دينية متحجرة، أو دوغما مذهبية. وقد بدأت بواكيره في الظهور مع مطالع القرن الأول الميلادي، بتأثير من الأفلاطونية الوسيطة، والتعاليم الهرمزية المنسوبة إلى هرمز المثلث العظمة،
3
وهذه التعاليم مبثوثة في ثماني عشرة رسالة تمثل نوعا من الغنوصية المبكرة، صاغها على ما يبدو عدد من المؤلفين المجهولين الذين ينتمون إلى أخوية روحية تشبه في تنظيمها جماعة إخوان الصفاء. ويظهر في هذه الرسائل الهرمزية عدد من الأفكار المؤسسة للغنوصية، وأهمها مثنوية الإنسان وانقسامه إلى جزء مادي وآخر روحي، حيث يمثل الجسد كل ما هو مادي ومظلم وفان، ويمثل العقل (الذي يتطابق مع الروح) كل ما هو نوراني وحقيقي وخالد، وهو الذي يقود في النهاية إلى الخلاص من سجن المادة، وتجسد فعالياته سعي الروح إلى الانعتاق، ودعوتها إلى العوالم النورانية العليا، إلى الله الذي تدعوه هذه النصوص بالأب الكلي.
جاءت تسمية الغنوصية
Gnosticism
من الكلمة اليونانية غنوص
Gnosis
التي تعني المعرفة الحدسية الباطنية، أو العرفان بمصطلح التصوف الإسلامي؛ فالعارفون هم الغنوصيون
Gnostics
الذين يتواصلون مع الحقيقة الكلية عن طريق بصيرتهم الداخلية، أما الآخرون فهم «غير العارفين» الذين يقفون عند ظاهر التعاليم الدينية، ولا ينفذون إلى حقيقتها الباطنية. فإذا كان الطريق إلى الجنة لدى اليهودية هو الالتزام بأحكام الشريعة، ولدى المسيحية هو الإيمان بيسوع المسيح، فإن الخلاص عند الغنوصية يتأتى عن طريق فعالية روحية داخلية تقود إلى معرفة النفس، وفي أعماق مستوياتها تقود إلى معرفة الله ذوقا وكشفا وإلهاما. هذه المعرفة هي التي تحرر الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى مصدرها حيث كانت قبل الهبوط.
في الفترة المبكرة لانتشار المسيحية في مصر وبلدان الهلال الخصيب، تحولت جماعات غنوصية عديدة إلى المسيحية، ونتج عن ذلك تيار مسيحي غنوصي عبر عن عقيدته عن طريق أدبيات غنوصية غزيرة، بينها أناجيل صنفت بعد ذلك بين الأناجيل المنحولة. وهذه العقيدة لا تركز على الإيمان، بل على العرفان. لقد قال يسوع في الأناجيل الرسمية: «من آمن بي وإن مات فسيحيا.» وقال: «أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي.» أما في الأدبيات الغنوصية فإن المسيح ليس وسيطا للخلاص، بل هو رمز لمعرفة الحقيقة بالكدح الشخصي. في إنجيل توما الغنوصي قال التلاميذ ليسوع: «أرنا المكان الذي أنت فيه لأنه من الضروري أن نبحث عنه.» فقال لهم: «من له أذنان فليسمع. هنالك نور داخل إنسان النور من شأنه أن يضيء العالم، ولكن إذا لم يضئ فلا شيء سوى الظلمة.»
4
مثل هذا القول يوجه ذهن المريد إلى ذاته الحقيقية وخبيئته التي تنطوي على طاقة هائلة، وإلى النور الداخلي الذي يساعده على اكتشاف طريقه بنفسه.
وفي «كتاب توما المنافح»، قال يسوع: «من لم يعرف نفسه لم يعرف شيئا، ولكن من عرف نفسه حقق معرفة بأعماق الكل.» وفي نص حوار المخلص لدينا مثال على طريقة يسوع في تحويل السائل إلى نفسه ليجد عندها الجواب. فقد سأله أحد التلاميذ أن يريهم مكان الحياة حيث النور النقي، فأجاب يسوع: «من عرف نفسه منكم فقد رآه.» وسأله آخر: «من الذي يبحث ومن الذي يكتشف؟» فأجاب يسوع: «إن من يبحث عن الحقيقة هو الذي يكشف عنها.» وفي نص «بيان الحقيقة» يقول المؤلف: «إن المريد في الواقع هو تلميذ عقله الخاص، وهو الذي يكتشف أن عقله هو أبو الحقيقة ويعرف ما يتوجب عليه معرفته عن طريق التأمل الباطني الصامت.» فيسوع الحي بالنسبة إلى الغنوصيين ليس إلا رمزا لمعرفة الحقيقة.
إن بؤس الشرط الإنساني يعود إلى الجهل لا إلى الخطيئة الأصلية؛ فالبشر في هذه الحياة هم في حالة نسيان وغفلة وعدم إحساس بذواتهم الحقيقية. وهذا ما يدعوه إخوان الصفاء عبر رسائلهم بنوم الغفلة ورقدة الجهالة. يقول المعلم فالينتينوس في «إنجيل الحقيقة»: «إن الوجود أشبه بالكابوس؛ فالنائم يرى أحيانا أنه يسقط من جبل، أو تطارده الوحوش المفترسة، أو يلاحقه قاتل، أو يطير في الهواء بغير جناح؛ ولكنه حين يستيقظ من نومه يتلاشى كل ذلك. وهذا هو حال أهل العرفان الذين تخلصوا من جهلهم مثلما يتخلص النائم من كابوسه، تاركين حياة الجهل مثلما يترك من أفاق من نومه لليل أحلامه وكوابيسه، مقبلين على عالم جديد يتلاشى فيه الجهل مثلما يتلاشى الظلام أمام نور الصباح.»
هذا السعي نحو الاستنارة يتطلب الكفاح ضد مقاومة داخلية هي أشبه بالرغبة في البقاء على حال النوم ورفض الصحو. يقول المعلم سيلفانوس في نصه المدعو بالتعاليم: «قم من هذا النوم الذي يثقل عليك. اصح من الغفلة التي تملؤك بالظلام. لماذا تطلب الظلام مع أن النور متاح لك؟ الحكمة تناديك ولكنك تطلب الحماقة. الإنسان الأحمق يتبع طريق الرغبات والشهوات ويغرق في مستنقعها، إنه مثل سفينة جانحة تدفعها الرياح في كل اتجاه، أو مثل حصان جامح بلا فارس يحتاج لجاما هو الرشد. قبل كل شيء اعرف نفسك ... اعتمد على مرشدك الذي هو العقل، ومعلمك الذي هو الرشد ... عش وفق ما يمليه عليك عقلك ... اكتسب القوة لأن العقل القوي ... أنر عقلك ... أشعل النور في داخلك ... اقرع عقل باب ذاتك وامش عليها كما تمشي على درب مستقيم وممهد، فإذا مشيت في هذا الدرب فلن تضل أبدا.»
فالغنوصية معتقد خلاص، وكل مفاهيمها وتصوراتها الكونية تتلخص أخيرا في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق. ولكن الخلاص الغنوصي لن يتأتى عن طريق العبادات الشكلية والطقوس، إذا لم تترافق مع المعرفة وتكون مقدمة له. إن الصراع الرئيس الذي يخوضه الإنسان هو صراع بين المعرفة التي تقود إلى الخلاص، وبين الجهل الذي يبقيه في دورة الميلاد والموت، كلما بلي جسمه وآل إلى الفناء تقمصت روحه جسدا آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية إن هي لم تفلح في الانعتاق. من هنا فإن الحكمة القديمة المنقوشة على جدار معبد دلفي في اليونان، والمؤلفة من كلمتين هما «اعرف نفسك» تتخذ أهمية مركزية في كل النظم القائمة على المعرفة. فلقد استخدمتها الأفلاطونية وفسرتها بمعرفة النفس الإلهية في داخل الإنسان، وكذلك الهرمزية التي نقرأ في إحدى رسائلها: «إن الله الآب الذي جاء منه الإنسان هو نور وحياة، فإذا عرفت أنه نور وحياة وأنك صدرت عنه، فسوف تستعاد إلى الحياة مرة أخرى.»
فعلى عكس الزرادشتية وبقية النظم الدينية التي تبشر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن البعث الذي تبشر به الغنوصية هو بعث الأرواح؛ إنه خلاص من الجسد ومن العالم في آن معا، لا من الخطيئة ومن الذنوب. وإذا كان هنالك من مفهوم عن الخطيئة الأصلية في العقيدة الغنوصية، فإنه سقوط الروح في عالم المادة، وإذا كان هنالك من مفهوم عن التوبة، فإنه وعي الإنسان للقبس الإلهي في داخله، وبحثه عن الوحدة المفقودة. مع انبعاث هذا الوعي تبتدئ الروح رحلة خلاصها وانعتاقها، ويتحول الموت من بوابة تؤدي إلى القبر أو إلى دورة تناسخ جديدة، إلى بوابة تؤدي إلى العالم الروحاني الأعلى.
وفي هذا يقول إخوان الصفاء بأن موت الجسد هو ولادة الروح؛ ويشبهون ملاك الموت بقابلة الأرواح لأنه يستولد النفس (= الروح) من الجسد كما تستولد القابلة الجنين من الرحم. ولهم في ذلك تشبيهات أخرى؛ فالنفوس تشبه الدر بينما تشبه الأجساد الصدف، وما الموت سوى استخراج الدرة من الصدفة ليستأنف بها أمر آخر. والنفوس أيضا تشبه لب الحب إذا نضجت السنابل وآن أوان الحصاد، حيث يرمى بقشورها ويؤخذ لبها ويستأنف بها أمر آخر. (الرسالة 5).
ويقول مؤلف العمل الغنوصي المعروف بعنوان رسالة في البعث: «إن الوجود الإنساني هو نوع من الموت الروحي، أما القيامة فهي لحظة الكشف والاستنارة التي تنقل العارف إلى عالم جديد. وإن من يصحو على هذه الحقيقة يغدو حيا من الناحية الروحية. إن باستطاعتك الانبعاث من عالم الموتى هنا والآن. هل أنت مجرد جسد فان؟ هل تفحصت نفسك ووعيت بأنك قد قمت من بين الأموات.» أي إن من حقق المعرفة قد بعث من الموت قبل أن يموت، وما عليه سوى انتظار واقعة الموت التي تنزع عنه رداءه المادي وتحوله إلى روح منعتقة. وفي هذا يقول إنجيل فيليب الغنوصي: «إن من يعتقد أن عليه أن يموت أولا ثم يبعث فهو على ضلال؛ لأن بمقدوره أن يبعث وهو حي.» لذلك قال يسوع في إنجيل توما الغنوصي: «هذه السماء ستزول، والتي فوقها ستزول، ولكن الذين هم أموات لن يحيوا، والذين هم أحياء لن يموتوا.»
إن إنكار القيامة العامة للموتى في نهاية الزمن يستتبع عند الغنوصيين رفض مفهوم التاريخ الدينامي الذي يسعى إلى نهاية معينة يتخلص عندها العالم من بذور الشر التي زرعها فيه الشيطان، ليغدو كاملا ونقيا كما كان عندما خرج من يد الخالق. فالعالم ليس حسنا وخيرا في أصله، بل هو شر من حيث الأساس، والتاريخ لا يسعى إلى غاية وليس له معنى، وما على الإنسان إلا الهروب من العالم ورفضه بدلا من انتظار النهاية السعيدة؛ لأن الروح الحبيسة في المادة لن تنعتق إلا عن طريق الغنوص، وما الجسد إلا ثوب نرتديه لفترة مؤقتة ثم نتخلص منه إلى الأبد. وهذا ما دعاه الغنوصيين إلى احتقار الجسد واعتبار وظائفه غير مهمة بالنسبة إلى الكائن الروحاني. قال يسوع في إنجيل توما: «إنني أعجب لهذه الثروة العظيمة [= الروح] تقيم في هذا الفقر المدقع [= الجسد].» فالجسد مصدر للألم والمعاناة، وعرضة للمرض والشيخوخة وكل أنواع الأذى. فإذا لم يكن لدينا جسد، من أين تأتينا المشكلات؟
إن الصراع ضد شهوات الجسد يقع في صميم الأخلاق الغنوصية. والغنوصيون يرون أن الأخلاق السائدة في المجتمع هي أخلاق براغماتية لمن يلتزمون بها. فالذي يعمل بقاعدة «لا تسرق» يفعل ذلك لكي لا يتعرض هو نفسه إلى السرقة؛ والذي يعمل بقاعدة «لا تقتل»، يفعل ذلك لكي يحمي نفسه من القتل؛ والذي يعمل بقاعدة «لا تزن» أو «لا تشته امرأة قريبك»، يدفع عن نسائه الرجال الآخرين. إن مثل هذه النواهي الواردة في الشرائع ليست أخلاقا حقيقية، والالتزام بها لا ينشأ عن تلمس فعلي للخير الكامن في النفس الإنسانية، وإنما ينبع عن الخوف. أما الأخلاق الغنوصية فتنشأ عن الحرية التي يحققها الغنوص للإنسان، وعن اكتشافه لمصدر الخير الأسمى في داخله. فالمعرفة تحقق كمال الإنسان والكامل لا يستطيع إلا فعل الخير، لا خوفا ولا طمعا. إن الأب النوراني الأعلى لا يطلب من الإنسان إلا أن يعرفه في داخله، وعندما يعرفه يغدو حرا وكاملا وخيرا. والحر لا يرتكب الخطيئة؛ لأن من يرتكب الخطيئة هو عبد للخطيئة. إن المعرفة تسمو بقلوب المؤمنين وتجعلهم فوق العالم، وهم ليسوا عبيدا إلا للحب.
فيما عدا الغنوصية المانوية التي تحولت على يد معلمها ونبيها ماني إلى ديانة مؤسسية في أواسط القرن الثالث الميلادي، فإن الفكر الغنوصي لم يطور أيديولوجيا دينية موحدة ومنمطة، وبقيت الفرق الغنوصية أشبه بالطرق الصوفية الإسلامية التي يتبع كل منها شيخا ذا نهج خاص، على اشتراك هذه الفرق بالأفكار العامة الرئيسة. ولقد قاد تعدد المدارس الغنوصية وتوكيد معلميها على حرية الإبداع، إلى خلق تيارات فكرية غنوصية لم تنتظم أبدا في كنيسة واحدة ذات هيكلية مراتبية، تفرض عقيدة يعد الإخلال بواحد من بنودها هرطقة وخروجها عن الإيمان القويم. هذه التيارات لم تتصارع ولم يستبعد بعضها بعضا كما فعلت الفرق المسيحية أو الإسلامية من بعدها، ولم يعتبر أي منها نفسه بمثابة القيم الوحيد على الإيمان الغنوصي، بل تعاونت وأغنت بعضها بعضا، ووجدت في التنوع إثراء لفكرها المشترك. من هنا فإن الغنوصية لم تعتمد نصوصا مقدسة بعينها، ونظرت إلى نصوصها باعتبارها مقاربات للحقيقة الكلية الخافية، التي لا يمكن إدراكها إلا عن طريق تنويعات رمزية تعين المريد في تجربته الروحية الخاصة.
هذه هي الخطوط العامة للمذهب الغنوصي، عرضتها باختصار لا يفي هذا الفكر حقه ولا يتعرض لكل جوانبه، وذلك لغرض التقديم لفكر إخوان الصفاء الذي رأيت فيه تنويعا على الفكر الغنوصي ومدخلا إلى الغنوصية الإسلامية. وكما سنرى عبر فصول هذا الكتاب، فإن مذهب الإخوان يقوم على عدد من الأفكار الغنوصية الأساسية، وأهمها: (1)
إن الروح الإنسانية، أو النفس كما يفضلون تسميتها، هي شرارة من النور الإلهي الأسمى تم احتباسها في الجسد المادي. وبمصطلح الإخوان المستمد من نظريتهم في الخلق والتكوين، فإن النفس الجزئية التي تسكن الجسد الإنساني هي قوة منبعثة وفائضة عن النفس الكلية التي هي فيض فائض من العقل الكلي، الذي فاض بدوره عن الذات الإلهية. وقد أهبطت هذه النفس الجزئية إلى مركز العالم المادي، وهو الأرض، واتحدت بالأجسام الجزئية. (2)
ويتبع ذلك أن الإنسان عبارة عن جملة مجموعة من جوهرين متباينين: جسد جسماني، ونفس روحانية. فالصفات المختصة بالجسد بمجرده ، هي أنه جوهر مادي طبيعي، وهو منفسد ومتغير ومستحيل بعد الموت إلى العناصر المادية التي تكون منها. أما الصفات المختصة بالنفس بمجردها، فهي أنها جوهرة روحانية، سماوية، نورانية، حية بذاتها، فعالة في الجسد ومستعملة له إلى وقت معلوم، ثم إنها تاركة له وراجعة إلى عنصرها ومبدئها. (3)
إن فكاك النفس من أسر العالم المادي وسجن الجسد لن يتأتى لها إلا بمعرفتها لأصلها، وصحوها من حالة الجهل والنسيان التي آلت إليها عقب ارتباطها بالجسد، والتي يدعوها الإخوان بنوم الغفلة ورقدة الجهالة. (4)
إن النفس العارفة ترتقي عبر المراتب الروحية صعودا إلى أعلى رتبة إنسانية تهيئها للانعتاق النهائي بعد الموت. ولكن الانعتاق الحقيقي، يتحقق لها قبل ذلك في لحظة الصحو والانتباه التي تكشف البصيرة. فالبعث، على ما يقول الإخوان، هو انتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، والقيامة هي قيامة النفس من قبرها وهو الجسد، أما الجسد فيسقط ولا يقوم أبدا. (5)
إن النفوس العارفة التي فارقت أجسادها بالموت، لن ترد إليها إثر قيامة عامة للأموات، وإنما تبقى سعيدة ملتذة حرة في عالم الأفلاك، أما النفوس غير العارفة فتبقى بعد مفارقة أجسادها حبيسة في العالم المادي الأسفل. فهاتان هما الجنة والنار اللتان تدومان ما دامت السماء والأرض، فإذا حان وقت دمار العالم انسحبت منه النفس الكلية فبطلت حركته وآل إلى الفناء، وحشرت النفوس الجزئية أي اجتمعت بالنفس الكلية واتحدت معها، والنفس الكلية تلتحق بالعقل الكلي الذي يلتحق بباريه عز وجل. (6)
إن المهمة الملقاة على عاتق الإنسان الذي انفتحت بصيرته على الحقائق هي الكدح في سبيل تنقية نفسه وتطهيرها من أجل تحضيرها للانعتاق، وفي الوقت نفسه مد يد العون إلى النفوس الجاهلة والأخذ بيدها على طريق المعرفة. وهو إذ يبدأ بفهم الشريعة وتطبيقها والالتزام بما ورد فيها من أوامر ونواه، عليه أن يدرك أن الشريعة وحدها لا تحقق الانعتاق، وأنه لا بد من اقترانها بالكدح المعرفي الذي يحول النفس الغافلة إلى نفس منتبهة.
على أن الإخوان يختلفون مع الغنوصية التقليدية في أكثر من نظرة وممارسة. فالعالم عند الغنوصيين شر كله ولا سبيل إلى إصلاحه؛ لأنه من صنع إله التوراة الذي يقرنونه بالشيطان، لا من صنع الله الحق، الأب النوراني الأعلى خالق العوالم الروحانية التي تسمو على العالم المادي. وقد رأف الله بالبشر وأرسل إليهم ابنه المسيح من أجل تخليص أرواحهم التي تنتمي إلى العوالم الروحانية العليا. من هنا يأتي رفض الغنوصية للعالم ومحاولة الانسحاب منه. وبما أن الجسد ينتمي إلى العالم المادي علينا أن نرفضه أيضا ونتنكر لشهواته ورغباته، حتى إن بعض الفرق الغنوصية قد شجعت على ترك الزواج والإنجاب والعلاقات الجنسية. أما الإخوان فلا يرون أن العالم شر بطبيعته لأنه من صنع الله، بل هو ناقص، ونقصه ناجم عن كونه الحلقة الأخيرة من سلسلة الفيض الإلهي، حيث قصرت كل حلقة من هذه السلسلة عن اللحوق بسابقتها وعجزت عن التماثل معها، وصولا إلى الحلقة المادية الدنيا التي تلي فلك القمر، وهي أكثر الحلقات نقصا وعجزا. ولكن هذا العالم المادي الأدنى على نقصه وكونه سجنا للنفوس الهابطة، إلا أنه قدم لها في الوقت نفسه فرصة للانفلات من عقاله عن طريق المعرفة. والإخوان يشبهون المدة التي تقضيها النفس الجزئية في العالم بتلك المدة التي يقضيها الجنين في الرحم؛ فكما أن الجنين لا يستطيع الانتفاع بالحياة إلا بعد بقائه المدة الكافية في الرحم لاستكمال الخلقة وتتميم الأعضاء، كذلك هو حال الإنسان الذي يتوجب عليه قضاء المدة اللازمة في هذا العالم من أجل التعلم والتبصر والارتقاء، ومن ثم الانتفاع بالحياة الثانية.
وينجم عن ذلك أن الإخوان، على ذمهم للجسد، لا يجدون فيه شرا إلا بالنسبة إلى أولئك الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مجرد جسد، فينغمسون في اللذات وتلبية دواعي الشهوات، غافلين عن نفوسهم وعن معادها ونشأتها الثانية، أما العارفون الذين يدركون مثنوية الجسد والنفس ويعون العلاقة الجدلية بينهما، فإنهم في موقع السادة لأجسادهم لا في موقع العبيد، ويتحول الجسد عندهم، بما فيه من أعضاء ووظائف نفسية وعصبية ، إلى أداة للمعرفة المنجية. فالجسد على ما يكرر الإخوان هو الصراط المستقيم الذي تجوز عليه النفس لتصل إلى جنات الخلد. والنفوس الجزئية: «إنما ربطت بأجسادها التي هي أجساد جزئية، كيما تكمل فضائلها وتخرج كل ما في القوة والإمكان من الفضائل والخيرات إلى الفعل والظهور، ولا يمكن ذلك إلا بارتباطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها» (الرسالة 9).
فمذهب الإخوان، على عكس الغنوصية التقليدية، مذهب تفاؤلي؛ وهم إذ يدركون ما في العالم من قصور ونقص، يؤمنون بالقدرة على إصلاحه. وهم ينطلقون من قاعدة نقدية واسعة للمجتمع ومؤسساته وللأخلاق السائدة، من أجل تحقيق هذا الإصلاح المنشود.
كما تختلف غنوصية الإخوان في وسائل وأساليب تحقيق المعرفة. فبينما تركز الغنوصية التقليدية على المعرفة الصوفية التي يحققها التأمل الباطني في معزل عن العالم ومؤثراته، فإن الإخوان يرون أن الثمرة الأخيرة للمعرفة، وهي معرفة النفس ومعرفة الله، لن تتأتى قبل معرفة العالم ومجرياته، ومعرفة الجسد الإنساني بجميع وظائفه؛ لأنه مسكن النفس ووسيلتها إلى الانعتاق. نقرأ في الرسالة السابعة: «إن الإنسان لما كان جملة من جسد جسماني ونفس روحانية ... صار من أجل جسده الجسماني مريدا للبقاء في الدنيا متمنيا الخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالبا للدار الآخرة متمنيا البلوغ إليها ... فصارت قنيته أيضا نوعين: جسمانية كالمال ومتاع الدنيا، وروحانية كالعلم والدين. وذلك أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد. وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة وبالدين يصل إليها؛ وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب ينمو الجسد ويزيد ويربو.»
من هنا، فقد ابتدأ الإخوان رسائلهم بأكثر العلوم تجريدا وهو الرياضيات وعلم العدد؛ ثم انتقلوا إلى الهندسة؛ ثم إلى الموسيقى التي عدوها علما رياضيا؛ ثم وجهوا أنظارهم إلى السماء ورسموا خارطة للكون؛ ثم عادوا إلى الغلاف الجوي ورصدوا ظواهره من بروق ورعود وحركة رياح وشهب وما إليها؛ ومنه هبطوا إلى سطح الأرض فدرسوا بيئاتها وتضاريسها ومناخاتها ونباتها وحيوانها، وأدركوا كرويتها فقاسوا قطرها ومحيطها، وحددوا خط الاستواء والمدارين، وخطوط الطول والعرض؛ ثم نزلوا إلى أعماقها وحددوا مركزها واعتبروه مركز الأثقال جميعها مشيرين بذلك بشكل عام إلى قانون الجاذبية، ووصفوا معادنها وتركيبها العمقي؛ وتوقفوا مليا عند جسم الإنسان فوصفوا عملياته البيولوجية ووظائف أعضائه، واكتشفوا الدورة الدموية والسيالات العصبية، ووصفوا آليات السمع والبصر والشم والحس، وتحدثوا عن مراكز الدماغ ووظائفها، والعمليات النفسية من إدراك وإحساس وما إليها، وبسطوا المنطق الأرسطي والبرهان الفلسفي وطبقوا ذلك في مناهجهم البحثية، ووضعوا الأسس الأولى للنظرية الداروينية في ارتقاء الأنواع والتطور بشكل عام. وفي غمار ذلك كانوا يبسطون مذهبهم ويدعون إليه، إثر تعليقهم على كل علم من العلوم وظاهرة من ظواهر الطبيعة والكون.
هذه الذخيرة المعرفية للإخوان قد خطفت أبصار الباحثين الذين تصدوا لدراسة الرسائل، فاعتقدوا أنها مقصودة لذاتها، وأشبعوا فروع المعرفة التي تكلم فيها الإخوان بحثا وتحليلا، ولكنهم لم يولوا مذهب الإخوان ما يستحق من عناية ودراسة، وبعضهم لم يتلمس خيوطه المنسوجة ببطء وعناية عبر الرسائل، سواء بإفصاح أم بتكتم مفصح لمن يريد الغوص إلى بواطن المعاني. وإني إذ أعترف بقيمة ما قدمه هؤلاء جميعا، إلا أنني أختلف معهم في المقاربة، والمنهج، والخلاصات، فيما يتعلق برسالة الإخوان ومذهبهم وغاياتهم.
عن المنهج
كانت قراءتي الأولى للرسائل محبطة، لقد أعطتني الدهشة والفرح، ولكن رسالتها بقيت غائمة ومشتتة. وهذا إحساس يعانيه كل من راود الرسائل عن نفسها في مقاربة أولى. في القراءة الثانية عمدت إلى تفكيك الرسائل، ورصد الأفكار الرئيسية فيها وكيفية تطوير الإخوان لها، ووضعت في ذلك ثبتا طويلا ارتصفت فيه الأفكار والمعلومات دون نظام. في القراءة الثالثة استدركت ما فاتني في القراءة السابقة، ورحت أجمع الأفكار والمعلومات وفق محاور رئيسة استبعدت منها كل تكرار واستطراد ومعالجات إضافية، فتجمعت هذه الحصيلة في سبعة محاور أعطيتها العناوين الآتية: (1)
نظرية التكوين. (2)
صفة العالم. (3)
معرفة النفس. (4)
ارتقاء النفس ونجاتها. (5)
الآخرة والنشأة الثانية. (6)
إسلام إخوان الصفاء. (7)
طريق النجاة المشترك والمسائل التنظيمية.
كانت القراءة الرابعة للمتعة الشخصية، ومن أجل حل بعض المشكلات التي بقيت عالقة بسبب غموض الإخوان في معالجتها، ولجوئهم إلى التكتم، واستخدام التعابير التي تفهم على أكثر من وجه. من هذه المشكلات قصة آدم وحواء ومدلولاتها وتأويلاتها، وقصة إبليس وعصيانه ورهطه من الشياطين الملاعين، وغيرها مما استطعت التوصل إلى تفسير مرض بشأنها. إلا أن ما لم أستطع البت فيه هو مشكلة التقمص؛ فهل كان الإخوان من أتباع هذه العقيدة؟ إن ظاهر القول عند الإخوان يدل على أنهم ليسوا من أهل التقمص، وهم يضعون أصحاب هذه العقيدة بين الفرق التي يختلفون معها فكريا؛ ولكن باطن القول عندهم يدل على اعتناقهم لعقيدة خاصة بهم في التقمص لم يفصحوا عنها تماما، ولم يقدموا لنا المفاتيح التي تعيننا على الولوج إليها.
إن أي محور من هذه المحاور التي عددتها أعلاه، والتي تشكل فصول الكتاب، لم ينجز اعتمادا على تلخيص قمت به لقسم من أقسام الرسائل الرئيسية الأربعة، أو لعدد من الرسائل المتتابعة التي تشكل فيما بينها وحدة متكاملة، فمثل هذا الانتظام غير موجود في الرسائل. بل لقد قمت بجمع ما بعثره الإخوان عبر رسائلهم من أفكار تتعلق بكل محور، ونسقت فيما بينها في نص مطرد، دون أن أعمد إلى إعادة صياغة ما قاله فيها الإخوان، وإنما قدمتها بنصها الذي وردت فيه. فقد يجد القارئ مقطعا من الرسالة الخمسين، يتلوه مقطع من الرسالة الأولى، فمقطع من الرسالة الثانية والعشرين؛ وهكذا دون أن يشعر بأن عشرات أو مئات الصفحات تفصل بين هذه المقاطع في النص الأصلي. ولم أكن أتدخل إلا في الحدود الدنيا، كلما شعرت أن القارئ يحتاج إلى بعض الربط والمساعدة. لقد كان جهدي منصبا على تتبع المذهب أكثر منه على تتبع المعلومات، وعلى رصد الأفكار وكيفية تطويرها أكثر منه على إبراز الذخائر المعرفية للإخوان. أي إنني لم أكن معنيا بكل ما قالوه، وإنما بالغايات الكامنة وراء كل ما قالوه.
لقد أردت أن أخرج رسائل إخوان الصفاء من حلقات الدراسة الأكاديمية، الفلسفية منها خاصة، لأضعها بين أيدي أوسع شريحة ممكنة من القراء، ليطلعوا عليها عن طريق نصوصها ولغتها الأصلية، وبصدق وحرارة أسلوبها، وأقدم لمن تاقت نفسه لقراءتها ولم يجد سبيلا إلى الولوج إليها، مزدلفا سهلا من خلال زبدتها التي استخلصتها في هذا الكتاب، الذي أردت له أن يتخذ شكل «رسالة جامعة عصرية» لرسائل إخوان الصفاء، التي نحتاج اليوم إلى قراءتها أكثر من أي وقت مضى، في زمن تسود فيه الطائفية والمذهبية والتعصب، ويختصر الدين إلى جملة من الشعائر الشكلية المنقطعة عن أصولها الروحانية.
أخيرا أود أن أتقدم بملاحظة ضرورية لمن يريد الرجوع من الباحثين إلى أصل المقتبسات التي أوردتها، وهي أنني اعتمدت طبعة دار صادر، بيروت. وذيلت كل مقتبس بثلاثة أرقام؛ الأول: يشير إلى رقم الرسالة، والثاني: إلى رقم الجزء، والثالث: إلى رقم الصفحة في الجزء المعني، (22: 3، 188). أما فيما يتعلق بالرسالة الجامعة، فقد اعتمدت طبعة منشورات عويدات، بيروت، 1995م. وقد أشرت إليها بالرمز «جا» يليه رقم الصفحة أو الصفحات.
الفصل الأول
نظرية التكوين
تشكل نظرية التكوين المحور الرئيس في مذهب إخوان الصفاء، وعنها تتفرع بقية المحاور، على الرغم من أن الإخوان لم يبسطوها في نص مطرد يشغل حيزا محددا من رسائلهم. ولسوف نعمد فيما يأتي إلى استقصاء هذه النظرية من خلال مقتبسات من رسائلهم توضح بالتدريج نظرية التكوين الصفائية، لنزود القارئ بالمفاتيح الرئيسة التي تعينه على فهم فكر الإخوان، ومتابعته عبر بقية المحاور. ولسوف نبتدئ أولا في استجلاء أفكار الإخوان في طبيعة الألوهة وماهيتها وصفاتها وعلاقتها بالعالم. «اعلم أن ملاك الأمر في معرفة حقائق الأشياء هو في تصور الإنسان حدوث العالم وكيفية إبداع الباري العالم، واختراعه إياه، وكيفية ترتيبه للموجودات، ونظامه للكائنات بما هي عليه الآن، ولم كان ذلك.
ثم اعلم أن كل عاقل إذا سمع كلام العلماء في حدوث العالم، وأقاويل الحكماء في كيفية إبداع الباري تعالى العالم، واختراعه له بعد أن لم يكن، وتفكر فيما قالوه، فإنه يشتهي ويتمنى لو علم كيف صنعه، ومتى عمله، ولم فعل ذلك بعد أن لم يكن قبل. فإن فكر في هذه الثلاثة من المباحث ولم يتصور كيفية ذلك، ولا متى ، ولا لم، لصعوبتها ودقتها، ربما تحير عقله، وتشككت نفسه فيما قالت الحكماء، وارتابت بها وتبلبلت.
ثم اعلم أن العلة في صعوبة التصور لحدوث العالم، وكيفية إبداع الباري تعالى له من غير شيء، هو من أجل العادة في الشاهد أن كل مصنوع فإن صانعه يعمله من هيولى ما، في مكان ما، في زمان ما، بحركات وأدوات. وليس حدوث العالم وصنعته وإبداع الباري له هكذا، بل أخرج من العدم إلى الوجود هذه الأشياء كلها، أعني الهيولى والمكان والزمان والحركات والأدوات والأعراض، فمن أجل هذا لا يتصور كيفية حدوث العالم وإبداعه.
ثم اعلم أن الله تعالى قد علم بأنه يعرض للعقلاء هذه الشكوك والحيرة حيث تفكروا في كيفية حدوث العالم، ولا يتصور بهذه الطريقة لصعوبتها، فجعل له طريقا آخر أسهل من هذه وأقرب، وركزها في نفوسهم كأنها مكتوبة فيها كتابة إلهية، لا يمكن لأحد من العقلاء إنكارها إذا أنصف عقله؛ لأنه يجد صدقها في نفسه شاهدا له بها، وهي كيفية صورة العدد، ومنشؤه من الواحد الذي قبل الاثنين» (40: 3، 344-347).
1 «ثم اعلم أن مسألة الخلاف للذات والصفات هي أيضا من إحدى المسائل الخلافية بين العلماء في الآراء والمذهب. وذلك أن كثرة الظنون والتخيلات العارضة للأفهام، إذا تفكرت النفوس في ماهية الله، وكيفية صفاته اللائقة، فلا تهتدي الظنون ولا تقر الأفهام عن الجولان، ولا تسكن النفوس إليه ولا تطمئن القلوب له حتى يعتقد الإنسان رأيا من الآراء، وتسكن نفسه إليه ويطمئن قلبه به.
فمن الناس من يرى ويعتقد أن الله تعالى شخص من الأشخاص الفاضلة، ذو صفات كثيرة ممدوحة وأفعال كثيرة متغايرة، لا يشبه أحدا من خلقه، ولا يماثله سواه من بريته، وهو منفرد من جميع خلقه في مكان دون مكان. وهذا رأي الجمهور من العامة وكثير من الخواص. ومنهم من يرى ويعتقد أنه في السماء فوق رءوس الخلائق جميعا. ومنهم من يرى أنه فوق العرش في السماوات، وهو مطلع على أهل السماوات والأرض، وينظر إليهم، ويسمع كلامهم، ويعلم ما في ضمائرهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم. واعلم أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للعامة من النساء والصبيان والجهال ، ومن لا يعلم شيئا من العلوم الرياضية والطبيعية والعقلية والإلهية؛ لأنهم إذا اعتقدوا فيه هذا الرأي تيقنوا عند ذلك وجوده، وتحققوا وعلموا وصاياه التي جاءت بها الأنبياء، عليهم السلام، من الأوامر والنواهي ... وكان في ذلك صلاح لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم من الخاص والعام، وليس يضر الله شيء مما اعتقدوه.
ومن الناس طائفة أخرى فوق هؤلاء في العلوم والمعارف ترى بأن هذا الرأي باطل، ولا ينبغي أن يعتقدوا في الله تعالى أنه شخص يحويه مكان، بل هو صورة روحانية سارية في جميع الموجودات، حيثما كان لا يحويه مكان ولا زمان ولا يناله حس ولا تغيير ولا حدثان وهو لا يخفى عليه من أمر خلقه ذرة في الأرضين والسماوات، يعلمها ويراها ويشاهدها في حال وجودها، وكان يعلمها قبل كونها وبعد فنائها.
ومن الناس طائفة أخرى فوق هؤلاء في العلوم والمعارف والعقل ترى وتعتقد أنه ليس بذي صورة؛ لأن الصورة لا تقوم إلا في الهيولى [= المادة]، بل ترى أنه نور بسيط من الأنوار الروحانية
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار .
ومن الناس ممن فوق هؤلاء من العلوم والمعارف والنظر والمشاهد، يرى ويعتقد أنه ليس بشخص ولا صورة بل هوية وحدانية، ذو قوة واحدة وأفعال كثيرة وصنائع عجيبة، لا يعلم أحد من خلقه ما هو، وأين هو، وكيف هو، وهو الفائض منه وجود الموجودات، وهو المظهر صورة الكائنات في الهيولى، المبدع جميع الكيفيات بلا زمان ولا مكان، بل قال كن، فكان، وهو موجود في كل شيء من غير المخالطة، ومع كل شيء من غير الممازجة، كوجود الواحد في كل عدد. كما وصفنا في رسالة المبادئ.
ثم اعلم أن الله تعالى جعل بواجب حكمته، في جبلة النفوس، معرفة هويته طبعا من غير تعلم ولا اكتساب، لتكون تلك المعرفة داعية لها ومؤدية إلى طلب ماهيته ومعرفة آنيته، ولتكون طلبتها في هذه المعارف داعية لها ومؤدية إلى إحكام جميع العلوم والمعارف الإلهية والطبيعية والرياضية والعقلية والحسية، حتى إذا أحكمت [أي النفوس] هذه العلوم والمعارف، عرفته عند ذلك حق معرفته، وسكنت إليه واطمأنت وثبتت معه، ونالت السعادة القصوى التي هي سعادة الآخرة» (42: 3، 514-516).
إن نقطة الانطلاق في أي نظرية عقلية للتكوين هي إثبات حدوث العالم ونفي صفة القدم عنه. من هنا يجادل الإخوان في أكثر من موضع في رسائلهم من يقول بقدم العالم وما ينجم عن ذلك من نفي صانع له. فالعالم محدث، وكل محدث لا بد له من محدث وموجد. ومن جملة ما أوردوه من براهين على حدوث العالم قولهم: «ثم اعلم أن غرضنا من ذكر حركات العالم وحركات أجزائه الكليات والجزئيات وفنون تصاريفها، هو بيان بطلان قول من يقول بقدم العالم، وذلك لأن الحركات المختلفة تدل على اختلافها، والمتحرك والمختلف الأحوال لا يكون قديما؛ لأن القديم هو الذي يكون على حالة واحدة لا يتغير ولا يستحيل ولا يحدث له حال، ولذلك ليس يوجد موجود هذا شأنه إلا الله الواحد الأحد ...
ثم اعلم أن الذين قالوا بقدم العالم ظنوا بأنه ساكن، والساكن لا تختلف أحواله، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا من سكون العالم، كما بينا فيما تقدم بكثرة حركات كلياته وجزئياته ما لا تنكره العقول السليمة: فمنها حركات الكواكب، ودوران الأفلاك، واستحالات الأركان، وتكوين المولدات مما لا خفاء به.
ولعمري إن الفلك المحيط هو جسم كروي محيط بسائر الأشياء والأفلاك، وهو ساكن في مقره لا ينتقل منه، ولكنه متحرك الأجزاء كله. وكل فلك، من الأفلاك المستديرة، والأفلاك الخارجة المراكز، يدور كل واحد حول مركزه الخاص، لا يقر ولا يهدأ طرفة عين» (39: 3، 332). «فإن كان المراد بالقديم أنه قد أتى عليه زمان طويل، فالقول صحيح؛ وإن كان المراد به أنه لم يزل ثابت العين على ما هو عليه الآن، فلا؛ لأن العالم ليس بثابت العين على حالة واحدة طرفة عين، فضلا عن أن يكون لم يزل على ما هو عليه الآن» (14: 1، 447). «واعلم يا أخي بأن الحافظ للعالم على هذه الصورة، هو سرعة حركة الفلك المحيط، والمحرك للفك هو غير الفلك، و[اعلم] أن [في] تسكين الفلك عن الحركة بطلان العالم . وإنما يكون طرفة عين، كما قال عز وجل: ... وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب .
2
واعلم بأنه إذا وقف الفلك عن الدوران، وقفت الكواكب عن مسيرها، والبروج عن طلوعها وغروبها، وعند ذلك تبطل صورة العالم وقوامه، وتقوم القيامة الكبرى» (14: 1، 447-448). «ثم اعلم أن الآراء الفاسدة كثيرة لا يحصى عددها ... فمن ذلك رأي من رأى واعتقد أن العالم قديم لا صانع ولا مدبر له، وإن هذا الرأي مؤلم لنفوس معتقديه، معذب لقلوبهم، وذلك أنه لا يخلو أن يكون صاحب هذا الرأي سعيد أهل الدنيا أو من أشقيائهم؛ فإن كان من سعدائهم فإنه لا يدري من أين له هذا، وما هو فيه، ولا يدري من أعطاه ذلك ليشكر له، ويطلب منه المزيد ويرجو منه خيرا مما أعطي إما من الدنيا وإما في الآخرة. وقد علم يقينا أن الذي فيه من النعمة ورغد العيش لا يدوم له، وأنه مفارقه على رغمه، مع شدة محبته للبقاء فيما هو فيه ... فيعيش طول عمره خائفا من الموت وجلا من الفناء مشفقا من الهلاك، ثم يموت على رغم وحسرة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرا ... وإن كان من أشقيائها فهو أسوأ حالا وأمر عيشا وأشر سيرة من غيره، وذلك أنه يفني عمره كله بجهل وعناء وتعب وشقاء في طلب ما لم يقدر له ... فهو بجهله بربه، يعيش طول عمره مغتما حزينا، ضجرا لما رأى أنه فاته ما وجد غيره، ثم يموت بحسرة وغصة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرا» (42: 3، 520). «فأما من يعتقد خلاف ذلك، وهو يعتقد أن العالم محدث مصنوع بقصد قاصد، وفعل حكيم، فإنه يعرض له عند ذلك خواطر عجيبة، وفكر وروية، واعتبار وبصيرة، وسؤالات طريفة، ومباحث لطيفة عن العلوم الشريفة، ويكون في ذلك النجاة والسبب لانتباه النفس من نوم الغفلة، وتتفتح له عين البصيرة، ويحيا حياة العلماء، ويعيش عيش السعداء في الدنيا والآخرة جميعا» (39: 3، 340-341).
وأيضا: «ثم اعلم أن أحد الآراء الصحيحة ، المنجية لنفوس معتقديها، اعتقاد الموحدين بأن العالم محدث مخترع مطوي في قبضة باريه ، محتاج إليه في بقائه، مفتقر إليه في دوامه، لا يستغني عنه طرفة عين، ولا عن مداد الفيض عليه ساعة فساعة؛ وأنه لو منعه ذلك الفيض والحفظ والإمساك لحظة واحدة، لتهافتت السماوات، وبادت الأفلاك، وتساقطت الكواكب ... ودثر العالم دفعة واحدة بلا زمان ...
واعلم يا أخي أن من يعتقد هذا الرأي، ويتحقق هذا الاعتقاد في أمر السماوات والأرض، فهو في دائم الأوقات يكون متعلق القلب بربه، معتصما بحبله، متوكلا عليه في جميع أحواله، مسندا ظهره إليه في جميع تصرفاته، داعيا له في جميع أوقاته، سائلا منه كل حوائجه، مفوضا إليه سائر أموره؛ فيكون بهذه الأوصاف قربة إلى ربه، وحياة لنفسه» (38: 3، 296-297).
فإذا كان العالم محدثا فلا بد له من محدث، وهنا ندخل في صلب نظرية التكوين الصفائية، حيث يتناوب الإخوان بين الفيثاغورية التي تقوم على علم العدد، والأفلاطونية التي تقول بالفيض. فهم يقربون فكرة نشوء كثرة الموجودات عن الله الواحد من خلال ما وجدوه في علم العدد من نشوء كثرة الأعداد عن الرقم الواحد، الذي هو أصلها ومبتدؤها: «فالواحد بالحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة ولا ينقسم، وكل ما لا ينقسم فهو واحد من تلك الجهة التي بها لا ينقسم ... وأما الكثرة فهي جملة لآحاد؛ وأول الكثرة الاثنان، ثم الثلاثة، ثم الأربعة، ثم الخمسة، وما زاد على ذلك بالغا ما بلغ ... والواحد الذي قبل الاثنين هو أصل العدد ومبدؤه، ومنه ينشأ العدد كله، صحيحه وكسوره، وإليه ينحل راجعا. أما نشوء الصحيح فبالتزايد، وأما الكسور فبالتجزؤ ...
وأما نشوء العدد الكسور من الواحد على هذا المثال الذي أقول: إنه إذا رتب العدد الصحيح على نظمه الطبيعي الذي هو واحد، اثنان، ثلاثة ... عشرة؛ ثم أشير إلى الواحد من كل جملة، فإنه يتبين كيف يكون نشوءه من الواحد، وذلك أنه إذا أشير إلى الواحد من الاثنين، يقال للواحد عند ذلك نصف، وإذا أشير إلى الواحد من جملة ثلاثة فيقال له الثلث ... وأيضا إذا أشير إلى الواحد من جملة الأحد عشر فيقال له جزء من أحد عشر ... وعلى هذا المثال يعتبر سائر الكسور.
إذا تأملت ما ذكرنا من تركيب العدد من الواحد الذي قبل الاثنين، ونشوئه منه، وجدته من أدل الدليل على وحدانية الباري - جل ثناؤه - وكيفية اختراعه الأشياء وإبداعه لها. وذلك أن الواحد الذي قبل الاثنين، وإن كان منه يتصور وجود العدد وتركيبه، فهو لم يتغير عما كان عليه، ولم يتجزأ؛ كذلك الله، عز وجل، وإن كان هو الذي اخترع الأشياء من نور وحدانيته، وأبدعها وأنشأها، وبه قوامها وبقاؤها وتمامها وكمالها، فهو لم يتغير عما كان عليه من الوحدانية قبل اختراعه وإبداعه لها. فقد أنبأناك بما ذكرنا من أن نسبة الباري - جل ثناؤه - من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، وكما أن الواحد أصل العدد ومنشؤه وأوله وآخره، كذلك الله عز وجل هو علة الأشياء وخالقها وأولها وآخرها، وكما أن الواحد لا جزء له ولا مثيل في العدد، فكذلك الله - جل ثناؤه - لا مثل له في خلقه ولا شبه؛ وكما أن الواحد محيط بالعدد كله ويعده، كذلك الله، جل جلاله، عالم بالأشياء وماهيتها» (1: 1، 49-55) ... «وأما قولنا: إن الواحد أصل العدد ومنشؤه فهو أن الواحد إذا رفعته من الوجود ارتفع العدد بارتفاعه، وإذا رفعت العدد من الوجود، لم يرتفع الواحد» (1: 1، 57).
ولكن الباري، جل ثناؤه، لا يباشر الأجسام بنفسه، ولا يتولى الأفعال بذاته. (19: 2، 128)، والعالم ليس صنعة يديه، وإنما أظهره إلى الوجود عبر مراحل وسيطة، وبواسطة عملية الفيض: «واعلم يا أخي أن الباري - جل ثناؤه - أول شيء اخترعه وأبدعه من نور وحدانيته جوهر بسيط يقال له: العقل الفعال، كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار. ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من نور العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين. ثم أنشأ الهيولى الأولى من حركة النفس، كما أنشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة. ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولى ورتبها بتوسط العقل والنفس، كما أنشأ سائر العدد من الأربعة، بإضافة ما قبلها إليها» (1: 1، 54). «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد كله آحاده وعشراته ومئاته وألوفه، أو ما زاد بالغا ما بلغ، فأصلها كلها من الواحد إلى الأربعة، وهي هذه «1، 2، 3، 4». وذلك أن سائر الأعداد كلها من هذه يتركب ... بيان ذلك أنه إذا أضيف واحد إلى الأربعة، كانت خمسة، وإن أضيف اثنان إلى أربعة كانت ستة؛ وإن أضيف ثلاثة إلى أربعة، كانت سبعة؛ وإن أضيف واحد وثلاثة إلى أربعة كانت ثمانية؛ وإن أضيف اثنان وثلاثة إلى أربعة، كانت تسعة، وإن أضيف واحد واثنان وثلاثة إلى أربعة، كانت عشرة. وعلى هذا المثال حكم سائر الأعداد» (1: 1، 53).
وأيضا: «اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أول شيء اخترعه الله - جل ثناؤه - وأوجده جوهر بسيط روحاني في غاية التمام والكمال والفضل، فيه صور جميع الأشياء يسمى العقل الفعال؛ وأن من ذلك الجوهر فاض جوهر آخر يسمى النفس الكلية؛ وانبجس من النفس جوهر آخر يسمى الهيولى الأولى؛ وأن الهيولى الأولى قبلت المقدار الذي هو الطول والعرض والعمق، فصارت بذلك جسما مطلقا وهو الهيولى الثانية.
ثم إن الجسم قبل الشكل الكري، الذي هو أفضل الأشكال، فكان من ذلك عالم الأفلاك والكواكب ما صفا منه ولطف، الأول فالأول من لدن الفلك المحيط إلى منتهى فلك القمر، وهي تسع أكر بعضها في جوف بعض: فأدناها إلى المركز فلك القمر، وأبعدها وأعلاها الفلك المحيط، ويسمى أيضا الفلك الحامل للكل الذي هو ألطف الأفلاك جوهرا وأبسطها جسما، ثم دونه فلك الكواكب الثابتة، ثم دونه فلك زحل، ثم دون فلك المشتري، ثم دونه فلك المريخ، ثم دونه فلك الشمس، ثم دونه فلك الزهرة، ثم دونه فلك عطارد، ثم دونه فلك القمر، ثم دون فلك القمر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، فالأرض هي المركز وهي أغلظ الأجسام جوهرا وأكثفها جرما» (32: 3، 187). (راجع الشكل
2-1
في الفصل الثاني).
بهذا المنهج العقلاني البعيد عن الفكر الأسطوري الذي يميز عادة نظريات التكوين الدينية، يتابع الإخوان رؤيتهم للنشأة الأولى: «ولما ترتبت هذه الأكر بعضها في جوف بعض ... ودارت الأفلاك بأبراجها وكواكبها على الأركان الأربعة، وتعاقب عليها الليل والنهار والشتاء والصيف والحر والبرد، واختلط بعضها ببعض، فامتزج اللطيف منها بالكثيف، والثقيل بالخفيف، والحار بالبارد، والرطب باليابس، تركبت منها على طول الزمان أنواع التراكيب التي هي المعادن والنبات والحيوان. فالمعدن هو كل ما انعقد في باطن الأرض وقعر البحار وجوف الجبال من البخارات المتحللة والدخانات المتصاعدة، والرطوبات المحتقنة في المغارات والأهوية. والترابية عليها أغلب. وأما النبات فهو كل ما نجم على وجه الأرض من العشب والكلأ والحشائش والبقول والزروع والأشجار. والمائية عليها أغلب. وأما الحيوان فهو كل جسم يتحرك ويحس وينتقل من مكان إلى مكان بجثته. والهوائية عليه أغلب.
فالمعادن أشرف تركيبا من الأركان [الأربعة]، والنبات أشرف تركيبا من المعادن، والحيوان أشرف تركيبا من النبات، والإنسان أشرف تركيبا من جميع الحيوان. والنارية عليه أغلب. وقد اجتمع في تركيب الإنسان جميع معاني الموجودات من البسائط والمركبات التي تقدم ذكرها؛ لأن الإنسان مؤلف من جسد غليظ جسماني، ومن نفس بسيطة روحانية» (32: 3، 188).
إن أفضل ما يمكن أن نشبه به فيض الباري عز وجل، هو النور الذي يفيض من عين الشمس بشكل متصل لا ينقطع: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله تعالى لما كان تام الوجود، كامل الفضائل عالما بالكائنات قبل كونها، قادرا على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته لا يجود بها ولا يفيضها. فإذا بواجب الحكمة أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض من عين الشمس النور والضياء، ودام ذلك الفيض منه متصلا متواترا غير منقطع، فيسمى أول ذلك الفيض العقل الفعال، وهو جوهر بسيط روحاني، نور محض، في غاية التمام والكمال والفضائل، وفيه صور جميع الأشياء، كما تكون في فكر العالم صور المعلومات. وفاض من العقل الفعال فيض آخر دونه في الرتبة يسمى العقل المنفعل، وهي النفس الكلية، وهي جوهرة روحانية بسيطة قابلة للصور والفضائل من العقل الفعال على الترتيب والنظام، كما يقبل التلميذ من الأستاذ التعليم. وفاض من النفس أيضا فيض آخر دونها في الرتبة يسمى الهيولى الأولى، وهي جوهرة بسيطة روحانية ، قابلة من النفس الصور والأشكال بالزمان شيئا بعد شيء. فأول صورة قبلتها الهيولى الطول والعرض والعمق، فكانت بذلك جسما مطلقا وهو الهيولى الثانية. ووقف الفيض عند وجود الجسم ولم يفض منه جوهر آخر لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانية، وغلظ جوهره، وبعده عن العلة الأولى.
ولما دام الفيض من الباري تعالى على العقل، ومن العقل على النفس، عطفت النفس على الجسم فصورت فيه الصور والأشكال والأصباغ، لتتمه بالفضائل والمحاسن بحسب ما يمكن قبول الجسم وصفاء جوهره. فأول صورة عملت النفس في الجسم الشكل الكري الذي هو أفضل الأشكال كلها، وحركته بالحركة الدورية التي هي أفضل الحركات، ورتبت بعضها في جوف بعض من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي إحدى عشرة كرة، فصار الكل عالما واحدا، منتظما نظاما كليا واحدا، وصارت الأرض أغلظ الأجسام كلها، وأشدها ظلمة لبعدها من الفلك المحيط، وصار الفلك المحيط ألطف الأجسام كلها وأشدها روحانية، وأشفها نورا، لقربه من الهيولى الأولى التي هي جوهر بسيط معقول. وصارت الهيولى أنقص رتبة من العقل والنفس لبعدها من الباري جل وعز» (32: 3، 196-198).
وأيضا: «لما كانت الموجودات كلها مرتبة بعضها تحت بعض، متعلقة في الوجود بالعلة الأولى الذي هو الباري تعالى كتعلق العدد وترتيبه عن الواحد الذي قبل الاثنين، وكانت النفس أحد الموجودات، وكانت مرتبتها دون العقل وفوق الجسم المطلق، وكان الجسم فارغا من الأشكال والصور والنقوش والحياة، قابلا لها بالطبع؛ وكانت النفس حية بالذات، علامة بالقوة، فعالة بالطبع، ولم يكن من الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن تترك النفس فارغة غير مشغولة بضرب من الحكمة، وأن يكون الجسم، مع قبوله للتمام، عاطلا ناقص الحال؛ ولم يكن للنفس أن تتحكم على الموجودات التي فوق رتبتها والتي هي العقل الفعال، [فقد] عطفت النفس بواجب الحكمة على الجسم المطلق؛ إذ كان دونها في الرتبة، فتحكمت فيه بالتحريك له والشكل والتصاوير والنقوش والأصباغ ليتم الجسم بذلك، وتكمل النفس أيضا بإخراج ما في قوتها من الحكمة والصنائع إلى الفعل والظهور والإظهار ...
فمن أجل هذا ربطت النفس الكلية بالجسم الكلي المطلق الذي هو جملة العالم من أعلى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي سارية في جميع أفلاكه وأركانه ومولداته، ومدبرة لها ومحركة بإذن الله تعالى وتقدس» (29: 3، 36). «ومكنها الله تعالى من ذلك وجعله جسدا لها ... فأقبلت تمثل فيه ما كان ممثلا فيها، وتخرجه من القوة إلى الفعل، ومن المعقول إلى المحسوس، الشيء بعد الشيء» (30: 3، 88). «واعلم يا أخي أن العقل إنما قبل فيض الباري تعالى وفضائله التي هي البقاء والتمام والكمال دفعة واحدة بلا زمان ولا حركة ولا نصب؛ لقربه من الباري - عز وجل - وشدة روحانيته. فأما النفس فإنه لما كان وجودها من الباري - جل ثناؤه - بتوسط العقل، صارت رتبتها دون العقل، وصارت ناقصة في قبول الفضائل، ولأنها أيضا تارة تتوجه نحو العقل لتستمد منه الخير والفضائل، وتارة تقبل على الهيولى لتمدها بذلك الخير والفضائل. فإذا هي توجهت نحو العقل لتستمد منه الخير اشتغلت عن إفادتها الهيولى ذلك الخير، وإذا هي أقبلت على الهيولى لتمدها بذلك الفيض اشتغلت عن العقل وقبول فضائله.
ولما كانت الهيولى ناقصة الرتبة عن تمام فضائل النفس، وغير راغبة في فيضها، احتاجت النفس أن تقبل عليها إقبالا شديدا، وتعنى بإصلاحها عناية تامة، فتتعب ويلحقها العناء والشقاء في ذلك. ولولا أن الباري، عز وجل، بفضله ورحمته أيدها بالعقل وأعانها على تخليصها، لهلكت النفس في بحر الهيولى ... وأما العقل فليس يناله في تأييده النفس تعب ولا نصب؛ لأن النفس جوهرة روحانية سهلة القبول، تطلب فضائل العقل، وترغب في خيراته ...
وأما الهيولى فلبعدها من الباري، تعالى ذكره، صارت ناقصة المرتبة، عادمة الفضائل، غير طالبة لفيض النفس ولا راغبة في فضائلها، ولا علامة ولا مفيدة ولا حية، بل قابلة فحسب. فمن أجل هذا يلحق النفس التعب والعناء والجهد والشقاء في تدبيرها الهيولى وتتميمها لها» (32: 3، 185-186). «واعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الوجود متقدم على البقاء، والبقاء متقدم على التمام، والتمام متقدم على الكمال؛ لأن كل كامل تام، وكل تام باق وكل باق موجود. ولكن ليس كل موجود باقيا ، ولا كل باق تاما، ولا كل تام كاملا. وذلك أن الباري، جلت أسماؤه، الذي هو علة الموجودات ومبدعها ومبقيها ومتممها ومكملها، أول فيض فاض منه الوجود، ثم البقاء، ثم الكمال» (32: 3، 182). «واعلم أن علة وجود العقل هي وجود الباري، عز وجل، وفيضه الذي فاض منه. وعلة بقاء العقل هو إمداد الباري، عز وجل، له بالوجود والفيض الذي فاض أولا، وعلة تمامية العقل هي قبول ذلك الفيض والفضائل واستمداده من الباري تعالى. وعلة كمال العقل: هي إفاضة ذلك الفيض والفضائل على النفس بما استفاده من الباري عز وجل. فبقاء العقل إذا علة لوجود النفس، وتمامية العقل علة لبقاء النفس، وكماله علة لتمامية النفس، وبقاء النفس علة لوجود الهيولى، وتمامية النفس علة لبقاء الهيولى. فمتى كملت النفس تمت الهيولى. وهذا هو الغرض الأقصى في رباط النفس بالهيولى، ومن أجل هذا دوران الفلك وتكوين الكائنات لتكمل النفس بإظهار فضائلها في الهيولى، وتتم الهيولى بقبول ذلك. ولو لم يكن هذا هكذا لكان دوران الفلك عبثا» (32: 3، 185).
وإذا كان ما دون الله قد ظهر عنه من خلال فعالية الفيض، فإن هذا الفيض يبقى متواترا لا يفتر؛ لأن به وجود العالم وبقاءه واستمراره. فالخلق والحالة هذه ليس عملا إلهيا تم في مطلع الزمن ثم توقف، بل هو فعالية دائمة تحفظ الكون في كل لحظة: «ثم اعلم أن الأشياء هي أعيان، أي صور غيريات أفاضها تعالى، وأبدعها كما أن العدد هو أعيان، أي صور غيريات، فاض من الواحد بالتكرار في أفكار النفوس، والأشياء كانت في علم الباري تعالى قبل إبداعه واختراعه لها، كما أن الواحد لم يتغير عما كان عليه قبل ظهور العدد منه في أفكار النفوس.
ومن أخص أوصاف الباري أنه غير الوجود، وأصل الموجودات وعلتها، كما أن الواحد أصل العدد ومبدؤه ومنشؤه، ولو كان للباري تعالى ضد لكان العدم، ولكن العدم ليس بشيء، والباري تعالى في كل شيء، ومع كل شيء، من غير مخالطة لها ولا ممازجة معها، كما أن الواحد في كل عدد ومعدود، فإذا ارتفع الواحد من كل الموجود توهمنا ارتفاع العدد كله، وإذا ارتفع العدد لم يرتفع الواحد، كذلك لو لم يكن الباري لم يكن شيء موجودا أصلا، وإذا بطلت الأشياء لا يبطل هو ببطلان الأشياء ...
ثم اعلم أن كل موجود تام فإنه يفيض منه على ما دونه فيض ما، وأن ذلك الفيض هو من جوهره، أعني صورته المقومة التي هي ذاته. والمثال في ذلك حرارة النار فإنها تفيض منها على ما حولها من الأجسام، من التسخين والحرارة، وهي جوهرية النار التي هي صورتها المقومة لها، وهكذا أيضا يفيض من الماء الترطيب والبلل على الأجسام المجاورة له. والرطوبة جوهرية في الماء، وهي صورة مقومة لذاته، وهكذا أيضا يفيض من الشمس النور والضياء على الأفلاك والهواء؛ لأن النور جوهري في الشمس، وهي صورته المقومة لذاته. وهكذا أيضا تفيض من النفس الحياة على الأجسام؛ لأن الحياة جوهرية لها، وهي الصورة المقومة لذاتها.
ثم اعلم أنه ما دام الفيض من الفائض يكون متواترا متصلا، دام ذلك المفاض عليه، ومتى لم يتواتر متصلا، عدم [المفاض عليه] وبطل وجوده؛ لأنه يضمحل الأول فالأول. والمثال في ذلك الضوء في الهواء، فإذا تواتر البرق واتصل، بقي الهواء مضيئا مثل النهار؛ [وكذلك الشمس إذا تواتر ضوءها]
3
لأن الشمس تفيض الفيض منها على الهواء متواترا متصلا، فإذا حجز بينهما حاجز، عدم ذلك الضوء من الهواء؛ لأنه يضمحل ساعة ساعة، ولا يتواتر الفيض عليه؛ وهكذا الحياة من النفس على الأجسام ما دامت متصلة متواترة، تدوم الحياة، فإذا فارقت النفس الجسد، بطلت حياة الجسد من ساعته واضمحلت. وهكذا حكم وجود العالم وبقائه من الباري تعالى، ما دام الفيض والجود والعطاء متواترا متصلا دام وجود العالم من الله تعالى» (40: 3، 348-350). «اعلم أن وجود العالم عن الباري ليس كوجود الدار عن البناء، أو كوجود الكتاب عن الكاتب، [ذلك الوجود] الثابت المستقل بذاته، المستغني عن الكاتب بعد فراغه من الكتابة، وعن البناء بعد فراغه من أبنية الدار؛ ولكن كوجود الكلام عن المتكلم الذي إن سكت بطل وجود الكلام. فالكلام يكون موجودا ما دام المتكلم به يتكلم ومتى سكت بطل وجوده. أو كوجود نور السراج في الهواء، ما دام السراج باقيا، فالنور باق موجود. أو كوجود ضوء الشمس في الجو، فإذا غابت الشمس بطل وجدان الضوء من الجو ...
ثم اعلم أن كلام المتكلم ليس هو جزءا منه، بل فعل فعله أو عمل عمله وأظهره بعد أن لم يكن. وهكذا حكم النور الذي يرى في الجو عن جرم الشمس ليس هو جزءا منها بل هو أشخاص منها وفيض وفضل منها ... وهكذا الحكم والمثال في وجود العالم عن الباري، وذلك أن العالم ليس بجزء منه، بل فضل تفضل به، وفيض جود أفاضه، وفعل فعله بعد أن لم يكن فعل ... ولا ينبغي أن تظن أن وجود العالم عن الله تعالى طبعا بلا اختيار منه مثل: وجود نور الشمس في الجو طبعا لا اختيار منها، ولا تقدر أن تمنع نورها وفيضها؛ لأنها مطبوعة على ذلك طبعها رب العالمين، فأما الباري تعالى فمختار في فعله إن شاء فعل، وإن شاء أمسك عن الفعل تركا، مثل المتكلم القادر على الكلام، إن شاء تكلم، وإن شاء أمسك وسكت» (39: 3، 337-338).
هذا الفيض الإلهي قاد إلى ظهور عالمين، عالم روحاني: مرتبته فوق الفلك المحيط، وعالم جسماني: هو الفلك المحيط وما يليه من أفلاك، وهو ينقسم بدوره إلى قسمين، الأول: هو الأعلى والأكثر شفافية ونقاء ويمتد من الفلك المحيط إلى منتهى فلك القمر، ويدعى عالم الأفلاك. والثاني: هو الأدنى والأغلظ، ويقع دون فلك القمر، ويدعى عالم الأركان الأربعة، وهو دائم التغير والاستحالة، ولذلك يدعى أيضا عالم الكون والفساد: «ثم اعلم أن لله تعالى عالمين: أحدهما جسماني، والآخر روحاني. فالعالم الجسماني: هو الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك، والكواكب، والأركان، والمولدات الثلاثة [المعادن والنبات والحيوان]، والعالم الروحاني: هو عالم العقل وما يحويه من النفس، والصور التي ليست بأجسام ذوات الأبعاد الثلاثة التي هي ظل ذي ثلاث شعب.
4
ثم اعلم أن العالم الروحاني محيط بعالم الأفلاك، كما أن عالم الأفلاك محيط بعالم الأركان الذي دون فلك القمر. وقد جعل الله تعالى عالم الأفلاك كريات الأشكال، مستديرات الحركات؛ لأن هذا الشكل هو أفضل الأشكال من عدة وجوه ومعان، والحركة المستديرة أفضل الحركات من جهات شتى ...
فإذا قيل: لم جعل الباري تعالى عالم الأجسام قسمين، أحدهما: علوي هو عالم الأفلاك وما فيها من أصناف الأكر والكواكب، والآخر: سفلي وهو عالم الأركان وما فيها من أجناس الخلائق؟ فيقال له: لعلل شتى وأسباب عدة، ولما فيه من إتقان الحكمة وإحكام الصنعة ما لا يبلغ فهم البشر كنه معرفتها، ولكن نذكر طرفا منها فنقول: ليكون في ذلك تبصرة للعقلاء وبيان لأولي الأبصار. فإن لله دارين اثنتين، إحداهما: هي الدنيا التي هي عالم الأجسام ومسكن الأجرام، والأخرى: هي الدار الآخرة التي هي عالم الأرواح ومحل النفوس» (40: 3، 361-362).
وكما سيشرح لنا الإخوان فيما بعد عبر تصوراتهم عن الآخرة والنشأة الثانية، فإن النفوس الجزئية التي اتحدت بالأجسام الإنسانية تنتقل عبر هذه المراتب الثلاثة للوجود. فإذا هي حققت العرفان الذي يقود إلى نجاتها من أسر الطبيعة، انتقلت إلى عالم الأفلاك الذي هو الجنة، فتقيم هناك حتى يحين موعد انسحاب النفس الكلية من جسد العالم، ويخرب العالم المادي، فتعود هذه النفوس إلى الالتحاق بالنفس الكلية في العالم الروحاني الأعلى.
ولكن هل تم إبداع هذه العوالم الروحانية والجسمانية دفعة واحدة، أم على مراحل؟ إن الإخوان في جوابهم عن هذه المسألة يقفون على جانب النظرية التطورية التي أثبتتها العلوم الكونية الحديثة: «ثم اعلم أن كل لبيب عاقل إذا فكر في كيفية حدوث العالم وإبداع الباري له، وخلقه أطباق السماوات والأرض، وتركيبه أكر الأفلاك، وتدويره أجرام الكواكب البسيطة والأركان الأربعة، وتكوينه المولدات الثلاثة منها، فلا بد له أن يعتقد فيها أحد الآراء الثلاثة: إما أن يظن ويتوهم بأنها أبدعت دفعة واحدة، وأخرجها الباري تعالى من العدم إلى الوجود على ما هي عليه الآن، أو يظن ويتوهم بأنها أبدعت على تدريج فأخرجت على ترتيب أولا فأولا إلى آخرها على مر الدهور والأزمان، أو يقول بعضها دفعة، وبعضها على التدريج؛ إذ ليس في القسمة العقلية غير هذه الثلاثة.
فأما من يظن ويقول إنها أبدعت دفعة واحدة بلا زمان، فلا يجد لما يقول دليلا من الشاهد، فيتشكك فيما يقول. وأما من يقول: إنها أبدعت وأخرجت من العدم إلى الوجود على تدريج ونظام وترتيب، فهو يجد على ما يقوله شواهد كثيرة من الموجودات باستقراء واحد. وأما من يقول: إن بعضها أبدع وأحدث دفعة واحدة، وبعضها على التدريج [وهذا رأي إخواننا الكرام]، فهو يحتاج إلى أن يبينها ويشرحها ويفصلها، فنقول:
إن الأمور الطبيعية أحدثت على تدريج مر الدهور والأزمان، وذلك أن الهيولى الكلي، أعني الجسم المطلق، قد أتى عليه دهر طويل إلى أن تمخض وتميز اللطيف منه من الكثيف، وإلى أن قبل الأشكال الفلكية الكرية الشفافة وتركب بعضها في جوف بعض، وإلى أن استدارت أجرام الكواكب النيرة، وركزت مراكزها، وإلى أن تميزت الأركان الأربعة، وترتبت مراتبها وانتظمت نظامها. والدليل على ذلك قوله تعالى:
خلق السموات والأرض في ستة أيام ...
5
وقوله تعالى: ... وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
6
فأما الأمور الإلهية الروحانية فحدوثها دفعة واحدة مرتبة منتظمة بلا زمان ولا مكان ولا هيولى ذات كيان، بل بقوله: «كن فيكون». والأمور الروحانية الإلهية هي: العقل الفعال، والنفس الكلية، والهيولى الأولى، والصور المجردة. فالعقل هو نور الباري تعالى وفيضه الذي فاض أولا، والنفس هي نور العقل وفيضه الذي أفاضه الباري منه، والهيولى الأولى هي ظل النفس وفيؤها، والصور المجردة هي النقوش والأصباغ والأشكال التي عملتها النفس في الهيولى بإذن الله تعالى وتأييده لها بالعقل. وهذه الأمور كلها بلا زمان ولا مكان، بل بقوله: «كن فيكون»، كما قال:
وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر
7
والمثال حدوث البرق، وإشراف نور الشمس في الهواء، وإضاءة الأبصار ورؤية الأشياء دفعة واحدة بلا زمان.
ثم اعلم أن الأركان الأربعة متقدمة الوجود على مولداتها بالأيام والشهور والسنين، كما أن الأفلاك متقدمة الوجود على الأركان بالأزمان والأدوار والقرانات، وعالم الأرواح متقدم على عالم الأفلاك بالدهور الطوال التي لا نهاية لها، والباري تعالى متقدم الوجود على الكل، كتقدم الواحد على جميع العدد.
ثم اعلم أنه قد أتى على النفس دهر طويل قبل تعلقها بالجسم ذي الأبعاد، وكانت هي في عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيوانية [نسبة إلى الحياة] مقبلة على علتها العقل الفعال تقبل منه الفيض والفضائل والخيرات، وكانت منعمة متلذذة مستريحة، مسرورة فرحانة. فلما امتلأت من تلك الفضائل والخيرات، أخذها شبه المخاض، فأقبلت تطلب ما تفيض عليه تلك الخيرات والفضائل. وكان الجسم فارغا قبل ذلك من الأشكال والصور والنقوش، فأقبلت النفس على الهيولى تميز الكثيف من اللطيف، وتفيض عليه تلك الفضائل والخيرات. فلما رأى الباري تعالى ذلك منها مكنها من الجسم، وهيأ لها، فخلق من ذلك الجسم عالم الأفلاك بعضها في جوف بعض، وركز الكواكب مراكزها، ورتب الأركان مراتبها على أحسن النظام والترتيب بما هي عليه الآن، لكيما تتمكن النفس من إدارتها وتسيير كواكبها، ويسهل عليها إظهار أفعالها وفضائلها والخيرات التي قبلتها من العقل الفعال.
فهذا الذي كان سبب كون العالم، أعني عالم الأجسام، بعد أن لم يكن. ومن يريد أن يتصور كيفية تمخض الهيولى، وتميز أجزاء الجسم اللطيف منها من الكثيف، وقبولها الأشكال الكرية الفلكية الشفافة، وكيف تركب بعضها في جو بعض في مراتبها ودورانها، وكيف استدارت أجرام الكواكب النيرة، وركزت مراكزها في أفلاكها في مسيراتها، وكيف تمخضت أجزاء الأركان الأربعة بعضها مع بعض، وتميز بعضها من بعض، وترتبت على ما هي عليه الآن كلها من هيولى واحدة من حيث الجسمية، مع اختلاف صورها وفنون أشكالها، فليعتبر تركيب جسده من دم الطمث في الرحم كيف تمخض وتميز، وصار بعضها عظاما بيضا صلبة، وبعضها لحما أحمر، وبعضها شحما دسما أصفر، وبعضها عروقا مجوفة ... وما شاكل هذه الأشياء المختلفة الأشكال والصور ... وإن عجز فهمه عن تصور كون هذه من دم الطمث، ومن النطفة وتركيبها منه، وكيفية قبولها هذه الصور والأشكال والطعوم والألوان التي هي أقرب إليه، ومعرفتها أسهل عليه، فهو عن تصور كيفية الأفلاك، وخلق أطباق السماوات والأرضين أبعد، وهو بها أجهل وأقل فهما.
ثم اعلم أنه سترجع النفس الكلية إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني وحالتها الأولى التي كانت عليها قبل تعلقها بالجسم، كما قال تعالى: ... كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ...
8
ولكن لا يكون ذلك إلا بعد مضي الدهور والأزمان الطوال. وسيخرب العالم الجسماني إذا فارقته النفس» (40: 3، 351-354).
ذلك أن نفس العالم هي علة حياته وحركته مثلما أن النفس الجزئية هي علة حياة وحركة أجسام الأحياء التي ربطت إليها: «إن الحركة هي صورة روحانية تجعلها النفس في الأجسام، فيها تكون الأجسام متحركة ... فالنفوس هي المحركة للأجسام، والأجسام هي المحركات والمسكنات بتحريك النفوس لها وتسكينها إياها ... والتحريك هو فعل النفس، والحركة هي صورة تجعلها النفس في الجسم، بها يكون الجسم متحركا؛ وأما التسكين فهو أيضا فعل من أفعال النفس التي تحرك الجسم وتسكنه تارة أخرى ...
وإذا تأملت يا أخي واعتبرت ما وصفنا من أحوال الحركات والمتحركات التي في العالم، علمت وتبين لك أن حكم العالم بجميع أجزائه ومجاري أموره، تجري مجرى مدينة واحدة، أو حيوان واحد، أو إنسان واحد، لا ينفك من الحركة والسكون، إما بكليته أو بجزئيته.
وقد بينا في رسالة ماهية الطبيعة، ورسالة السماء والعالم، أن سبب حركات الأركان ومولداتها هو حركة الكواكب، وسبب حركات الكواكب دوران الفلك، والمحرك والمدبر للأفلاك هي النفس الكلية الفلكية، فإن النفس الفلكية هي ملك من الملائكة المقربين وجنوده وأعوانه، وهو الذي أشير إليه بقوله تعالى:
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ...
9
وقال تعالى:
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ... .
10
وهذا الملك وكله الله تعالى بإدارة الأفلاك، وحركات الكواكب، وما تحت فلك القمر من سائر الأركان ومولداتها من المعادن والنبات والحيوان أجمع» (39: 3، 322 و328). «اعلم أيها الأخ الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أفعال الروحانيين لا يتهيأ لأحد من العالم الجسماني الوقوف عليها والمعرفة بها، إلا بعد معرفته بجوهر نفسه ، وكيفية فعلها في جسمه. وإذا عرف كيفية ذلك، ووقف عليه، تهيأ له بعد ذلك الوقوف على أحوال الروحانيين في العالم جميعا: العلوي بما فيه، والسفلي وما يحويه، وقاده ذلك إلى معرفة خالقه وتنزيه مبدعه، وفعله الذي فعله بذاته، وما أبدعه من موجوداته، وبمعرفة ذلك يكون كمال الإنسان ...
واعلم أيها الأخ، أيدك الله، أن دائرة العقل مرتبة من أمر الله تعالى لا يدركها خاطر نفساني، وأن الأنوار المضيئة مرتبة في أفق العقل الكلي بحيث لا يدركها حس ولا يتناولها لمس. فالدائرة الأولى هي البعيدة عنها أوهام المخلوقين من العالمين الروحاني والجسماني، اللطيف والكثيف، وهي موصوفة بالفعل الخاص بها، الصادر عنها، وهو العقل الذي عقل ما دونه من مجاوريه، فرجعت الأوهام قبل بلوغها غايته، ذاهلة عن بلوغ بعض ما في دائرته وسعة إحاطته ... وهي الدائرة الأولى الحاوية لجميع ما كان منها، ولذلك قيل له السابق. وكذلك دائرة النفس كالثاني التالي للسابق، وهي تالية الأول، ثم الثالثة وهي كالهيولى، والرابعة وهي كالطبيعة. وكذلك الدوائر الكائنة عن هذه الأصول، حتى تكون آخرها دائرة الأرض ...
واعلم أيها الأخ البار أن الباري سبحانه أوجد الزوجين الأولين [= العقل والنفس] اللذين هما أبوا الموجودات كلها بأسرها، وهما الدائرتان المحيطتان بما في عالم العلو والسفل، إحداهما: حائطة، والأخرى: محوطة ... ولذلك سمي (العقل) عقلا؛ لأنه عقل صور الموجودات بأسرها، وجاد عليها بخصائصها، وترتيبه له في مواضعها، وتكوينه إياها في أماكنها، فهو بالإشراق عليها وبما فاض عليها يتدلى إليها
11 ... ولما كان العقل كذلك، كانت النفس غير حائطة بكلية ما في العقل بلا واسطة له بكمال صفاته الموجودة، إلا ما أمدها به وأفاضه عليها الشيء بعد الشيء ولو كانت قابلة لجميع ما فيه دفعة واحدة لكانت لا فرق بينها وبينه، ولا فضل له عليها لاتساعها لما وسعه، وإحاطتها لما بلغه. وإنما هي حائطة بما دونها كإحاطة العقل بها ... وغير محيطة بكلية ما في العقل من الصور المعراة والجواهر المبرأة من الهيولى إلا بما يلقيه إليها ويمدها به.
ولما كان ذلك كذلك، صارت الطبيعة في كل لحظة وفي كل وقت من الأوقات، ومع كل حركة من الحركات الزمانية الطبيعية، تظهر شكلا ونوعا ولونا، فغرائبها لا تحصى وعجائبها لا تفنى، وهي تبديها الشيء بعد الشيء بحسب ما يلقى إليها ويفاض عليها من النفس الكلية ... فهي قوة صادرة باعثة لما تقدم لها في الوجود، كقوة حركة الدولاب التي تبدو أولا عن حركة أولى، وهي الحركة البهيمية المستعلمة في آلة الدولاب، وإيصالها من آلة إلى آلة أخرى، حتى تكون مرة حاطة لأواني الدولاب إلى قعر البئر فتملأ، ثم ترفعها على علو فيعود ما كان ممتلئا فارغا، ثم ممتلئا، فلا تزال كذلك ما دامت الحركة متصلة، فإذا بلغ المحرك المستخدم لتلك الدابة المحركة لتلك الآلة ما أراد من الملء والتفريغ، أمسك الحركة فوق الدولاب عن الرفع والحط. كذلك فعل الطبيعة، إنما هي حركة متصلة بها عن آلة فلكية محركة دورية، مربوطة بها النفس الكلية بقوة عقلية، تبدو عن مشيئة إلهية وعناية ربانية بأمر من هو لا يعلمه إلا هو» (49: 4، 198-203).
هذه هي الخطوط العامة لنظرية التكوين الصفائية، بسطنا فيها كل ما من شأنه يأن يعيننا على متابعة رحلتنا في فكر الإخوان. في الفصل القادم سوف نبسط أهم أفكار الإخوان العلمية والفلسفية التي أرادوها مدخلا لفهم العالم وكيفية عمله، بعد أن أطلعونا على نشأته وكيفية صدوره عن العلة الأولى.
الفصل الثاني
صفة العالم
إذا كانت غاية السعي المعرفي للإنسان هي فهم وإدراك الشرط الإنساني، على ما يؤكده إخوان الصفاء، فإن دون هذه الغاية رحلة شاقة وطويلة نقطعها على درب المعرفة العلمية الاختبارية والبرهانية، تقودنا إلى فهم العالم وفهم أنفسنا التي هي جزء عضوي من هذا العالم. هذا الفهم هو الذي ينير لنا أخيرا ذلك الشرط الإنساني، ويفتح لنا بوابة الخلاص من ظلمة المادة التي اقتنصت النفس الهابطة من السماء عالم الروح الفسيح، حيث كان مسكنها قبل السقوط، والحلول في الأجسام الكثيفة البعيدة عن مرتع الأنوار العلوية. إن العرفان الداخلي الذي يقود إلى معرفة النفس ومعرفة الله حق المعرفة، لن تنطلق شرارته قبل المعرفة العلمية التي تكشف للإنسان حقيقته وحقيقة كل ما حوله. لذلك قال الإخوان في الفلسفة: «الفلسفة أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم.» (الرسالة 1: الجزء الأول، ص48). وقالوا في طريق العلم الصاعد من المحسوسات إلى المجردات: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن غرض الفلاسفة الحكماء من النظر في العلوم الرياضية، وتخريجهم تلامذتهم بها، إنما هو السلوك والتطرق منها إلى علوم الطبيعيات؛ وأما غرضهم من النظر في الطبيعيات فهو الصعود منها والترقي إلى العلوم الإلهية الذي هو أقصى غرض الحكماء، والنهاية التي إليها يرتقى بالمعارف الحقيقية. ولما كان أول درجة من النظر في العلوم الإلهية هو معرفة جوهر النفس، والبحث عن مبدئها من أين كانت قبل تعلقها بالجسد، والفحص عن معادها إلى أين تكون بعد فراق الجسد، الذي يسمى الموت ...» (1: 1، 75-76).
تبتدئ رحلة الإخوان العلمية والفلسفية من محاولة فهم الكون الرحيب بنجومه وحركة أفلاكه، وصولا إلى بيئة الأرض والتعليل العلمي لكل ما يحيط بنا من الظواهر الطبيعية. ولسوف نتابعهم في هذه الرحلة التي جندوا لها كل المعارف الإنسانية التي كانت متاحة لهم في ذلك الزمان، متوقفين عند أهم الظواهر التي درسوها دون أن نستنفدها جميعها.
في علم النجوم وتركيب الأفلاك
عرف الإخوان الكثير مما نعرفه اليوم في علم النجوم، ولكنهم كانوا على رأي اليوناني بطليموس، من أن الأرض الكروية هي جرم ثابت لا يدور، وأنها تقع في مركز الكون، وكل الأجرام السماوية تدور حولها. ونظرا لبدائية أدوات الرصد في ذلك الزمان، فإنهم لم يميزوا إلا عددا محدودا من النجوم الثابتة التي اعتقدوا أنها تنتظم في فلك واحد. ولما كانت هذه النجوم على ثباتها بالنسبة إلى بعضها البعض تبدو وكأنها تدور مجتمعة حول الأرض في كل يوم وليلة دورة واحدة، فقد اعتقدوا بوجود فلك فوقها يدور بشكل دائم ومعه كل الكواكب: «أصل علم النجوم هو معرفة ثلاثة أشياء، وهي الكواكب والأفلاك والبروج، فالكواكب أجسام كريات مستديرات مضيئات، وهي ألف وتسعة وعشرون كوكبا كبارا؛ التي أدركت بالرصد؛ منها سبعة يقال لها السيارة، وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر؛ والباقية يقال لها ثابتة. ولكل كوكب من السبعة السيارة فلك يخصه. والأفلاك: هي أجسام كريات مشفات مجوفات، وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقة البصلة؛ فأدناها إلينا فلك القمر وهو محيط بالهواء من جميع الجهات، كإحاطة قشرة البيضة ببياضها، والأرض في جوف الهواء كالمح في بياضها، ومن وراء فلك القمر فلك عطارد، ومن وراء فلك عطارد فلك المريخ، ومن وراء فلك المريخ فلك المشتري، ومن وراء فلك المشتري فلك زحل، ومن وراء فلك زحل فلك الكواكب الثابتة، ومن وراء فلك الكواكب الثابتة فلك المحيط، ومثال ذلك الرسم المبين أدناه» (3: 1، 115).
شكل 2-1 «واعلم يا أخي أن السماوات هي الأفلاك، وإنما سميت السماء سماء لسموها، والفلك لاستدارته. واعلم بأن الأفلاك تسعة: سبعة منها هي السماوات السبع، وأدناها وأقربها إلينا فلك القمر، وهي السماء الأولى؛ ثم من ورائه فلك عطارد وهي السماء الثانية، ومن ورائه فلك الزهرة وهي السماء الثالثة، ثم من ورائه فلك الشمس وهي السماء الرابعة، ومن ورائه فلك المريخ وهي السماء الخامسة، ومن ورائه فلك المشتري وهي السماء السادسة، ثم من ورائه فلك زحل وهي السماء السابعة، وزحل هو النجم الثاقب، وإنما سمي الثاقب؛ لأن نوره يثقب سمك سبع سماوات حتى يبلغ أبصارنا. وأما الفلك الثامن، وهو فلك الكواكب الثابتة الواسع المحيط بهذه الأفلاك السبعة، فهو الكرسي الذي وسع السماوات والأرض. وأما الفلك التاسع، المحيط بهذه الأفلاك الثمانية، فهو العرش العظيم الذي يحمله فوقهم يومئذ ثمانية، كما قال الله عز وجل.
واعلم يا أخي أن كل واحد من هذه السبعة المقدم ذكرها سماء لما تحته وأرض لما فوقه، ففلك القمر سماء الأرض التي نحن عليها وأرض لفلك عطارد، وكذلك فلك عطارد سماء لفلك القمر وأرض لفلك الزهرة، وعلى هذا القياس حكم سائر الأفلاك» (16: 2، 26). «فقد بان بهذا المثال أن جملة العالم إحدى عشرة كرة، اثنتان في جوف فلك القمر ، وهما الأرض والهواء؛ لأن الأرض والماء كرة واحدة والهواء والأثير كرة واحدة؛ وتسع من ورائه محيطات بعضها ببعض» (16: 2، 28). «اعلم أن الشمس لما كانت في الفلك كالملك في الأرض، صار مركزها بواجب الحكمة الإلهية وسط العالم، كما أن دار الملك وسط المدينة، ومدينته وسط البلدان من مملكته، وذلك أن مركز الشمس وسط فلكها، وفلكها في وسط الأفلاك؛ لأنه لما كان جملة العالم إحدى عشرة كرة، وكان خمس منها من وراء فلكها محيطات بعضها ببعض، وهي كرة المريخ، وكرة المشتري وكرة زحل، وكرة الكواكب الثابتة، وكرة المحيط؛ وخمس دونها، وهي في جوف كرتها محيطات بعضها ببعض، أولها فلك الزهرة، ودونها كرة عطارد، ودونها كرة القمر، ودونها كرة الهواء، ودونها كرة الأرض، فصار موضعها في وسط العالم بهذا الاعتبار، كما أن موضع الأرض في مركز العالم» (16: 2، 30). «واعلم يا أخي أن هذه الأكر محيطات بعضها ببعض كإحاطة طبقات البصل، مماس سطح الحاوي بسطح المحوى وليس بينها فراغ ولا خلاء إلا فصل مشترك وهمي. وقد ظن قوم من أهل العلم أن بين فضاء الأفلاك وأطباق السماوات وأجزاء الأمهات مواضع فارغة، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن معنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه، والمكان صفة من صفات الأجسام لا يقوم إلا بالجسم ولا يوجد إلا معه» (16: 2، 28). «اعلم يا أخي أن هذه الإحدى عشرة كرة هي جملة العالم ومساكن الخلائق أجمعين. وقد ظن كثير بالأوهام أن وراء الفلك المحيط جسم آخر وخلاء، بلا نهاية، وكلا الحكمين خطأ لا حقيقة له؛ لأنه قد قام بالبرهان العقلي أن الخلاء غير موجود أصلا، لا خارج العالم ولا داخله؛ لأن معنى الخلاء: هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه كما وصفنا، والمكان: صفة من صفات الأجسام، وهو عرض ولا يقوم إلا بالجسم ولا يوجد إلا معه. فمن ادعى أن خارج العالم جسم آخر من أجل الوهم الذي يتخيله فهو المطالب بالدليل على دعواه.
واعلم أن حكم العقل هو الذي يتساوى فيه العقلاء، وكلهم لم يتفقوا على أن خارج العالم جسم آخر؛ لأن الحس لم يدركه والعقل لم يقض به والبرهان لم يقم عليه» (16: 2، 29). «إن الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب، يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، في كل يوم وليلة دورة واحدة، ويدير سائر الأفلاك والكواكب معه، كما قال الله عز وجل: ... وكل في فلك يسبحون .
1
وهذا الفلك المحيط مقسوم باثني عشر قسما كجزر البطيخة، كل قسم منها يسمى برجا، وهذه أسماؤها: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. فكل برج ثلاثون درجة (من أقسام الدائرة)، جملتها ثلاثمائة وستون درجة، وكل درجة ستون جزءا، كل جزء يسمى دقيقة، جملتها واحد وعشرون ألفا وستمائة دقيقة، وكل دقيقة ستون جزءا يسمى ثانية ... مثال ذلك الرسم المبين أدناه.
شكل 2-2
وهذه البروج توصف بصفات شتى من جهات عدة ... نقول: منها ستة شمالية وستة جنوبية ... أما الستة الشمالية فهي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة [= العذراء]. وإذا كانت الشمس في واحد منها يكون الليل أقصر والنهار أطول. وأما الستة الجنوبية فهي: الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. وإذا كانت الشمس في واحد منها، يكون الليل أطول والنهار أقصر. وأما المستقيمة الطلوع فهي السرطان والأسد السنبلة والميزان والعقرب والقوس، وكل واحد منها يطلع في أكثر من ساعتين. وإذا كانت الشمس في واحد منها، تكون هابطة من الشمال إلى الجنوب، ومن الأوج إلى الحضيض، والليل آخذ من النهار. وأما المعوجة الطلوع فهي الجدي والدلو والحوت والحمل والثور والجوزاء، وكل واحد منها يطلع في أقل من ساعتين. وإذا كانت الشمس في واحد منها، تكون صاعدة من الجنوب إلى الشمال، ومن الحضيض إلى الأوج، والنهار آخذ من الليل ... ومن وجه آخر هذه البروج تنقسم أربعة أقسام منها ثلاثة ربيعية صاعدة في الشمال، زائدة النهار على الليل، وهي: الحمل والثور والجوزاء، وثلاثة صيفية هابطة في الشمال، آخذة الليل من النهار، وهي: السرطان والأسد والسنبلة. منها ثلاثة خريفية هابطة في الجنوب، زائدة الليل على النهار، وهي: الميزان والعقرب والقوس ، ومنها ثلاثة شتوية صاعدة من الجنوب، آخذة النهار من الليل، وهي: الجدي والدلو والحوت ...
فقد بان بهذا الوصف في هذا الشكل أن لو كانت البروج أكثر من اثني عشر، أو أقل من ذلك، لما استمرت فيه هذه الأقسام على هذا الوجه الذي ذكرنا. فإذا بواجب الحكمة كانت اثني عشر؛ لأن الباري، جل ثناؤه، لا يفعل إلا الأحكم والأتقن. ومن أجل هذا جعل الأفلاك كريات الشكل؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال، وذلك أنه أوسعها وأبعدها من الآفات، وأسرعها حركة، ومركزه في وسطه، وأقطاره متساوية، ويحيط به سطح واحد، ولا يماس غيره إلا على نقطة، ولا يوجد في شكل غيره هذه الأوصاف، وجعل أيضا حركته مستديرة؛ لأنها أفضل الحركات» (3: 1، 115-119). «الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، فيكون في دائم الأوقات نصف الفلك ستة أبراج مائة وثمانين درجة فوق الأرض، ويسمى يمنة، والنصف الآخر ستة أبراج مائة وثمانين درجة تحت الأرض، يسمى يسرة. وكلما طلعت درجة من أفق المشرق غابت نظيرتها في أفق المغرب من البرج السابع منه، فيكون في دائم الأوقات ستة أبراج طلوعها بالنهار، وستة طلوعها بالليل، ويكون في دائم الأوقات درجة في أفق المشرق، وأخرى نظيرتها في أفق المغرب، ودرجة أخرى في كبد السماء، وتسمى وتد العاشر، وأخرى نظيرتها منحطة تحت الأرض تسمى: وتد الرابع؛ فيكون الفلك في دائم الأوقات منقسما بأربعة أرباع، كل ربع منها تسعون درجة، فمن أفق المشرق إلى وتد السماء تسعون درجة يقال لها الربع الشرقي الصاعد في الهواء، ومن وتد السماء إلى وتد المغرب تسعون درجة يقال لها الربع الجنوبي الهابط، ومن وتد المغرب إلى وتد الأرض تسعون درجة يقال لها الربع الغربي الهابط في الظلمة، ومن وتد الأرض إلى وتد المشرق تسعون درجة يقال لها الربع الشمالي الصاعد» (3: 1، 126-127).
شكل 2-3 «والكواكب السيارة تدور حول الأرض مثلما تدور أيضا في البروج الاثني عشر؛ ودورة كل كوكب في هذه البروج تعبر عن سنة هذا الكواكب، مثلما يعبر دوران الشمس في البروج عن السنة الأرضية. ولكن من أجل اختلاف حركات الكواكب في السرعة والإبطاء، اختلفت أزمان أدوارها حول الأرض، ومن أجل اختلافها حول الأرض اختلفت أدوارها في فلك البروج. ومثل دوران الأفلاك بكواكبها حول الأرض كمثل دوران الطائفين حول البيت [الحرام]، ومثل اختلاف أدوارها حول الأرض كمثل اختلاف أشواط الطائفين حول البيت، وذلك أننا نرى الطائفين حول البيت منهم من يمشي الهوينى، ومنهم من يستعجل، ومنهم من يهرول، ومنهم من يسعى، فتختلف بحسب ذلك أشواطهم، وكلهم متوجهون في طوافهم نحوا واحدا وقصدا واحدا. ولكن إذا بلغ الماشي الركن العراقي، قد بلغ المستعجل الركن الشامي، والمهرول الركن اليماني، والساعي الحجر الأسود. بهذا السبب إذا طاف الماشي شوطا واحدا، فقد طاف الساعي أشواطا، فهؤلاء الطائفون، وإن اختلفت أشواطهم من أجل سرعة حركاتهم وإبطائها، فليس قصدهم إلا قصد واحد إلى جهة واحدة؛ فهكذا حكم الأفلاك وكواكبها في دورانها حول الأرض» (16: 2، 39-40).
وقد حسب إخوان الصفاء بدقة سنة كل كوكب من الكواكب السيارة، فكوكب زحل وهو الأبعد: «يدور في البروج الاثني عشر في كل ثلاثين سنة بالتقريب دورة واحدة، يقيم في كل برج سنتين ونصف السنة، وفي كل درجة شهرا، وفي كل دقيقة اثنتي عشرة ساعة ... والمشتري يدور في البروج الاثني عشر في اثنتي عشرة سنة بالتقريب مرة واحدة يقيم في كل برج سنة، وفي كل درجتين ونصف شهرا، وفي كل خمس دقائق يوما وليلة ... المريخ يدور في الفلك مدة سنتين إلا شهرا واحدا بالتقريب، يقيم في كل برج خمسة وأربعين يوما، يزيد وينقص، ويقيم في كل درجة مقدار يوم وبعض يوم ... الزهرة تدور في البروج مثل دوران الشمس، غير أنها تسرع السير تارة فتسبق الشمس وتصير قدامها، وتارة تبطئ في السير فترجع وتصير خلفها ... حالات عطارد من الشمس مثل حالات الزهرة منها ... القمر يدور في البروج في كل سنة عربية اثنتي عشرة مرة، في كل شهر مرة، ويقيم في كل برج يومين وثلثا، وفي كل منزل يوما وليلة، وفي كل درجة ساعتين بالتقريب» (3: 1، 130-133).
أما دوران الشمس في البروج فهو السبب في تتابع الفصول على الأرض وتغييرات أرباع السنة: «الشمس تدور في البروج الاثني عشر في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوما، وربع دورة واحدة، تقيم في كل برج ثلاثين يوما وكسرا، وفي كل درجة يوما وليلة وكسرا. تكون بالنهار فوق الأرض وبالليل تحت الأرض، وتكون في الصيف في البروج الشمالية في الهواء، وتقرب من سمت رءوسنا، وتكون في الشتاء في البروج الجنوبية، وتنحط في الهواء، وتبعد من سمت رءوسنا؛ وفي الأوج ترتفع في الفلك، وتبعد من الأرض، وفي الحضيض تنحط في الفلك، وتقرب من الأرض ...
إذا نزلت الشمس أول دقيقة من برج الحمل استوى الليل والنهار واعتدل الزمان، وانصرف الشتاء ودخل الربيع، وطاب الهواء وهب النسيم، فذابت الثلوج وسالت الأودية ... وطال الزرع ونما الحشيش ... ودرت الضروع، وتكونت الحيوانات وانتشرت على وجه الأرض ... إذا بلغت الشمس آخر الجوزاء وأول السرطان تناهى طول النهار، وقصر الليل، وأخذ النهار في النقصان وانصرف الربيع، ودخل الصيف، واشتد الحر وحمي الهواء ... ويبس العشب ... وأدرك الحصاد ونضجت الثمار وسمنت البهائم ... وإذا بلغت الشمس آخر السنبلة وأول الميزان استوى الليل والنهار مرة أخرى، وأخذ الليل في الزيادة على النهار، وانصرف الصيف ودخل الخريف، وبرد الهواء وهبت ريح الشمال، وتغير الزمان. وإذا بلغت الشمس آخر القوس وأول الجدي تناهى طول النهار، وأخذ الليل في الزيادة، وانصرف الخريف، ودخل الشتاء، واشتد البرد، وخشن الهواء، وتساقط ورق الأشجار، ومات أكثر النبات ... وإذا بلغت الشمس آخر الحوت وأول الحمل عاد الزمان كما كان في العام الأول، وهذا دأبه، ذلك تقدير العزيز العليم» (3: 1، 127-130). «فجسم العالم بأسره كري الشكل، وحركات أفلاكه كلها دورية، ونور الكواكب السماوية كلها ذاتي إلا القمر، وأجرام الكرة كلها شفافة إلا الأرض» (16: 2، 25-26). «اعلم أيها الأخ أن معنى قول الحكماء: العالم، إنما يعنون به السماوات السبع والأرضين، وما بينهما من الخلائق أجمعين، وسموه أيضا إنسانا كبيرا؛ لأنهم يرون أنه جسم واحد بجميع أفلاكه وأطباق سماواته وأركان أمهاته ومولداتها، ويرون أيضا أن له نفسا واحدة سارية قواها في جميع أجزاء جسمها كسريان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده» (16: 2، 24-25).
هذا العالم الواحد المؤلف من تسعة أفلاك وإحدى عشرة كرة، ينقسم إلى قسمين: علوي وسفلي. الأول يمتد من أعلى الفلك المحيط هبوطا إلى أدنى فلك القمر، وهو يشتمل على الأجسام الكليات البسيطات التي هي الأفلاك والكواكب، والثاني يمتد من أدنى فلك القمر هبوطا إلى مركز الأرض، وهو يشتمل على الأمهات الكليات التي هي النار والهواء والماء والأرض، وتدعى أيضا الأركان الأربعة، كما يشتمل أيضا على الجزئيات المولدات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وهذه الجزئيات تنتج عن الأركان الأربعة وتتولد منها. والأمهات الكليات أو الأركان الأربعة تتوضع داخل الهواء وكرة الأرض والماء؛ وكرة الهواء هي التي تحتوي على ركن النار؛ لأن سمك الهواء ينفصل بثلاثة طبائع متباينة، فالهواء الذي يلي فلك القمر هو نار سموم في غاية الحرارة ويدعى الأثير، والذي يليه في غاية البرودة ويدعى الزمهرير، والذي دونه معتدل المزاج يسمى النسيم (3: 1، 146) (17: 2، 65).
2
تتشارك أجسام العالم العلوي والعالم السفلي في كثير من الصفات. فالقمر، الذي هو أحد الأجسام الفلكية، يرى فيه اختلاف قبول النور والظلمة كما يرى في الأجسام الأرضية، وله ظل كظلالها، وهو غير مشف مثل الأرض؛ والأفلاك كلها تشارك الهواء والماء والبلور في الإشفاف، والشمس والكواكب تشارك النار في النور، وكلها يشارك الأرض في اليبس. ولكن أجسام العالم العلوي تختلف عن أجسام العالم السفلي في أنها لا تقبل الكون والفساد، والتغير والاستحالة، والزيادة والنقصان، كما تقبلها الأجسام التي تحت فلك القمر، وفي أن حركاتها كلها دورية. وهذه الأجسام الفلكية محفوظ نظامها وباقية أشخاصها ما دامت ثابتة على دورانها، فإذا وقفت عن الدوران وسكنت حركاتها تولد فيها السكون والبرودة وفسد نظامها، ومن فساد النظام يأتي البوار والبطلان. وهذا لا يحدث إلا إذا فارقت نفس العالم جسدها وعادت إلى باريها عندما تقوم القيامة الكبرى (16: 2، 46-47 و49). من هنا يدعو إخوان الصفاء العالم العلوي بعالم النظام والثبات، ويدعون العالم السفلي الذي هو دون الفلك القمر بعالم الكون والفساد؛ لأنه دائم التغير بالنشوء والبلى.
ويقول الإخوان في شرح تعبير «الكون والفساد» الذي يتكرر عبر الرسائل، إن «الكون» عبارة عن خروج الشيء من العدم إلى الوجود، أو من القوة إلى الفعل، والفساد عكس ذلك، أي عودة الشيء إلى العدم (15: 2، 13). وقالوا أيضا: «واعلم يا أخي بأن الكون والفساد هما ضدان لا يجتمعان في شيء واحد في زمان واحد؛ لأن الكون هو حصول الصورة في الهيولى، والفساد انخلاعها منها، فإذا فسد شيء منها لا بد أن يتكون شيء آخر؛ لأن الهيولى إذا انتزعت منها صورة ألبست أخرى. فإن كانت التي ألبست أشرف سمي كونا، وإن كانت أدون سمي فسادا. مثال ذلك أن يصير التراب والماء نباتا، ويصير النبات حبا وثمارا، والثمار والحب يصيران غذاء، والغذاء يصير دما ولحما وعظما، فيكون من ذلك حيوان. والفساد أن يحترق النبات فيصير رمادا، ويموت الحيوان فيصير ترابا. واعلم يا أخي أن جسدك، الذي تختص به نفسك، أحد الكائنات الفاسدات، وما هو بالنسبة إلى نفس إلا كدار سكنت أو كلباس ألبس، فلا تكونن كل همتك وأكثر عنايتك بتزويق هذه الدار وتطرية هذا اللباس، فإنك تعلم بأن كل مسكن يخرب وكل لباس لا بد أن يبلى. ولكن اجعل بعض أوقاتك للنظر في أمر نفسك [= روحك]، وطلب معرفة جوهرها، ومبدئها ومعادها، فإنها جوهرة خالدة أبدية الوجود، ولكن تنتقل لها حال بعد حال» (17: 2، 58-59).
لقد راقب الإخوان السماء ودرسوا حركة الكواكب السيارة وعلائقها مع بعضها بعضا، وحاولوا بما تيسر لهم من وسائل معرفة الحجم التقريبي من الأكر التي تشكل العالم. ومن بين الظواهر السماوية التي درسوها وأعطونا عنها تفسيرا علميا دقيقا لا يختلف عما نعرفه اليوم، ظاهرتي الكسوف والخسوف التي يدعونها بظاهرة الكسوفين. قد قالوا فيها: «وهذه الكواكب لبعضها في بيوت بعض مواضع مخصوصة فمنها الشرف والهبوط، ومنها الأوج والحضيض، ومنها الجوزهر ... ومعنى الجوزهر تقاطع طريق الكواكب لطريق الشمس بممرها في البروج في موضعين، أحدهما يسمى رأس الجوزهر ... والآخر ذنب الجوزهر، ويقال لهما أيضا العقدتان ... وإذا اجتمع الشمس والقمر في وقت من الأوقات عند أحدهما في برج واحد ودرجة واحدة، انكسفت الشمس، ولا يكون ذلك إلا في آخر الشهر؛ لأن القمر يصير محاذيا لموضع الشمس من البرج والدرجة، فيمنع نور الشمس عن أبصارنا فنراها منكسفة مثلما تمنع قطعة غيم عن أبصارنا نور الشمس إذا مرت محاذية لأبصارنا ولعين الشمس. وإذا كانت الشمس عند أحدهما وبلغ القمر إلى الآخر انكسف القمر، ولا يكون كسوف القمر إلا في نصف الشهر؛ لأن القمر في نصف الشهر يكون في البرج المقابل للبرج الذي فيه الشمس، وتكون الأرض في الوسط فتمنع نور الشمس عن إشراقه على القمر، فيرى القمر منكسفا؛ لأنه ليس له نور من نفسه وإنما يكتسي النور من الشمس» (3: 1، 120-122).
ولحركة الأفلاك في العالم العلوي موسيقى عذبة ناجمة عن دورانها المتسق المتناغم، يسمعها سكان ذلك العالم فتستلذ بها نفوسهم وتذكرهم بسرور عالم الأرواح التي فوق الفلك. نقرأ في رسالتهم عن الموسيقى: «فإذا استوت الأوتار على هذه النسب الفاضلة وحركت حركات متواترة متناسبة حدث عند ذلك منها نغمات متواترة متناسبة ... فإذا وصلت المعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان إلى المسامع، استلذت بها الطباع، وفرحت فيها الأرواح، وسرت بها النفوس؛ لأن تلك الحركات والسكونات التي تكون بينها، تصير عند ذلك مكيالا للأزمان وأذرعا لها، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية ... إذا كيل بها الزمان كيلا متساويا متناسبا معتدلا، كانت نغماتها مماثلة لنغمات حركات الأفلاك والكواكب، ومناسبة لها ... اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات، لم يكن لأهلها فائدة من القوة السامعة الموجود فيهم. فإن لم يكن لهم سمع فهم صم بكم عمي. وهذه حال الجمادات الجامدات الناقصات الوجود. وقد قام الدليل وصح البرهان بطريق المنطق الفلسفي، أن أهل السماوات وسكان الأفلاك هم ملائكة الله وخالص عباده، يسمعون ويبصرون ويعقلون ويعلمون ويقرءون ويسبحون الليل والنهار ... ويقال إن فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه نغمات حركات الأفلاك والكواكب فاستخرج بجودة فطرته أصول الموسيقى ونغمات الألحان، وهو أول من تكلم في هذا العلم، ثم بعده نيقوماخس وبطليموس وإقليدس وغيرهم من الحكماء. وهذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادة؛ وخاصة الألحان المحزنة المرققة للقلوب القاسية المذكرة للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغافلة عن سرور عالمها الروحاني ومحلها النوراني ... ولإخراجها من عالم الكون والفساد، ولتخليصها من غرق بحر الهيولى، ونجاتها من أسر الطبيعة» (5: 1، 205-210).
على أن انقسام الموجودات إلى عالم علوي وعالم سفلي، لا يعني استقلال كل عالم بنفسه عن الآخر؛ لأن العالم بأسره يشبه مدينة واحدة أو حيوانا واحدا ذا نفس واحدة تسري قواها في العالمين جميعا من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض. في هذه المنظومة المتكاملة تلعب الكواكب السيارة دورا فاعلا في نقل النور والفيض والقوى من الأعلى إلى الأسفل: «واعلم يا أخي أن أول قوة تسري من النفس الكلية نحو العالم، فهي في الأشخاص الفاضلة النيرة التي هي الكواكب الثابتة، ثم بعد ذلك في الكواكب السيارة، ثم بعد ذلك فيما دونها من الأركان الأربعة، وفي الأشخاص الكائنة منها من المعادن والنبات والحيوان.
واعلم بأن مثال سريان قوى النفس الكلية في الأجسام الكلية والجزئية جميعا كمثال سريان نور الشمس والكواكب في الهواء ومطارح شعاعاتها نحو مركز الأرض.
واعلم يا أخي بأن الكواكب السيارة ترتقي تارة بحركاتها إلى أعلى ذرا أفلاكها وأوجاتها، وتقرب من تلك الأشخاص الفاضلة التي تسمى الكواكب الثابتة، وتستمد منها النور والفيض والقوى؛ وتارة تنحط إلى الحضيض، وتقرب من عالم الكون والفساد، وتوصل تلك الفيضات والقوى إلى هذه الأشخاص السفلية، فتسري فيها كما تسري قوة النفس الحيوانية في الدماغ، ثم بتوسط الأعصاب تصل إلى سائر أطراف البدن، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس. فإذا وصلت تلك القوى والفيضات مع شعاعاتها إلى هذا العالم فإنها تسري أولا في الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ثم يكون ذلك سببا لكون الكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان» (3: 1، 146-147).
أما عن كيفية نشوء الجزئيات المولدات، التي هي المعادن والنبات والحيوان، عن الأركان الأربعة، فللإخوان فيها نظرية تدل على تفكير علمي مادي سليم: «واعلم يا أخي بأن هذه الأركان الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، فيصير الماء تارة هواء، وتارة أرضا، وهكذا أيضا حكم الهواء، فإنه يصير تارة ماء، وتارة نارا. وكذلك النار، وذلك أن النار إذا أطفئت وخمدت صارت هواء، والهواء إذا غلظ صار ماء، والماء إذا جمد صار أرضا، وعكس ذلك أن الأرض إذا تحللت ولطفت صارت ماء، والماء إذا ذاب صار هواء، والهواء إذا حمي صار نارا، وليس للنار أن تلطف فتصير شيئا آخر، ولا للأرض أن تغلظ فتصير شيئا آخر. ولكن إذا اختلطت أجزاء هذه الأركان بعضها ببعض، كان منها المتولدات الكائنات الفاسدات التي هي المعادن والنبات والحيوان. وأصل هذه كلها البخارات والعصارات إذا امتزج بعضها ببعض، فالبخار ما يصعد من لطائف البحار والأنهار والآجام في الهواء من إسخان الشمس والكواكب لها بمطارح شعاعاتها؛ والعصارات مما ينجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار، وتخلط بالأجزاء الأرضية وتغلظ، فتنضجها الحرارة المستنبطة في عمق الأرض.
اعلم بأن أول ما يستحيل هي الأربعة الأركان إلى هذين الخليطين، أعني البخارات والعصارات، ويكون هذان الخليطان هيولى ومادة لسائر الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر، وذلك أن الشمس والكواكب إذا سخنت المياه ... قللت المياه، ولطفت أجزاء الأرض، وصارت بخارا ودخانا. والبخار والدخان يصيران سحابا، والسحاب يصير أمطارا، والأمطار إذا بللت التراب واختلطت الأجزاء الأرضية بالأجزاء المائية، تتكون منها العصارات، والعصارات تكون مادة وهيولى للكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان» (17: 2، 57-58).
وينسب الإخوان كل الحوادث التي تجري في العالم السفلي الذي دون فلك القمر إلى قوى طبيعية يجملونها تحت اسم «الطبيعة»، وهي القوى التي يدعوها الدين بالملائكة. وهي تمارس نشاطها الخلاق بواسطة الأشخاص الفلكية: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الطبيعة: إنما هي قوة من قوى النفس الكلية، منبثة منها في جميع الأجسام التي دون فلك القمر، سارية في جميع أجزائها كلها، تسمى باللفظ الشرعي الملائكة الموكلين بحفظ العالم وتدبير الخليقة، بإذن الله، وتسمى باللفظ الفلسفي: قوى طبيعية، وهي فاعلة في هذه الأجسام بإذن الباري، جل ثناؤه ... والأشخاص الفلكية للطبيعة كالأدوات للصانع، وذلك أن الفلك يدوم دورانه حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة، وبحركات كواكبه ومطارحه شعاعاته في سمك الهواء على سطح الأرض والبحار وإسخانها لا، يحلل المياه فيصيرها بخارا، ويلطف أجزاء التراب فيصيرها دخانا، وتختلطان، ويكون منهما المزاجات كما يكون من أصباغ المصورين. ثم إن قوى النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام المسماة الطبيعة، تنقش وتصور وتصوغ من تلك المزاجات والأخلاط أجناس الكائنات التي هي الحيوان والنبات والمعادن، بإذن الله، عز وجل» (18: 2، 63-65).
على أن الطبيعة في تكوينها للمولدات الجزئيات في عالم الكون والفساد، لا تعمل مستقلة عن الباري عز وجل، فهي قوة من قوى النفس الكلية، والنفس الكلية فيض عن المبدع الأول: «واعلم أن الله تعالى غير محتاج في أفعاله إلى الأدوات والآلات والأماكن والأزمان والهيولى والحركات، بل فعله الخاص به هو: الإبداع والاختراع، إذ الاختراع هو الإخراج من العدم إلى الوجود ...
واعلم أن طائفة من المجادلة أنكرت أفعال الطبيعة لما جهلت ماهية الطبيعة نفسها، ولم تدر أنها ملك من ملائكة الله تعالى الموكلين بتدبير عالمه وإصلاح خلائقه، فنسبت كل أفعال الطبيعة إلى الباري، جل ثناؤه، حسنة كانت أم سيئة، خيرا كانت أم شرا. وفيهم من نسب ما كان حسنا إلى الباري وما كان قبيحا إلى غيره ...
واعلم يا أخي أن الباري، جل ثناؤه، لا يباشر الأجسام بنفسه، ولا يتولى الأفعال بذاته، بل يأمر ملائكته الموكلين، وعباده المؤيدين، فيفعلون ما يؤمرون ... واعلم يا أخي أن هذه الصنائع والأفعال التي تجري على أيدي عباده، إذا نسبت إلى الباري، جل جلاله، فإن نسبتها على مثل نسبة أفعال الملوك، إذا قيل: بنى فلان الملك مدينة كذا، وحفر نهر كذا، وعمر بلد كذا ... فلأن ذلك كان بأمرهم وإرادتهم ومشيئتهم وعنايتهم، لا أنهم تولوا الأفعال بأنفسهم أو باشروا الأعمال بأجسامهم» (19: 2، 127-129).
فيما يأتي من هذا الفصل سوف نركز على العالم السفلي، عالم الكون والفساد، الذي هبطت إليه النفوس الجزئية من عالمها الروحاني، كيما تستكمل فضائلها وتسعى لإعتاق نفسها من هيولى المادة وظلمة الأجسام الكثيفة. فهذا العالم هو الذي ينشط فيه الإنسان الذي وضع الإخوان رسائلهم من أجل الكشف عن بصيرته وإفهامه شرطه.
في كيفية نضد عالم الكون والفساد
في وصفنا لكيفية نضد العالم، قلنا: إن العالم السفلي الذي ينتظم تحت فلك القمر يتألف من كرتين هما آخر الأكر الإحدى عشرة التي يتكون منها العالم بأسره، وهما كرة الهواء وكرة الأرض؛ لأن الأرض والماء كرة واحدة. ولكن الإخوان يعودون إلى إعطائنا تفصيلات أكثر بخصوص نضد عالم الكون والفساد ودوائره المتتابعة. «فأول الدوائر التي دون فلك القمر دائرة الأثير وهي دائرة كرية نارية حادثة من تحريك فلك القمر وما يتصل به من أفلاك الكواكب ونيران حرارات دوران الأفلاك واصطكاكاتها وتموجها وشعاعاتها، وتجتمع كلها تحت فلك القمر. وكيفية هذه الدائرة وردية متموجة متحركة مستديرة، ينحط منها إلى العالم قوى نارية، والنار التي في العالم منها، ويكون وصولها إلى العالم بوصول نور الشمس وهي الحرارة التي تنحل بنور الشمس مما دون فلك القمر، تقوى في الصيف وتضعف في الشتاء ... ومن فعل دائرة الأثير في العالم يكون التسخين والنضج وإصلاح الغذاء، وهي النار المستضاء بها من ظلمات الليل، وهي نار جزئية من النار الكلية.
ومن تحتها دائرة الزمهرير؛ وكيفيتها كرية لونها أزرق وتحمر، وحدوثها من الهواء والبخارات الصاعدة من الأرض، فإذا وصلت إلى سطح كرة الأثير تعذر عليها نفوذها فوقفت مرتبة تحتها. منها ينبث إلى العالم ما يحدث في الشتاء من البرد والأمطار والثلوج، وما شاكل ذلك، إذا بعدت الشمس وضعف فعل دائرة الأثير ... وفعلها البرد والرطوبة، ووصولها يكون بوصول [نور] القمر، ويزيد بزيادته وينقص بنقصانه.
ومن تحتها دائرة النسيم
3
وكيفيتها مستديرة ممتزجة، ولونها اسمانجوني، وهو لون السماء، وتبيض بإشراق الشمس والقمر والكواكب عليه، تضيء بالنهار وتظلم بالليل، وهي مهيأة لقبول الأنوار وتضيء بحسب قواها فيها ووصولها إليها وإشراقها عليها. وفعل هذه الدائرة في العالم تغذية الأجسام وحفظها على استواء النظام ، وترويح الحرارة الغريزية والنفس، وحفظ القوة والحركة، وطيبة العيش ولذة الحياة. وهي معتدلة تميل مع ما يقوى عليها ويتصل بها، تبرد في الشتاء بما يتصل بها من قوة الزمهرير، وتحمى في الصيف بما يتصل بها من قوة حر الأثير، وما يكون من فعل الشمس والقمر وبقية الكواكب، ذلك تقدير العزيز العليم.
ودون دائرة الهواء دائرة الماء، وهي مستديرة حائطة بالأرض، والهواء حائط بها، فما ينشفه الهواء ويصعد به ويعرج معه بالبخارات الصاعدة مع لطائف الأمهات حتى يتصل بدائرة الزمهرير ويسخن بحرارة الأثير، وتشرق الشمس عليه مع شعاعات الكواكب، فيصير مطرا وغيثا يغاث به أهل الأرض ويصير حلوا طيبا سائغا ... ومنه ما يكون قبل صعوده ملحا أجاجا كالبحار المالحة ...
وبعد دائرة الماء دائرة الأرض وهي التراب، وكيفيتها مستديرة، ولونها أسود، كثيفة جامدة، وعلى بسيطها مستقر الجثمانيين، وعلى ظهرها إشراق أنوار الروحانيين ... وهي مهبط الوحي والملائكة المقربين، وفي باطنها سكون المعادن، وفي البقاع الطيبة يستقر الماء المعين الذي هو لذة للشاربين سطحها مما يلي الأفلاك هو وجهها، وهو مقر العالم الجسماني، والخلق الإنساني ...
وإذ قد ذكرنا الدوائر التي هي دون فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض، فلنذكر الدوائر التي على سطح الأرض، الكائنة فيها، الصاعدة عنها، المستقرة عليها.
اعلم أيها الأخ أنه أول ما بدأ في باطن الأرض، وتحرك بالكون، المعادن؛ وهي دائرة كانت ذات قوة كامنة، كثيفة وثقيلة، منها صلبة ورخوة، ذات ألوان وأصباغ وزيادة ونقصان ... ولكل شكل منها فعل يختص به وقوة توجد فيه. ثم الدائرة التي فوقها التالية لها دائرة النبات، وهي مرتفعة عن الأرض بعد كونها مرتفعة نحو المحيط، قابلة لما ينزل عليها، وفعلها الغذاء للحيوان، وهي الواسطة بينه وبين الأرض بما يتناوله من ثمارها وحبوبها ...
والدائرة التي من فوقها دائرة الحيوان ... وهي حائطة بدائرة النبات، قاهرة لما يكون فيها، تأكل منها وتتغذى بها، ولكل جنس منها عمل وهو عامل له، وفعل يختص به، وفيها للإنسان منافع. والدائرة المرتبة فوق هذه الدوائر، التي هي لها كالفلك المحيط بالأفلاك ، دائرة عالم الإنسان، إذ كان المتحكم فيها كلها ...
وهذه النفوس الحيوانية المرتبة تحت الإنسان بالطاعة له والانقياد لأمره ونهيه، هم الملائكة الذين سجدوا لآدم، عليه السلام، وأقروا بالطاعة، وهم صور وأشباح للملائكة الذين هم سكان السماوات وعالم الأفلاك» (49: 4، 225-229).
في صفة الأرض
يقول الإخوان في مطلع رسالة الجغرافيا: «من أجل أن مذهب إخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، هو النظر في جميع الموجودات والبحث عن مبادئها وعن علة وجدانها، وعن مراتب نظامها، والكشف عن كيفية ارتباط معلولاتها بعللها بإذن باريها، جل ثناؤه، احتجنا إلى أن نذكر حال الأرض وكيفية صورتها، وسبب وقوفها في مركز العالم. وذلك أن المعرفة بحالها وبكيفية وقوفها في الهواء، من العلوم الشريفة؛ لأن عليها وقوف أجسامنا، ومنها بدأ كون أجسادنا ونشوءها ومادة بقائها، وإليها عودها عند مفارقة نفوسها. وأيضا، فإن النظر في هذا العالم يكون سببا لترقي همم نفوسنا إلى عالم الأفلاك مسكن العليين. وكثرة أفكارنا في عالم الأفلاك مسكن العليين. وكثرة أفكارنا في عالم الأفلاك تكون سببا لانتباه نفوسنا من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويدعوها ذلك إلى الانبعاث من عالم الكون والفساد إلى عالم البقاء والدوام» (4: 1، 158-159).
وفي الحقيقة فإن ما قدمه لنا الإخوان في وصف الأرض، يدل على معارف جغرافية واسعة تتفق في خطوطها العامة مع معارفنا الراهنة. فقد قاسوا محيط الأرض، وحددوا مركزها وطول قطرها، وأعطونا فكرة شاملة عن مناخاتها وأقاليمها، وعدد بحارها، وأهم سلاسل جبالها، وعدد أنهارها الرئيسة وأطوالها. وحددوا قطب الشمال وقطب الجنوب، ورسموا خط الاستواء وخطوط العرض والطول، والخط الطولي الرئيس الذي ندعوه اليوم بخط غرينتش. وإليكم بعض ما قدموه من معلومات: «وقبل وصفها [الأقاليم]، نحتاج إلى أن نذكر صفة الأرض وجهاتها الست، وكيفية وقوفها في الهواء. أما الجهات فهي الشرق والغرب والجنوب والشمال والفوق والأسفل. فالشرق من حيث تطلع الشمس، والغرب من حيث تغرب الشمس، والجنوب من حيث مدار سهيل [= السرطان]، والشمال من حيث مدار الجدي والفرقدين، والفوق مما يلي السماء، والأسفل مما يلي مركز الأرض.
والأرض جسم مدور مثل الكرة وهي واقفة في الهواء ... والهواء محيط بها من جميع جهاتها شرقها وغربها وجنوبها وشمالها ... وبعد الأرض من السماء من جميع جهاتها متساو. وأعظم دائرة في بسيط الأرض 25455 ميلا 6855 فرسخا، وقطر هذه الدائرة هو قطر الأرض 6551 ميلا 2167 فرسخا بالتقريب. ومركزها هي نقطة متوهمة في عمقها على نصف القطر، وبعدها من ظاهر سطح الأرض ومن سطح البحر من جميع الجهات متساو ... وليس شيء من ظاهر سطح الأرض من جميع جهاتها هو أسفل الأرض كما يتوهم كثير من الناس ... وذلك أنهم يتوهمون بأن سطح الأرض من الجانب المقابل لموضعنا هو أسفل الأرض، وليس الأمر كما توهموا ... وذلك أن أسفل الأرض بالحقيقة هو نقطة وهمية في عمق الأرض ... فأما سطحها الظاهر المماس للهواء، وسطح البحار من جميع الجهات، فهو فوق ...
واعلم يا أخي أن الإنسان أي موضع وقف على سطح الأرض ... فقدمه أبدا يكون فوق الأرض، ورأسه إلى فوق، مما يلي السماء، ورجلاه أسفل، مما يلي مركز الأرض. وهو يرى من السماء نصفها، والنصف الآخر يستره عنه حدبة الأرض، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الموضع إلى الموضع الآخر، ظهر له من السماء مقدار ما خفي عنه من الجهة الأخرى» (4: 1، 160-161).
وفي تعليلهم لسبب وقوف الأرض في وسط الهواء، يكشف الإخوان عن معرفتهم العامة بقانون الجاذبية: «وأما سبب وقوف الأرض في وسط الهواء ففيه أربعة أقاويل؛ منها ما قيل: إن سبب وقوفها هو جذب القلب لها من جميع جهاتها بالسوية، فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الجذب من جميع الجهات؛ ومنها ما قيل: إنه الدفع بمثل ذلك، فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الدفع من جميع الجهات؛ ومنها ما قيل: إن سبب وقوفها في الوسط هو جذب المركز لجميع أجزائها من جميع الجهات إلى الوسط؛ لأنه لما كان مركز الأرض مركز الفلك أيضا، وهو مغناطيس الأثقال بينما مركز الأرض، وأجزاء الأرض لما كانت كلها ثقيلة انجذبت إلى المركز، وسبق جزء واحد وحصل في المركز، ووقف باقي الأجزاء حولها، يعني حول النقطة، يطلب كل جزء منها المركز، فصارت الأرض بجميع أجزائها كرة واحدة بذلك السبب ... والوجه الرابع ما قيل في سبب وقوف الأرض في وسط الهواء هو خصوصية الموضع اللائق بها، وذلك أن الباري، عز وجل، جعل لكل جسم من الأجسام الكليات، يعني النار والهواء والماء والأرض، موضعا مخصوصا هو أليق المواضع به، وهكذا القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، جعل لكل واحد منها موضعا مخصوصا في فلكه هو ثابت فيه والفلك يديره معه» (4: 1، 162). «الأرض نصفها مغطى بالبحر الأعظم المحيط، والنصف الآخر مكشوف؛ مثلها مثل بيضة غائصة نصفها في الماء والنصف الآخر ناتئ من الماء. وهذا النصف المكشوف نصف منه خراب مما يلي الجنوب من خط الاستواء والنصف الآخر الذي هو الربع المسكون مما يلي الشمال من خط الاستواء. وخط الاستواء هو خط متوهم ابتداؤه من المشرق إلى المغرب تحت مدار رأس برج الحمل، والليل والنهار أبدا على ذلك الخط متساويان، والقطبان هناك ملازمان للأفق، أحدهما مما يلي مدار سهيل [= السرطان] والآخر في الشمال مما يلي الجدي ... وهذا الربع الشمالي المسكون من الأرض سبعة أبحر كبار، وفي كل بحر منها عدة جزائر، تكسير كل جزيرة منها عشرون فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ. فمنها بحر الروم وفيه نحو خمسين جزيرة، ومنها بحر الصقالبة وفيه نحو ثلاثين جزيرة، ومنها بحر جرجان وفيه خمس جزائر، ومنها بحر القلزم وفيه نحو خمس عشرة جزيرة، ومنها بحر فارس وفيه سبع جزائر، ومنها بحر السند والهند وفيه نحو ألف جزيرة، ومنها بحر الصين وفيه نحو مائتي جزيرة ... وأما بحر الغرب وبحر يأجوج ومأجوج وبحر الزنج، وبحر الزانج، والبحر الأخضر، والبحر المحيط فخارج عن هذا الربع المسكون، وكل واحد من هذه الأبحر شعبة وخليج من البحر المحيط، وكلها مالح.
وفي هذا الربع أيضا مقدار مائتي جبل طوال، منها ما طوله من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ ... ومنها ما يمتد طوله من المشرق إلى المغرب، أو من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يتنكب ما بين المشرق والجنوب، ومنها ما يتنكب ما بين المشرق والشمال ... وفي هذا الربع أيضا مقدار مائتين وأربعين نهرا، طول كل نهر منها من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ. فمنها ما جريانه من المشرق إلى المغرب، ومنها ما جريانه من الغرب إلى الشرق، ومنها من الشمال إلى الجنوب، ومنها من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يتنكب من هذه الجهات. وكل هذه الأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار في جريانها وإلى البطائح والبحيرات، وتسقي في ممرها المدن والقرى والسوادات، وما يفضل من مائها ينصب إلى البحار، ويختلط بماء البحر، ثم يصير بخارا ويصعد في الهواء، وتتراكم منه الغيوم وتسوقه الرياح إلى رءوس الجبال والبراري، ويمطر هناك ويسقي البلاد، فتجري الأودية والأنهار ويرجع إلى البحار من الرأس، وذلك دأبها.
وفي هذا الربع سبعة أقاليم تحتوي على سبعة عشر ألف مدينة كبيرة، يملكها نحو من ألف ملك ... كل إقليم منها كأنه بساط مفروش قد مد طوله من المشرق إلى المغرب وعرضه من الجنوب إلى الشمال ... واعلم أن هذه الأقاليم السبعة ليست أقاليم طبيعية، وإنما خطوط وهمية وضعتها الملوك الأولون الذين طافوا الربع المسكون من الأرض؛ ليعلموا بها حدود البلدان والمسالك والممالك. وأما ثلاثة أرباعها الباقية فمنعهم من سلوكها الجبال الشامخة والمسالك الوعرة،
4
والبحار الزاخرة، والأهوية المتغيرة المفرطة التغير من الحر والبرد والظلمة. مثال ذلك ما في ناحية الشمال مما يلي مدار الجدي، فإن هناك بردا مفرطا جدا؛ لأنه ستة أشهر يكون الشتاء هناك ليلا كله، فيظلم الهواء ظلمة شديدة، وتجمد المياه بشدة البرودة، ويتلف النبات والحيوان. وفي مقابل هذا الموضع في ناحية الجنوب حيث مدار سهيل [= السرطان] يكون نهارا كله، ستة أشهر صيفا ...
فاعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن حدود الأقاليم معتبرة بساعات النهار وتفاوت الزيادة فيها. وبيان ذلك أنه إذا كانت الشمس في أول برج الحمل كان طول الليل والنهار وساعاتهما تتساوى في هذه الأقاليم كلها. فإذا سارت الشمس في درجات برج الحمل والثور والجوزاء ، اختلفت ساعات نهار كل إقليم، حتى إذا بلغت آخر الجوزاء الذي هو أول السرطان، صار طول النهار في وسط الإقليم الأول ثلاث عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصفا، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة ... وفي المواضع التي عرضها ست وستون درجة وما زاد إلى تسعين درجة، يصير نهارا كله.
واعلم أن معنى كل طول بلدة ومدينة هو بعدها من أقصى المغرب [= خط غرينتش]، ومعنى عرضها: هو بعدها من خط الاستواء، وخط الاستواء هو الموضع الذي يكون الليل والنهار هناك أبدا متساويين. فكل مدينة على ذلك الخط فلا عرض لها، وكل مدينة في أقصى المغرب فلا طول لها أيضا ...
واعلم أن الأرض بجميع ما عليها من الجبال والبحار بالنسبة إلى سعة الأفلاك ما هي إلا كالنقطة في الدائرة، وذلك أن في الفلك ألفا وتسعة وعشرين كوكبا، أصغر كوكب منها مثل الأرض ثماني عشرة مرة، وأكبرها مائة وسبع مرات، فلشدة البعد وسعة الأفلاك تراها كأنها الدر المنثور على بساط أخضر. فإذا فكر الإنسان في هذه العظمة، تبين له حكمة الصانع وجلالة عظمته، فينتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويعلم أنه ما خلق هذه الأشياء إلا لأمر عظيم، وذلك قوله تعالى
ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ... .
5
واعلم يا أخي بأن من دخل الدنيا وعاش فيها زمنا طويلا مشغولا بالأكل والشرب والنكاح، دائبا في طلب الشهوات ... متمنيا الخلود فيها، تاركا لطلب العلم، مهملا لرياضة النفس، متوانيا في الاستعداد للرحلة إلى الدار الآخرة، حتى إذا فني العمر ... ثم خرج من هذه الدار جاهلا لم يعرف صورتها، ولم يفكر في الآيات التي في آفاقها ... فمثلهم مثل قوم دخلوا إلى مدينة ملك عظيم حكيم عادل، قد بناها بحكمته، وأعد فيها من طرائف صنعته ما يقصر الوصف عنها إلا بالمشاهدة لها ... ثم دعا عبادا له إلى حضرته ليمنحهم بالكرامة، وأمرهم بالورود إلى تلك المدينة في طريقهم، لينظروا إليها ويبصروا ما فيها، ويتفكروا في عجائب مصنوعاته، ويعتبروا غرائب مصوراته، ليروض بها نفوسهم، فيصيرون برؤيتها ومعرفتها حكماء أخيارا فضلاء، فيصلون إلى حضرته، ويستحقون كرامته. فوردها قوم ليلا فباتوا طول ليلتهم مشغولين بالأكل والشرب واللعب واللهو، ثم خرجوا منها سحرا لا يدرون من أي باب دخلوا، ولا من أيها خرجوا، ولا رأوا مما فيها شيئا من آثار حكمته وغرائب صنعته، ولا انتفعوا بشيء منها أكثر من تمتعهم تلك الليلة بالأكل والشرب حسب. فهكذا حكم أبناء الدنيا الواردين إليها جاهلين، الماكثين فيها متحيرين مكرهين، المنكرين أمر الدار الآخرة، الراحلين عنها كما قال الله، جل ثناؤه:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا »
6 (4: 1، 162-169).
حول هذه الكرة الأرضية التي وصفناها بمقاطع منتقاة من رسائل إخوان الصفاء، تنشط في كرة الهواء ظواهر جوية ذات أثر كبير في الحياة الأرضية، مثل حركة الرياح والضباب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والشهب والمذنبات. وقد وصف الإخوان هذه الظواهر وعللوها تعليلات علمية تتفق في معظمها مع ما قدمته لنا العلوم الحديثة. وفي الأحوال التي قصروا فيها عن بلوغ الأرب وإصابة الحقيقة، فإن تقصيرهم لا يعزى إلى خلل في المنهج، وإنما إلى محدودية مساحة المعرفة العلمية في ذلك الزمان.
في الظواهر الطبيعية «اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من ذكر الأركان الأربعة، أردنا أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالآثار العلوية حوادث الجو وتغييرات الهواء وكيفية حدوثها بتأثيرات الأشخاص الفلكية فيها. ولكن من أجل أن كثيرا من الناس العقلاء يظنون أن المطر ينزل من السماء من بحر هناك، وأن البرد يقع من جبال، ثم يستشهدون على صحة ظنونهم بقوله عز وجل: ... وأنزلنا من السماء ماء طهورا
7
وقوله تعالى: ... وينزل من السماء من جبال فيها من برد ...
8
ولا يعرفون معاني قوله سبحانه، ولا تفسير آيات كتابه، جل ثناؤه، احتجنا أن نذكر فيها طرفا لتزول الشكوك والشبهة.
واعلم يا أخي بأن معنى السماء في لغة العرب هو كل ما علا الرءوس، وأن المطر إنما ينزل من السحاب، والسحاب يسمى سماء لارتفاعه في الجو، ويسمى أيضا السحاب جبالا لتراكمه بعض فوق بعض كتراكم أركان الجبال وركود أطوادها بعضها فوق بعض، كما يرى ذلك في أيام الربيع والخريف كأنها جبال من قطن مندوف متراكم بعضه فوق بعض» (18: 2، 62-63). «إنا قد بينا في رسالة السماء والعالم أن كرة الهواء محيطة بكرة الأرض من جميع جهاتها، وأن سمكها من ظاهر سطح الأرض إلى أدنى فلك القمر مثل قطر الأرض ست عشرة مرة ونصفها، وذلك أن قطر الأرض ألفان ومائة وسبعة ستون فرسخا، فيكون سمك الهواء 35758 فرسخا» (18: 2، 65). وفيما يتعلق بكرة النسيم، وهي الأدنى إلى الأرض وفيها ينشط معظم الظواهر الجوية: «إن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم ستة عشر ألف ذراع ارتفاعا في الهواء، وأقله ما يطابق سطح الأرض. ومن الدليل على أن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم هذا المقدار هو أن أعلى جبل يوجد على الأرض لا يجاوز ارتفاع رأسه في الهواء هذا المقدار ...
اعلم يا أخي أن أول ما يقبل الهواء من التغييرات والاستحالات هو النور والظلمة والحر والبرد، ثم ما يحدث فيه من اختلاف الرياح من كثرة البخارات المتصاعدة، والدخانات الساطعة المطبقة، وتتبعها الزوابع والهالات والضباب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والهزات، ثم الأمطار والطل والندى والصقيع والثلوج والبرد وقوس قزح والشهب وكواكب الأذناب، وما يتبع هذه من هيجان البحار والمد والجزر في البحار» (18: 2، 68). «واعلم يا أخي أن الهواء بحر واقف، لطيف الأجزاء، خفيف الحركة، سريع السيلان، سهل القبول للتغيرات والحوادث. وقد بينا في رسالة الحاس والمحسوس كيفية قبوله للنور والظلمة والأصوات والروائح، وكيفية قبوله البرد والحر في رسالة الكون والفساد. ونريد أن نصف في هذا الفصل كيفية حدوث الرياح، وكمية أنواعها وجهاتها، واختلاف تصاريفها، وما العلة المحركة لها في وقت دون وقت، وفي بلد دون بلد؛ ونبين أيضا كيفية سياقة الغيوم من البحار إلى البراري والقفار ورءوس الجبال، وكيف تهز السحاب حتى يهطل القطر ...
واعلم أن الريح ليست شيئا سوى تموج الهواء بحركته إلى الجهات الست، كما أن أمواج البحر ليست شيئا سوى حركة الماء وتدافع أجزائه إلى الجهات الأربع. وذلك أن الماء والهواء بحران واقفان، غير أن أجزاء الماء غليظة ثقيلة الحركة، وأجزاء الهواء لطيفة خفيفة الحركة.
واعلم يا أخي أن أحد أسباب حركة الهواء، هو أن صعود البخار من البحار والبراري والقفار، أثار من البحار بخارا رطبا، ومن البراري والقفار دخانا يابسا، فيدفع الهواء بعضه بعضا إلى الجهات، فيتسع المكان للبخارين الصاعدين. فإن كان الدخان اليابس أكثر، كانت منه الرياح؛ لأن تلك الأجزاء إذا صعدت إلى أعلى كرة النسيم وبردت ومنعها برد الزمهرير عن الصعود إلى فوق، عطفت عند ذلك راجعة إلى أسفل، ودافعت الهواء إلى الجهات الأربع، فكانت منها الرياح المختلفة.
واعلم أن الرياح كثيرة التصاريف في الجهات الست، ولكن جملتها أربعة عشر نوعا، المعروف منها عند جمهور الناس أربع ... وذلك أن الهواء إذا تموج من المشرق إلى المغرب، يسمى ذلك التموج ريح الصبا، وإذا تموج من الجنوب إلى الشمال يسمى التيمن، وإذا تموج من المغرب إلى المشرق يسمى الدبور، وإذا تموج من الشمال إلى الجنوب يسمى الجريباء ...
وأما التي تهب من أسفل إلى فوق، فمنها تكون الزوابع، وهما ريحان تلتقيان وتصعدان، كما يلتقي الماء في الكرادات وعند نزوله في البلاليع والثقب. وأما التي تهب من فوق إلى أسفل، فمنها الريح الصرصر التي أهلكت عادا ...
وإذا ذكرنا ماهية الريح وكمية أنواعها وجهات هبوبها، فإنا نريد أن نذكر علة تصاريفها في الجهات، وما الغرض منها، وذلك أن أحد الأغراض من تصاريفها هو أن تسوق الغيم من سواحل البحار إلى البلدان البعيدة والبراري المقصودة بها.
وأيضا فإن أحد الأغراض من الجبال الشامخة الطوال المسطوحة على بسيط الأرض شرقا وغربا وجنوبا وشمالا هو أن تمنع الرياح من سوق السحاب إلى غير البلدان والبراري المقصودة بها ... ولهذه الجبال الشامخة غرض آخر، وذلك أن في أجوافها مغارات وأهوية واسعة، فإذا هطلت في رءوسها الأمطار والثلوج وذابت، غاضت المياه في تلك المغارات والأهوية، وصارت فيها كالمخزونة. وفي أسفل تلك الجبال منافذ ضيقة تخرج منها المياه المخزونة في تلك المغارات والأهوية، وهي العيون، وتجري منها جداول، وتسير منها أودية وأنهار تجري فتسقي الزروع والأشجار، وما يفضل منها ينصب إلى البحار والآجام والغدران، وتلطفها الشمس وتصعدها بخارا من الرأس، وتكون منها الغيوم والسحاب، وتسوقها الرياح إلى المواضع المقصودة بها، كما كان عام أول. وذلك دأبها أبدا، ذلك تقدير العزيز العليم ...
واعلم يا أخي أنه إذا ارتفعت البخارات في الهواء، وتدافع الهواء إلى الجهات، ويكون تدافعه إلى جهة أكثر من جهة، ويكون من قدام له جبال شامخة مانعة، ومن فوق له برد الزمهرير مانع، ومن أسفل مادة البخارين متصلة، فما يزال البخاران يكثران ويغلظان في الهواء، وتتداخل أجزاء البخارين بعضها في بعض، حتى يسخن ويكون منها سحاب مؤلف متراكم. وكلما ارتفع السحاب بردت أجزاء البخارين، وانضمت أجزاء البخار الرطب بعضها إلى بعض، وصار ما كان دخانا يابسا ريحا، وما كان بخارا رطبا ماء وأنداء. ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضها إلى بعض، وتصير قطرا بردا؛ وتثقل فتهوي راجعة من العلو إلى السفل، فتسمى حينئذ مطرا ... وإن ارتفعت تلك البخارات في الهواء قليلا، وعرض لها البرد، وصارت سحابا رقيقا، وإن كان البرد مفرطا جمد القطر الصغار في حلل الغيم، فكان من ذلك الجليد أو الثلج ... فإن عرض لها برد مفرط في طريقها جمدت وصارت بردا قبل أن تبلغ إلى الأرض ... ... وأما البروق والرعود فإنهما يحدثان في وقت واحد، ولكن البرق يسبق إلى الأبصار قبل الصوت إلى المسامع؛ لأن أحدهما روحاني الصورة وهو الضوء، والآخر جسماني وهو الصوت ... وأما علة حدوثهما فهي البخاران الصاعدان إذا اختلطا في الهواء، والتف البخار الرطب على البخار اليابس الذي هو الدخان، واحتوى برد الزمهرير على البخار الرطب، وضغطهما، فانحصر البخار اليابس في جوف البخار الرطب، والتهب في جوف البخار الرطب، وطلب الخروج دفعة، وانخرق البخار الرطب، وتفرقع من حرارة الدخان اليابس، كما تتفرقع الأشياء الرطبة إذا احتوت عليها النار دفعة واحدة، وحدث من ذلك قرع في الهواء، واندفع إلى جميع الجهات ... وانقدح من خروج ذلك البخار اليابس الدخاني ضوء يسمى البرق، كما يحدث من دخان السراج المنطفئ إذا أدني من سراج مشتعل ثم ينطفئ . وربما يذوب ذلك البخار ويصير ريحا، ويدور في جوف السحاب، ويطلب الخروج، فيسمع له دوي وتقرقر، كما تسمع من الجوف المنتفخ ريحا. وربما ينشق السحاب دفعة واحدة بشدة، فيكون من ذلك صوت هائل يسمى صوت الصاعقة ... فإنها تقتل كثيرا من الحيوانات القريبة منها ومن الناس أيضا ... وكذلك حكم البروق أيضا، وذلك أن من شأن النار أن تتحرك إلى فوق، فإذا منعها السحاب المتراكم رجعت منحطة إلى الأرض، فأحرقت ما أتت عليه من الحيوان والنبات.
وأما الهالة التي تكون حول الشمس والقمر، فإنها تدل على المطر ورطوبة الهواء. وذلك أنها تحدث في أعلى سطح كرة النسيم وقتما يرتفع البخار إلى هناك، ويأخذ يتألف منه الغيم. وعلتها أن النيرين إذا أشرقا على ذلك السطح انعكس شعاعهما، من هناك إلى فوق، وحدث من ذلك الانعكاس دائرة كما يحدث من إشراقهما على سطح الماء. ويشف رسم تلك الدائرة من تحت ذلك الغيم الرقيق ...
وأما قوس قزح فإنه يحدث في سمك كرة النسيم عند ترطيب الهواء مشبعا، ولا يكون وضعه إلا منتصبا قائما، وحدبته إلى فوق مما يلي سطح كرة الزمهرير، وطرفاه إلى أسفل مما يلي وجه الأرض. ولا يكاد يحدث إلا في طرفي النهار في الجهة المقابلة لموضع الشمس مشرقا أو مغربا ... وأما علة حدوث هذا القوس فهي أيضا إشراق الشمس على أجزاء ذلك البخار الرطب الواقف في الهواء، وانعكاس شعاعها منه إلى ناحية الشمس. وأما أصباغه التي ترى فهي أربعة ... هذه القوس إذا حدثت وكانت أصباغها مشبعة، تدل على ترطيب الهواء وكثرة العشب والكلأ وزكاء ثمر الشجر وحب الزرع، فيكون ظهورها ورؤيتها كالبشارة قدمتها الطبيعة للحيوان والناس ... وأما ترتيب ألوانها فإن الحمرة أبدا تكون فوق الصفرة والصفرة دونها، والزرقة دون الخضرة فإن وجدت قوسا أخرى دونها، ترتبت هذه الألوان في القوس السفلي عكس ذلك. ... وأما الحوادث التي في سمك كرة الزمهرير فهي الشهب ... وأما هيولاها ومادتها فهو الدخان اليابس اللطيف، الصاعد من الجبال والبراري؛ فإذا بلغت تلك المادة في صعودها إلى الفصل المشترك بين كرة الزمهرير وبين كرة الأثير، استدارت هناك وتشكلت واشتعلت فيها نار الأثير، كما تشتعل نار السراج في دخان السراج المنطفئ، وكما تشتعل نار البرق في الدخان اليابس الدهني الذي في السحاب، وكما تشتعل النار في النفط الأبيض ثم تفنيه بسرعة فينطفئ. ومما يدل على أن مادتها دخان يابس كثرة ما يرى منها في سني الجدب.
وأما كيفية تشكل هذه الدخانات، إذا صعدت إلى هناك واشتعلت فيها النار، فإنها إذا اعتبرت بالفكر، وجدت تارة كأنها أعمدة مخروطة قائمة قاعدتها مما يلي كرة النار، ومخروطها مما يلي وجه الأرض. ودليل ذلك أنه إذا اشتعلت النار فيها ترى عظيمة الاشتعال، ثم لا تزال تصغر وتنخرط وتقل حتى تنطفئ.
وقد يظن كثير من الناس أن انقضاض هذه الشهب هي كواكب تسقط ويرمى بها من السماء في الهواء إلى الأرض، ويستدلون على صحة ظنونهم الكاذبة بقوله تعالى:
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين ...
9
وليس في هذه الآية دلالة على أن الكواكب هي ترمى بأنفسها؛ لأنك إذا قلت: اتخذت هذه القوس لأرمي بها العدو والكفار، فليس في قولك دلالة على أنك ترمي بنفس القوس، بل ترمي عنها بالنشاب، فهكذا قوله تعالى: ... وجعلناها رجوما للشياطين ... ؛
10
أي يرمون بالشهب؛ لأن هذه الشهب لا تحدث في الهواء إلا بإشراق هذه الكواكب وشعاعاتها في الهواء، كما بينا من قبل. وقد فسرنا معنى هذه الآية وأخواتها في رسائل لنا ...
ومما يدل على أن هذه الشهب تحدث قريبة من الأرض، بعيدة عن فلك القمر، سرعة حركتها، فإنها في لحظة تمر من المشرق إلى المغرب، أو من المغرب إلى المشرق. فلو كانت قريبة من فلك القمر لما رأيت حركتها بهذه السرعة ...
وأما الكواكب ذوات الأذناب التي تظهر في بعض الأحايين قبل طلوع الشمس أو بعد غروبها، فإنها لا تحدث إلا في كرة الأثير قريبا من فلك القمر. والدليل على ذلك دورانها مع فلك القمر ، تارة بالتقدم على توالي البروج كمسير الكواكب السيارة، وتارة بالتأخر كرجوعها. وأما مادتها التي تتكون منها فهي دخان وبخار لطيفان يصعدان إلى هناك، فينعقدان بقوة زحل وعطارد، وتكون شفافة كشفيف البلور ... فلا تزال تدور مع الفلك وتطلع وتغيب إلى أن تضحمل وتتلاشى» (17: 2، 68-85).
بهذا المنهج المادي في تفسير الظواهر الطبيعية، يتابع الإخوان تفسير استحالات المولدات الجزئيات وهي المعادن والنبات والحيوان، والتي تتكون وتحدث وتتغير وتفسد بطول الزمان والدهور، وتناوب الليل والنهار، وتعاقب الفصول على الأركان الأربعة واختلاف أحوالها بموجب أحكام النجوم، وبحسب أشكال الفلك ومسيرات الكواكب ومطارح شعاعاتها.
في تكون المعادن
في مطلع رسالة المعادن يأخذنا الإخوان في جولة علمية شيقة أخرى تكشف لنا مزيدا من أسرار الظواهر الطبيعية. فقد كان لديهم حدس صائب بخصوص ما ندعوه اليوم بالعصور الجيولوجية التي تعاقبت على الأرض، وبخصوص التغيرات المناخية الكبرى التي تطرأ على هذا الكوكب، وتؤدي إلى إعادة تشكيل الهيئات الطبيعية على سطحه: «إن الأرض بجملتها نصفان، نصف شمالي ونصف جنوبي. وظاهر كل قسم منها ينقسم إلى نصفين، فتكون جملته أربعة أرباع، كل ربع منها موصوف بأربعة أنواع، فمنها مواضع براري وقفار وفلوات وخراب، ومنها مواضع البحار والأنهار والآجام والغدران، ومنها مواضع الجبال والتلال والارتفاع والانخفاض، ومنها مواضع المراعي والقرى والمدن والعمران.
واعلم يا أخي أن هذه المواضع تتغير وتتبدل على طول الدهور والأزمان، وتصير مواضع الجبال براري وفلوات، وتصير مواضع البراري بحارا وغدرانا وأزهارا، وتصير مواضع البحار جبالا وتلالا وسباخا وآجاما ورمالا، وتصير مواضع العمران خرابا، ومواضع الخراب عمرانا ...
واعلم بأن في كل ثلاثة آلاف سنة تنتقل الكواكب الثابتة، وأوجات الكواكب السيارة وجوزهراتها، في البروج ودرجاتها. وفي كل تسعة آلاف سنة تنتقل إلى ربع من أرباع الفلك. وفي كل ستة وثلاثين ألف سنة تدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة. فبهذا السبب تختلف مسامتات الكواكب ومطارح شعاعاتها على بقاع الأرض وأهوية البلاد، ويختلف تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف عليها، إما باعتدال واستواء، أو بزيادة ونقص وإفراط من الحرارات والبرودات، واعتدال منهما. وتكون هذه أسبابا وعللا لاختلاف أحوال الأرباع من الأرض، وتغييرات أهوية البلاد والبقاع وتبديلها بالصفات من حال إلى حال» (19: 2، 91-92).
بعد ذلك ينتقل الإخوان إلى تفسير عدد من الظواهر الطبيعية، مثل علة هيجان البحار وارتفاع مياهها وشدة تلاطم أمواجها، وعلة المدة والجزر في البحار، وعلة اختلاف طعوم مياه العيون والينابيع، وعلة ملوحة طعم مياه البحر، والزلازل والبراكين، وفيض الأنهار، ومد نهر مصر، وغير ذلك مما لا يتيح لنا المجال الدخول في تفصيلاتها. نأتي الآن إلى مسألة المعادن، والتي يأتي ترتيبها الأول في التكون، ثم يليها النبات، ثم الحيوان. «واعلم أن الجواهر المعدنية كثيرة الأنواع ... وقد ذكر بعض الحكماء ... أنه عرف وعد منها نحو تسعمائة نوع، كلها مختلفة الطباع والشكل واللون والطعم والرائحة والثقل والخفة، والمضرة والنفع. ونريد أن نذكر منها طرفا ليكون دلالة على الباقية وقياسا عليها، فنقول: إن من الجواهر المعدنية ما هو حجري صلب، لكن يذوب بالنار، ويجمد إذا برد، مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والأسرب (الرصاص الأسود الرديء) والرصاص والزجاج وما شاكلها. ومنها ما هي صلبة حجرية لا تذوب إلا بالنار الشديدة، ولا تنكسر إلا بالماس، كالياقوت والعقيق. ومنها ترابي رخو لا يذوب ولكن ينفرك، كالأملاح والزاجات والطلق. ومنها مائية رطبة تفر من النار كالزئبق. ومنها هوائي دهني تأكله النار كالكباريت والزرانيخ. ومنها نباتي كالمرجان الأبيض والأحمر. ومنها حيواني كالدر. ومنها طل منعقد كالعنبر والبازهرات، وذلك أن العنبر إنما هو طل يقع على سطح ماء البحر، فينعقد في مواضع مخصوصة في زمان معلوم ... وكذلك الدر فإنه طل يرسخ في أصداف نوع من الحيوان البحري، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه ... والطل هو رطوبة هوائية تجمد من برد الليل وتقع على النبات والحجر والشجر والصخور. وعلى هذا القياس حكم جميع الجواهر المعدنية، فإن مادتها إنما هي رطوبات ومياه وأندية وبخارات تنعقد بطول الوقوف وممر الزمان في البقاع المخصوصة لها. فقد تبين بما ذكرنا أن الجواهر المعدنية مركبة كلها مع اختلاف أنواعها ... مركبة كلها ومؤلفة من أجزاء ترابية صلبة ثقيلة مظلمة مشفة ، ومن أجزاء مائية رطبة سيالة صافية بين الثقل والخفة، ومن أجزاء هوائية خفيفة لينة دهنية صافية نيرة، ومن حرارة قوية أو ضعيفة منضجة أو مقصرة، ومن تأليف على نسبة فاضلة أو دون ذلك من النسب التأليفية ...
اعلم يا أخي أن تلك الرطوبات المختنقة في باطن الأرض والبخارات المحتبسة هناك إذا احتوت عليها حرارة المعدن تحللت ولطفت وخفت وتصاعدت علوا إلى سقوف تلك الأهوية والمغارات، ومكثت هناك زمانا. وإذا برد باطن الأرض في الصيف، جمدت وغلظت وتقاطرت راجعة إلى أسفل تلك الأهوية والمغارات، واختلطت بتربة تلك البقاع وطينها، ومكثت هناك زمانا، وحرارة المعدن دائما في نضجها وطبخها، وهي تصفو بطول وقوفها وتزداد ثقلا وغلظا، وتصير تلك الرطوبات بما يخالطها من الأجزاء الترابية ... زئبقا رجراجا، وتصير تلك الأجزاء الهوائية الدهنية، وما يتعلق بها من الأجزاء الترابية بطبخ الحرارة لها بطول الزمان، كبريتا محترقا.
فإذا اختلطت أجزاء الكبريت والزئبق مرة ثانية، تمازجت واختلطت واتحدت، والحرارة دائمة في نضجها وطبخها، فتنعقد عند ذلك ضروب الجواهر المعدنية المختلفة. وذلك أنه إذا كان الزئبق صافيا والكبريت نقيا، واختلطت أجزاؤهما، وكانت مقاديرهما على النسبة الأفضل ... وكانت حرارة المعدن على الاعتدال في طبخها ونضجها، ولم يعرض لها عارض من البرد واليبس قبل إنضاجها، انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز؛ وإن عرض لها البرد قبل النضج انعقدت وصارت فضة بيضاء؛ وإن عرض لها اليبس من فرط الحرارة وزيادة الأجزاء الأرضية، انعقدت فصارت نحاسا أحمر يابسا ... وعلى هذا القياس تختلف الجواهر المعدنية بأسباب عارضة خارجة عن الاعتدال وعن النسبة الأفضل من زيادة الكبريت والزئبق ونقصانهما، وإفراط الحرارة أو نقصانها، أو برد المعادن قبل نضجها أو خروجها عن الاعتدال. فعلى هذا القياس حكم الجواهر المعدنية الترابية.
وأما الجواهر الحجرية مثل البلور والياقوت والزبرجد والعقيق، وما شاكلها من التي لا تذوب بالنار، فإنها تنعقد من مياه الأمطار والأنداء التي ترشح في تلك المغارات والكهوف والأودية التي من الجبال الصلدة والأحجار الصلبة، ولا يخالطها شيء من الأجزاء الترابية والطين، بل بطول الزمان كلما طال وقوفها هناك، ازدادت المياه بقاء وثقلا وغلظا، وحرارة المعدن دائما في نضجها وطبخها ، حتى تنعقد وتصير حجارة صلبة صافية ...
وأما حكم الجواهر الترابية في كيفية تكوينها، فهي أن تلك المياه إذا اختلطت بتربة البقاع وعملت فيها حرارة المعدن، تحل أكثر تلك الرطوبات، وتصير بخارا يرتفع في الهواء كما ذكرنا قبل، وما بقي منه يكون محبوسا ملازما للأجزاء الأرضية، متحدا بها، عملت فيها الحرارة وأنضجتها وطبختها، حتى تغلظ وتنعقد. فإن تكن تربة تلك البقاع مشورجة سبخة، تكونت منها ضروب الأملاح والبوارق والشبوب، وإن تكن تربة البقاع عفصة، انعقدت منها ضروب الزاجات الخضر والصفر ... وإن تكن تربة البقاع حصاة وترابا ورمالا مختلطة، انعقد منها الجص والإسفيذاج وما شاكلها، وإن تكن تربة البقاع لينة وطينا حرا انعقدت منها الكمأة، ونبتت منها ضروب العشب والحشائش والأشجار والزروع» (19: 2، 104-108).
استمرارا لنظريتهم في النفوس الجزئية المنبثقة عن النفس الكلية والحالة في المولدات الجزئيات، يرى إخوان الصفاء في المعادن نوعا من الوعي الخافت لا يبلغ مرتبة وعي بقية المولدات من نبات وحيوان. هذه الفكرة تبدو لنا أقل غرابة إذا عرفنا أن علماء الفيزياء الكمومية الحديثة قد ألمحوا إلى وجود مثل هذا الوعي في المادة، عندما أذهلهم سلوك بعض الجسيمات الدقيقة في التجارب المخبرية، ولم يستطيعوا تفسيرها إلا بوجود وعي غامض في المادة غير الحية. يقول الإخوان: «واعلم يا أخي أن لهذه الجواهر خواص كثيرة، طباعها مختلفة: فمنها متضادة متنافرة، ومنها متشاكلة متآلفة، ولها تأثيرات بعضها في بعض، إما جذبا وإمساكا أو دفعا ونفورا. ولها أيضا شعور خفي وحس لطيف كما للنبات والحيوان، إما شوقا ومحبة، وإما بغضا وعداوة ... والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الحكماء في كتاب الأحجار ونعتهم لها أن طبيعة تؤلف طبيعة، وطبيعة تناسب طبيعة أخرى، وطبيعة تلصق بطبيعة، وطبيعة تأنس بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة ... [القائمة التي يوردها الإخوان طويلة، وهذا شرح لبعض فقراتها]:
فأما الطبيعة التي تألف طبيعة أخرى فمثل الألماس والذهب، فإنه إذا قرب من الذهب التصق به وأمسكه ... ومثل طبيعة حجر المغناطيس في جذب الحديد، فإن هذين الحجرين يابسين صلبين، بين طبيعتهما ألفة واشتياق، فإذا قرب الحديد من هذا الحجر حتى يشم رائحته ذهب إليه والتصق به، وجذبه الحجر إلى نفسه ... وعلى هذا القياس، ما من حجر من الأحجار المعدنية إلا وبين طبيعته وبين طبيعة شيء آخر ألفة واشتياق، عرف الناس ذلك أم لم يعرفوه ... وأما الطبيعة التي تقهر طبيعة أخرى فمثل طبيعة السنباذج التي تأكل الأحجار عند الحك أكلا، وتلينها وتجعلها ملسا. ومثل طبيعة الأسرب الوسخ الذي يفتت الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة ... وأما الطبيعة التي تزين طبيعة أخرى وتنورها فمثل النوشادر الذي يغوص في قعر الأحجار ويغسلها من الوسخ. وأما الطبيعة التي تعين على طبيعة أخرى، فمثل البورق الذي يعين النار على سبك هذه الأحجار المعدنية الترابية، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنورها ... وعلى هذا القياس والمثال حكم سائر الأحجار» (19: 2، 110-112). «وقد تبين مما ذكرنا أن الجواهر المعدنية، مع كثرة أنواعها واختلاف طبائعها وفنون خواصها، أصلها كلها وهيولاها هي الأركان الأربعة التي تسمى الأمهات، وهي النار والهواء والماء والأرض. وتبين أيضا أن الفاعل فيها والمؤلف لأجزائها والمركب لها هي الطبيعة بإذن الله تعالى؛ وتبين بأن الغرض من هذه الجواهر المعدنية هو منافع الناس والحيوان، وإصلاح أمر الحياة الدنيا ومعيشة الحيوان إلى وقت معلوم» (19: 2، 127).
في تكون النبات (بوادر نظرية التطور)
للإخوان نظرية في التطور الطبيعي سبقت بنحو ألف عام الفكر التطوري الذي ظهر في العصور الحديثة في القرن التاسع عشر. فالمولدات الكائنات التي دون فلك القمر، وهي المعادن والنبات والحيوان، أصلها كلها من مادة واحدة، واختلافها بالصور فقط، وهي مرتبطة ببعضها البعض في نظام تسلسلي بواسطة حلقات وصل. «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري، جل ثناؤه، لما أبدع الموجودات واخترع الكائنات، جعل أصلها كلها من هيولى واحدة، وخالف بينها بالصور المختلفة، وجعلها أجناسا وأنواعا مختلفة متفننة متباينة، وقوى ما بين أطرافها، وربط أوائلها وأواخرها بما قبلها رباطا واحدا على ترتيب ونظام لما فيه من إتقان الحكمة وإحكام الصنعة لتكون الموجودات كلها عالما واحدا منتظما نظاما واحدا وترتيبا واحدا لتدل على صانع أحد.
فمن تلك الموجودات المختلفة الأجناس، المتباينة الأنواع، المربوطة أوائلها بأواخرها، وأواخرها بما قبلها في الترتيب والنظام، المولدات الكائنات التي دون فلك القمر، وهي أربعة أجناس: المعادن والنبات والحيوان والإنسان. وذلك أن كل جنس منها تحته أنواع كثيرة، فمنها ما هو في أدون المراتب، ومنها ما هو في أشرفها وأعلاها، ومنها ما هو بين الطرفين. فأدون أطراف المعادن مما يلي التراب الجص والزاج وأنواع الشبوب، والطرف الأشرف الياقوت والذهب الأحمر، والباقي بين هذين الطرفين من الشرف والدناءة.
وهكذا أيضا حكم النبات، فإنه أنواع كثيرة متباينة متفاوتة، ولكن منه ما هو في أدون الرتبة مما يلي رتبة المعادن، وهي خضراء الدمن، ومنها ما هو في أشرف الرتبة مما يلي رتبة الحيوان، وهي شجرة النخل. وبيان ذلك أن أول المرتبة النباتية وأدونها مما يلي التراب هي خضراء الدمن، وليس بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم تصيبه الأمطار وأنداء الليل، فيصبح بالغد كأنه نبت زرع وحشائش. فإذا أصابه حر شمس نصف النهار جف ...
وأما النخل فهو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أحواله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتا. بيان ذلك أن القوة الفاعلة منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، ولأشخاص فحولته لقاح في إناثها كما يكون ذلك للحيوان ... وأيضا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها ونشوءها وماتت. كل ذلك موجود في الحيوان ...
فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط، وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة ... تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة، وتبسط يمنة ويسرة تطلب مادة يتغذى بها جسمها ... وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق إلا الحس اللمس فقط. وهكذا أيضا الديدان التي تتكون من الطين وفي قعر البحار وأعماق الأنهار ... لأن الحكمة الإلهية من مقتضاها أن لا تعطي الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في جذب المنفعة ودفع المضرة؛ لأنها لو أعطته ما لا يحتاج إليه لكان وبالا عليه في حفظه وبقائه. فهذا النوع حيواني نباتي لأن جسمه ينبت كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما؛ وهو من أجل غذائه يتحرك جسمه حركة اختيارية حيوانية، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة، فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية. وتلك الحاسة أيضا فقد يشارك بها النبات، وذلك أن النبات له حس اللمس فقط. والدليل على ذلك إرساله بعروقه نحو المواضع الندية، وامتناعه عن إرسالها نحو الصخور واليبس، وأيضا فإنه متى اتفق منبته في مضيف مال وعدل عنه طالبا الفسحة والسعة ... فهذه الأفعال تدل على أن له حسا وتمييزا بمقدار الحاجة.
إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية ليست من وجه واحد ولكن من عدة وجوه. وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدنا للفضل وينبوعا للمناقب، لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان ولكن عدة أنواع، فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه ... والفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزار ونحوهما من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان ... وما من حيوان يستعمله الناس ويأنس بهم إلا ولنفسه قرب من نفس الإنسانية» (21: 2، 166-170).
بعد شرحهم لتداخل مراتب المولدات الجزئيات يتابع الإخوان موضوع تكون النبات في رسالتهم المعنونة: «في أجناس النبات» وهذه مقاطع من أهم ما ورد فيها: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن النبات مصنوعات ظاهرة جلية لا تخفى، ولكن صانعها وعلتها باطنة خفية محتجبة عن إدراك الأبصار لها، وهي التي يسميها الفلاسفة القوى الطبيعية، ويسميها الناموس الملائكة وجنود الله الموكلين بتربية النبات وتوليد الحيوانات وتكوين المعادن، ونحن نسميها النفوس الجزئية. والعبارات مختلفة والمعنى واحد ...
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لكل نوع من النبات أصلا، فما أصله لكيموس [= خليط] ما، وليكيموسه مزاج ما، لا يتكون من ذلك المزاج إلا ذلك الكيموس، ولا يتكون من ذلك الكيموس إلا ذلك النوع من النبات، وإن كان يسقى بماء واحد، وينبت في تربة واحدة، ويلحقها نسيم هواء واحد، وتنضجها حرارة شمس واحدة ... وذلك أن أجزاء الأركان إذا اجتمعت واختلطت وامتزجت واتحدت، صارت هيولى، ليتكون النبات. والمسبب في اجتماعها واختلاطها هو دوران الأفلاك حول الأركان، ومسيرات الكواكب في البروج، ومطارح شعاعاتها في جو الهواء نحو مركز الأرض. كل ذلك بإذن الله تعالى ولطيف حكمته، فهو الذي خلق الأفلاك وأدارها، وقسم البروج وأطلعها، وصور الكواكب وسيرها ... وأما كيفية ذلك فنحن نذكرها ونبينها لقوم يعقلون ...
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الشمس إذا طلعت على آفاق البلاد ... حميت مياه البحار والأنهار، ولطفت أجزاؤها وصارت بخارا لطيفا خفيفا وصارت غيوما ... وساقتها الرياح إلى رءوس الجبال والبراري والقفار والقرى والسوادات والمزارع، وهطلت هناك الأمطار، وابتل وجه الأرض، وشرب التراب رطوبة الماء، واختلطت أجزاؤه واتحدت؛ فإذا طلعت الشمس على وجه الأرض وسخنتها حيث تلك الأجزاء المائية، جفت وأخذت ترتقي من قعر الأرض إلى وجهها، ورفعت معها تلك الأجزاء الأرضية المتحدة بها إلى ظاهر سطح الأرض، ثم إن قوى النفس البسيطة التي هي دون فلك القمر السارية في الأركان، تصور من تلك المادة أنواع النبات بفنون أشكالها وألوان أصباغها، كما يعمل الصناع البشريون في أسواق المدن فنون المصنوعات من الهيولات الموضوعات في صناعتهم ...
واعلم يا أخي بأن قوى النفس الكلية الفلكية البسيطة التي ذكرنا أنها تعمل أجناس النبات وأنواعها هي التي ذكرت في كتب الأنبياء، عليهم السلام، أنها ملائكة الله وجنوده ... ونحن نسمي ما كان منها موكلا بالنبات النفس النباتية. واعلم يا أخي أن الله، جل ثناؤه، قد أيد النفس النباتية بسبع قوى فعالة، وهي: القوة الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة الغاذية، والقوة المصورة، والقوة النامية.
واعلم بأن كل قوة من هذه تفعل شيئا خلاف ما تفعل القوة الأخرى في أجسام الحيوان والنبات. فأما أول فعلها في تكوين النبات فهو جذبها عصارات الأركان الأربعة، ومصها لطينها ... ثم إمساكها لها بالقوة الماسكة، ثم نضجها لها بالهاضمة، ثم دفعها إلى أطرافها بالدافعة، ثم تغذيتها لها بالغاذية، ثم النمو والزيادة في أقطارها بالنامية، ثم التصوير لها بأنواع الأشكال والأصباغ بالمصورة. وذلك أن القوة الجاذبة إذا مصت نداوة الماء بعروق النبات ... وجذبتها، انجذبت معها الأجزاء الترابية اللطيفة لشدة انجذابها، فإذا حصلت تلك المادة في عروق النبات أنضجتها الهاضمة، وصارت كيموسا على مزاج ما شاكلها من الجرم والعروق، وتناولتها القوة الغاذية وألصقت بكل شكل ما يلائمه من تلك المادة، وزادت في أقطارها طولا وعرضا وعمقا، وما فضل من تلك المادة ولطف ورق دفعته إلى فوق في أصول النبات وقضبانها وأغصانها، وجذبته الجاذبة إلى هناك، وأمسكته الماسكة لئلا يسيل راجعا إلى أسفل. ثم إن القوة الهاضمة تنضجها مرة ثانية ...
واعلم يا أخي أن النباتات هي كل جسم يخرج من الأرض ويتغذى وينمو، فمنها ما هي أشجار تغرس قضبانها أو عروقها، ومنها ما هي زروع تبذر حبوبها أو بذورها أو قضبانها، ومنها ما هي أجزاء تتكون من أجزاء الأركان إذا اختلطت وامتزجت، كالكلأ والحشائش. فهذه ثلاثة الأجناس يتنوع كل واحد منها أنواعا كثيرة من جهات عدة وصفات مختلفة، نحتاج أن نذكر منها طرفا، ونشرحها ليكون قياسا على باقيها ...» (21: 2، 152-158).
بعد ذلك يدخل الإخوان في تفاصيل عن هذه الأقسام الثلاثة، فيصفون أشكالها وأجناسها وأماكن نموها وأزمان نموها، ويصفون ثمارها وألوانها وطعومها، وما إلى ذلك مما لا نرى ضرورة للخوض فيه.
في تكون الحيوان
في رسالتهم عن كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها، يقدم لنا إخوان الصفاء فصلا جديدا في نظريتهم عن التطور الطبيعي. فالنبات ظهر قبل الحيوان، والحيوان ظهر قبل الإنسان، والحيوانات الدنيا ظهرت قبل الحيوانات العليا. وقد تكون الحيوان والإنسان في المناطق الواقعة تحت خط الاستواء، فهناك تكون آدم وحواء ثم توالدا. أي إن آدم وحواء البشريان لم يعرفا الجنة قط، وإنما عرفها آدم وحواء الروحيان؛ وليست قصة الهبوط من الجنة، كما سنرى في فصول قادمة، إلا رواية عن قصة هبوط النفس من مكانتها السامية وحلولها في العالم المادي. كما أدرك الإخوان بحدسهم الصائب أن الحياة تكونت في البحار أولا: «واعلم أيها الأخ ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الجواهر المعدنية هي في أدون مراتب المولدات من الكائنات، وهي كل جسم متكون منعقد من أجزاء الأركان الأربعة؛ وأن النبات يشارك الجواهر في كونها من الأركان، ويزيد عليها وينفصل بأنه كل جسم يتغذى من الأركان وينمو ويزيد في أقطاره الثلاثة طولا وعرضا وعمقا؛ وأن الحيوان يشارك النبات في الغذاء والنمو، ويزيد عليه وينفصل عنه بأنه جسم متحرك حساس؛ والإنسان يشارك النبات والحيوان في أوصافها ويزيد عليها وينفصل عنها بأنه ناطق مميز، جامع لهذه الأوصاف كلها.
ثم اعلم يا أخي بأن النبات متقدم الكون والوجود على الحيوان بالزمان؛ لأنه مادة لها، وهيولى لصورها، وغذاء لأجسادها، وهو كالوالدة للحيوان، أعني النبات. وذلك أنه يمتص رطوبات الماء ولطائف أجزاء الأرض بعروقه إلى أصوله، ثم يحيلها إلى ذاته، ويجعل من فضائل تلك المواد ورقا وثمارا وحبوبا نضيجا، ليتناول الحيوان غذاء صافيا هنيئا مريئا، وذلك كما تفعل الوالدة بالولد، فإنها تأكل الطعام نضيجا ونيئا وتناول ولدها لبنا خالصا سائغا للشاربين. فلو لم يكن النبات يفعل ذلك من الأركان لكان يحتاج الحيوان إلى أن يتغذى من الطين صرفا، ومن التراب سفا، ويكون منغصا في غذائه وملاذه. فانظر يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، إلى معرفة حكمة الباري، جل ثناؤه، كيف جعل النبات واسطة بين الحيوان وبين الأركان ... لطفا من الله تعالى بخلقه ...
ثم اعلم يا أخي، أيدك الله إيانا بروح منه، بأن من الحيوان ما هو تام الخلقة كامل الصورة كالتي تنزو وتحبل وترضع، ومنها ما هو ناقص الخلقة كالتي تتكون من العفونات، ومنها ما هو بين ذلك كالحشرات والهوام، التي تنفذ وتبيض وتحضن وتربي.
ثم اعلم بأن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق، وذلك أنها تتكون في زمان قصير، والتي هي تامة الخلقة تتكون في زمان طويل لأسباب وعلل يطول شرحها. ونقول أيضا: إن حيوان الماء وجوده قبل وجود حيوان البر بزمان؛ لأن الماء قبل التراب، والبحر قبل البر في بدء الخلق .
واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء كونها من الطين أولا، من ذكر وأنثى توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلا وجبلا، وبرا وبحرا، من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار متساويين، والزمان أبدا معتدلا هناك بين الحر والبرد، والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائما. وهناك أيضا تكون أبونا آدم أبو البشر وزوجته، ثم توالدا وتناسلت أولادهما، وامتلأت الأرض منهم سهلا وجبلا، وبرا أو بحرا إلى يومنا هذا.
ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات كلها متقدمة الوجود على الإنسان بالزمان؛ لأنها له ولأجله، وكل شيء هو من أجل شيء آخر فهو متقدم الوجود عليه. هذه الحكمة في أولية العقل لا تحتاج إلى دليل من المقدمات ونتائجها؛ لأنه لو لم يتقدم وجود هذه الحيوانات على وجود الإنسان لما كان للإنسان عيش هنيء ولا نعمة سائغة، بل كان يعيش عيشا نكدا ...
واعلم يا أخي بأن الحيوان هو جسم متحرك حساس يتغذى وينمو ويحس ويتحرك حركة مكان، وأن من الحيوان ما هو في أشرف المراتب مما يلي رتبة الإنسانية، وهو ما كانت له الحواس الخمس والتمييز الدقيق وقبول التعليم. ومنه ما هو في أدون رتبة مما يلي النبات، وهو كل حيوان ليس له إلا حاسة اللمس حسب، كالأصداف وما كان كأجناس الديدان كلها تتكون في الطين أو في الماء أو في الخل أو في لب الثمر ... وهذا النوع من الحيوانات أجسامه لحمية وبدنه متخلخل وجلده رقيق، وهو يمتص المادة بجميع بدنه بالقوة الجاذبة، ويحس باللمس وليس له حاسة أخرى. وهو سريع التكون وسريع الهلاك والفساد والبلى ... ومنها ما هو أتم وأكمل، وهو كل حيوان له لمس وذوق وشم، وليس له سمع ولا بصر، وهي الحيوانات التي تعيش في قعر البحار والمياه والمواضع المظلمة. ومنها ما هو أتم وأكمل، وهو كل حيوان من الهوام والحشرات التي تدب في المواضع المظلمة، له لمس وذوق وسمع وشم ، وليس له بصر، مثل الحلمة ... ومنه ما هو أتم بنية وأكمل صورة، وهو ما له خمس حواس كاملة، ثم يتفاضل في الجودة والدون ...
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أبدان الحيوانات التامة الخلقة، والناقصة الخلقة جميعا، مؤلفة ومركبة من أعضاء مختلفة ... وما من عضو في أبدان الحيوانات صغيرا كان أم كبيرا إلا وهو خادم لعضو آخر، ومعين له ... مثال ذلك الدماغ في بدن الإنسان، فإنه ملك الجسد، ومنشأ الحواس، ومعدن الفكر، وبيت الرؤية، وخزانة الحفظ، ومسكن النفس، ومجلس محل العقل. وإن القلب خادم للدماغ ومعينه في أفعاله، وإن كان هو أمير الجسد، ومدبر البدن، ومنشأ العروق الضوارب، وينبوع الحرارة الغريزية. وخادم القلب ومعينه في أفعاله ثلاثة أعضاء أخرى، وهي الكبد والعروق الضوارب والرئة ...
وهكذا أيضا حكم الرئة بيت الريح، يخدمها ويعينها في أفعالها أربعة أعضاء أخرى، وهي الصدر والحجاب والحلقوم والمنخران. وذلك أن من المنخرين يدخل الهواء المستنشق إلى الحلقوم، ويعتدل فيه مزاجه، ويصل إلى الرئة ويتصفى فيها، ثم يدخل إلى القلب ويروح الحرارة الغريزية هناك، وينفذ من القلب إلى العروق الضوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذي يسمى النبض، ويخرج من القلب الهواء المحترق إلى الرئة، ومن الرئة إلى الحلقوم، ومن الحلقوم إلى المنخرين أو إلى الفم.
11
والصدر يخدم الرئة في فتحه لها عند استنشاق الهواء، وضمه إياها عند خروج النفس. والحجب تحفظ الرئة من الآفات العارضة لها عند الصدمات والدفعات واضطراب أحوال البدن.
وهكذا حكم الكبد تخدمه المعدة بانضمام الكيموس قبل وصوله إليه ... وتخدمه المرارة بجذب المرة الصفراء إلى نفسها وتصفية الدم منها، وتخدمه الكليتان بجذب الرطوبة الرقيقة اللينة منها إلى نفسها، وهو الذي يكون منه البول؛ وتخدمه العروق المجوفة بجذب الدم إليها وإيصاله إلى سائر أطراف الجسد، الذي هو مادة لجميع أجزاء البدن ... وعلى هذا المثال والقياس سائر الأعضاء. والغرض الأقصى منها كلها هو بقاء الشخص وتتميمه وتبليغه إلى أكمل حالاته» (22: 2، 180-191).
بعد ذلك يدخل الإخوان في تفاصيل مطولة عن حيوان البر وحيوان الماء وطيور الجو، ويبحثون في أجناسها وأنواعها وسلوكها، مما لا يتسع المجال لذكره هنا.
لقد رأينا في عرضنا لتكوين المولدات الجزئيات كيف تعمل قوى الكواكب من خلال الأركان الأربعة على توليد المعادن والنبات والحيوان. ولكن للكواكب أفعال أخرى في الكائنات التي دون فلك القمر. سوف نعمل على شرحها فيما يأتي.
أفعال الكواكب في عالم الكون والفساد «واعلم يا أخي بأن جسم العالم بأسره بمنزلة جسم إنسان واحد، وأن جميع أفلاكه وطبقات سماواته وكواكب أفلاكه وأركان طبائعه ومولداتها، من جملة جسمه، بمنزلة أعضاء بدن إنسان واحد ومفاصل جسده؛ فإن نفسه تدير أفلاكه وتحرك كواكبها بإذن الباري، جل وعز، كما تحرك نفس إنسان واحد أعضاء جسده ومفاصل بدنه؛ وإن للنفس بحركات كواكبه فيما دون فلك القمر من الأركان ومولداتها، أفعالا فيها وبها ومنها لا يحصي عددها إلا الله سبحانه ... فكما أن في الجسد سبع قوى فعالة بها قوام أمر الجسد وصلاح حاله، وهي: القوة الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة الغاذية، والقوة النامية، والقوة المصورة. ولكل قوة من هذه عضو مخصوص من الجسد، منه تسري القوة إلى جميع أعضاء الجسد، وبه تظهر أفعالها في البدن، وهي المعدة والكبد والقلب والدماغ والرئة والطحال والمرارة [عددها 7]. فكما أن من هذه الأعضاء تبث هذه القوى في البدن، وتنشر أفعالها في الجسد، فهكذا حكم أفعال هذه الكواكب السبعة في الفلك؛ وكما أن من إفراط أفعال هذه القوى ونقصانها يعرض في البدن الاضطراب والتألم، فهكذا من إفراط تأثيرات هذه الكواكب ونقصان أفعال قوتها تكون المناحس والفساد في عالم الكون. وشرح أحكام النجوم طويل ... ولكن نذكر منها طرفا فنقول:
إنه ينبث من جرم الشمس قوة روحانية في جميع العالم، فتسري في أفلاكه وأركان طبائعه ومولداتها، في جميع الأجساد الكلية والجزئية، وبها يكون صلاح العالم وتمام وجوده وكمال بقائه، كما تنبعث من القلب الحرارة الغريزية في جميع الجسد ... ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما انبث منها في العالم روحانيات الشمس ... ويسمي الناموس هذه القوة ملكا ذا جنود وأعوان، وإسرافيل منهم صاحب الصور.
وهكذا ينبث من جرم زحل قوة روحانية تسري في جميع العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون تماسك الصور في الهيولى، وانبثاثها كما تنبث من جرم الطحال قوة الخلط السوداوي في جميع الجسد ومفاصله، وبها يكون تماسك الأجزاء في البدن من العظام والعصب والجلد، وجمود الرطوبات التي لو لم تكن لسال هيولى الجسد كما يسيل الماء والهواء. ويسمي الفلاسفة هذه القوة روحانيات زحل، والناموس يسميها ملكا ذا جنود وأعوان، وملك الموت منهم، ومنكر ونكير أيضا.
وهكذا ينبث من جرم المريخ قوة روحانية تسري في جميع العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون النزوع والنهوض نحو المطالب، والنشاط نحو الأعمال والصنائع، والترقي في المعالي، وطلب الغايات للبلوغ إلى التمام والوصول إلى الكمال في الموجودات كلها. وتسمي الفلاسفة هذه القوة وما ينبث منها في العالم روحانيات المريخ، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان، وجبرائيل منهم، ومنهم مالك الغضبان وخزنة جهنم أجمعون. وسريانها في العالم وانبثاث قواها، كما ينبث من جرم المرارة والقوة الصفراوية المميزة للأخلاط، الموصلة بها إلى مواضعها المقصودة من أطراف البدن ونهايات الجسد، المثيرة للغضب والحقد والحمية وما يشاكلها.
وهكذا ينبث من جرم المشتري قوة روحانية تسري في جميع العالم، بها يكون اعتدال الطبائع المتضادات، وتأليف القوى المتنافرات، وسبب المتولدات الكائنات، وحفظ النظام على الموجودات، كما ينبث من الكبد رطوبة الدم التي بها تعتدل أخلاط الجسد، ويستوي مزاج الطبائع، وينمو الجسد وتنشأ الأبدان، وتطيب الحياة ويلذ بالعيش، وتأنس الأرواح وتألف النفوس. وتسمي الفلاسفة هذه القوة وما ينبث من أفعالها روحانيات المشتري، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان، ورضوان خازن الجنان منهم.
وهكذا ينبث من جرم الزهرة قوة روحانية فتسري في جميع العالم وأجزائه، وبها تكون زينة العالم وحسن نظامه وبهاء أنواره، ورونق الموجودات وزخرف الكائنات، والتشوق إليها والعشق لها، والمحبات والمودات أجمع، كما ينبث من جرم المعدة شهوة الملاذ إلى جميع مجاري الحواس، التي بها تستلذ المشتهيات وتستطاب النعم وتستحسن الزينة، ومن أجلها يراد البقاء في الدنيا ولا يتمنى الوصول إلى الآخرة. ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما يتفرع منها روحانيات الزهرة، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان، منها الحور العين وخزان الجنان.
وهكذا ينبث من جرم عطارد قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، بها تكون المعارف والإحساس في العالم والخواطر والإلهام والوحي والنبوة والعلوم أجمع، كما تنبث من الدماغ القوة الوهمية، وما يتبعها من الذهن والتخيل والروية والتمييز والفراسة والخواطر والإلهام والشعور والإحساس والمعارف والعلوم أجمع. وتسمي الفلاسفة هذه القوة وما يتبعها روحانيات عطارد، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان، والولدان الذين هم خدام أهل الجنان، والكرام البررة، والكرام الكاتبون منهم.
وهكذا ينبث من جرم القمر قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، وتكون النفس للموجودات في العالمين جميعا، تارة من عالم الأفلاك إلى عالم الكون والفساد من أول الشهر، وتارة من عالم الكون والفساد نحو عالم الأفلاك من آخر الشهر. وهي القوة المتوسطة بين عالم الأفلاك معدن البقاء والدوام، وبين عالم الأركان معدن الكون والفساد، كما ينبث من جرم الرئة القوة التي يكون فيها التنفس ... ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما ينبث عنها من الأفعال روحانيات القمر، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان. فبهذه القوة تنزل الملائكة بالوحي والبركات من السماء، وبها يصعد بأعمال بني آدم إلى السماء ...
وهكذا ينبث من كل كوكب من الثوابت قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم من أعلى الفلك الثامن الذي هو الكرسي الواسع إلى منتهى مركز الأرض، كما ينبث نور الشمس في الهواء والأجسام الشفافة. وبهذه القوة تحفظ صورة أجناس الموجودات في الهيولى، وبها صلاح العالم وقوام وجوده بإذن الباري، عز وجل، ومنها ثبات سكان السماوات والأرضيين، وإليها أشار بقوله تعالى: ... وما يعلم جنود ربك إلا هو ...
12 ... وحملة العرش منهم. (20: 2، 143-148).
قبل أن نختم فصل «صفة العالم»، لا بد من التعرف على بعض المفاهيم الفيزيائية التي عالجها الإخوان بحرفية فلسفية عالية وهي: الحركة والسكون، الهيولى والصورة، الزمان والمكان.
مفاهيم فيزيائية «لما كان النظر في علم الطبيعيات جزءا من أجزاء صناعة إخواننا، أيدهم الله، والأصل في هذا العلم هو معرفة خمسة أشياء، وهي: الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من معاني هذه الأشياء» (15: 2، 5).
في الهيولى والصورة «اعلم، وفقك الله، أن معنى قول الحكماء الهيولى، إنما يعنون به كل جوهر قابل للصورة، وقولهم الصورة، يعنون به كل شكل ونقش يقبله الجوهر.
واعلم أن اختلاف الموجودات إما هو بالصورة لا بالهيولى، وذلك أنا نجد أشياء كثيرة جوهرها واحد، وصورها مختلفة. مثال ذلك: السكين والسيف والفأس والمنشار وكل ما يعمل من الحديد من الآلات والأدوات والأواني، فإن اختلاف أسمائها من أجل اختلاف صورها، لا من أجل اختلاف جواهرها؛ لأن كلها بالحديد واحد ... وعلى هذا المثال يعتبر حال الهيولى والصورة في المصنوعات كلها؛ لأن كل مصنوع لا بد له من هيولى وصورة يركب منهما.
واعلم أن الهيولى على أربعة أنواع، منها هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكل، والهيولى الأولى. فهيولى الصناعة هي كل جسم يعمل منه وفيه الصانع صنعته، كالخشب للنجارين ... والغزل للحاكة، والدقيق للخبازين، وعلى هذا القياس كل صانع لا بد له من جسم يعمل صنعته فيه ومنه ... أما الأشكال والنقوش التي يعملها فيها، فهي الصورة. فهذا هو معنى الهيولى والصورة في الصنائع.
وأما الهيولى الطبيعية فهي الأركان الأربعة، وذلك أن كل ما تحت فلك القمر من الكائنات، أعني النبات والحيوان والمعادن، فمنها تتكون وإليها تستحيل عند الفساد. أما الطبيعة الفاعلة لهذا، فهي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية ...
وأما هيولى الكل، فهي الجسم المطلق الذي منه جملة العالم، وأعني الأفلاك والكواكب والأركان والكائنات أجمع؛ لأنها كلها أجسام وإنما اختلافها من أجل صورها المختلفة. وأما الهيولى الأولى فهي جوهر بسيط معقول لا يدركه الحس، وذلك أنه صورة الوجود حسب، وهو الهوية. ولما قبلت الهوية الكمية صارت بذلك جسما مطلقا مشارا إليه أنه ذو ثلاثة أبعاد التي هي الطول والعرض والعمق. ولما قبل الجسم الكيفية وهي الشكل، كالتدوير والتثليث والتربيع وغيرها من الأشكال، صار بذلك جسما مخصوصا مشارا إليه، أي شكل هو؛ فالكيفية هي كالثلاثة (بين الأعداد)، والكمية كالاثنين، والهوية كالواحد. وكما أن الثلاثة متأخرة الوجود عن الاثنين، كذلك الكمية متأخرة الوجود عن الهوية؛ والهوية هي متقدمة الوجود على الكمية والكيفية ...
ثم اعلم أن الهوية والكمية والكيفية كلها صور بسيطة معقولة غير محسوسة، فإذا تركت على بعض صار بعضها كالهيولى، وبعضها كالصورة. فالكيفية هي صورة في الكمية والكمية هيولى لها، والكمية هي صورة في الهوية والهوية هيولى لها. والمثال في ذلك من المحسوسات أن القميص صورة في الثوب [= القماش] والثوب هيولى له، والثوب صورة في الغزل والغزل هيولى له، والغزل صورة في القطن والقطن هيولى له، والقطن صورة في النبات والنبات هيولى له، والنبات صورة في الأركان وهي هيولى له، والأركان صورة في الجسم والجسم هيولى لها، والجسم صورة في الجوهر والجوهر هيولى له ... وعلى هذا المثال يعتبر حال الصورة عند الهيولى وحال الهيولى عند الصورة، إلى أن تنتهي الأشياء كلها إلى الهيولى الأولى التي هي صورة الوجود حسب، لا كيفية فيها ولا كمية، وهي جوهر بسيط لا تركيب فيه بوجه من الوجوه، قابل للصور كلها ولكن على الترتيب، الأول فالأول. مثال ذلك: أن الحب لا يقبل صورة العجين إلا بعد قبوله صورة الدقيق، والدقيق لا يقبل صورة الخبز إلا بعد قبوله صورة العجين، وعلى هذا المثال يكون قبول الهيولى للصور واحدة بعد أخرى.
ثم اعلم أن الأجسام كلها جنس واحد من جوهر واحد وهيولى واحدة، وإنما اختلافها بحسب اختلاف صورها، ومن أجلها [أي صورها] صار بعضها أصفى من بعض وأشرف. وذلك أن عالم الأفلاك أصفى وأشرف من عالم الأركان، وعالم الأركان بعضها أشرف من بعض؛ وذلك أن النار أصفى من الهواء وأشرف منه، والهواء أصفى من الماء وألطف منه، والماء أصفى من التراب وأشرف منه. وكلها أجسام طبيعية يستحيل بعضها إلى بعض ... إذا تكونت أجزاؤها يكون منها المولدات، أعني المعادن والنبات والحيوان، لكن يكون بعضها أشرف تركيبا من بعض، وذلك أن الياقوت أصفى من البلور وأشرف منه، والبلور أصفى من الزجاج وأشرف منه، والزجاج أصفى من الخزف وأشرف منه ... وكلها أحجار معدنية أصلها كلها الزئبق والكبريت ... وكذلك حكم الحيوان والنبات، فإنها بالهيولى واحد، واختلافها وشرف بعضها على بعض بحسب اختلاف صورها. ... وكل جسم قبل صورة ما، فإنه عند ذلك يكون أفضل من كونه ساذجا، فهكذا الحكم في جواهر النفوس، وذلك أن كلها جنس واحد وجوهر واحد، وأن اختلافها بحسب معارفها وأخلاقها وآرائها وأعمالها؛ لأن هذه الحالات هي صور في جواهرها وهي كالهيولى. وكذلك النفس الجزئية إذا قبلت علما من العلوم تكون أفضل وأشرف من سائر النفوس التي هي من أبناء جنسها.
ثم اعلم أن العلوم في النفس ليست بشيء سوى صور المعلومات انتزعتها النفس وصورتها في فكرها، فيكون عند ذلك جوهر النفس لصور تلك المعلومات كالهيولى، وهي فيها كالصورة.
واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يقاربها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة، وكلما كانت أكثر قبولا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء، عليهم السلام ... ومثل نفوس المحققين من الحكماء، التي استنبطت علوما كثيرة حقيقية ... ومثل نفوس الكهنة والمخبرة بالكائنات قبل كونها بدلائل فلكية وعلامات زجرية. وإلى مثل هذه النفوس أشاروا بقولهم: الفلسفة هي التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية» (15: 2، 5-10). «ثم اعلم أن الأمور الإلهية هي الصور المجردة من الهيولى، وهي جواهر باقية خالدة لا يعرض لها الفساد والآفات، كما يعرض للأمور الجسمانية. واعلم أن نفسك هي إحدى تلك الصور، فاجتهد في معرفتها لعلك تخلصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام وأسر الطبيعة ...» (15: 2، 21).
في المكان «أما المكان عند الجمهور فهو الوعاء الذي يكون فيه المتمكن. فيقال إن الماء مكانه الكوز الذي هو فيه، وإن الخل مكانه الزق الذي هو فيه، وعلى هذا القياس مكان كل شيء هو الوعاء الذي هو فيه ... وبالجملة مكان كل متمكن هو الجسم المحيط به. وقيل أيضا إن المكان هو سطح الجسم الحاوي الذي يلي المحوي، وقيل لا بل المكان هو سطح الجسم المحوي الذي يلي الحاوي، وعلى كلا الرأيين والقولين يجب أن يكون المكان جوهرا. وقيل إن المكان هو الفصل المشترك بين سطح الجسم الحاوي وسطح المحوي، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان عرضا. وقيل أيضا إن المكان هو الفضاء الذي يكون فيه الجسم ذاهبا طولا وعرضا وعمقا، وإن مكان كل جسم مثله سواء، فإن كان الجسم مدور الشكل أو مربعا أو مثلثا أو غيرها من الأشكال، فإن مكانه مثله سواء لا أصغر ولا أكبر ... وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان جوهرا.
واعلم أن الذين قالوا إن المكان هو الفضاء، إنما نظروا إلى صورة الجسم، ثم انتزعوها من الهيولى بالقوة الفكرية، وصوروها في نفوسهم، وسموها الفضاء، وإذا نظروا إليها وهي في الهيولى سموها المكان، وهذا يدل على قلة معرفتهم بجوهر النفس وكيفية معارفها ومعانيها.
واعلم أن من شرف جوهر النفس وعجائب قواها، أنها تنتزع صورة المحسوسات من هيولاها، وتصورها في ذاتها، وتنظر إليها خلوا من الهيولى، وتفرق بين الهيولى والصورة، وتنظر إلى كل واحد منها تارة مفردة، وتارة مركبة ... وتتوهم أيضا أن خارج العالم فضاء إلى ما لا نهاية له ... وأن المدة [= الزمان] جوهر أسبق من نشوء العالم، وأن الجزء من الهيولى يتجزأ أبدا، وما شاكل هذه المسائل ...» (15: 2، 12-13). «وقد ظن قوم من أهل العلم، أن بين فضاء الأفلاك وأطباق السماوات وأجزاء الأمهات مواضع فارغة، وأن وراء الفلك المحيط جسم آخر وخلاء بلا نهاية. وكلا الحكمين لا حقيقة له؛ لأن قد قام بالبرهان العقلي أن الخلاء [= الفراغ] غير موجود أصلا، لا خارج العالم ولا داخله؛ لأن معنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه، والمكان صفة من صفات الأجسام ... وهو عرض، ولا يقوم إلا بالجسم ولا يوجد إلا معه» (16: 2، 28-29).
هذا الرأي لإخوان الصفاء في استحالة وجود مكان مطلق لا تشغله الأجسام يتفق ومعطيات الفيزياء الكونية الحديثة التي تنفي على طريقة إخوان الصفاء وجود مكان لا متمكن فيه، وتقول إن المجرات التي تتباعد عند أطراف الكون وتفر في كل اتجاه بسرعات مذهلة نتيجة تمدد الكون المستمر هي التي تخلق المكان الجديد، ولا مكان هناك سابق لوصولها إليه.
في الحركة والسكون «الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثان، وضدها السكون وهو الوقوف في المكان الأول في الزمان الثاني. والحركة نوعان: سريعة وبطيئة، والحركة السريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة بعيدة في زمان قصير، والبطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة أقل منها في ذلك الزمان بعينه. والحركتان لا تعدان اثنتين إلا أن يكون بينهما زمان سكون، والسكون هو وقوف المتحرك في مكانه الأول زمانا ما كان يمكنه أن يكون متحركا فيه حركة ما» (5: 1، 192-193). «الحركة يقال على ستة أوجه: الكون والفساد، والزيادة والنقصان، والتغير والنقلة. فالكون هو خروج الشيء من العدم إلى الوجود، أو من القوة إلى الفعل،
13
والفساد عكس ذلك؛ والزيادة هي تباعد نهايات الجسم عن مركزه، والنقصان عكس ذلك؛ والتغير هو تبدل الصفات على الموصوف، من الألوان والطعوم والروائح وغيرها من الصفات؛ وأما الحركة التي تسمى النقلة فهي عند جمهور الناس الخروج من مكان إلى مكان آخر، وقد يقال: إن النقلة هي الكون في محاذاة ناحية أخرى في زمان ثان. وكلا القولين يصح في الحركة التي هي على سبيل الاستقامة؛ فأما التي على الاستدارة فلا يصح؛ لأن المتحرك على الاستدارة لا يصير في محاذاة أخرى في زمان ثان ...
واعلم أنه متى تحركت الأجزاء من جسم فقد تحركت تلك الجملة، ومتى تحركت تلك الجملة فقد تحركت تلك الأجزاء؛ لأن تلك الأجزاء ليست غير تلك الجملة. وذلك أنه إذا تحرك الإنسان فقد تحركت جملة أعضائه؛ وإذا تحركت أعضاؤه فقد تحرك هو؛ وإن تحركت يده وحدها فقد تحركت أجزاء اليد كلها؛ لأن اليد ليست شيئا غير تلك الأجزاء، وكذلك إن تحرك أصبع واحد فقد تحركت أجزاء الأصبع كلها؛ لأن الأصبع ليست غير تلك الأجزاء. فمن يظن أنه يجوز أن تتحرك الأجزاء ولا تتحرك الجملة، أو تتحرك الجملة ولا تتحرك بعض الأجزاء، فقد أخطأ.
واعلم أنه قد ظن كثير من أهل العلم أن المتحرك على الاستقامة يتحرك حركات كثيرة؛ لأنه يمر في حركته بمحاذيات كثيرة في حال حركته. لا ينبغي أن تعتبر كثرة الحركات لكثرة المحاذيات، فإن السهم في مروره، إلى أن يقع، حركة واحدة يمر بمحاذيات كثيرة. وكذلك المتحرك على الاستدارة فحركته واحدة إلى أن يقف وإن كان يدور أدوارا كثيرة.
ثم اعلم أنه لا تنفصل حركة عن حركة إلا بسكون بينهما، وهذا يعرفه ولا يشك فيه أهل صناعة الموسيقى؛ وذلك أن صناعتهم معرفة تأليف النغم، والنغم لا يكون إلا بالأصوات، والأصوات لا تحدث إلا من تصادم الأجسام، وتصادم الأجسام لا يكون إلا بالحركات، والحركات لا تنفصل بعضها عن بعض إلا بسكونات تكون بينها. فمن أجل هذا قال الذين نظروا في تأليف النغم إن بين زمان كل نقرتين زمان سكون. وقد بينا طرفا من هذا العلم في رسالتنا في تأليف اللحون» (15: 2، 13-15).
ولمعرفة المزيد عما قاله الإخوان بخصوص الحركة والسكون في الموسيقى، ننتقل إلى رسالتهم الخامسة الموسومة «في الموسيقى» لنقرأ في أحد فصولها ما يلي: «إن كل نقرتين من نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان فلا بد من أن يكون بينهما زمان سكون، طويلا كان أم قصيرا؛ وإنه إذا تواترت نقرات تلك الأوتار، وإيقاعات تلك القضبان، تواترت أيضا سكونات بينها، ثم لا تخلو أزمان تلك السكونات من أن تكون مساوية لأزمان تلك الحركات أو تكون أطول منها، وإذا كانت أقصر منها فالمتفق عليه بين أهل هذه الصناعة أن زمان الحركة لا يمكن أن يكون أطول من زمان السكون الذي هو من جنسه، فإن كانت أزمان السكونات مساوية لأزمان الحركات في الطول، ولا يمكن أن يقع في تلك الأزمان حركة أخرى، سميت تلك النغمات عند ذلك العمود الأول، وهو الخفيف الذي لا يمكن أخف منه؛ لأنه إذا وقعت في تلك الأزمان حركة أخرى صارت نغمتها متصلة بنغمة النقرة التي قبلها والتي بعدها، وصار الجميع صوتا متصلا. وإن كانت أزمان السكونات أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركة أخرى، سميت تلك النغمات العمود الثاني والخفيف الثاني. وإن كانت أزمان تلك السكونات طولها بمقدار ما يمكن أن يقع فيه حركتان، سميت تلك النغمات الثقيل الأول. وإن كانت تلك الأزمان أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيه ثلاث حركات، سميت تلك النغمات الثقيل الثاني ...
واعلم يا أخي بأنه إذا زادت أزمان السكونات التي بين النقرات والإيقاعات على هذا المقدار من الطول، خرج من الأصل والقانون والقياس، أعني من أن تدركها وتميزها القوة الذائقة السمعية. والعلة في ذلك أن ... طنين الأصوات لا يمكث في المسامع زمانا إلا ريثما تأخذ القوة المتخيلة رسومها، ثم تضمحل من المسامع تلك الطنينات، وإذا طالت أزمان السكونات بين النقرات وزادت على المقدار الذي تقدم ذكره، اضمحلت النغمة الأولى وطنينها من المسامع قبل أن ترد النغمة الأخرى، فلا تقدر القوة المفكرة أن تعرف مقدار الزمان الذي بينهما، فتميزهما وتعرف التناسب الذي بينهما؛ لأن جودة الذوق في المسامع هي معرفة كمية الأزمان التي بين النغمتين، وما بين أزمان السكونات وبين أزمان الحركات من التناسب والمقدار» (5: 1، 200-201).
نعود إلى موضوعنا الرئيس في الحركة لنقرأ: «واعلم أنه ينبغي لمن ينظر في حقائق الأشياء، ويبحث عن ماهيتها، أن يبتدئ أولا وينظر ويبحث هل الشيء جوهر، أو عرض، أو هيولى، أو صورة جسمانية، أو روحانية. فإن كان جوهرا فأي جوهر هو؟ وإن كان عرضا فأي عرض هو؟ وإن كان هيولى فأي هيولى هو؟ وإن كان صورة فأي صورة هي وكيف هي؟
واعلم أن الحركة في بعض الأجسام جوهرية كحركة النار، فإنها متى سكنت حركتها طفئت وبطلت وبطل وجودها؛ وفي بعض الأجسام عرضية لها كحركة الماء والهواء والأرض؛ لأنها إن سكنت حركتها لا يبطل وجدانها.
واعلم أن الحركة هي صورة جعلتها النفس في الجسم بعد الشكل، وأن السكون هو عدم تلك الصورة. والسكون بالجسم أولى من الحركة؛ لأن الجسم ذو جهات لا يمكنه أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة، وليست حركته إلى جهة أولى به من جهة؛ فالسكون به إذا أولى من الحركة.
واعلم أن الحركة، وإن كانت صورة، فهي صورة روحانية متممة تسري في جميع أجزاء الجسم، وتنسل عنه بلا زمان كما يسري الضوء في جميع أجزاء الجسم الشفاف ... وذلك لو أن خشبة طولها من المشرق إلى المغرب نصبت ثم جذبت إلى المشرق أو إلى المغرب عقدا واحدا، لتحركت جميع أجزائها دفعة واحدة» (15: 2، 15-16).
ومن ناحية أخرى، فإن الحركة هي: «صورة روحانية تجعلها النفس في الأجسام، فبها تكون الأجسام متحركة ... فالنفوس هي المحركة للأجسام، والأجسام هي المحركات والمسكنات بتحريك النفوس لها وتسكينها إياها. والتحريك هو فعل النفس، والحركة هي صورة تجعلها النفس في الجسم، بها يكون الجسم متحركا. وأما التسكين فهو أيضا فعل من أفعال النفس [التي] تحرك الجسم تارة وتسكنه أخرى، مثال ذلك: أن الإنسان يحرك يده تارة ويسكنها أخرى ... إن المحركات اثنا عشر نوعا حسب، لا أقل ولا أكثر. منها حركات الأفلاك التسعة، ومنها حركات الكواكب السيارة، ومنها حركات الكواكب ذوات الأذناب، ومنها حركات الرياح ... [إلخ] ...
وإذا تأملت يا أخي واعتبرت ما وصفنا من أحوال الحركات والمتحركات التي في العالم، علمت وتبين لك أن حكم العالم بجميع أجزائه ومجاري أموره تجري مجرى مدينة واحدة، أو حيوان واحد، أو إنسان واحد لا ينفك من الحركة والسكون، إما بكليته أو بجزئيته» (39: 3، 322، 328). «ثم اعلم أن غرضنا من ذكر حركات العالم وحركات أجزائه الكليات والجزئيات وفنون تصاريفها، هو بيان بطلان قول من يقول بقدم العالم. وذلك أن الحركات المختلفات تدل على اختلافها، والمتحرك والمختلف الأحوال لا يكون قديما؛ لأن القديم هو الذي يكون على حالة واحدة لا يتغير ولا يستحيل ولا يحدث له حال. وليس يوجد موجود هذا شأنه إلا الله تعالى الواحد الأحد ...
ثم اعلم أن كل حركة في متحرك فهي متحركة له، وهي سبب لشيء آخر، فمتى عدمت تلك الحركة بطل ذلك السبب. مثال ذلك حركة الرحى عن الدابة التي تديرها أو الماء، وهي سبب الطحن، فمتى وقفت الدابة وانقطع الماء سكنت الرحى وعدم الطحن وهكذا حكم الرياح وتحريكها المراكب والمياه فمتى سكنت الرياح وقفت مراكب البحر عن السير وسكنت الأمواج ... فهكذا حكم العالم، متى وقف الفلك المحيط عن الدوران وقفت الكواكب عن المسير والحركات، ووقفت عند ذلك مجاري الليل والنهار والشتاء والصيف، فيبطل عند ذلك الكون والفساد، ويبطل نظام العالم، وتذهب الخلائق، وتفارق النفس الكلية الجسم الكلي، وتقوم القيامة الكبرى. وذلك أن العالم هو إنسان كبير، فإذا فارقت نفس العالم الجسم الكلي فقد مات الإنسان الكبير وقد قامت قيامته الكبرى» (39: 3، 332-333).
في الزمان «أما الزمان عند جمهور الناس فهو مرور السنين والشهور والأيام والساعات. وقد قيل إنه عدد حركات الفلك بالتكرر، وقد قيل إنها مدة تعدها حركات الفلك. وقد يظن كثير من الناس أن الزمان ليس بموجود أصلا إذا اعتبر بهذا الوجه، وذلك أن أطول أجزاء الزمان السنون، والسنون منها ما قد مضى ومنها ما لم يجئ بعد، وليس الموجود منها إلا سنة واحدة؛ وهذه السنة أيضا شهور منها ما قد مضى ومنها ما لم يجئ بعد، وليس الموجود منها إلا شهرا واحدا وهذا الشهر منه أيام مضت وأيام لم تجئ بعد، وليس الموجود منها إلا يوما واحدا، وهذا اليوم ساعات منها ما قد قضت ومنها ما لم تجئ بعد، وليس الموجود منها إلا ساعة واحدة، وهذه الساعة أجزاء منها ما قد مضى وآخر ما جاء بعد. فبهذا الاعتبار ليس للزمان وجود أصلا.
فأما الوجه الآخر إذا اعتبر، فالزمان موجود أبدا. وذلك أن الزمان كله يوم وليلة، أربع وعشرون ساعة، وهي موجودة في أربع وعشرين بقعة من استدارة الأرض تكون حولها دائما. بيان ذلك أنه إذا كان نصف النهار في يوم الأحد مثلا في البلد الذي طوله تسعون درجة، فإن الساعة الأولى من هذا اليوم موجودة في البلدان التي طولها من درجة إلى خمس عشرة درجة، والساعة الثانية موجودة في البلدان التي طولها من ست عشرة درجة إلى ثلاثين درجة، والساعة الثالثة موجودة في البلد الذي طوله من إحدى وثلاثين درجة إلى خمس وأربعين درجة ... [وهكذا وصولا إلى الساعة الثانية عشرة التي تكون موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وثمانين درجة].
وفي مقابلة كل بقعة من هذه البقاع من استدارة الأرض، ساعات الليل موجودة كل واحدة كنظيرتها. ولكل موضع من الأرض أقدار مختلفة من الليل والنهار ... وكلما دار النهار دار الليل معه، كل واحد منهما ضد صاحبه. وكلما زال أحدهما زال الآخر معه. فالليل والنهار يبتديان الإقبال من مشرق الأرض، ثم يسيران على مسير الشمس فيسبق طلوع الشمس على أول الأرض طلوعها على آخرها باثنتي عشرة ساعة، وكذلك الليل ...
ثم اعلم أن من كرور الليل والنهار حول الأرض دائما، يحصل في نفس من يتأملها صورة الزمان كلها، مثلما يحصل فيها صورة العدد من تكرار الواحد؛ وذلك أن العدد كله أفراده وأزواجه، صحيحه وكسوره، آحاده وعشراته، ومئاته وألوفه، ليست بشيء غير جملة الآحاد تحصل في نفس من يتأملها كما بينا في رسالة العدد. وهكذا الزمان ليس هو بشيء سوى جملة السنين والشهور والأيام والساعات، تحصل صورتها في نفس من يتأمل تكرار كرور الليل والنهار حول الأرض دائما. فهذه خمسة الأشياء التي أتينا على شرحها، وهي الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة، محتوية على كل جسم. فمن لم يكن مرتاضا بالنظر في هذه الأشياء، فلا يسعه النظر في أمور الطبيعة؛ لأنه لا يمكن له أن يعرفها كنه معرفتها البتة، ولو لم يكن مرتاضا في الأمور الطبيعية، فلا يسعه الكلام في الأمور الإلهية؛ لأنه لا يمكنه أن يعرفها كنه معرفتها» (15: 2، 17-19).
هذه هي أهم الأفكار والمعلومات التي قدمها لنا إخوان الصفاء في صفة العالم وكيفية عمله. وكلها ليست إلا مقدمات لمعرفة الإنسان لنفسه وإدراكه لشرطه، وهي المعرفة المنجية التي تقود إلى الانعتاق. وهذا هو موضوع الفصل القادم.
الفصل الثالث
معرفة النفس
«اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحكماء والفلاسفة قد أكثرت في كتبها وفي مذكراتها ذكر النفوس، وحثت تلاميذها وأولادها على طلب علم النفس ومعرفة جوهرها؛ لأن في علم النفس ومعرفة جوهرها، معرفة حقائق الأشياء الروحانية من أمر المبدأ والمعاد، والباري تعالى عز وجل، وملائكته، وخاصة معرفة البعث وحقيقة القيامة ... وذلك أن كل إنسان لا يعرف نفسه ولا يعلم ذاته، ولا يعلم ما الفرق بين النفس والجسد، تكون همته كلها مصروفة إلى إصلاح أمر الجسد، ومرافق أمر البدن، من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا، وتمني الخلود فيها، مع نسيان أمر المعاد وحقيقة الآخرة. وإذا عرف الإنسان نفسه وحقيقة جوهرها، صارت همته في أكثر الأحوال في أمر النفس، وفكرته أكثرها في إصلاح شأنها، وكيفية حالها بعد الموت، واليقين بأمر المعاد، والاستعداد للرحلة من الدنيا، والتزود للمعاد، والمسارعة في الخيرات، والتوبة وتجنب الشر والمنكر والمعاصي.
فإذا فعل ذلك يزول عنه خوف الموت، وربما تمنى لقاء الله تعالى. وهذه صفة أولياء الله تعالى وعباده الصالحين، كما ذكر الله سبحانه، وأشار إليهم بقوله في كتابه على لسان نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ، في توبيخه لليهود لما زعموا أنهم أولياء الله من دون الناس، فقال لهم: ... فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
1 [أي صادقين] بأنكم أولياء الله من دون الناس. وإنما يتمنى أولياء الله الموت إذا تذكروا ما وعدهم الله وأعده لهم من التحية والسلام. كما قال جل ثناؤه:
تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما ،
2
وقال:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون
3
وقد علم كل عاقل علما يقينا أن أجساد هؤلاء قد بليت في التراب، وأن هذه الكرامة والتحية والسلام هي لأرواحهم ونفوسهم الطاهرة الزكية. كما ذكر جل ثناؤه بقوله تعالى:
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
4
وآيات كثيرة في القرآن في ذكر النفس وخطابها بالتأنيث، ليعلم كل عاقل أنها هي شيء غير الجسد؛ لأن الجسد مذكر لا يخاطب بالتأنيث، فكفى بهذا فرقا وبيانا بين النفس والجسد.
وقد يعلم كل عاقل إذا تأمل وتفكر في أمر الجسد، أنه جسم مؤلف من اللحم والدم والعروق والعصب والعظام وما شاكلها، وأصله نطفة ودم انطمس، ثم [يأتي بعد ذلك] اللبن والغذاء والمأكولات والمشروبات [لهذا الجسد من أجل تنشئته]، ثم آخر الأمر الموت، وبعد مفارقة النفس إياه يبلى ويصير ترابا.
فأما النفس، يعني الروح، فهي جوهرة سماوية، نورانية، حية، علامة، فعالة بالطبع، حساسة دراكة، لا تموت ولا تفنى، بل تبقى مؤبدة إما ملتذة وإما مؤتلمة. فأنفس المؤمنين من أولياء الله وعباده الصالحين، يعرج بها بعد الموت إلى ملكوت السماوات وفسحة الأفلاك، وتخلى هناك، فهي تسبح في فضاء من الروح وفسحة من النور وروح وراحة إلى يوم القيامة ... وأما أنفس الكفار والفساق والأشرار، فتبقى في عماها وجهالاتها، معذبة متألمة، مغتمة حزينة، خائفة وجلة إلى يوم القيامة» (38: 3، 288-290). «واعلم يا أخي أن العلوم كلها شريفة، ونيلها عز لصاحبها، وعرفانها نور لقلوب أهلها، وهداية وحياة لنفوسهم ... ولكن قيل: بعض العلوم أشرف وأفضل وأكرم. فأشرف العلوم وأجل المعارف التي ينالها العقلاء المكلفون معرفة الله جل ثناؤه، والعلم بصفات وحدانيته وأوصافه اللائقة به. ثم بعد هذا معرفة جوهر النفس، وكيفية تصاريف أحوالها في جميع الأزمان الماضية والآتية والحاضرة، ثم كيفية تعلقها بالأجسام، وتدبيرها للأجساد، واستعمالها الأبدان مدة، ثم كيفية تركها لها ومفارقتها إياها، وتفردها بذاتها ولحوقها بعالمها وعنصرها وجوهرها الكلي. ثم معرفة البعث والقيامة والحشر ...
واعلم يا أخي أن هذا الفن من العلوم هو لب الألباب، وإليه ندب ذوو العقول الراجحة والحكمة الفلسفية دون غيرهم من الناس؛ لأن هذا الفن من العلم والمعارف آخر مرتبة ينتهي إليها الإنسان في المعارف، مما يلي رتبة الملائكة.
5
ومن أجل هذا هو مكلف متعبد وقاصد نحوه، منذ يوم [أن] خلقه الله تعالى إلى يوم يلقاه، فيوفيه حسابه، وهو الغرض الأقصى من وجود النفس وتعلقها بالأجساد، ونشوئها معها وتتميمها وتكميلها.
واعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا أردت النظر في هذا العلم الشريف، والبحث عن هذا السر اللطيف، تحتاج إلى أن تقصد إلى أهله وتسألهم عنه، كما يقصد في سائر العلوم والصنائع إلى أهلها، كما قيل: استعينوا على كل صناعة بأهلها .
واعلم أن أهل هذه الصناعة، وعلماء هذه الأسرار هم إخواننا الكرام الفضلاء [= إخوان الصفاء]. فانظر يا أخي فيما قالوا، وتأمل ما وصفوه من حقائق الأشياء التي أنت مقر بها بلسانك، وتؤمن بقلبك، ثم تفكر فيما تسمع، وتأمل ما يوصف لك، وميزه ببصيرتك، واعرضه على عقلك الذي هو حجة الله عليك، والقاضي بينك وبين أبناء جنسك، فإن اتضحت لك حقيقة ما تسمع، وتصورت ما يصفون، وتيقنت ما يخبرون، فبتوفيق من الله وهداية منه ... وإن لم يتفق لك يا أخي لقاء أحد من أهل هذه الصناعة، بحيث أن تسأله عن حقيقة هذا السر ... فاسلك في هذا البحث والنظر طريقة الحكماء النجباء، واستعمل القياس البرهاني الذي هو ميزان العقول، كما وصف في المنطق. وقد بينا من علم المنطق، في رسائل شبه المدخل والمقدمات ما فيه كفاية» (38: 3، 301-303).
وبما أن معرفة النفس التي تقود إلى معرفة الله هي الغرض الأقصى من العلوم، فإليها ندب إخوان الصفاء رسائلهم كلها، وهي غاية كل تعليم فلسفي: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن غرض الفلاسفة الحكماء من النظر في العلوم الرياضية، وتخريجهم تلامذتهم بها، إنما هو السلوك والتطرق منها إلى علوم الطبيعيات، وأما غرضهم من النظر في الطبيعيات فهو الصعود منها والترقي إلى العلوم الإلهية، الذي هو أقصى غرض الحكماء، والنهاية التي إليها يرتقى بالمعارف الحقيقية. ولما كان أول درجة من النظر في العلوم الإلهية هو معرفة جوهر النفس، والبحث عن مبدئها من أين كانت قبل تعلقها بالجسد، والفحص عن معادها إلى أين تكون بعد فراق الجسد [ذلك الفراق] الذي يسمى الموت، وعن كيفية ثواب المحسنين كيف يكون في عالم الأرواح، وعن جزاء المسيئين كيف يكون في دار الآخرة. وخصلة أخرى أيضا، لما كان الإنسان مندوبا إلى معرفة ربه، ولم يكن له طريق إلى معرفته إلا بعد معرفة نفسه، كما قال الله تعالى:
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ...
6
أي جهل النفس؛ وكما قيل: من عرف نفسه فقد عرف ربه. وقد قيل أيضا : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه. [فإذن] وجب على كل عاقل طلب معرفة النفس ومعرفة جوهرها، وتهذيبها. وقد قال الله تعالى:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
7 ... وآيات كثيرة في القرآن ودلالات على وجود النفس وعلى تصرفات حالاتها، وهي حجة على الجرميين
8
المنكرين أمر النفس ووجدانها.
وأما أولئك الحكماء الذين كانوا يتكلمون في علم النفس قبل نزول القرآن والإنجيل والتوراة، فإنهم لما بحثوا عن علم النفس بقرائح قلوبهم، واستخرجوا معرفة جوهرها بنتائج عقولهم، دعاهم ذلك إلى تصنيف الكتب الفلسفية. ولكنهم لما طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن فهم معانيها ولا عرف أغراض مؤلفيها، انغلق على الناظرين في تلك الكتب فهم معانيها، وثقلت على الباحثين أغراض مصنفيها، ونحن قد أخذنا لب معانيها وأقصى أغراض واضعيها، وأوردناها بأوجز ما يمكن من الاختصار في اثنتين وخمسين رسالة» (38: 1، 75-77). «ثم اعلم أن الأمور الإلهية هي الصورة المجردة من الهيولى، وهي جواهر باقية خالدة لا يعرض لها الفساد والآفات، كما يعرض للأمور الجسمانية. واعلم أن نفسك هي إحدى تلك الصور، فاجتهد في معرفتها لعلك تخلصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام وأسر الطبيعة التي وقعنا فيها بجناية كانت من أبينا آدم عليه السلام، حين عصى ربه فأخرج هو وذريته من الجنة التي هي عالم الأرواح، وقيل لهم:
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * ... وفيها تموتون ومنها تخرجون
9 ... وقيل:
انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ،
10
هو عالم الأجسام ذو الطول والعرض والعمق ...
واعلم أن النفس بمجردها لا تلحقها الآلام والأمراض والأسقام والجوع والعطش والحر والبرد والغموم والهموم والأحزان ونوائب الحدثان؛ لأن هذه كلها تعرض لها من أجل [= بسبب] مقارنتها للجسد؛ لأن الجسد جسم قابل للآفات والفساد والاستحالة والتغير، فأما النفس فإنها جوهرة روحانية، فليس لها من هذه الآفات شيء.
واعلم أنه قد ذهب على أكثر أهل العلم معرفة أنفسهم، لتركهم النظر في علم النفس، والبحث عن معرفة جواهرها، والسؤال من العلماء العارفين بعلمها؛ ولقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم وطلب خلاصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام، والنجاة من أسر الطبيعة ...
وإنما قلة رغبتهم فيها لقلة تصديقهم بما أخبرت به الأنبياء، عليهم السلام، وما أشارت إليه الفلاسفة والحكماء ... فانصرفت همم نفوسهم كلها إلى أمر هذا الجسد المستحيل [= المتغير من حال إلى حال]، وجعلوا سعيهم كله لصلاح معيشة الدنيا ... وصيروا نفوسهم عبيدا لأجسادهم، وأجسادهم مالكة لنفوسهم ...
فهل لك يا أخي بأن تنظر إلى نفسك، وتسعى في صلاحها، وتطلب نجاتها ... وأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نصحاء، وإخوان لك فضلاء [= إخوان الصفاء]، وادين لك كرماء، حريصين معاونين لك على صلاحك ونجاتك مع أنفسهم ... بأن تسلك مسلكهم، وتقصد قصدهم، وتخلص سرك معهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتسمع أقاويلهم، لتعرف اعتقادهم ... إذا دخلت مدينتنا الروحية، وسرت بسيرتنا الملكية، وعملت بسنتنا الزكية، وتفقهت في شريعتنا العقلية، فلعلك تؤيد بروح الحياة، لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتعيش عيش السعداء، مخلدا مسرورا أبدا، بنفسك الباقية الشريفة الشفافة الفاضلة، لا بجسدك المظلم الثقيل المتغير المستحيل الفاسد الفاني» (15: 2، 21-23). «واعلم يا أخي أنما ذهب على الذين ينكرون فعل الطبيعة، علم النفس، وخفي عليهم معرفتها، من أجل أنهم طلبوا إدراكها بالحواس، فلم يجدوها، فأنكروا وجودها. وأما الذين أقروا بالنفس وأدركوا وجودها، فإنما عرفوا ذلك بالأفعال الصادرة عنها في الأجسام؛ وذلك أنهم اعتبروا أحوال الجسم، فوجوده لمجرده لا فعل له البتة، ولا للأعراض الحالة فيه، وإنما الأفعال كلها للنفس؛ وأما الجسم وأعراضه فإنها للنفس بمنزلة أدوات وآلات لصانع يظهر بها ومنها أفعاله، كما يرى ذلك من الصناع البشريين، فإنهم بأدوات جسمانية يظهرون صناعاتهم في الأشياء، مثال ذلك النجار، فإنه يظهر أفعاله في الخشب، الذي هو جسم طبيعي، بآلات وأدوات جسمانية، كالفأس والمنشار وما شاكلها، وكلها أجسام صناعية. وأجسام الصناع هي أيضا من الأجسام الطبيعية، وهي آلات لنفوسهم وأدوات لها، يظهرون بها [= الأجسام] صناعتهم وأفعالهم ... إذ قد بان أنه لا فعل إلا للنفس، وأنها تفعل أفعالها بقوتها في الأجسام، وأن الأجسام كلها أدوات ومفعولات لها، كما أن الفكر والعلم آلات للنفس في إدراك المعلومات والمعقولات، وإخراجها من القوة إلى الفعل» (18: 2، 63-64). «ثم اعلم أن لكل شيء من الموجودات قسطا من السعادة قلت أم كثرت، وهي أن يبقى ذلك الشيء موجودا أطول ما يمكن على أحسن حالاته وأتم نهاياته. ولكن أسعد السعادات وأتم النهايات وأرفع المقامات، ما يناله أولياء الله الذين هم صفوته وأهل مودته، وهو ثلاث خصال: أولاها معرفتهم بربهم، والثانية قصدهم نحوه بهممهم، والثالثة طلابهم مرضاته بسعيهم وأعمالهم. فأما معرفتهم بربهم، فهو أن يعلم أن كل نفس جزئية هي قوة منبجسة فائضة من النفس الكلية؛ ويعلم أن النفس الكلية هي أيضا قوة منبجسة فائضة من العقل الكلي؛ ويعلم أن العقل الكلي هو أيضا نور فائض من وجود الباري تعالى؛ ويعلم أن الله تعالى هو نور الأنوار ومحض الوجود ومعدن الجود ومعطي الفضائل والخيرات والسعادات، وهو باق أبدا سرمدا، وأن النفس الجزئية هي أيضا أنوار وضياء وإشراقات فائضة من النفس الكلية منبثة منها في العالم ... فهذا أصل علم أولياء الله تعالى ومعرفتهم بربهم. وأما قصدهم نحوه بهمم نفوسهم، فإنه فكرتهم [= تفكرهم] آناء الليل وأطراف النهار في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته وأصناف خلائقه، واعتبارهم تصاريف أحوالها، وكيفية الوصول إليها وإلى صانعها وبارئها ...» (39: 3، 342). «واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله وإيانا بروح منه، أنه لا يمكن الوصول إلى هناك إلا بخلتين: إحداهما صفاء النفس، والأخرى استقامة الطريقة. فأما صفاء النفس فلأنها لب جوهر الإنسان، فإن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والبدن؛ فأما البدن فهو هذا الجسد المرئي المؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد، وما شاكله، وهذه كلها أجسام أرضية مظلمة ثقيلة متغيرة فاسدة؛ وأما النفس فإنها جوهرة سماوية روحانية حية نورانية خفيفة متحركة غير فاسدة، علامة دراكة لصور الأشياء؛ وإن مثلها في إدراكها صور الموجودات، من المحسوسات والمعقولات، كمثل المرآة، فإن المرآة إذا كانت مستوية الشكل مجلوة الوجه، تتراءى فيها صور الأشياء الجسمانية على حقيقتها ... وأيضا إن كانت المرآة صدئة الوجه، فإنه لا يتراءى فيها شيء البتة.
فهكذا أيضا حال النفس ، فإنها إذا كانت عالمة ولم تتراكم عليها الجهالات، طاهرة الجوهر لم تتدنس بالأعمال السيئة، صافية الذات لم تتصدأ بالأخلاق الرديئة، وكانت صحيحة الهمة لم تعوج بالآراء الفاسدة، فإنها تتراءى في ذاتها صور الأشياء الروحانية التي في عالمها، فتدركها النفس بحقائقها، وتشاهد الأمور الغائبة عن حواسها بعقلها وصفاء جوهرها، كما تشاهد الأشياء الجسمانية بحواسها، إذا كانت حواسها صحيحة سليمة. وأما إذا كانت النفس جاهلة غير صافية الجوهر، وقد تدنست بالأعمال السيئة أو صدئت بالأخلاق الرديئة أو اعوجت بالآراء الفاسدة، واستمرت على تلك الحال، بقيت محجوبة عن إدراك حقائق الأشياء الروحانية، وعاجزة عن الوصول إلى الله تعالى، ويفوتها نعيم الآخرة، كما قال الله تعالى:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون .
11 ... واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله بروح منه، أن النفس إذا عميت عن آمر عالمها، وتوهمت أنه لا وجود لها إلا على هذه الحال التي هي عليها الآن في دار الدنيا، فتحرص عند ذلك على البقاء في الدنيا، وتتمنى الخلود فيها، وترضى بها وتطمئن إليها، وتيأس من الآخرة وتنسى أمر المعاد، كما ذكر الله تعالى: ... ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ...
12
وقال: ... يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور
13 ... فإذا جاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد وترك استعمال الجسم، وفارقته على كره منها وبقيت عند ذلك فارغة من استعمال البدن وإدراك المحسوسات، تراجعت إلى ذاتها لتنهض فلا يمكنها النهوض من ثقل أوزارها، ومن أعمالها السيئة وعادتها الرديئة،
14
كما قال تعالى: ... يحملون أوزارهم على ظهورهم ...
15
فعند ذلك يتبين لها أنها قد فاتتها اللذات المحسوسات التي كانت لها بتوسط البدن، ولم تحصل لها اللذات المعقولات التي في عالمها، فعند ذلك تبين لها أنها قد خسرت الدنيا والآخرة» (43: 4، 6-8).
ويورد الإخوان في الرد على من ينكر وجود النفس هذا الخطاب المنطقي: «أخبرنا أيها الأخ: هل أنت عالم ومتيقن بأن مع هذا الجسد الطويل العريض العميق، أعني الجسد المركب من اللحم والعظم والعصب والعروق، المؤلف من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان [= المرة الصفراء والمرة السوداء]، التي كلها أجسام أرضية مظلمة غليظة منتنة، متغيرة فاسدة، جوهرا آخر هو أشرف منه وهو النفس التي هي جوهرة روحانية، بسيطة حية، سماوية شفافة، وهي المحركة لهذا الجسم، المدبرة له، المظهرة به ومنه أفعالها وأقوالها وعلومها؟ أو تقول إنه ليس ها هنا شيء آخر غير هذا الجسد المرئي المحسوس، المتغير الفاسد، المستحيل الهالك، الذي إذا أصابه حر ذاب، أو إن أصابه برد جمد، وإن نام بطلت حواسه، وإن انتبه لا يشعر بوجوده، وإن نقل لا يدري أين كان، وإن ترك لا يتحرك، وإن حرك لا يحس بذاته، جاهل لا يعلم شيئا، وإن لم يسق جف عطشا، وإن لم يطعم ذبل، وإن طعم امتلأ من الدم والصديد والبول والغائط، كأنه ربع مجصص ظاهره؛ مملوء من القاذورات باطنه، إن مات نتن، وإن لم يدفن افتضح، وإن عاش فهو في العذاب والشقاء؟
أترى أن الفاعل لهذه الأفعال المحكمة، والصنائع المتفننة التي تظهر على أيدي البشر هو هذا الجسد وحده؟ والناطق بهذه اللغات المتباينة والمتكلم بهذه الأقاويل المختلفة، والمخبر عن الأمور المنقضية مع الأزمان الماضية ... والمستنبط غرائب العلوم من خواص جواهر العدد وأشكال الهندسة، وتأليف اللحون، وتشريح الأجساد، وتركيب الأفلاك، وحساب حركات الكواكب ... هل هو هذا الجسد وحده؟ أو تنسب هذه العلوم والأقاويل والفضائل إلى مزاج الجسد ... والمزاج عرض من الأعراض، وهو أحد الأشياء التي ذكرناها؟ فقد بعد من الصواب من قال هذا القول، وعمي عن معرفة حقائق الأشياء من اعتقد هذا الرأي؛ وأول غفلة دخلت عليه جهالته بجوهر نفسه وتركه طلب معرفة ذاته ... ... وإن كنت مقرا، أيها الأخ البار الرحيم، بأن مع هذا الجسد جوهرا آخر هو أشرف منه، وأن هذه الأفعال والأقاويل والعلوم والفضائل إليه تنسب، ومنه تبدو، وهو المظهر من هذا الجسد هذه الأشياء، فقد قلت صوابا، وأقررت بالحق وأنصفت في الجواب. فخبرنا عن هذا الجوهر الشريف، هل يمكن أن يعرف ما هو ؟ وكيف كونه مع الجسد؟ باختيار منه، أو مضطر أن يكون معه؟ أو هل تعرف أين كان قبل أن يقرن بهذا الجسد، وأين يذهب إذا فارقه؟ أو تقول إني لا أدري؟ وهل ترضى من نفسك الجهل بهذا المقدار من العلم أن تقول: إن هذا العلم ليس في طاقة الإنسان أن يعلمه، وكيف يسوغ لك هذا القول، والعلماء مقرون أجمع، وأنت منهم، بأن معرفة الله واجبة على كل عاقل؟ وكيف يستوي للعبد إذا معرفة ربه وهو لا يعرف نفسه؟ ... وأنت تعلم أيها الأخ أن نفس الإنسان أقرب إليه من كل قريب، فكيف يستوي لك أن تقول: لا يمكن أن يعلم الإنسان نفسه ويعلم غيرها من الأشياء البعيدة الغائبة عن حواسه وعقله؟» (48: 4، 191-193).
وفي تعريفهم للحياة والموت يرى الإخوان أن الحياة هي استعمال النفس للجسد بعد ارتباطها به، وأنه لا حياة للجسد بمفرده؛ لأن حياته عرضية لمجاورة النفس إياه، فإذا فارقته بلي وعاد إلى التراب، بينما تستأنف النفس حياتها إما في مستوى أعلى من الوجود أو في مستوى أدنى تبعا لأعمالها. فالموت هو فناء للجسد وولادة للروح: «فاعلم أنه إذا فكر العاقل العالم في تركيب هذا الجسد وما هو عليه من إتقان البنية وإحكام الصنعة ... وكيفية ابتدائه من النطفة، وتتميمه في الرحم، ونشوئه في أيام الصبا، وتكميله في أيام الشباب، وتنضيجه في أيام الكهولة، فيرى أنه في غاية الكمال والحكمة والإتقان. ثم إذا تفكر في أيام الشيخوخة وفي ذهاب قوته وتغييرات رونقه وإدباره، ثم هدمه بالموت، وتغيره بعد ذلك بالانتفاخ والنتن، وفساده، ثم كيف يبلى في التراب ويضمحل، ولا يعرف ما وجه الحكمة فيه، فيتحير ويتشكك ويضل عن الصواب. فمن أجل هذا احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة الموت والحياة، ونبين ما الحكمة في خلقهما وكونهما.
واعلم أنه إذا فكر العاقل اللبيب في خلقة الرحم وحال المشيمة، وكون الجنين من النطفة، وكيفية ذلك المكان [أي الرحم]، وما قد أعد هناك من المرافق والمرافل لتتميم الخلقة وتكميل الصورة، فيراها في غاية الحكمة وإتقان الصنعة من الصواب، وما يتعجب منه أولو الألباب. ثم إذا فكر في حال الولادة، وكيف ينقلب [الجنين] في الرحم، وتنخرق المشيمة وتنقطع تلك الأوتار، وتسترخي تلك الرباطات التي كانت تمسك الجنين هناك، وكيف يسيل الدم والرطوبات المعدة التي كانت هناك لمرافقه، وما تلقاه الوالدة من الجهد والشدة، فإنه يرى شيئا يدهش العقل ويحير أولي الأبصار والألباب.
ولكن لما كان من حال ما ينقل إليه الجنين من فسحة هذا العالم وطيب نسيمه وإشراق أنواره، وما يستأنف الطفل من العمل في مستقبل العمر من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا، وإذا قدر الله ونجاه من ذلك المكان الضيق المظلم الناقص الحال [= الرحم]، بالإضافة إلى أحوال هذه الدار من التصرف والتقلب، فيرى أن الحكمة والصواب كان في الخروج من هناك.
فهكذا ينبغي لك يا أخي أن تعتبر لتعلم أن حال النفس مع الجسد كحال الجنين في الرحم، وأن حالها بعد الموت كحال الطفل بعد الولادة؛ لأن موت الجسد ولادة النفس، وكذلك ولادة الطفل ليست شيئا سوى خروجه من الرحم، وكذلك ولادة النفس ليست هي شيئا سوى مفارقة النفس إياه [أي للجسد الذي خرج من الرحم]. [أما في ماهية الحياة] فنقول: اعلم أن الموت والحياة نوعان: جسداني ونفساني. والحياة الجسدانية ليست شيئا سوى استعمال النفس الجسد، والموت الجسداني ليس شيئا سوى تركها استعماله، مثلما أن اليقظة ليست سوى استعمال النفس الحواس، وليس النوم شيئا سوى تركه استعمالها.
فأما النفس فحياتها ذاتية لها، وذلك أنها بجوهرها حية بالفعل، علامة بالقوة، فعالة في الأجسام والأشكال والنقوش والصور طبعا، وأن موتها هو جهالتها بجوهرها، وغفلتها عن معرفة ذاتها؛ وأن ذلك عارض لها من شدة استغراقها في بحر الهيولى، ولبعد ذهابها في هاوية الأجسام ...
اعلم أن الجسد ميت بجوهره، وأن حياته عرضية لمجاورة النفس إياه، كما أن الهواء مظلم بجوهره، وإنما ضياؤه بإشراق نور الشمس عليه والقمر والكواكب. والدليل على أن الجسد ميت بجوهره ما يرى من حاله بعد مفارقة النفس إياه له، كيف يتغير ويفسد ويتلاشى ويرجع إلى التراب» (29: 3، 38-40).
وأثناء فترة ارتباط النفس بالجسد، ما بين مسقط النطفة في الرحم وفجوة القبر، يكون الجسد عالة على النفس وعبئا، لا تستريح منه إلا بمفارقته: «فمن عيوب هذا الجسد كون النفس كمحبوس في كنيف [= المرحاض]؛ لأن الكنيف بالحقيقة هو هذا الجسد، فهو ينبوع لكل قاذورات من وسخ وبول وغائط ومخاط وبصاق ودم وصديد ولعاب وعرق نتن وبخر وصنان. وإن كل ما يكون في الكنيف من القاذورات فمنه [أي من الجسد] يخرج وفيه يتكون؛ فأوله نطفة قذرة وآخره جيفة منتنة، وما بين الحالتين مملوء عذرة، والنفس على دوام الأوقات [مشغولة] في تنظيفه وغسله وتنقيته ومداواته وستر عوراته، وحفظه من آفات الحر والبرد والجوع والعطش والصدمة والضربة، والآفات العارضة التي لا يحصى عددها.
وبالجملة، فليس في العالم نتن ولا نجاسة ولا قاذورة ولا جيفة إلا منه. ومن وجه آخر فنقول: مثل النفس مع الجسد كعابد صنم يعبده، بالليل والنهار؛ وذلك أن النفس إذا تركت تعلم العلم وعبادة الله عز وجل، والنظر في أمور معادها بعد فراق الجسد ... واشتغلت بما يكون فيه صلاح الجسد من الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركب وما شاكلها من أنواع زينة الدنيا، فتكون كأنها هودي [= يهودي] يعبد صنما كما ذكر تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون .
16
ومن وجه آخر فنقول: الجسد كأنه كافر محجوب عن الله تعالى، لا يعرفه ولا يدري من خلقه ورزقه. ومن وجه آخر، كأنه صاحب بدعة يدعو على هواه، ويريد أن تكون الأمور بمراده. ومن وجه آخر، كأنه جاهل عجول لا ينظر في العواقب. وأيضا كأنه عدو للنفس يظهر الصداقة ويكتم العداوة. وأيضا كأنه شيطان من كثرة الوساوس. وأيضا كأنه إبليس يدعو إلى العداوة. وأيضا كأنه ميت على جنازة حملتها النفس على كتفها لا تستريح منه، يا ويلتها، حتى إذا دفنته في التراب. وأيضا كأنه غيم بين أبصار الناظرين ونور الشمس؛ لأن ظلمات أخلاط الجسد تمنع عن النظر إلى نور العقل، وهو يمطر الآمال وينسي الآجال» (29: 3، 49-50). وأيضا: «مثل هذه النفس الجزئية، مع شرف جوهرها ، وما هي عليه من غربتها في هذا العالم الجسماني، وما قد ابتليت به من آفات هذا الجسد وفساد هيولاه، كمثل رجل حكيم في بلد الغربة قد ابتلي بعشق امرأة رعناء، فاجرة جاهلة، سيئة الأخلاق، رديئة الطبع، وهي في دائم الأوقات تطالبه بالمأكولات الطيبة، والمشروبات اللذيذة، والملبوسات الفاخرة، والمسكن المزخرف والشهوات المردية؛ وإن ذلك الحكيم، من شدة محبتها لها وعظم بلائه بصحبتها، قد صرف كل همته إلى إصلاح أمرها، وأكثر عنايته بتدبير شأنها، حتى نسي أمر نفسه وإصلاح شأنه، وبلدته التي خرج منها، وأقرباءه الذين نشأ معهم أولا، ونعمته التي كان فيها بديا» (48: 4، 183).
على أن مثالب الجسد هذه، لا تعني عند إخوان الصفاء رفضه بشكل كلي، وإنما رفض العبودية له والانصياع لكل رغباته. فالإنسان مثنوي في تكوينه مؤلف من جسد ونفس، وكما سنرى فيما بعد فإن هذا الجسد هو الصراط المستقيم الذي تجوز عليه النفس مرتقية نحو الدرجات العليا: «واعلم يا أخي بأن الصفات المختصة بالجسد بمجرده، هي أن الجسد جوهر جسماني طبيعي ... وهو متكون من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان، المتولدة من الغذاء الكائن من الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ذوات الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهو منفسد ومتغير ومستحيل وراجع إلى هذه الأركان الأربعة بعد الموت ... أما الصفات المختصة بالنفس بمجردها، فهي أنها جوهرة روحانية سماوية نورانية، حية بذاتها، علامة بالقوة، فعالة بالطبع، قابلة للتعليم، فعالة في الأجسام ومستعملة لها، ومتممة للأجسام الحيوانية والنباتية إلى وقت معلوم؛ ثم إنها تاركة لهذه الأجسام ومفارقة لها، وراجعة إلى عنصرها ومبدئها ... وأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون من الذين ذمهم رب العالمين بقوله: ... لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ...
17
أفترى ذمهم من أجل أنهم لم يكونوا يعقلون أمر معيشة الدنيا ؟ إنما ذمهم لأنهم لم يكونوا يتفكرون في أمر الآخرة والمعاد ...
ولما تبين أن أكثر أمور الإنسان ، وتصرف أحواله مثنوية متضادة، من أجل أنه جملة مجموعة من جوهرين متباينين، جسد جسماني ونفس روحانية، صارت قنيته أيضا نوعين: جسمانية كالمال ومتاع الدنيا، وروحانية كالعلم والدين. وذلك أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد، وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة وبالدين يصل إليها، وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب ينمى الجسد ويزيد ويربو ويسمن. فلما كان هكذا، صارت المجالس أيضا اثنين: مجلس للأكل والشرب، واللهو واللعب، واللذات الجسمانية من لحوم الحيوان ونبات الأرض، لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني، ومجلس للعلم والحكمة وسماع روحاني، من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة ... فلما كانت المجالس اثنين صار أيضا السائلون اثنين، واحد يسأل حاجة من عرض الدنيا لصلاح هذا الجسد ولجر المنفعة إليه، أو لدفع المضرة عنه، وواحد يسأل مسألة من العلم لصلاح أمر النفس وخلاصها» (6: 1، 260-261).
والجسد والنفس مرتبطان إلى درجة أن آلام الجسد ولذاته تلحق النفس، ولكن آلام النفس ولذاتها لا تلحق الجسد: «اعلم أن جميع اللذات التي تجدها النفس الإنسانية نوعان: منها ما تجدها بمجردها، ومنها ما تجدها بتوسط الجسد. و[ما تجده بتوسط الجسد] هي سبعة أنواع: أحدها المدركات باللمس بطريق النظر من محاسن الألوان والأشكال والنقوش والتصاوير والأصباغ الطبيعية منها والصناعية جميعا؛ والثاني المدركات بطريق السمع من الأصوات والألحان والنغم والمدح والثناء وما شاكلها، والثالث المدركات بطريق الذوق من الطعوم الموافقة لشهواتها، والرابع الملموسات المقوية لأخلاط جسدها، والخامس المشمومات الملائمة لمزاج أخلاطه، والسادس لذة الجماع؛ والسابع لذة الانتقام. وهذه كلها لذات تجدها النفس بتوسط الجسد مرتين: إحداهما عند مباشرة الحواس لها، والأخرى عند ذكرها [= تذكرها] بعدها. مثال ذلك: إذا رأى المرء وجها حسنا، أو زينة من محاسن الدنيا، فإن النفس تجد عند رؤيتها سرورا لها ولذة ، ثم إذا غابت عن رؤية العين بقيت تلك المحاسن مصورة في فكر النفس، وكلما لمحت هي ذاتها ونظرت إلى جوهرها رأت تلك الرسوم المصورة في فكرها، فسرت بها والتذت، وتذكرت تلك المحسوسات، وهكذا سائر المحسوسات ... وليس التفكر والتذكر شيئا سوى لمحات النفس ذاتها ونظرها إلى جوهرها، ورؤيتها رسوم تلك المحسوسات مطبوعة في ذاتها كما ينطبع نقش الفص في الشمع المختوم. فهذه الملاذ والآلام وإن كانت لا تصل إلى النفس إلا بتوسط الجسد، فقد نجدها بعد غيبة المحسوسات عن مباشرة الحواس لها، فيدل هذا على أن النفس لها لذة تجدها بعد مفارقة الجسد أيضا كما تجد لذة المحسوسات بعد مفارقتها وغيبتها.
أما اللذات الروحانية التي تجدها النفس بمجردها فهي ... ما تجده من اللذة والسرور والفرح عند تصورها حقائق الموجودات من المحسوسات والمأكولات جميعا؛ والثانية ما تجده عند اعتقادها الآراء الصحيحة ومذاهبها الحميدة؛ والثالثة ما تجده عند عذوبة أخلاقها الكريمة وعاداتها الجميلة، والرابعة ما تجده من الفرح والسرور واللذة عند ذكر أعمالها الزكية وأفعالها الخيرة. وهذه اللذات مشتركة بين الإنسان وبين الملائكة، وأضدادها من الآلام، مشتركة بين الإنسان والشياطين.
وأما بيان ما يلحق النفوس من اللذة والألم في اعتقاداتها ومعارفها وجهالاتها وأخلاقها وأعمالها، فاعلم أن الإنسان إذا كانت أعماله سيئة وأفعاله قبيحة، فإن نفسه تكون مرتابة مرعوبة مضطربة متألمة، كما ذكر تعالى في صفة المنافقين فقال: ... يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله ...
18
فإذا كانت أعمالهم صالحة وأفعالهم جميلة، فإن نفوسهم أبدا تكون ساكنة هادئة مستريحة.
وهكذا، إذا كانت أخلاق الإنسان جميلة وسجاياه سهلة، ومعاملته طيبة، ومخالطته عذبة، فإن نفسه تكون أبدا في القلوب محبوبة ومن الغوائل آمنة. وإن كانت أخلاقه شرية، وطباعه وحشية، وهمته سبعية، يكون من يصحبه أبدا في عناء، وهو من نفسه في جهل وبلاء. فهكذا حكم الاعتقادات والآراء، وذلك أن بعضها مؤلم لنفوس معتقديها ومحير ومشكك ... مثل من يعتقد أن ربه قتلته اليهود، ومثل من يعتقد أن إمامه مختف من خوف مخالفيه، ومثل من يعتقد أن رب العالمين خلق خلقا وناصبهم العداوة وهو إبليس وجنوده، ومثل من يعتقد أن رب العالمين حقود حنق يغتاظ على الكفار والعصاة من خلقه، ومثل من يرى ويعتقد أن أمر العالم غير منتظم، وأن مدبره وصانعه قد أهمل أمر عالمه حتى يجري فيه أشياء على غير مراده ومشيئته، ومثل من يرى ويعتقد أن رب العالمين الغفور الرحيم يأمر الملائكة بأن يأخذوا الكفار والعصاة ويرموا بهم في خندق من النار، وكلما احترقت جلودهم وصاروا فحما ورمادا أعاد فيها الرطوبة والحياة ليذوقوا العذاب، ومثل من يعتقد أنه يباشر في الجنة مع الأبكار ويلتذ منها ويزيل البكارة، ثم تعود البكارة، ومثل من يعتقد أنه يتمنى في الجنة الطيور المشوية فيتحصل بعد تمنيه في الحال، ثم يأكل منها حتى الشبع، ثم بعد ذلك تطير الطيور كما تطير في حال الحياة، ومثل من يعتقد أن الإنسان إذا مات بطلت نفسه ووجودها، ومثل من لا يرجو الجنة إلا بعد خراب السماوات وطيها كطي السجل للكتب، ومثل من يعتقد أن أعمال الإنسان تجعل في كفتين من كفتي الميزان، ومثل من يعتقد ويرى أن في الجحيم تنانين وثعابين وأفاعي يأكلون الفساق، ويصيرون أحياء بعد ذلك، وما شاكل هذه من الاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها. مع أن جميع ما نطق به الأنبياء عليهم السلام، من صفة الجنة ونعيم أهلها وعذاب النار والعقاب وأحوال القيامة كلها حق وصدق ولكن ليس كما يرى هؤلاء، بل أمر وراء ذلك لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
وأما من يرى ويعتقد ويعلم أن للعالم بارئا حكيما، قادرا حليما، جوادا كريما، غفورا رحيما، وأنه قد أحكم أمر عالمه على أحسن نظام، ولم يترك فيه خللا، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا يرى في خلق الرحمن من تفاوت، فإن نفسه ساكنة هادئة مستريحة من الألم والآراء الفاسدة وأوجاع الاعتقادات الزائفة، ومن وحشة ظلمات الجهالات المتراكمة، وهو في راحة من نفسه والخلق في راحة منه؛ ومن جهة في أمان لا يريد بأحد سوءا، ولا يرى له فضلا عليهم، ولا يطالبهم بحق، ولا يشكوهم من جفاء، ولا يصيبهم منه أذى. فهذه صفة إخواننا الكرام.
فهل لك يا أخي أن ترغب في صحبتهم، وتتبع منهاجهم، وتسير سيرتهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتنظر في علومهم وسياستهم، لتعرف أسرارهم واعتقاداتهم، أو تحضر مجلسهم لتسمع كلامهم وأقاويلهم، أو تقرأ رسائلنا هذه لعلك توفق لفهم معاني ما تضمنته، وتنتبه لنفسك من نوم الغفلة، وتستيقظ من رقدة الجهالة، وتنفتح لك عين البصيرة، فتحيا حياة العلماء، وتعيش عيش السعداء، وتصعد إلى ملكوت السماء» (30: 3، 68-73).
في الفصل الأول من هذا الكتاب، وفي القسم الخاص بتكون الحيوان أوردنا هذا المقطع لإخوان الصفاء: «واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء تكونها من الطين أولا، من ذكر وأنثى توالدت وتناسلت، وانتشرت في الأرض سهلا وجبلا، وبرا وبحرا، من تحت خط الاستواء، حيث يكون الليل والنهار متساويين، والزمان أبدا معتدلا هناك بين الحر والبرد والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائما. وهناك أيضا تكون أبونا آدم أبو البشر وزوجته، ثم توالدا وتناسلت أولادهما، وامتلأت الأرض منهم» (22: 2، 181-182). وهذا يعني أن آدم الجسماني لم يعرف الجنة الروحية قط، وإنما عرفها آدم الروحاني، وهو رمز يستخدمه الإخوان للدلالة على النفس وهبوطها من عالمها النوراني وحلولها في الأجسام. نقرأ في الرسالة الثانية على سبيل المثال قولهم: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ينبغي لك أن تتيقن بأنك لا تقدر أن تنجو وحدك مما وقعت فيه من محنة هذه الدنيا وآفاتها بالجناية التي كانت من أبينا آدم، عليه السلام» (2: 1، 100) وفي الرسالة 15: «واعلم أن نفسك هي إحدى تلك الصور، فاجتهد في معرفتها لعلك تخلصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام، وأسر الطبيعة التي وقعنا فيها بجناية كانت من أبينا آدم، عليه السلام، حين عصا ربه فأخرج هو وذريته من الجنة التي هي عالم الأرواح، وقيل لهم: ... اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون
19
وقيل [لهم أيضا]:
انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب
20
وهو عالم الأجسام ذو الطول والعرض والعمق» (15: 2، 21).
وهم يطورون هذه الفكرة في أكثر من موضع : «اعلم أيها الأخ أن النفس الجزئية لما أهبطت من عالمها الروحاني، وأسقطت من مرتبتها العالية للجناية، وغرقت في بحر الهيولى، وغاصت في قعر أمواج الأجسام، وقيل لها:
انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب
21
فغرقت في هياكل الأجسام، وتفرقت بعد وصلتها، وتشتت شمل ألفتها، كما ذكر الله عز وجل اسمه بقوله: ... اهبطوا منها جميعا ... ،
22
إلى قوله: ... ومنها تخرجون ،
23
عرض لها عند ذلك من الدهشة والأهوال والمصائب، مثل ما عرض لقوم من ركاب البحر لما اشتدت بهم الريح، واضطرب بهم البحر، وهاجت بهم الأمواج، وكسر بهم المركب، وغرقوا في قعر البحار، وغاصوا في ظلمات الماء ... فكما أن أولئك القوم في الوقت الذي انكسر بهم المركب تراهم بين غائص في الماء، أو طائف، أو متعلق بخشبة أو بحبل، أو يركب بعضهم كتف بعض، يقول كل واحد: نفسي نفسي، من شدة الأهوال، لا يفكر بغيره، ولا يريد النجاة إلا لنفسه، ولا يهمه سواها، ولا يذكر شيئا مما كان فيه قبلا، فهكذا حال النفوس في هذه الدنيا وكونها مع هذه الأجساد وما ابتليت به من ظلمات هذه الأجساد، من هموم المعاش، وخوف الجوع، وألم العطش، وأوجاع الأمراض والسقام ... فمن أجل هذه الشدائد والمصائب صارت النفس لا تذكر شيئا مما كانت فيه من أمر عالمها ومبدئها ومعادها، كما قال الله، جل ذكره:
وإذا ذكروا لا يذكرون .
24
واعلم أيها الأخ أن النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وأبصرت ذاتها، وعرفت جوهرها، وأحست بغربتها في عالم الأجسام، ومحنتها وغرقها في بحر الهيولى ... وتنسمت بروح عالمها وريحانها، اشتاقت إلى هناك، ومالت إلى الكون في ذلك العالم، ومقتت الكون مع الأجساد، وزهدت في نعيم الدنيا، وتمنت الموت الذي هو مفارقة الجسد والخروج من ظلمة الأجسام، فيكون مثلها في ذلك كمثل قوم خرجوا من الحبس والمطامير مع ضوء الصبح، فشاهدوا هذا العالم بما فيه دفعة واحدة» (48: 4، 184-185). «الأرض بما عليها من المدن والقرى والجزائر التي في البحار، وما فيها من المساكن، كلها حبوس ومطامير وسجون ومضائق للنفوس الجزئية ، وكذلك جميع أشخاصها من النبات والحيوان ذوات النفوس، كلها قيود وأغلال وكبول للنفوس المتعلقة بما يجذبها إلى أسر الطبيعة، وكلها برازخ، ولكنها متفاوتة الصفات ومتغايرة الدرجات، ومتباينة الصور من الضيق والاتساع والاتضاع والارتفاع والآلام واللذات؛ ومنها ما هو في العذاب المهين والذل المقيم، مثل البهائم المستعملة والحيوانات المذبوحة في الهياكل والبيع، والنبات الذي هو في غاية الذل والهوان؛ وأكملها صورة وأتمها بنية وأعلاها منزلة الصورة الإنسانية، فهي صراط مستقيم وكتاب مبين وطريق قويم، وهي المطية التي من سار عليها قاصدا، وكان في سيره على الحق معتمدا، فلا شك أنه يصل بها إلى دار السعادة ويفارق دار الهوان؛ ومن خلى زمام مطيته وتاه في محجته، يوشك أن تعدل به المطية إذا خلى زمامها، إلى طريق الهلكة» (جا: 53-54).
أما عن ماهية خطيئة النفس الجزئية التي أهبطت بسببها إلى عالم الأجسام، فلا يحدثنا الإخوان عنها إلا بشكل غامض لا يروي غليل قارئهم: «وكان الأصل في ذلك [أي في زلة النفس] أن النفس الجزئية كان منها فتور عن قبول فوائد النفس الكلية، والمواد العقلية، فأهبطت إلى عالم الجسم، وجعل لها واسطة لتناول العلوم بالحس واللمس، لتتصور بتأمل المحسوسات المركبات صور الأشياء المعقولات الروحانيات المجردات من الهيولانيات. فإذا فارقت [النفس] المحسوسات، وبقيت آثارها [أي آثار المحسوسات] فيها، وشاهدت الصور العقلية المجردة من الهيولى، كان ذلك معينا لها على طلب الاتحاد بها، والكون بحيث هي [أي الصور] في جنة المأوى والفردوس الأعلى. فلذلك قال سبحانه: ... وأتوا به متشابها ...
25
وقولهم: ... هذا الذي رزقنا من قبل ...
26
يعنون وهم في محل الأجسام في دار الدنيا» (جا: 65).
فقوى النفس الكلية المنبعثة عنها والسارية فيما دونها في عالم الكون والفساد الذي هو دون فلك القمر هي: «آثار جزئية مرتبطة بعالم الكون والفساد، كائنة في محل الأجساد، وهي الأرواح الهابطة للزلة التي كانت منها، والخطيئة التي جنتها، فأخرجت من الجنة وأبعدت عن دار الكرامة، فبقيت معذبة مربوطة بالطبيعة الحسية، والتكليفات اللازمة لها في الشرائع الناموسية، جزاء لها بما أسلفت، وليكون ذلك قربة لها إذا قبلت أوامر الشرع ... فعند ذلك يكون رجوعها إلى محلها النوراني» (جا: 79). وأيضا: «وإذا قالت الحكماء النفوس الجزئية، فإنما يعنون بها القوة المنبعثة الهابطة إلى المركز السفلي والمشتاقة إلى عالم الطبيعة، المتخلفة عن قبول الإفاضة العقلية، التي لحقها الفتور عن التسبيح والتقديس في محل الأنوار، فأهبطت إلى قرار المركز، ووقع بها تكليف العبادة وصعوبة الطاعة ... وإليه [أي إلى محل الأنوار] ترجع إذا تابت من خطيئتها واستقالت من عثرتها» (جا: 196-197).
في هبوطها إلى عالم الكون والفساد، تقطعت النفس الجزئية الخاطئة إلى ثلاث فرق: فرقة اتحدت بجوهرية المعدن، وفرقة بجوهرية النبات، وفرقة بجوهرية الحيوان. فعناصر الأرض ومعادنها ونباتاتها تمتلك نفوسا جزئية مثل التي للحيوان والإنسان: «واعلم يا أخي أن النفس قد أتى عليها دهر طويل قبل تعلقها بالجسم. وذلك أنها تحركت حركة طويلة، غير متوهمة كتوهم الحركات المحسوسات الكائنة في الزمان الفلكي، وكانت في عالمها الروحاني ومحلها النوراني ومركزها العقلي ودارها الحيواني، مقبلة على علتها العقل الفعال، تقبل منه الفيض والفضائل والخيرات، وتتراءى فيها المثالات العقلية أنوارا ذاتية وأشباحا نورانية ملكية ... فلما امتلأت من تلك الفضائل والخيرات، أرادت التشبه بعلتها، وأن تكون مفيدة ... فلما رأى الباري سبحانه ذلك منها، مكنها من عالم الجسم وهيأه لها، وخلق من ذلك الجسم [بتوسط النفس] عالم الأفلاك وأطباق السماوات، من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وركب الأفلاك بعضها فوق بعض فتحركت النفس فيها حركة اختيار، فوجدت في الأشياء المخلوقة لها قوة لقبول آثارها منها، وصورت فيها صورة ما في ذاتها ... وأقام أمر النفس جاريا على هذه الحال مدة ما شاء الله الباري عز وجل، على أحسن النظام وأكمل التمام، إلى أن كان من آدم ما كان، فأهبطت النفس الجزئية إلى مركز الأرض ... وتقطعت ثلاث فرق: فرقة اتحدت بجوهرية المعادن، وفرقة اتحدت بجوهرية النبات، وفرقة اتحدت بجوهرية الحيوان الذي أفضله عالم الإنسان. ثم عطفت النفس الكلية بعد ذلك راجعة إلى قبول الفيض العقلي، بالتوبة والإنابة والاستغفار لمن في الأرض، وطلب الرحمة والرضوان لهم من ربهم ... ولا تزال الأشياء موجودة على ما هي به، من اجتماع الكثيف [= الجسم] باللطيف [= النفس]، ما دامت النفوس الجزئية متحركة بالنشوء والبلى، والكون والفساد، والترقي من الحال الأدنى إلى الحال الأعلى، حتى تترقى كلها، وتصعد بأجمعها كما تتصاعد المياه مع البخارات وتصير في الغمام، ولا يبقى في الأوان إلا تفالاتها فيرمى بها، إذ لا حاجة إليها. واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنه سترجع النفوس الجزئية إلى النفس الكلية بأجمعها، وتصير في عالمها الروحاني ... وسيخرب العالم الأرضي والمركز السفلي إن فارقته النفس، وسكن الفلك عن الدوران والكواكب عن المسير والأركان عن الاختلاط والامتزاج، وبلي النبات والحيوان والمعادن، فتخلع النفس الصور والأشكال والنقوش، ويبقى الجسم [المطلق] فارغا كما كان في البداية إذا أعرضت عنه النفس، وأقبلت نحو عالمها، ولحقت بعلتها [العقل] ... وأقبل عليها دفعة واحدة، فتخلت عن الجسم دفعة واحدة. فعند ذلك تبطل الحركات الدنياوية» (جا: 271-273).
27
في كيفية ارتباط النفس الجزئية بالأجسام
لا يكفي لكي تعرف نفسك أن تستنبط أعماق ذاتك وتنظر في الآفاق، بل لا بد أيضا من أن تعرف تاريخك منذ أن تكونت في الرحم جسدا وحلت فيك روحك الجزئية. وهنا يأخذنا الإخوان في رسالتهم «مسقط النطفة» في نزهة علمية وأسترولوجية، نقتطف منها ما يلي: «واعلم بأن مثل الأركان الأربعة التي هي الأمهات في جوف الفلك كاللبن في الوعاء، وحركات الكواكب من محيط الأفلاك كالمخض
28
به، والكائنات [المتولدة] عنها كالزبدة المجتمع من لطائفها.
ثم اعلم أنه إذا تمخضت الأركان من تحريك الأشخاص الفلكية لها، واجتمع من لطائف زبدتها شيء، وشخص، وامتاز عن البسائط، ربطت به في الوقت والساعة قوة من قوى النفس الكلية الفلكية ... وتشخص تلك القوة، وتمتاز عن سائر القوى لتعلقها بتلك الزبدة واختصاصها بتلك الجملة. فعند ذلك تسمى تلك القوة نفسا جزئية. وعند ذلك تقع الإشارة إلى تلك الجملة؛ لأنها حادث كائن، حيوانا كان أو نباتا أو معدنا.
واعلم يا أخي أنه لا بد من أن يكون في ذلك الوقت وتلك الساعة درجة طالعة من أفق المشرق من الفلك، على أفق تلك البقعة التي حدثت تلك الزبدة هناك، ويكون شكل الفلك ومواضع الكواكب على هيئة ما ... فعند ذلك يضاف إلى تلك القوة قوى روحيات سائر الكواكب، وتجذب معها تلك الزبدة المواد المشكلة لها، ويكون قبولها بحسب ما في طباع أشخاص أنواع ذلك الجنس من الأفعال والأخلاق والخواص، حيوانا كان أم نباتا أم معدنا.
أمثال ذلك أنه إذا جرت نطفة الإنسان، التي هي زبدة دم الرجال، واجتمعت في الإحليل عند حركة الجماع ... وخرجت من الإحليل، وانصبت في الرحم واستقرت هناك، ربطت بها في الوقت والساعة قوة من قوى النفس النباتية
29
السارية في جميع الأجسام النامية، التي هي أيضا قوة من قوى النفس الطبيعية السارية في جميع الأركان الأربعة، والتي هي أيضا قوة منبثة من النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام الموجودة في العالم.
ثم اعلم يا أخي أن للنفس النباتية سبع قوى فعالة، وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والمصورة، وأن أول فعلها عند استقرار النطفة في الرحم هو جذبها دم الطمث إلى الرحم وإمساكها لها هناك وهضمها.
ثم اعلم يا أخي بأنه إذا جذبت هذه القوة الدم إلى هناك، أخفته حول النطفة، وأدارته عليها كما يدور بياض البيض حول محها، فيكون عند ذلك حول النطفة كالمحة، ودم الطمث حولها كالبياض. ثم إن حرارة النطفة تسخن رطوبة الدم، فتنضجها، فتسخن وتنعقد تلك الرطوبة، فتصير علقة، كما ينعقد اللبن الحليب من الإنفحة، وتستولي عند ذلك على تلك الجملة قوى روحانيات [كوكب] زحل، وتبقى في تدبيراتها بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب شهرا واحدا ثلاثين يوما ...
واعلم يا أخي بأن ابتداء تدبير النطفة إنما صار لزحل من أجل أنه أعلى الكواكب السيارة فلكا مما يلي فلك الكواكب [الثابتة] الذي هو مكان الجواهر الشريفة، ومنصب القوى الروحانية ...
ثم اعلم يا أخي بأنه ما دام التدبير لزحل إلى تمام شهر، ثلاثين يوما، فإن تلك العلقة تكون باقية بحالها، غير مختلطة ولا ممتزجة، بل جامدة متمسكة، جارية إليها المواد، لغلبة برد زحل وسكونه وثقل طبيعته، إلى أن يدخل الشهر الثاني، ويصير التدبير للمشتري الذي فلكه يتلو فلك زحل، وتستولي عليها قوى روحانيته، فيولد عند ذلك في تلك العلقة حرارة، وتسخن، ويعتدل مزاجها، ويختلط الماءان، ويمتزج الخلطان، ويعرض لتلك الجملة حركة مثل الاختلاج والارتعاش والهضم والنضج، فلا تزال هذا حالها ما دامت في تدبير المشتري إلى تمام شهرين. ثم يدخل الشهر الثالث ويصير التدبير للمريخ الذي يلي المشتري في الفلك، وتستولي على تلك العلقة قوى روحانيته، ويشتد اختلاجها وارتعاشها، ويتولد فيها فضل حرارة وسخونة، وتصير تلك العلقة مضغة حمراء؛ فلا تزال تتقلب حالا بعد حال من النضج والاستحكام بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب للمريخ إلى تمام ثلاثة أشهر. ثم يدخل الشهر الرابع ويصير التدبير للشمس رئيسة الكواكب وملكة الفلك وقلب العالم بإذن الباري جل ثناؤه.
واعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الرابع من مسقط النطفة، وصار التدبير للشمس، واستولت على المضغة روحانياتها، نفخت فيها روح الحياة، وسرت فيها النفس الحيوانية. وذلك لأن الشمس هي رئيسة الكواكب في الفلك، وهي المستولية على الكائنات التي دون فلك القمر، وخاصة على مواليد الحيوانات ذوي الرحم، وأشد اختصاصا بمواليد الإنس؛ وذلك أن جرمها في العالم بمنزلة جرم القلب في البدن ... وسريان قوى روحانياتها في العالم كسريان الحرارة الغريزية المنبثة من القلب السارية في أعضاء البدن.
وأما سائر قوى روحانيات الكواكب، فهي لها كالجنود والأعوان ... وعند ذلك تكون قد اختلطت الطبائع من الأركان الأربعة في تركيب بنية الجنين، واعتدل المزاج، وانتقشت الصورة، وأنشئت الخلقة، وظهرت أشكال العظام، وركبت المفاصل، وتهندم التركيب، والتفت الأعصاب على المفاصل، وامتدت العروق في خلل اللحم، وظهرت البنية [مخلقة وغير مخلقة].
اعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الخامس ... وصار التدبير للزهرة، الساعد الأصغر وصاحبة النقش والتصاوير، واستولى على المخلقة قوى روحانياتها، استتمت الخلقة، واستكملت البنية، وظهرت صورة الأعضاء، واستبان رسم العينين، وانشق المنخران، وانفتح الفم وثقب الأذنين ومجرى السبيلين، وتميزت المفاصل. ولكن الجنين يكون مجموعا منضما،
30
منقبضا كأنه مصرور في صرة ، ركبتاه مجموعتان إلى صدره، ومرفقاه منضمان إلى حقويه، وهو منكس رأسه على دفته وعلى ركبتيه، وكفاه على خديه، وهو شبه نائم محزون.
فلو رأيته يا أخي لرحمته لضيق مكانه وضعف أحواله، ولكنه لا يحس بما هو فيه رفقا من الله تعالى بخلقه ولطفا بهم. وتكون سرته متصلة بسرة أمه، تمتص منها الغذاء إلى يوم الولادة، ويكون وجهه إن كان ذكرا مما يلي ظهر أمه، وإن كان أنثى فعكس ذلك ...
ثم اعلم أنه عند دخول الشهر السادس، يصير التدبير لعطارد، وتستولي عليه قوى روحانياته، فيتحرك عند ذلك الجنين في الرحم، ويركض برجليه ويمد يديه، ويبسط جوارحه، ويضطرب ويحس بمكانه، ويفتح فاه، ويحرك شفتيه، ويدير لسانه في فيه، فيكون تارة متحركا، وتارة يسكن، وتارة ينام، وتارة يستيقظ. فلا يزال ذلك دأبه إلى أن يتم الشهر السادس ويدخل الشهر السابع، ويصير التدبير للقمر، وتستولي عليه قوى روحانياته، فيربو لحم الجنين حينئذ، وتسمن جثته وتشتد أعضاؤه ... ويحس بضيق مكانه، ويطلب التنقل والخروج؛ فإن قدر له ذلك ... وكان الجنين كاملا عاش وتربى وعمر، وإن بقي هناك إلى أن يدخل الشهر الثامن وتدخل الشمس بيت الموت يرجع التدبير إلى زحل، فتستولي عليه قوى روحانياته، عرض للجنين ثقل وسكون، وغلب عليه البرد والنوم وقلة الحركة. فإن ولد في هذا الشهر كان بطيء النشوء ثقيل الحركة قليل العمر، وربما كان ميتا. وإذا دخل الشهر التاسع ... ورجع التدبير إلى المشتري، السعد الأكبر، واستولت عليه قوى روحانياته، واعتدل المزاج وقويت روح الحياة، ظهرت أفعال النفس الحيوانية في الجسد ... فإذا خرج الجنين بعد ثمانية أشهر، استأنف العمر في الدنيا ...
واعلم يا أخي بأن الكائنات التي تحت فلك القمر تبتدئ من أنقص الحالات وأدونها مترقية إلى أتمها وأفضلها. ويكون ذلك في مر الزمان والأوقات؛ لأن طبيعتها لا تقبل فيض أشخاص فلكية دفعة واحدة، ولكن شيئا بعد شيء على التدريج، كما يقبل المتعلم الذكي من الأستاذ الحاذق .
واعلم بأن فيضات الكواكب من محيط الأفلاك متصلة نحو مركز الأرض في دائم الأوقات، ولكنها مفننة الألوان، متغايرة الأشكال، وذلك بحسب مواضعها من أفلاكها، وموازاتها من فلك البروج، وحدودها ... [ولكن] لا ينبغي لك يا أخي أن تتوهم أو تظن أن هذه الكواكب والأفلاك التي ذكرنا أفعالها وتأثيراتها في تركيب الجسد الإنساني هي آلات وأدوات للباري، جل ثناؤه، يخلق بها الإنسان، بل إنما هي آلات وأدوات للنفس الكلية الفلكية، وهذه النفس هي عبد مطيع للباري تعالى، فقد أيدها بالعقل الكلي الذي هو ملك من ملائكته المقربين
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا .
واعلم يا أخي أن هذه الأشخاص الفلكية، لما كانت موضوعة بعضها من بعض على النسبة الموسيقية من ثلاثة أنواع، أحدها نسبة أعظام [= أحجام] بعضها عند بعض، والآخر نسبة أبعاد مراكزها بعضها من بعض ومن الأركان الأربعة، وكذلك الثالث نسبة حركاتها في سرعة وإبطاء، فمن أجل ذلك إذا عرضت لها تلك الحالات المختلفة التي تقدم ذكرها في الفصل الأول، اختلفت مناسباتها، فعند ذلك تختلف تأثيراتها في الكائنات بحسب اختلاف النسبة، كما تختلف أصوات الموسيقى ونغماتها عند طول الأوتار وقصرها ودقتها وغلظها، وسرعة حركات المضارب وإبطائها، فتختلف عند ذلك تأثيراتها في نفوس المستمعين بحسب اختلاف طبائعهم وآرائهم وأخلاقهم، كما بينا طرفا من ذلك في رسالة الموسيقى ...
ثم اعلم يا أخي بأنه متفق بين أهل صناعة التنجيم في أحكام المواليد، أنه من يوم الولادة إلى تمام أربع سنين شمسية يكون الطفل في تدبير القمر صاحب النمو والزيادة والنشوء، وتشاركه سائر الكواكب في التدبير ... ثم يصير في تدبير عطارد ثلاث عشرة سنة، وهو صاحب النطق والحركة والتعاليم والآداب والتمييز والفهم، وتشاركه في التدبير سائر الكواكب ... ثم يصير المولود في تدبير الزهرة ثماني سنوات، وهي صاحبة الحسن والزينة والشهوات واللذة والرغبة في النكاح والحرص على السفاح، وتشاركها في التدبير سائر الكواكب، فيظهر من المولود في هذه المدة الرغبة في التزوج والنكاح، وطلب الشهوات والتمتع باللذات، ومحبة الزينة والحسن والجمال ... والانهماك في الشهوات إلى مدة ما. ثم يصير في تدبير الشمس، صاحبة العز والرياسة والتدبير والسياسة عشر سنوات؛ ويظهر من المولود الكدخدائية في المنزل، وتربية الأولاد، وتأديب الأهل والجيران، ومراعاة أمر الأقرباء والإخوان، وطلب العز والسلطان والرفعة والعلو والشرف في المنزلة، وما شاكل ذلك ... ثم يصير في تدبير المريخ سبع سنوات، وهو صاحب الحزم والعزم والشجاعة ... والإنصاف والعزة. وبالجملة كل خصلة لا بد منها لساسة الأمور، وقادة الجيوش، ورعاة الجماعات، ومدبري الملك والناموس جميعا ...
ثم يصير المولود في تدبير المشتري اثنتي عشرة سنة، وهو صاحب الدين والورع، والتوبة والندامة، والزهد والعبادة، والرجوع إلى الله، جل ثناؤه، بالصوم والصلاة، وطلب الآخرة والرغبة فيها ... فإن اجتهد الإنسان وفعل ما رسم في الشريعة من لزوم أحكامها ومفروضاتها، وعمل بما وصف في الفلسفة وصبر عليه مدة ما، فعما قليل يخف عليه كل ما هو فيه من تجاذب الطبيعتين المتضادتين، إلى أن يصير التدبير إلى زحل بعد إحدى عشرة سنة، وهو صاحب السكون والهدوء والكسل، وجمود نيران الشهوات الجسمانية، وذهاب القوى الحيوانية، واسترخاء الأعصاب، وذبول الآلات الجسدانية ... فعند ذلك تقل رغبته في هذه الدنيا، وينقطع طمعه في المقام في عالم الكون والفساد. ثم يجيئه الموت الطبيعي على التدريج إذا انطفأت الحرارة الغريزية من البدن، وانسلت الروح الحيوانية من الجسد، كما ينطفئ السراج ويذهب الضوء إذا فني الدهن واحترقت الفتيلة.
فإن كان الإنسان قد ارتاض فيما مضى من عمره، وتعلم علما من العلوم، وأدبا من الآداب، أو صناعة من الصنائع، أو تدين بمذهب من الآراء، أو عمل عملا من الأعمال يهدى به إلى طريق الآخرة وأمر المعاد، فإنه يرجى لتلك النفس أن تهتدي إلى الرجوع إلى عالمها النفساني ومحلها الروحاني، واللحوق بأبناء جنسها الذين مضوا قبلها، ووصلوا إلى هناك، وتخلصوا من دركات عالم الكون والفساد ... ... وقد تبين بما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم مدة ما، إنما هو لكي يتم الجسد وتستكمل صورة البدن، والغرض من ذلك أن المولود ينتفع بالحياة الدنيا بعد الولادة . وكذلك أيضا قد قال الحكيم: إن مكث الإنسان العاقل [في هذه الدنيا، و] الذي هو تحت الأمر والنهي، إما بموجب العقل أو بطريق السمع بأوامر الناموس ونواهيه، وفي طول عمره الطبيعي مدة ما، إنما هو لأن تتم فضائل النفس، وتستكمل أخلاقها المختلفة، ومعارفها الربانية، بالتأمل والبحث في النظر، والسعي والاجتهاد في العمل، كما ذكر في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسانية، أو بما رسم في الناموس من الوصايا والأوامر والنواهي. كل ذلك لكي تستكمل النفس فضائل الملائكة فيها» (منتخبات من الرسالة 25، م2، ص417-455).
فالإنسان العاقل يستطيع والحالة هذه معرفة حقائق الوجود باستخدام عقله وبصيرته، والعمل وفق ما جاء به الحكماء والفلاسفة في عمره المديد في هذه الدنيا، لينتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويتهيأ لرحلة خلاص النفس من عالم الكون والفساد. ولكن الناس كلهم ليسوا مهيئين لمثل هذا الاعتماد على النفس، وكثير منهم لا يسمح له عمره القصير الذي لا يصل أقصى مداه بتحقيق هذا العرفان. وهنا يأتي دور الأديان المنزلة من السماء لأمثال هؤلاء: «اعلم يا أخي أن الله، جل ثناؤه، لما علم بأن أكثر الناس لا يعيشون أعمارا طبيعية على التمام، ولا يتركون في الدنيا زمانا طويلا تهذب فيه نفوسهم وتستكمل فضائلهم، لطف بهم من أجل ذلك، وبعث إليهم الأنبياء، والرسل واضعي النواميس بالوصايا والأوامر والنواهي والسنن الزكية والشرائع المرضية، إذا استعملوها على نحو ما رسم لهم استتمت فضائل نفوسهم، وتهذبت أخلاقهم، [حتى] وإن كانوا قصيري الأعمار ... فهذا هو حكم نفوس البالغين الذين هم تحت الأمر والنهي. وأما حكم نفوس الأطفال والمجانين [إذا قضوا]، فهي تنجو بشفاعة الآباء والأمهات والأنبياء والمرسلين» (25: 2، 454-455).
في معرفة الجسد وأحواله
لما كان الإنسان مثنويا في تكوينه، مؤلفا من جسد ونفس شريفة، فإن معرفته بجسده هي جزء لا يتجزأ من معرفته بنفسه. ومعرفة الجسد تبتدئ عند الإخوان من فهم كيفية تركيبه ووظائف أعضائه، بما فيها الدماغ والجملة العصبية، وتنتهي بآليات الإحساس والإدراك، ونظريتهم في المعرفة.
اعلم، وفقك الله، أن الإنسان إذا ادعى معرفة الأشياء وهو لا يعرف نفسه، فمثله كمثل من يطعم الناس وهو جائع، وكمثل من يداوي غيره وهو مريض سقيم عليل ... واعلموا أن اسم الإنسان إنما هو واقع على هذا الجسد الذي هو كالبيت المبني، وعلى هذه النفس التي تسكن هذا الجسد، وهما جميعا جزءان له وهو جملتهما والمجموع منهما، ولكن أحد الجزأين الذي هو النفس أشرف، وهو كاللب، والجزء الآخر الذي هو الجسد كالقشر ... فمن أجل هذا يحتاج كل إنسان أن يعرف نفسه بالحقيقة، ويحتاج في معرفة ذلك إلى أن ينظر فيه من ثلاثة أوجه:
أحدها:
النظر في حالات الجسد ما هو، وكيف هو من تركيب أجزائه وتأليف أعضائه، وما الصفات المخصوصة به خلوا من النفس.
والجهة الثانية:
النظر في أمر النفس مجردة من الجسد، وقواها وما هي، وكيف هي، وما الصفات المخصوصة بها.
والجهة الثالثة:
النظر في مجموعهما وما يظهر من جملتهما من الأخلاق والأفعال ... وما شاكل ذلك.
ونبتدئ أولا بذكر حالات الجسد وصفاته بكلام مختصر، كيما يكون دليلا على أمر النفس وحالاتها؛ لأن الجسد ظاهرة مكشوفة مخيلة مدركة بالحواس، وأما أمر النفس وحالاتها فغائب عن إدراك الحواس، وباطن في عمق الجسد، مستور خفي، وإنما يدرك بالعقل.
فاعلموا، أيها الإخوان، أن الشاهد من حالات الجسد يدل على الغائب من حالات النفس، والظاهر يدل على الباطن ... والمحسوس على المعقول. وقد قلنا في الرسالة الأولى [من قسم: الجسمانيات الطبيعيات]: إن الجسد مؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد وما شاكلها. وهذه كلها أجسام أرضية ميتة مظلمة ثقيلة متجزئة متغيرة فاسدة. وأما النفس فإن جواهرها سماوية روحانية ناطقة نورانية، غير ثقيلة ولا متجزئة، وغير فاسدة بل متحركة باقية علامة دراكة لصور الأشياء وحقائقها.
وفي كيفية تركيب الجسد وكيفية أخلاط البدن ومزاج الطبائع، فنقول: اعلم، وفقك الله، أن الباري تعالى لما خلق الجسد وسواه، ونفخ فيه من روحه وأحياه، ثم أسكن فيه النفس وأولاه، وكان مثل أساس بنية الجسد وتركيب أجزائه وتأليف أعضائه كمثل أساس بناء مدينة بنيت من أشياء مختلفة ... فأحكمت بنيتها، وشيد بنيانها ...
وذلك أن الله تعالى لما أراد تركيب الجسد ابتدأ أولا فاخترع أربع طبائع منفردات ، متعاديات القوى بسلطانها بعضها على بعض، ثم ألف بين كل اثنتين منها [وهي: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة]. و(اخترع كذلك) أربعة أركان مزدوجات مؤتلفات الطبائع متناسبات القوى من أركانها [وهي: النار، والهواء، والماء، والأرض]. ثم أسس بنية هذا الجسد من هذه الأركان الأربعة التي هي أساس لبنيانها [أي لبنيان المدينة التي يشبه جسد الإنسان بها]، ثم ابتدأ بنيانها من أربعة أخلاط متعاديات طباعها متناسبات قواها، التي هي مجموعات من أصل أركانها [وهي: الصفراء، والدم، والبلغم، والسوداء]. ثم جمع هذه الأخلاط الأربعة، فخلق منها تسعة جواهر مختلفة أشكالها هي ملاك بنيانها [وهي: العظام، والمخ، والعصب، والعروق، والدم، واللحم، والجلد، والظفر، والشعر]. ثم ألفها وركب بعضها فوق بعض عشر طبقات متصلات بهندامها [وهي: الرأس، والرقبة، والصدر، والبطن، والجوف، والحقو، والوركان، والفخذان، والساقان، والقدمان]. ثم أسندها وأقامها بمائتين وثمانية وأربعين عمودا مستويات القد أقرانا [وهي العظام، 248 عظمة]. ثم سمرها ومد حبالها وشد أوصالها بسبعمائة وخمسين رباطا، ممدودات محتويات، ملتفات عليها كالحبال [وهي الأعصاب]. ثم قدر بيوتها وقسم خزائنها، وأودع إحدى عشرة خزانة معمورة مملوءة من الجوهر مختلفة أنواعها وألوانها [وهي: الدماغ، والنخاع، والرئة، والقلب، والكبد، والمرارة، والطحال، والمعدة، والأمعاء، والكليتان، والأنثيان]. وخط شوارعها وأنفذ طرقاتها، وجعل لها ثلاثمائة وستين مسلكا لسكانها [وهي العروق الضوارب]، واستخرج منها عيونا، وشق فيها أنهارا هي ثلاثمائة وتسعون جدولا مختلفات في الجهات لجريانها [وهي الأوردة]. وفتح على سورها اثني عشر روزنا [= كوة] مزدوجات المسالك لجريانها [وهي: العينان، والأذنان، والمنخران، والسبيلان، والثديان، والفم، والسرة]. وأحكم بناء هذه المدينة على أيدي سبعة صناع متعاونين، هم خدامها [وهي: القوة الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة النامية، والقوة المصورة]، ووكل بحفظها خمسة حراس حراسا على حفظ أركانها [وهم الحواس الخمس].
ثم رفع هذه المدينة في الهواء على رأس عمودين [هما الرجلان]، وحركها على ست جهات بجناحين [وهما اليدان اللتان تشيران إلى الجهات الست التي هي قدام وخلف ويمنة ويسرة وفوق وتحت]، ثم أسكن فيها ثلاث قبائل من الجن والإنس والملائكة ، وجعلهم سكانها [وهي النفس الشهوانية (= النباتية) التي هي في أخلاقها وأفعالها كالجن، والنفس الحيوانية التي هي في أخلاقها وأفعالها كالإنس، والنفس الناطقة التي هي في تمييزها ومعارفها كالملائكة]، ثم رأس عليهم ملكا واحدا وعلمه أسماء من فيها وأمره بحفظها، وأمرهم بطاعته [وهو العقل]» (23: 2، 378-382). «اعلم أن النظر في ماهية النفس مجردة من الجسد، والتصور بذاتها خلوا منه، عسر جدا على المرتاضين بالرياضيات الحكمية، فكيف على غيرهم؟ ولكنه إذا نظر إلى ما يظهر من أفعالها في الجسد، واعتبر تصرف أحوالها مع الجسد، يسهل عليه ذلك، ويقرب من فهم المتعلمين، والتصور في أفكار المتفكرين وجودها، وتبين شرف جوهرها. ونريد أن نبين من ذلك طرفا ونضرب أمثالا، كيما يكون أوضح للبيان وأقرب من فهم المبتدئين، وأبلغ للتصور في أفكار المفكرين، فنقول:
اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس هو بمنزلة دار لساكنها بنيت وأحكم بناؤها، وقسمت بيوتها، وملئت خزائنها، وسقفت سطوحها، وفتحت أبوابها، وعلقت ستورها، وأعد فيها كل ما يحتاج صاحب المنزل في منزله ... ثم إن هذا الجسد لهذه النفس، من جهة أخرى، بمنزلة دكان الصانع، وإن جميع أعضاء الجسد للنفس بمنزلة أدوات الصانع في دكانه، وإن النفس بكل عضو تظهر ضروبا من الأفعال وفنونا من الحركات. [وذلك] كالنجار، فإنه ينحت بالفأس وينشر بالمنشار ويثقب بالمثقب ... وعلى هذا القياس سائر الصناع، كل واحد منهم يعمل بأدوات مختلفة أعمالا مختلفة وحركات متباينة.
فهكذا حال النفس، [فإنها] تبصر بالعينين وتسمع بالأذنين، وتشم بالمنخرين ... وتتفكر بواسطة الدماغ الأشياء ... وتصوت بالحلقوم ... وبالجملة ما من عضو في الجسد إلا وللنفس فيه ضروب من الأفعال وفنون من الأعمال. «ثم اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس الساكنة فيه يشبه مدينة عامرة بأهلها مأنوسة بسكانها. وحالات الجسد تشبه حالات المدينة، وتصرف النفس يشبه تصرفات أهل المدينة فيها ...
ثم اعلم أن في هذه النفس الساكنة في هذا الجسد قوى طبيعية وأخلاقا غريزية منبثة في أعضاء هذا الجسد، تشبه قبائل أهل تلك المدينة وشعوبها النازلين في المحال بتلك المدينة، وأن لتلك القوى وتلك الأخلاق أفعالا وحركات منبثة في أوعية هذا الجسد، ومجاري مفاصله تشبه أفعال أهل تلك المدينة في منازلهم، وحركاتهم في طرقاتها، وأعمالهم في أسواقهم. فأما القوى الطبيعية والأخلاق الغريزية التي تشبه القبائل والشعوب فهي ثلاثة أجناس:
فمنها قوى النفس النباتية [= الشهوانية]، ونزعاتها وشهواتها، فضائلها ورذائلها، ومسكنها الكبد، وأفعالها تجري مجرى الأوراد إلى سائر أطراف الجسد.
ومنها قوى النفس الحيوانية، وحركاتها وأخلاقها وحواسها وفضائلها ورذائلها. ومسكنها القلب، وأفعالها تجري مجرى العروق الضوارب إلى سائر أطراف الجسد.
ومنها قوى النفس الناطقة، وتمييزاتها ومعارفها، وفضائلها ورذائلها؛ ومسكنها الدماغ، وأفعالها تجري مجرى الأعصان إلى سائر أطراف الجسد.
ثم اعلم أن هذه النفوس الثلاث ليست متفرقات متباينات بعضها من بعض، ولكنها كلها كالفروع من أصل واحد، متصلات بذات واحدة كاتصال ثلاثة أغصان من شجرة واحدة، تتفرع من كل غصن عدة قضبان، ومن كل قضيب عدة أوراق وثمار ... فهكذا أمر النفس، فإنها واحدة بالذات، وإنما تقع عليها هذه الأسماء بحسب ما يظهر منها من الأفعال. وذلك إذا فعلت في الجسم الغذاء والنمو، فتسمى النفس النامية، وإذا فعلت في الجسم الحس والحركة والنقلة فتسمى النفس الحيوانية، وإذا فعلت الفكر والتمييز، فتسمى النفس الناطقة» (23: 2، 383-387). «اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من تركيب جسد الإنسان، وبيان أنه عالم صغير، وأن بنية هيكله تشبه مدينة فاضلة، وأن نفسه تشبه ملكا في تلك المدينة، فنريد الآن أن نذكر طرفا من المعلومات فنقول:
إن علم الإنسان بالمعلومات يكون من ثلاثة طرق، أحدها: طريق الحواس الخمس الذي هو أول الطرق، ويكون جمهور علم الإنسان، ويكون معرفته بها من أول الصبا، ويشترك الناس كلهم فيها وتشاركهم الحيوانات. والثاني: طريق العقل الذي ينفصل به الإنسان دون سائر الحيوانات، ومعرفته به تكون بعد الصبا عند البلوغ. والثالث: طريق البرهان الذي يتفرد به قوم من العلماء دون غيرهم من الناس، وتكون معرفتهم بها بعد النظر في الرياضيات الهندسية والمنطقية» (24: 2، 396-397). «[أما] في العلة التي صار علم الإنسان بالمعلومات من ثلاثة طرق فنقول: إنه لما كان الإنسان من جملة مجموعة بدن جسماني ونفس روحانية، صار بنفسه الروحانية يدرك العلم، كما أنه بجسده الجسماني يعمل الصنائع.
31
ولما كانت النفس في الرتبة الوسطى من الموجودات، وذلك أن من الأشياء ما هو أعلى وأشرف من جوهر النفس كالباري تعالى والعقل والصور المجردة من الهيولى الذين هم ملائكة الله المقربون. ومنها ما هو أدون من النفس كالهيولى والطبيعة والأجسام أجمع، فصارت معرفة النفس بالأشياء التي دونها في الشرف بطريق الحواس التي هي المباشرة والمماسة والمخالطة والإحاطة. وأما ما كان أشرف منها وأعلى، فصارت معرفتها لها بطريق البرهان الذي يضطر العقول إلى الإقرار به من غير إحاطة ولا مباشرة، وصارت معرفتها بذاتها وجوهرها بطريق العقل؛ لأن نسبة العقل إلى النفس كنسبة الضوء من البصر، وكنسبة المرآة إلى الناظر فيها. فكما أن البصر لا يرى شيئا من الأشياء إلا بالضوء ... كذلك النفس لا تنظر ذاتها إلا بنور العقل، ولا تعرف حقائق الموجودات إلا بالنظر إلى العقل. وإنما يتسنى للنفس النظر إلى العقل بعين البصيرة، إذا هي انفتحت؛ وإنما تنفتح لها عين البصيرة إذا هي انتبهت من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ونظرت بعين الرأس إلى هذه المحسوسات، وفكرت في معانيها، واعتبرت أحوالها حتى تعرفها حق معرفتها» (24: 2، 415-416). «[أما] وقد بينا لم صارت طرق العلوم ثلاثة ... فنريد أن نذكر الآن طرق الحواس الخمس، ونصف كيفية إدراك القوى الحساسة لمحسوساتها ... فنقول أولا: ما الحواس الخمس؟ وما القوى الحساسة؟ وما الحس؟ وما الإحساس؟ وما المحسوسات؟ جواب ذلك:
فاعلم أن الحواس هي آلات جسدانية، وهي خمس: العين، والأذن، واللسان، والأنف، واليد. وذلك أن كل واحد منها عضو من الجسد.
وأما القوى الحساسة فهي قوى روحانية نفسانية، يختص كل منها بعضو من أعضاء الجسد.
وأما المحسوسات، فالأشياء المدركة بالحواس. والمدركة بالحواس هي أعراض حالة في الأجسام الطبيعية، مؤثرة في الحواس، مغيرة لكيفية مزاجها.
والحس هو تغيير مزاج الحواس عن مباشرة المحسوس لها. والإحساس هو شعور القوى الحساسة لتغييرات كيفية أمزجة الحواس.
بيان ذلك أن القوة الباصرة مجراها في العينين، وهي مستبطنة الحدقتين في الرطوبة الجلدية. والقوة السامعة مجراها في الأذنين، وهي مستبطنة الصماخين مما يلي البطن المؤخر من الدماغ. والقوة الشامة مجراها في المنخرين، وهي مستبطنة الخياشيم مما يلي البطن المقدم من الدماغ. والقوة الذائقة مجراها الفم، وهي مستبطنة في رطوبة اللسان. والقوة اللامسة مجراها في عامة سطح بدن الحيوان الرقيق الجلد، ولكنها في الإنسان أظهر وخاصة في الأنملة، وهي مستبطنة في الجلدين اللذين أحدهما ظاهر البدن والآخر مما يلي.
واعلم أن المحسوسات كلها خمسة أجناس، منها المدركات بطريق اللمس ... والجنس الثاني المدركات بطريق الذوق التي هي الطعوم ... والجنس الثالث هي الروائح المدركة بطريق الشم ... والجنس الرابع هي الأصوات المدركة بطريق السمع ... والجنس الخامس هي المبصرات المدركات بطريق البصر» (24: 2، 397-402).
بعد ذلك ينتقل الإخوان إلى شرح كيفية إدراك القوى الحساسة لمحسوساتها واحدا واحدا. ولسوف نقتصر هنا على ذكر كيفية إدراك القوة السامعة والقوة الباصرة. والإخوان هنا يتفقون مع كل ما نعرفه حاليا عن هذا الموضوع، ويستخدمون مصطلحات ما زالت الفيزياء الحديثة تستخدمها: «أما إدراك القوة السامعة لمحسوساتها التي هي الأصوات ... [فإن] كل هذه الأصوات إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام. وذلك أن الهواء لشدة لطافته، وخفة جوهره، وسرعة حركة أجزائه، يتخلل الأجسام كلها؛ فإذا صادم جسم جسما انسل ذلك الهواء من بينهما بحمية وتدافع وتموج إلى جميع الجهات، فحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج [= صانع الزجاج] فيها، أو الماء الساكن إذا ألقي فيه حجر فيتزاحم الماء حتى يبلغ أطراف الغدير، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضمحل. فمن كان حاضرا من الناس وسائر الحيوانات التي لها أذن بالقرب من ذلك المكان، تموج ذلك الهواء الذي هناك، فأحست عند ذلك القوة السامعة بتلك الحركة والتغير.
واعلم أن كل صوت له نغمة وصيغة وهيئة روحانية خلاف الصوت الآخر، وأن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل الأصوات بهيئتها وصيغتها، ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض فتفسد هيئتها، إلى أن يبلغها أقصى مدى غاياتها عند القوة السامعة، لتؤديها إلى القوة المتخيلة ...
أما كيفية إدراك القوة الباصرة لمحسوساتها التي هي عشرة أنواع: أولها الأنوار والظلم، والألوان، والسطوح، والأجسام أنفسها، وأشكالها، وأبعادها، وحركاتها، وسكونها، وأوضاعها. فالمدرك من هذه الأنواع بالحقيقة والذات [هما] النور والظلمة حسب، إلا أن الظلمة شيء يرى ولا يرى بها شيء آخر، والنور هو الذي يرى ويرى به شيء آخر ...
ثم اعلم أن النور والظلمة لونان روحيان، وأن السواد والبياض لونان جسمانيان، وأن النور مشاكل للبياض، وأن الظلمة مشاكلة للسواد. وذلك أن البياض يلوح على سائر الألوان كما أن في النور ترى سائر المرئيات، وعلى السواد لا تتبين الألوان وفي الظلمة لا يرى شيء.
ثم اعلم أن النور والظلمة يسريان في الأجسام المشفة كسريان الروح في الجسد، وينسلان منها بلا زمان. ولكن الضوء إذا سرى في الأجسام المشفة حمل معه ألوان الأجسام وأوصافها حملا روحانيا، وحفظها بهيئتها، حتى لا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيئتها، كما حمل الهواء الأصوات بهيئتها، كما وصفنا قبل، حتى يبلغها أقصى مدى غايتها عند القوة الباصرة المستبطنة في الرطوبة الجلدية التي في الحدقتين.
ثم اعلم أن الحدقتين هما أحد الأجسام المشفة، وهما مرآتا الجسد. وذلك أنهما رطوبتان مغطاتان بغشاءين شفافين، وهما غشاءا القرنية. فإذا سرى الضوء في الأجسام المشفة، وحمل معه ألوان الأجسام الحاضرة، واتصل بحدقتي الحيوان الحاضرة هناك، وسرى فيهما كسريانه في سائر الأجسام المشفة، انطبعت الجليدية بتلك الألوان كما ينطبع الهواء بالضياء، فعند ذلك تحس القوة الباصرة بذلك التغيير، فتؤدي خبره إلى القوة المتخيلة، كما تؤدي سائر القوى الحساسة أخبار محسوساتها ...
وقد ظن كثير من أهل العلم أن إدراك البصر المبصرات إنما يكون بشعاعين يخرجان من العينين، وينفذان في الهواء وفي الأجسام المشفة، ويدركان هذه المبصرات؛ وهذا ظن من لا رياضة له بالأمور الروحانية، ولا بالأمور الطبيعية، ولو ارتاض فيها لبان صحة ما قلنا ووصفنا ... [أما] في كيفية وصول آثار المحسوسات إلى القوة المتخيلة، فنقول: إنه ينتشر من مقدم الدماغ عصبات لطيفة لينة تتصل بأصول الحواس، وتتفرق هناك، وتنسج في أجزاء جرم الدماغ كنسج العنكبوت. فإذا باشرت كيفية المحسوسات من أجزاء الحواس وتغير مزاج الحواس عندها، وغيرتها عن كيفياتها، وصل ذلك التغيير في تلك الأعصاب التي في مقدم الدماغ، والتي منشؤها من هناك كلها، فتجتمع آثار المحسوسات عند القوة المتخيلة، كما تجتمع رسائل أصحاب الأخبار عند صاحب الخريطة، فيوصل تلك الرسائل كلها إلى حضرة الملك. ثم إن الملك يقرؤها ويفهم معانيها، ثم يسلمها إلى خازنه ليحفظها، فيحفظها إلى وقت الحاجة إليها.
فهكذا حكم القوة المتخيلة إذا اجتمعت عندها آثار هذه المحسوسات التي أدتها إليها القوة الحساسة، دفعتها إلى القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ، لتنظر فيها وترى في معانيها، ثم يسلمها إلى خازنه ليحفظها، فيحفظها إلى وقت الحاجة إليها.
فهكذا حكم القوة المتخيلة إذا اجتمعت عندها آثار هذه المحسوسات التي أدتها إليها القوة الحساسة، دفعتها إلى القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ، لتنظر فيها وترى في معانيها، وتعرف حقائقها ومضارها ومنافعها، ثم تؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار ...» (24: 2، 407-411).
هذه القوى الثلاث يميزها إخوان الصفاء عن القوى الحساسة بكونها روحانية، ويضيفون إليها قوتين أخريين هما الناطقة والصانعة: «اعلم وفقك الله، أن للنفس الإنسانية خمس قوى أخر روحانية، سيرتها غير سيرة الخمس الحساسة الجسمانية، وهي القوة المتخيلة والمفكرة والحافظة والناطقة والصانعة وذلك بإدراكها رسوم المعلومات إدراكا روحانيا من غير هيولاها. فأما الحساسة فلا تدرك محسوساتها إلا في الهيولى. وأيضا فإن هذه القوى الروحانية تتناول رسوم المعلومات بعضها من بعض، على غير سيرة الحساسة. وذلك أن القوى الحساسة كل واحدة منها مختصة بإدراك جنس من المحسوسات؛ وذلك أن الباصرة لا تدرك الأصوات ولا الطعوم ولا الروائح ولا الملموسات إلا الألوان. وهكذا الشامة والذائقة واللامسة، كل واحدة لا تشارك غيرها في محسوساتها.
وأما القوى الخمس الروحانية، فإنها كالمتعاونات في إدراكها رسوم المعلومات. وذلك أن القوة المتخيلة إذا تناولت رسوم المحسوسات كلها، وقبلتها في ذاتها كما يقبل الشمع نقش الفص، فإن من شأنها أن تناولها كلها إلى القوة المفكرة من ساعتها، فإذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، بقيت تلك الرسوم مصورة صورة روحانية في ذاتها، كما يبقى نقش الفص في الشمع المختوم مصورا بصور روحانية مجردة عن هيولاها، فيكون عند ذلك لها كالهيولى، وهي فيها كالصورة.
ثم إن من شأن القوة المفكرة أن تنظر إلى ذاتها وتراها [أي رسوم المحسوسات] معاينة، وتتروى فيها وتميزها، وتبحث عن خواصها ومنافعها ومضارها. ثم تؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار. ثم إن من شأن القوة الناطقة التي مجراها على اللسان، إذا أرادت الإخبار عنها والإنباء عن معانيها والجواب للسائلين عن معلوماتها، ألقت لها ألفاظا من حروف المعجم، وجعلتها كالسمات لتلك المعاني التي في ذاتها، وعبرت عنها للقوة السامعة من الحاضرين.
ولما كانت الأصوات لا تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظها [منها]، ثم تضمحل، احتالت الحكمة الإلهية بأن قيدت معاني تلك الألفاظ بصناعة الكتابة. ثم إن من شأن القوة الصانعة أن تصوغ لها من الخطوط الأشكال بالأقلام، وتودعها وجوه الألواح وبطون المطامير، ليبقى العلم مفيدا فائدة من الماضين للغابرين، وأثرا من الأولين للآخرين» (24: 2، 414-415).
والآن، إذا كانت هذه هي القوى التي يحصل بواسطتها الإنسان على معلوماته، وأنواعها خمس حسية وخمس روحانية، فإلى أي حد تبلغ طاقته في المعارف؟ وإلى أي حد مبلغه من العلوم؟ «اعلم أن الله تعالى لما خلق جسد آدم، عليه السلام، أبي البشر، من التراب وصوره في أحسن تقويم ... ثم نفخ فيه من روحه، صار ذلك الجسد الترابي بتلك الروح الشريفة حيا عالما قادرا. ثم فضله بما علمه من الأسماء على بعض الملائكة لا عليهم كلهم، وأمرهم بالسجود له من أجل تلك الروح الشريفة التي نفخ فيه، لا من أجل الجسد الترابي. وإبليس اللعين لما نظر إلى الجسد الترابي، وعرف ورأى تلك الروح الشريفة الفاضلة العالمة، قال: ... أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .
32
إذ النار خير من التراب؛ لأن النار جسم مضيء متحرك يطلب العلو، والتراب جسم مظلم ساكن يطلب السفل. وكان هذا منه قياسا خطأ؛ لأن السجود لم يكن للجسد الترابي، بل لتلك الروح الشريفة؛ لأن الإنسان إنما يأكل ويشرب وينام من أجل الجسد، ويتحرك ويحس ويتكلم ويعلم بالنفس الشريفة التي من أمر الله.
ثم اعلم أن العلم غذاء للنفس وحياة لها، كما أن الطعام وجميع المتناولات غذاء وشراب للجسد وحياة له.
ثم اعلم أن العلم بالأشياء، بعضه طبيعي غريزي مثل ما يدرك بالحواس ومثل ما في أوائل العقول [= البديهات]، وبعضها تعليمي مكتسب مثل الرياضيات والآداب، وما يأتي به الناموس. فمن الناس من لا يرغب في التعلم والتأدب، بل يتكل على ما تدركه الحواس أو ما في قرائح العقول، ومنهم من يرغب في التعلم والتأدب، لكن من الناس من لا يقبل من العلم إلا ما يتصور في نفسه أو يقوم عليه برهان هندسي أو منطقي، ومنهم طائفة لا تقبل إلا ما يدل عليه قول الشاعر، وطائفة لا تقبل إلا برواية وخبر، ومنهم طائفة لا تقبل إلا بالاحتجاج والجدل، ومنهم من يرضى بالتقليد ويقنع بذلك.
وينبغي لنا أن نبين مبلغ قوة الإنسان في إدراك المعلومات والمحسوسات إلى أي نهاية، وهي جهده وطاقته في معرفة حقائق الأشياء، وإلى أي حد ينتهي؛ لأن في الناس طائفة من العقلاء لما تفكروا في حدوث العالم، وبحثوا عن العلة الموجبة لكونه، بعد أن لم يكن، لم يعرفوها ولم يتصوروا في عقولهم بدء كون العالم، فدعاهم جهلهم عند ذلك إلى القول بقدم العالم. ومنهم من لاح له شيء غير ما لاح للآخر، فاختلفت أقاويلهم في حدوث العالم والعلة الموجبة لكونه ...
ثم اعلم أن من تفكر في كيفية حدوث العالم وعلة حدوثه بعد أن لم يكن، ويريد أن يعرفها أو يتصور كيف كان ذلك، وهو جاهل لا يعرف كيفية تركيب جسده، ولا يتفكر في بنية هيكله، ولا يدري كيف كان بدء كون ذاتها، ولا يعلم ماهية جوهر نفسه ولا كيفية ارتباطها بجسده، ولا لأي علة ربطت به بعد أن لم تكن مربوطة، ولا لأي علة تفارق الجسد في آخر العمر ... هو يريد أن يعرف بدء كون العالم وكيفية حدوثه، وما تلك العلة الموجبة لكونه، مع جهله بما ذكرنا من هذه الأشياء التي هي أقرب إلى فهمه وأسهل لتعليمه، وأمكن لتصوره، فمثله كمثل رجل لا يطيق حمل مائة رطل، فهو يتكلف حمل ألف رطل، أو كمثل من لا يقدر على المشي، وهو يريد أن يعدو ...
ثم اعلم أنه إذا اعتبر أحوال الإنسان ومجاري أموره من ذلك، وحال جثته، فإنه متوسط بين الصغر والكبر، فلا صغير جدا ولا كبير مفرطا؛ فهكذا حال بقائه، فلا هو طويل العمر في الدنيا، ولا قصير المدة فيها؛ وهكذا حال وجوده، فلا هو متقدم الوجود على الأشياء، ولا متأخر عنها ... وهكذا حال رتبته في الشرف والدماثة متوسط؛ لأن من الموجودات ما هو أشرف منه كالملائكة المقربين، ومنها ما هو أدون منه كالبهائم؛ وهكذا حاله في القوة والضعف متوسط، فلا هو قوي متين ولا ضعيف مهين ... وهكذا حال قوة حواسه على إدراك المحسوسات، فلا يحس منها إلا المتوسطات بين الطرفين. وذلك أن القوة الباصرة لا تقوى على إدراك الألوان في الظلمة الظلماء، ولا على إدراكها في النور الباهر ... وهكذا قوة السمع لا تطيق استماع الصاعقة لشدتها وجلالتها، ولا تقوى أيضا على إدراك دبيب النملة ...
وهكذا قوة عقل الإنسان متوسطة، [فهو] لا يقوى على تصور الأشياء المعقولة إلا ما كان متوسطا بين الطرفين من الجلالة والخفاء. وذلك أن من الأشياء المعقولة ما لا يمكن عقل الإنسان إدراكه وإحاطة العلم به لجلالته وشدة ظهوره وبيانه ووضوحه مثل جلالة الباري عز وجل، فإنه لا يقوى عقل الإنسان على إدراكه وإحاطة العلم بماهية ذات جلالته، وذلك لشدة ظهوره ووضوح بيانه، لا لخفاء ذاته وشدة كتمانه؛ و[أيضا] مثل عجز الإنسان عن تصور صورة العالم بكليته، لشدة كبره وظهوره لا لصغره وخفائه؛ ومثل عجزه أيضا عن إدراك الصور المجردة عن الهيولى لشدة صفائها ولطافتها ونفوذها في الأشياء ...
ثم اعلم أنه ليس إلى معرفة علل هذه الأشياء وصول إلا أن تؤخذ من الأنبياء، عليهم السلام، تقليدا كما أخذوها عن الملائكة تسليما.
ثم اعلم أن نسبة علم البشر إلى علم الملائكة ومعرفتهم، كنسبة علم حيوان البحر إلى حيوان البر ومعرفتها بأمورها، وكعلم حيوان البر إلى علم البشر ومعرفته بأمورها. وذلك أن حيوان الماء لها حس وحركة وتمييز تتصرف بها من طلب غذائها ومصالحها ومنافعها والهرب من عدوها وعرفانها ذكرانها وإناثها وأبناء جنسها؛ فأما إحساسها بأحوال حيوان البر ومعرفتها بأمورها، فليس لها إلى معرفة ذلك إلا شيء يسير. وهكذا علم حيوان البر بأحوال البشر ومعرفتها بأمور الناس، فليس لها إلا شيء يسير. وهكذا علم البشر بأحوال الملائكة، ومعرفتهم بأمور الذين في فضاء الأفلاك وطبقات السماوات، فليس لهم بها علم إلا شيء يسير. وهكذا أحوال الملائكة في مراتبها ومقاماتها، متفاوتة متباينة، الأول فالأول والأشرف فالأشرف. وفوق كل ذي علم عليم وإلى ربك المنتهى ...
ثم اعلم أن علم جميع الخلائق بالنسبة إلى علم الله تعالى، ليس إلا كالجزء اليسير، كما قال تعالى:
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ...
33
يعني علم الله. وقال: ... ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ... .
34
ونحن قد جعلنا هذه الرسالة تنبيها لإخواننا على نهاية مبلغ طاقة الإنسان في العلوم والمعارف، وتوبيخا لأقوام جهال يعارضون العلماء بالكلام والجدال، ويسألونهم عن علل أشياء ليس في طاقة الإنسان معرفتها، وهم قد تركوا البحث عن أشياء واجب عليهم تعلمها والبحث عنها، ثم لا يسألون عنها ولا يتفكرون فيها بجهلهم» (28: 3، 18-24).
أخيرا نعيد القول بأن معرفة النفس ليست غاية مقصودة لذاتها، بل لغاية أكثر سموا ورفعة، وهي الارتقاء بهذه النفس من عالم المادة إلى ملكوت الروح. وذلك بأن: «النفوس الجزئية إنما ربطت بأجسادها التي هي أجسام جزئية، كيما تكمل فضائلها وتخرج كل ما في القوة والإمكان إلى الفعل والظهور من الفضائل والخيرات، ولم يمكن ذلك إلا بارتباطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها، كما أن الباري، جل ثناؤه، لم يكن إظهار جوده وفيض إحسانه وأفضاله وإنعامه إلا بإيجاده هذا الهيكل العظيم المبني بالحكمة، المصنوع بالقدرة، أعني الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات الكائنات، وتدبيره لها وسياسته إياها» (9: 1، 318).
فالغاية القصوى لحياة النفس في الجسد وفي هذا العالم هو الارتقاء بها من الحالة الدنيا إلى حالة الكمال التي تؤهلها للانعتاق والنجاة من أسر الطبيعة. والإخوان في سياق تعليمهم الخاص بارتقاء النفس قد وضعوا الأسس الأولى لنظرية ارتقاء الأنواع مما قالت به الداروينية بعدهم بنحو ألف عام. وهذا ما يقودنا إلى الفصل التالي.
الفصل الرابع
ارتقاء النفس والنجاة من أسر الطبيعة
في الارتقاء الطبيعي
عندما أهبطت الروح من مكانتها العليا إلى عالم المادة تقطعت ثلاث فرق: «فرقة اتحدت بجوهرية المعادن، وفرقة اتحدت بجوهرية النبات، وفرقة اتحدت بجوهرية الحيوان الذي أفضله عالم الإنسان ... ولا تزال الأشياء موجودة على ما هي به من اجتماع الكثيف باللطيف، ما دامت النفوس الجزئية متحركة بالنشوء والبلى، والكون والفساد والترقي من الحال الأدنى إلى الحال الأعلى، حتى تترقى كلها، وتصعد بأجمعها كما تتصاعد المياه من البخارات وتصير في الغمام ولا تبقى في الأواني إلا تفالاتها، فيرمى بها؛ إذ لا حاجة إليها. واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنه سترجع النفوس الجزئية إلى النفس الكلية بأجمعها، وتصير في عالمها الروحاني ومحلها النوراني وحالها الأزلي ووقتها الدهري الأبدي السرمدي الذي لا نهاية لطوله، الذي كانت فيه قبل تعلقها بالجسم» (جا: 272).
إن العالم الطبيعي مليء بالأرواح، والنفوس التي أهبطت من عليائها لم تسجن فقط في الهيئة الحيوانية التي أشرفها الهيئة الإنسانية، وإنما في الهيئة النباتية، وحتى في العناصر التي تتكون منها الأرض، والتي نظنها مواتا لا حياة فيها: «واعلم يا أخي أن لهذه الجواهر [المعدنية] خواص كثيرة، وطباعها مختلفة، فمنها متضادة متنافرة، ومنها متشاكلة متآلفة، ولها تأثيرات بعضها في بعض، إما جذبا أو إمساكا أو دفعا أو نفورا. ولها أيضا شعور خفي وحس لطيف كما للنبات والحيوان، إما شوقا ومحبة، وإما بغضا وعداوة. والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، قول الحكماء في كتاب الأحجار ونعتهم لها أن طبيعة تألف طبيعة، وطبيعة تناسب طبيعة أخرى، وطبيعة تلتصق بطبيعة، وطبيعة تأنس بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة» (19: 2، 110).
وهنالك عملية ارتقاء دائبة تحصل في هذه المستويات الثلاثة التي حبست فيها النفوس الجزئية في العالم الطبيعي الذي هو بمثابة جهنم لهذه النفوس. فالنفوس المعدنية ترتقي وتتحول إلى نفوس نباتية، وهذه بدورها ترتقي وتتحول إلى نفوس حيوانية، وهذه أيضا تصعد نحو المرتبة الإنسانية التي يحصل عندها وحدها التحرر والخلاص من سجن المادة. وهيئة الإنسان المنتصبة هي الصراط المستقيم الذي يصعد بالروح إلى الملأ الأعلى: «ولما أهبطت النفس الجزئية وقرنت بالهياكل الجسمانية، افترقت من حال إلى حال حتى بلغت إلى آخر باب في جهنم عالم الكون والفساد، وهي الصورة الإنسانية ... فإن صورة الإنسان أجل الأشكال وأتم الصور، وذلك أنه منتصب، وهو الصراط الممدود بين الجنة والنار، وهو سيد الصور، وذلك أنه منتصب وجميع الصور التي دونه ساجدة له وراكعة وهو ربها وسيدها ... وهي مكلفة بطاعته والسجود له، كما هو مكلف بطاعة ربه والخضوع إليه ... وعبادته سبحانه وتعالى حق عبادته. ولذلك وجب عليه الطاعة والانقياد لباريه، وسقط ذلك عن غيره من الحيوانات» (جا: 63-64). «إن الأرض بما عليها من المدن والقرى والجزائر التي في البحار، وما فيها من المساكن، كلها حبوس ومطامير وسجون ومضائق للنفوس الجزئية، وكذلك جميع أشخاصها من النبات والحيوان ذوات النفوس كلها قيود وأغلال وكبول للنفوس المتعلقة بما يجذبها إلى أسر الطبيعة؛ وأنها كلها برازخ، ولكنها متفاوتة الصفات ومتغايرة الدرجات، ومتباينة الصور من الضيق والاتساع والاتضاع والارتفاع والآلام واللذات؛ وأن منها ما هو في العذاب المهين والذل المقيم مثل البهائم المستعملة والحيوانات المذبوحة في الهياكل والبيع، والنبات الذي هو في غاية الذل والهوان؛ وأن من أكملها صورة وأتمها بنية وأعلاها منزلة الصورة الإنسانية، وأنها صراط مستقيم وكتاب مبين وطريق قويم، وهي المطية التي من سار عليها قاصدا، وكان في سيره على الحق معتمدا، فلا شك أنه يصل بها إلى دار السعادة، ويفارق دار الهوان» (جا: 53-54). «واعلم يا أخي أن المعادن تستحيل إلى أجسام النبات، وأجسام النبات تستحيل إلى أجسام الحيوان، وأشرف الحيوان الإنسان. فصورة النبات صراط منكوس إلى العمق
1
وقد جازتها النفس الحيوانية ونجت منها؛ وصورة الحيوان صراط ممدود على السطح، وقد جازتها النفس الإنسانية ونجت منها؛ وصورة الإنسان صراط مستقيم كالخط قائما منتصبا بين الجنة والنار وهي أخريات جهنم، فأي نفس جازها نجت من جهنم ودخلت الجنة التي هي صورة الملائكة، وإلا ردت إلى أسفل السافلين، كما ذكر الله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون
2 (29: 3، 47).
ونحن هنا أمام البوادر الأولى للنظرية الحديثة في التطور الطبيعي وارتقاء الأنواع، فالنبات قد نشأ عن عناصر الأرض الطبيعية، والحيوان قد نشأ عن النبات، والإنسان قد نشأ عن الحيوان. وهذا الارتقاء في الشكل المادي يرافقه ارتقاء روحي من الصراط المنكوس إلى الصراط المستقيم الذي يوصل إلى الصورة الملائكية التي تحررت من الشكل المادي، والتي هي الغاية القصوى: «واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الجواهر المعدنية هي في أدون مراتب المولدات من الكائنات، وهي كل جسم متكون منعقد من أجزاء الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ وأن النبات يشارك الجواهر في كونها من الأركان، ويزيد عليها وينفصل منها بأنه كل جسم يتغذى من الأركان وينمو ويزيد في أقطاره الثلاثة طولا وعرضا وعمقا؛ وأن الحيوان أيضا يشارك النبات في الغذاء والنمو، ويزيد عليه وينفصل عنه بأنه جسم متحرك حساس؛ والإنسان يشارك النبات والحيوان في أوصافها ويزيد عليها وينفصل عنها بأنه ناطق مميز جامع لهذه الأوصاف كلها.
ثم اعلم يا أخي بأن النبات متقدم الكون والوجود على الحيوان بالزمان؛ لأنه مادة لها كلها، وهيولى لصورها، وغذاء لأجسادها، وهو كالوالدة للحيوان، أعني النبات. وذلك أنه يمتص رطوبات الماء ولطائف أجزاء الأرض بعروقه إلى أصوله، ثم يحيلها إلى ذاته، ويجعل من فضائل تلك المواد ورقا وثمارا وحبوبا نضيجا ويتناوله الحيوان غذاء صافيا هنيئا مريئا، كما تفعل الوالدة بالولد إنها تأكل الطعام نضيجا ونيئا، وتناول ولدها لبنا خالصا سائغا للشاربين. فلو لم يكن النبات يفعل ذلك من الأركان لكان يحتاج الحيوان إلى أن يتغذى من الطين صرفا، ومن التراب سفا، ويكون منغصا في غذائه وملاذه. فانظر يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، إلى معرفة حكمة الباري، جل ثناؤه، كيف جعل النبات واسطة بين الحيوان وبين الأركان ...
ثم اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن من الحيوانات ما هو تام الخلقة كامل الصورة كالتي تنزو وتحبل وتلد وترضع، ومنها ما هو ناقص الخلقة كالتي تتكون من العفونات، ومنها ما هو كالحشرات والهوام بين ذلك، التي تبيض وتحضن وتربي. ثم اعلم بأن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق ... وإن حيوان الماء وجوده قبل وجود حيوان البر بزمان
3 ...
واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء كونها من الطين أولا، من ذكر وأنثى توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلا وجبلا وبرا وبحرا، من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار متساويين، والزمان أبدا معتدلا هناك بين الحر والبرد، والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائما. وهناك أيضا تكون أبونا آدم أبو البشر وزوجته، ثم توالدا وتناسلت أولادهما وامتلأت الأرض منهم ...
ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات كلها متقدمة الوجود على الإنسان بالزمان؛ لأنها له ولأجله [وجدت]، وكل شيء هو من أجل شيء آخر فهو متقدم الوجود عليه. هذه الحكمة في أولية العقل لا تحتاج إلى دليل من المقدمات ونتائجها؛ لأنه لو لم يتقدم وجود هذه الحيوانات على وجود الإنسان لما كان للإنسان عيش هنيء، ولا مروءة كاملة، ولا نعمة سائغة، بل كان يعيش عيشا نكدا ...
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن صور النبات منكوسة الانتصاب إلى أسفل لأن رءوسها نحو مركز الأرض ومؤخرها نحو محيط الأفلاك، والإنسان بالعكس من ذلك؛ لأن رأسه مما يلي الفلك، ورجليه مما يلي مركز الأرض في أي موضع وقف على بسيطها شرقا وغربا وجنوبا وشمالا ... والحيوانات متوسطة بين ذلك لا منكوسة كالنبات، ولا منتصبة كالإنسان، بل رءوسها إلى الآفاق، ومؤخرها إلى ما يقابله من الأفق الآخر ...
وقد بينا في رسالة لنا أن قوى النفس الكلية أول ما تبتدئ تسري في قعر الأجسام من أعلى سطح الفلك المحيط نحو مركز الأرض. فإذا سرت في الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات وبلغت إلى مركز الأرض من أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها، عطفت عند ذلك راجعة نحو المحيط، وهو المعراج والبعث والقيامة الكبرى.
فانظر الآن يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، كيف يكون انصراف نفسك من هذا العالم إلى هناك، فإنها هي إحدى القوى المنبثة من النفس الكلية السارية في العالم، وقد بلغت إلى المركز، وانصرفت ونجت من الكون في المعادن، أو في النبات، أو في الحيوان، وقد جاوزت الصراط المنكوس [صورة النبات] والصراط المقوس [صورة الحيوان]، وهي الآن على صراط مستقيم آخر درجات جهنم، وهي الصورة الإنسانية. فإن جاوزت وسلمت من هذه دخلت الجنة» (22: 2، 180-183).
حلقات التطور هذه مرتبطة بعضها ببعض عبر مراحل وسيطة تتحول عندها إحدى الحلقات إلى التي تليها: «آخر مرتبة الجواهر المعدنية متصلة بأول مرتبة الجواهر النباتية ... وآخر مرتبة النبات متصلة بأول مرتبة الحيوانية، وآخر مرتبة الحيوانية متصلة بأول مرتبة الإنسانية، وآخر مرتبة الإنسانية متصلة بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان السماوات وقاطنو الأفلاك ...
اعلم يا أخي بأنك مندوب للقاء ربك، ومبعوث من هذه الدنيا إلى هذه المرتبة [الملائكية]، ومقصود بك إليها منذ يوم خلقت، تنتقل من حال أدون إلى حال هي أتم وأكمل وأشرف إلى أن تلقى ربك ... فمن تلك الحالات ما قد جاوزت وشاهدت، ومنها ما لم تبلغها بعد» (21: 2، 150-151). «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري، جل ثناؤه، لما أبدع الموجودات واخترع الكائنات، جعل أصلها كلها من هيولى واحدة، وخالف بينها بالصور المختلفة، وجعلها أجناسا وأنواعا مختلفة متفننة متباينة، وقوى ما بين أطرافها، وربط أوائلها وأواخرها بما قبلها رباطا واحدا على ترتيب ونظام لما فيه من إتقان الحكمة وإحكام الصنعة ، لتكون الموجودات كلها عالما واحدا منتظما نظاما واحدا وترتيبا واحدا، لتدل على صانع أحد.
فمن تلك الموجودات المختلفة الأجناس المتباينة الأنواع، المربوطة أوائلها بأواخرها وأواخرها بما قبلها في الترتيب والنظام، المولدات الكائنات التي دون فلك القمر، وهي أربعة أجناس، المعادن والنبات والحيوان والإنسان. وذلك أن كل جنس منها تحته أنواع كثيرة، فمنها ما هو في أدون المراتب، ومنها ما هو في أشرفها وأعلاها، ومنها ما هو بين الطرفين. أدون أطراف المعادن مما يلي التراب: الجص والزاج وأنواع الشبوب؛ والطرف الأشرف: الياقوت والذهب الأحمر، والباقي بين هذين الطرفين [على درجات متفاوتة] من الشرف والدناءة، كما بينا في رسالة المعادن.
وهكذا أيضا حكم النبات فإنه أنواع كثيرة متباينة متفاوتة، ولكن منها ما هو في أدون الرتبة مما يلي رتبة المعادن، وهي خضراء الدمن، ومنها ما هو في أشرف الرتبة مما يلي رتبة الحيوان، وهي شجرة النخل. وبيان ذلك أن أول المرتبة النباتية وأدونها مما يلي التراب هي خضراء الدمن، [وهذه] ليست بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم تصيبه الأمطار وأنداء الليل، فيصبح بالغد كأنه نبت زرع وحشائش. فإذا أصابه حر شمس نصف النهار جف، ثم يصبح من غد مثل ذلك من أول الليل وطيب النسيم، (ومثلها الكمأة والفطر وما شاكل ذلك. وذلك أن هذا الجنس من الكائنات يتكون في التراب كالمعدن، ثم ينبت في المواضع الندية في أيام الربيع من الأمطار، كما ينبت النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة ... صار يشبه المعادن، ومن جهة أخرى يشبه النبات).
4
ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة، لتقارب ما بينهما؛ لأن هذا [أي خضراء الدمن] معدن نباتي، وذاك [أي الكمأة] نبات معدني.
وأما النخل فهو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أحواله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتا. بيان ذلك أن القوة الفاعلة [فيه] منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، ولأشخاص فحولته لقاح في إناثها كما يكون ذلك للحيوان ... وأيضا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها ونشوءها وماتت. كل ذلك موجود في الحيوان. فبهذا الاعتبار تبين أن النخل نباتي بالجسم، حيواني بالنفس؛ إذ كانت أفعاله أفعال النفس الحيوانية، وشكل جسمه شكل النبات.
وفي النبات نوع آخر فعله أيضا فعل النفس الحيوانية، لكن جسمه جسم النبات، وهو الكشوث. وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النباتات، ولا له أوراق كأوراقها، بل إنها تلتف على الأشجار والزروع والشوك، فتمتص من رطوبتها وتتغذى بها كما يتغذى الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات ويقرضها، فيأكلها ويتغذى بها ... قد بان بما وصفنا أن آخر الرتبة النباتية متصل بأول المرتبة الحيوانية، وأما سائر المراتب النباتية فهي بين هذين.
واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصل بآخر مرتبة النبات ... فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط، وهو الحلزون، وهو دودة في جوف أنبوبة، تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار. وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة، وتبسط يمنة ويسرة تطلب مادة يتغذى بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرا من مؤذ لجسمها ومفسد لهيكلها. وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلا الحس واللمس قط. وهكذا أكثر الديدان التي تتكون في الطين وفي قعر البحار وأعماق الأنهار ... فهذا النوع حيوان نباتي؛ لأن جسمه ينبت كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما. وهو من أجل أن يتحرك جسمه حركة اختيارية حيوان، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية. وتلك الحاسة أيضا قد يشارك بها النبات، وذلك أن النبات له حس اللمس فقط. والدليل على ذلك إرساله بعروقه نحو المواضع الندية، وامتناعه من إرسالها نحو الصخور واليبس. وأيضا فإنه متى اتفق منبته في مضيق مال وعدل عنه طالبا للفسحة والسعة ... فهذه الأفعال تدل على أن له حسا وتمييزا بمقدار الحاجة ...
فقد بان بما وصفنا كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي النبات، فنريد أن نبين كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان فنقول: إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية ليست من وجه واحد ولكن من عدة وجوه. وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدنا للفضل وينبوعا للمناقب، لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان ولكن عدة أنواع؛ فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه ... ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزاز ونحوهما من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومنها النحل اللطيف الصنائع، إلى ما شاكل هذه الأجناس، وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الناس ويأنس بهم إلا ولنفسه قرب من نفس الإنسانية.
أما القرد، فلقرب شكل جسمه من شكل جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك مشاهد منه متعارف بين الناس. وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أنه صار مركبا للملوك، وذلك أنه ربما بلغ من أدبه أنه لا يبول ولا يروث ما دام بحضرة الملك أو حاملا له. وله أيضا ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح، كما يكون الرجال الشجعان ... وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكائه، ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل الرجل العاقل المأمور المنهي. فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان، لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية. وأما باقي أنواع الحيوانات فهي فيما بين هاتين المرتبتين» (21: 2، 166-170). «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أحق النفوس الحيوانية أن تنتقل أن رتبة الإنسانية التي هي الخادمة للإنسان، المستأنسة به، المنقادة لأمره، المتعوبة في طاعته، الشقية في خدمته، وخاصة المذبوحة منها في القرابين. وعلى هذا المثال والقياس حكم النفوس الإنسانية ، فإن أحقها أن تنتقل إلى رتبة الملائكة التي هي الخادمة في أوامر الناموس ونواهيه، المنقادة لأحكامه، المتعوبة في حفظ أركانه» (9: 1، 320).
ونحن هنا أمام نظرية شمولية في مبدأ التناسخ التصاعدي المرافق لعملية الارتقاء الطبيعي والنفسي: «النفوس الجزئية إنما ربطت بأجسادها التي هي أجسام جزئية كيما تكمل فضائلها وتخرج كل ما في القوة والإمكان إلى الفعل والظهور من الفضائل والخيرات. ولم يمكن ذلك إلا بارتباطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها ... واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري جل ثناؤه لما رتب النفوس مراتبها كمراتب الأعداد المفردات كما اقتضت حكمته، جعل أولها متصلا بآخرها، وآخرها متصلا بأولها بوسائطها المرتبة بينهما. وذلك أنه رتب النفوس النباتية تحت الحيوانية وجعلها خادمة لها ورتب الحيوانية تحت الناطقة الإنسانية وجعلها خادمة لها، ورتب الناطقة الإنسانية تحت الحكمية وجعلها خادمة لها، ورتب العاقلة تحت الناموسية وجعلها خادمة لها، ورتب الناموسية تحت الملكية وجعلها خادمة لها. فأية نفس منها انقادت لرئيسها وامتثلت أمره في سياساتها نقلت إلى مرتبة رئيسها وصارت مثلها في الفعل» (9: 1، 318-320).
وأيضا: «واعلم يا أخي بأن مراتب النفوس ثلاثة أنواع، فمنها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما فوقها، ومنها ما هي دونها؛ فالتي هي دونها سبع؛ والتي فوقها سبع أيضا، وجملتها خمس عشرة مرتبة. والمعلوم من هذه المراتب التي ذكرناها عند العلماء، ويمكن لكل عاقل أن يعرفها ويحس بها، خمس، منها اثنتان فوق رتبة الإنسانية وهي رتبة الملكية القدسية، ورتبة الملكية هي رتبة الحكمية، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة والناموسية، واثنتان دونها وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية ... فأما المراتب التي دون النباتية وفوق القدسية فبعيدة معرفتها على المرتاضين بالعلوم الإلهية، فكيف على غيرهم.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله، جل ثناؤه، لما ربط الأنفس الجزئية بالأجسام الجزئية للعلة التي ذكرناها، أيدها وأعانها بضروب من المعاونة وفنون من التأييدات، كل ذلك جود منه ولطف بها وإنعام منه عليها ... وذلك أنه كلما بلغت نفس منها رتبة ما، أمدها بزيادة فضلا منه وجودا، أو نقلها إلى ما فوقها وأرفع منها وأعز وأشرف وأجل وأكرم، كل ذلك ليبلغها إلى أقصى مدة غاياتها وتمام نهاياتها » (9: 1، 311-312).
وأيضا: «وكما قلنا في نفوس الإنسانية إنها تنتقل إلى رتبة الملائكة، فهكذا نقول أيضا في نفوس الملائكة إنها تترقى في درجات الجنان ومقاماتها في المعارف، كما ذكر الله تعالى: ... يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ...
5
وكما قلنا في تنقل نفوس الإنسانية إلى الملائكة، كذلك نقول في النفوس الحيوانية إنها ستنتقل إلى الرتبة الإنسانية على ممر الدهور والأزمان ...
ثم اعلم أن أحق النفوس الحيوانية أن تنتقل إلى رتبة الإنسانية هي الشقية في أيدي البشر، المسخرة للإنسان، المتعبة في خدمته، المنقادة لطاعته. كما أن أحق النفوس الإنسانية أن تنتقل إلى رتبة الملائكة هي النفوس المتعوبة في التعبد، المنقادة لأحكام الشريعة، الخادمة في الهياكل والمساجد والبيع، والصلوات والصوم والقرابين والدعاء والتأله، كما ذكر الله تعالى بقوله:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ... »
6 (46: 4، 120-121).
يتضح مما أوردناه آنفا أن عقيدة التناسخ عند إخوان الصفاء تختلف عن عقيدة التناسخ في أديان الهند والشرق الأقصى وفي الغنوصية، في أمر جوهري يجعلها نسيجا متفردا. ففي معتقدات التناسخ الأخرى يجري انتقال الأرواح على مستوى أفقي من جسد إنساني إلى جسد إنساني آخر، وعلى مستوى هابط من جسد إنساني إلى جسد حيواني، وعلى مستوى صاعد من جسد إنساني إلى كينونة قدسية؛ أما في معتقد إخوان الصفاء فإن انتقال النفس لا يتم إلا صعودا نحو الأعلى، عندما تصير النفس الجزئية في المرتبة الإنسانية لا يوجد أمامها إلا فرصة واحدة في حياة واحدة تتطور أثناءها داخل المرتبة الإنسانية قبل الانتقال إلى المرتبة الملائكية، وإلا ردت إلى أسفل سافلين وبقيت في البرزخ إلى يوم يبعثون. وهذه نقطة سوف نبحثها بتفصيل أكثر في فصل الآخرة والنشأة الثانية.
في الارتقاء النفسي «اعلم يا أخي بأن أول مرتبة الإنسانية التي تلي مرتبة الحيوانية هي مرتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يعرفون من العلوم إلا الجسمانيات، ولا يطلبون إلا إصلاح الأجساد، ولا يرغبون إلا في رتب الدنيا، ولا يتمنون إلا الخلود فيها، مع علمهم بأنه لا سبيل لهم إلى ذلك، ولا يشتهون من اللذات إلا الأكل والشرب مثل البهائم، ولا يتنافسون إلا في الجماع والنكاح كالخنازير والحمير، ولا يحرصون إلا على جمع الذخائر من متاع الحياة الدنيا، ويجمعون ما لا يحتاجون إليه كالنمل، ويحبون ما لا ينتفعون به كالعقعق،
7
ولا يعرفون من الزينة إلا أصباغ اللباس كالطواويس، ويتهارشون على حطام الدنيا كالكلاب على الجيف. فهؤلاء، وإن كانت صورهم الجسدانية صورة الإنسان، فإن أفعال نفوسهم أفعال النفوس الحيوانية والنباتية. فأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون منهم أو مثلهم ...
وأما رتبة الإنسانية التي تلي رتبة الملائكة، فهو أن يجتهد الإنسان ويترك كل عمل وخلق مذموم قد اعتاده منذ الصبا، ويكتسب أضداده من الأخلاق الجميلة الحميدة، ويعمل عملا صالحا، ويتعلم علوما حقيقية، ويعتقد آراء صحيحة، حتى يكون إنسان خير فاضلا وتصير نفسه ملكا بالقوة فإذا فارقت جسدها عند الموت صارت ملكا بالفعل، وعرج بها إلى ملكوت السماء ودخلت في زمرة الملائكة، ولقيت ربها بالتحية والسلام، كما ذكر الله جل ثناؤه: ... تحيتهم يوم يلقونه سلام ... »
8 (21: 2، 171-172). «الإنسان إنما هو جملة مجموعة من جسد جسماني في أحسن الصور، ومن نفس روحانية من أفضل النفوس. واعلم يا أخي أن لكل واحد من جزأيه غاية إليها ينتهي، ونهاية إليها يرتقي. فأعلى رتبة ينالها الإنسان بجسده، وأشرف رتبة يبلغها ببدنه هي سرير الملك والعز والسلطان على أجساد أبناء جنسه، والقهر والغلبة بالقوة الغضبية. وأما أعلى رتبة ينالها الإنسان من جهة نفسه، وأشرف درجة يبلغها بصفاء جوهرها، فهي قبول الوحي الذي به يعلو الإنسان على سائر أبناء جنسه، وبه يغلبهم بما يدرك من المعارف الحقيقية بالقوة الناطقة. ولما تبين أن النفس أشرف جوهرا من الجسد، صارت الرتبة التي ينالها الإنسان بنفسه أشرف وأعلى من التي ينالها بجسده؛ لأن هذه جسمانية دنيوية، وتلك روحانية أخروية» (46: 4، 83-84). «إن كل إنسان تكون نفسه أصفى جوهرا وأذكى فهما، كما بينا في رسالة كيفية الطريق إلى الله تعالى، فكانت أخلاقه وسجاياه لأخلاق الكرام أقرب وأشبه، كما بينا في رسالة الأخلاق، وكان مذهبه واعتقاده باعتقاد الأنبياء ومذهب الحكماء أشد تحقيقا، كما بينا في رسالة الناموس، وكانت أعماله وسيرته بأفعال الملائكة وسيرتها أشد تشبها، كما بينا في رسائل إخوان الصفاء. فأقول: إن قبول نفسه لإلهام الملائكة والوحي والأنباء أمكن، وفهمه لمعانيها أسهل، مثل نفوس الأنبياء، ثم بعدهم نفوس الصديقين، ثم بعدهم نفوس المؤمنين المصدقين الأخيار الفضلاء الأبرار، ثم الأمثل فالأمثل والأقرب فالأقرب» (46: 4، 116-117). «ومثل آخر في كيفية قبول الإنسان إلهام الملائكة، فنقول: إن العلماء ذكروا أن العلوم ثلاث مراتب: أولها الرياضيات وبعدها الطبيعيات وبعدها الإلهيات. فمن ابتدأ أولا بتعلم الرياضيات وأحكمها كما ينبغي، سهل عليه تعلم الطبيعيات، ومن أحكم الطبيعيات كما ينبغي، سهل عليه تعلم الإلهيات. فهكذا نقول: من يريد أن يهذب نفسه ويهيئها لقبول إلهام الملائكة إذا ابتدأ أولا فأصلح أخلاقه الرديئة التي نشأ عليها منذ الصبا ثم سار سيرة عادلة في متصرفاته كما رسم له في الشريعة، ثم نظر في العلوم الحسية فأحكمها كما يجب، مثلما ذكرنا في رسالة الحاس والمحسوس، ثم نظر في الأمور العقلية فأحكمها كما يجب ليحل بها عن ضميره، والآراء الفاسدة التي اعتقدها قبل البحث عن حقائق الأشياء، كما بينا في رسالة العقل والمعقول. فأقول: إن نفسه عند ذلك متهيئة لقبول إلهام الملائكة. وكلما زاد في المعارف استبصارا، صارت نفسه لقبول إلهام الملائكة أسهل طبعا، ولطاعة العقل أشد تشبها، وإلى السمائية أقرب قربة. وإنما يمنعها عن الصعود إلى ملكوت السماء نوازع طبيعة الجسد ما دامت تتعلق به. فإذا فارقته عند الممات كانت في طرفة عين مع أبناء جنسها ممن مضى على سنن الهدى ...
واعلم أن كل عالم تكون أكثر معلوماته روحانية فهو إلى الملائكة أقرب نسبة. ومن أجل هذا جعل الله طائفة من بني آدم واسطة بين الناس وبين الملائكة؛ لأن الواسطة هي التي تناسب أحد الطرفين من جهة، والطرف الآخر من جهة؛ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يناسبون الملائكة بنفوسهم وصفاء جوهرها، ومن جهة أخرى كانوا يناسبون الناس بغلظ أجسامهم» (46: 4، 120 و121). «ثم اعلم أيها الأخ أنه ليس كل نفس وردت إلى عالم الكون والفساد تكون محبوسة فيه، كما أنه ليس كل من دخل الحبس يكون محبوسا فيه، بل ربما دخل الحبس من يقصد إخراج المحبوسين منه، كما أنه قد يدخل بلاد الروم من يستنقذ أسارى المسلمين؛ وإنما وردت النفوس النبوية إلى عالم الكون والفساد لإنقاذ هذه النفوس المحسوبة في حبس الطبيعة الغريقة في بحر الهيولى، الأسيرة في الشهوات الجسمانية» (34: 3، 218). «ثم اعلم أن النفوس التامة الكاملة إذا فارقت الأجساد تكون مشغولة بتأييد النفوس الناقصة المجسدة، لكيما تتم هذه وتكمل تلك، وتتخلص هذه من حال النقص، وتبلغ تلك إلى حال الكمال، وترتقي هذه المؤيدة أيضا إلى حالة هي أكمل وأشرف وأعلى» (40: 3، 371).
سبل الارتقاء
من هذه المقاطع نفهم أن ارتقاء النفس يقوم بعدد من الأسباب، أولها وأهمها: اكتساب العلوم والمعارف. ذلك أن النفس التي انقطعت عن أصلها لما حصل منها من خطيئة قد تراكمت عليها حجب الجهل، وغرقت في نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ولا سبيل إلى رفع هذه الحجب والاستيقاظ من نوم الغفلة إلا بالعلم الذي تتيحه للنفس الحياة في جسد إنساني تؤهلها لتذكر أصلها ومعرفة ماهيتها والارتقاء من الرتبة الإنسانية، آخر بوابات جهنم، إلى الرتبة الملائكية، فصعودا بعد البعث والنشور للاتحاد بالنفس الكلية: «واعلم يا أخي بأن من دخل الدنيا وعاش فيها زمانا مشغولا بالأكل والشرب والنكاح، دائبا في طلب الشهوات والحرص على جمع المال والأثاث، واتخاذ البنيان وعمارة الأرض والعقارات، وطلب الرياسة، متمنيا الخلود فيها، تاركا لطلب العلم، غافلا عن معرفة حقائق الأشياء، مهملا لرياضة النفس، متوانيا في الاستعداد للرحلة إلى الدار الآخرة، حتى إذا فني العمر وقرب الأجل وجاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد، ثم خرج من هذه الدار جاهلا لم يعرف صورتها، ولم يفكر في الآيات التي هي آفاقها، ولا اعتبر أحوال موجوداتها ولا تأمل الأمور المحسوسة التي شاهد فيها، فمثلهم مثل قوم دخلوا مدينة ملك عظيم حكيم عادل رحيم قد بناها بحكمته، وأعد فيها من طرائف صنعته ما يقصر الوصف عنها إلا بالمشاهدة لها، ووضع فيها مائدة قوتا للواردين إليها وزادا للراحلين عنها. ثم دعا عبادا له إلى حضرته ليمنحهم بالكرامة، وأمرهم بالورود إلى تلك المدينة في طريقهم؛ لينظروا إليها ويبصروا ما فيها، ويتفكروا في عجائب مصنوعاته ويعتبروا غرائب مصوراته، ليروض بها نفوسهم، فيصيرون برؤيتها ومعرفتها حكماء أخيارا فضلاء، فيصلون إلى حضرته ويستحقون كرامته. فوردها قوم ليلا فباتوا طول ليلتهم مشغولين بالأكل والشرب واللعب واللهو، ثم خرجوا منها سحرا لا يدرون من أي باب دخلوا، ولا من أيها خرجوا، ولا رأوا مما فيها شيئا من آثار حكمته وغرائب صنعته، ولا انتفعوا بشيء منها أكثر من تمتعهم تلك الليلة بالأكل والشرب حسب. فهكذا حكم أبناء الدنيا الواردين إليها جاهلين، الماكثين فيها متحيرين مكرهين، الراحلين عنها كما قال الله، جل ثناؤه:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا »
9 (4: 1، 167-168). «اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال، ومشتركان في الأفعال المعارضة والصفات الزائلة، صار الإنسان من أجل جسده الجسماني مريدا للبقاء في الدنيا، متمنيا الخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالبا للدار الآخرة، متمنيا البلوغ إليها، وهكذا أكثر أمور الإنسان وتصور أحواله مثنوية متضادة ... صارت قنيته أيضا نوعين: جسمانية كالمال ومتاع الدنيا، وروحانية كالعلم والدين، وذلك أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد. وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة، وبالدين يصل إليها؛ وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب ينمي الجسد ويزيد ويربو ويسمن. فلما كان هكذا صارت المجالس أيضا اثنين: مجلس للأكل والشرب واللهو واللعب واللذات الجسمانية لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني، ومجلس للعمل والحكمة وسماع روحاني من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة ... فلما كانت المجالس اثنين صار أيضا السائلون اثنين، واحد يسأل حاجة من عرض الدنيا لصلاح هذا الجسد ولجر المنفعة إليه أو لدفع المضرة عنه، وواحد يسأل مسألة من العلم لصلاح أمر النفس وخلاصها من ظلمات الجهالة، أو للتفقه في الدين طلبا لطريق الآخرة ... ونجاة من عالم الكون والفساد» (7: 1، 259-261). «وليس من فريضة من جميع مفروضات الشريعة وأحكام الناموس أوجب ولا أفضل ... من العلم وطلبه وتعليمه. وبيان ذكر شرف العلم ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «تعلموا العلم فإن في تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمونه صدقة، وبذله لأهله قربة» ... واعلم يا أخي بأن كل علم وأدب لا يؤدي صاحبه إلى طلب الآخرة، ولا يعينه على الوصول إليها، فهو وبال على صاحبه وحجة عليه يوم القيامة» (9: 1، 346-349). «واعلم يا أخي أن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، والتعليم ليس شيئا سوى إخراج ما في القوة إلى الفعل، والتعلم هو الخروج من القوة إليه [أي إلى الفعل]، وأن كل شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا لشيء هو بالفعل يخرجه إليه، وأن النفس الكلية الفلكية هي علامة بالفعل، والأنفس الجزئية علامة بالقوة. فكل نفس جزئية تكون أكثر معلومات وأحكم مصنوعات، فهي أقرب إلى النفس الكلية، لقرب نسبتها إليها وشدة شبهها بها، [وذلك] كما قيل في حد الفلسفة: إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية. فاجتهد أن تكتسب معلومات كثيرة تكن أفعالك كلها حكمية زكية ... واعلم أن بالعلم تحيا النفوس من موت الجهالة، وبه تنتبه من نوم الغفلة، كما قال الله:
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به ...
10
فالعلم يهديك إلى طريق ملكوت السماء، ويعينك على الصعود إلى هناك» (10: 1، 399-400). «واعلم أن نفوس الحكماء تجتهد في أفعالها ومعارفها وأخلاقها، في التشبه بالنفس الكلية الفلكية، وتتمنى اللحوق بها، والنفس الكلية أيضا كذلك، فإنها تتشبه بالباري في إدارتها الأفلاك، وتحريكها الكواكب، وتكوينها الكائنات، كل ذلك طاعة لباريها، وتعبدا له واشتياقا إليه. ومن أجل هذا قالت الحكماء: إن الله هو المعشوق الأول، والفلك إنما يدور شوقا إليه» (36: 3، 285). «ثم اعلم أن نفوس الجهال كلها موتى بالقياس إلى نفوس العلماء، وذلك أن قلوب العلماء مفتوحة، وصدورهم منشرحة متسعة، ممتلئة من نور الهدى وروح المعارف، وقلوب الجهال حرجة منغلقة، وصدورهم من الوسواس والخيالات ضيقة مظلمة، وأوهامهم هائمة وأفكارهم تائهة في ظلمات الجهالات المتراكمة ونفوسهم ممتلئة من الوساوس والخيالات، كما قال الله تعالى من القرآن، مثل قوله:
أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
11
واعلم أن حياة النفوس ويقظتها هي المعارف والعلوم، كما أن حياة الأجساد ويقظتها بالحس والحركة» (42: 3، 532). «واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يقاربها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة. وكلما كانت أكثر قبولا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء، عليهم السلام ... ومثل نفوس المحققين من الحكماء التي استنبطت علوما كثيرة حقيقية ... ومثل نفوس الكهنة المخبرة بالكائنات قبل كونها بدلائل فلكية وعلامات زجرية ... واعلم يا أخي أن فضائل النفس الكلية فائضة على الأنفس الجزئية دفعة واحدة، مبذولة لها دائم الأوقات؛ لكن الأنفس الجزئية لا تطيق قبولها إلا شيئا بعد شيء ... ثم إن المانع للأنفس الجزئية قبول فيض النفس الكلية دفعة واحدة هو لأجل استغراقها في بحر الهيولى، وتراكم ظلمات الأجسام على بصرها، لشدة ميلها إلى الشهوات الجسمانية، وغرورها باللذات الجرمانية. فمتى انتبهت من نوع الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة ... وأخذت ترتقي في العلوم والمعارف، ودامت على تلك الحال، لحقت بالنفس الكلية، وشاهدت تلك الأنوار العقلية والأضواء البهية» (15: 2، 10-11). «واعلم يا أخي أن الإنسان إذا سلك في مذهب نفسه، وتصرف في أحوالها، مثلما سلك به في خلق جسده وصورة بدنه، فإنه سيبلغ أقصى نهاية الإنسانية مما يلي رتبة الملائكة ... وأما ما سلك به في خلقه فهو أنه ابتدئ من نطفة من ماء مهين، ثم كان علقة جامدة في قرار مكين، ثم كان مضغة، ثم كان جنينا مصورا تاما، ثم كان طفلا متحركا حساسا، ثم كان صبيا ذكيا فهما، ثم كان شابا متصرفا قويا نشيطا، ثم كان كهلا مجربا عالما عارفا ...
واعلم يا أخي بأنك لم تنقل رتبة من هذه المراتب إلا وقد خلع عنك أعراض وأوصاف ناقصة، وألبست ما هو أجود منها وأشرف؛ فهكذا ينبغي أن لا ترتقي في درجة العلوم والمعارف إلا وتخلع عن نفسك أخلاقا وعادات وآراء ومذاهب وأعمالا مما كنت معتادا لها منذ الصبا من غير بصيرة ولا روية، حتى يمكنك أن تفارق الصورة الإنسانية، وتلبس الصورة الملكية، ويمكنك الصعود إلى ملكوت السماوات وسعة عالم الأفلاك» (14: 1، 448-449).
إن الهدف الأقصى للمعرفة هو معرفة الإلهيات. ولكن معرفة الأمور الإلهية لا تأتي إلا بالتدرج من العلوم الرياضية إلى العلوم الطبيعية، «فمن لم يكن مرتاضا بالنظر في هذه الأشياء فلا يسعه النظر في أمور الطبيعة؛ لأنه لا يمكن له أن يعرفها كنه معرفتها البتة، ولو لم يكن مرتاضا في الأمور الطبيعية، فلا يسعه الكلام في الأمور الإلهية» (15: 2، 19). ثم إن عملية المعرفة من ناحية أخرى تتدرج ابتداء من معرفة الأمور المحسوسة التي تدركها الحواس بشكل مباشر إلى معرفة الأمور العقلية والروحانية: «واعلم يا أخي أن الباري جل جلاله جعل الأمور الجسمانية المحسوسة كلها مثالات ودلالات على الروحانية العقلية، وجعل طرق الحواس درجا ومراقي يرتقى بها إلى معرفة الأمور العقلية التي هي الغرض الأقصى في بلوغ النفس إليها.
فإذا أردت يا أخي أن تبلغ إلى أفضل المطلوبات وأشرف الغابات التي هي الأمور العقلية، فاجتهد في معرفة الأمور المحسوسة فإنك بذلك تنال الأمور العقلية. وقد بينا في رسائلنا الطبيعية طرفا من ذلك. ثم اعلم أن معرفة الأمور الجسمانية المحسوسة، هي فقر للنفس وشدة الحاجة، ومعرفة الأمور المعقولة الروحانية هي غناها ونعيمها، وذلك أن النفس في معرفة الأمور الجسمانية محتاجة إلى الجسد وحواسها وآلاتها لتدرك بتوسطها الأمور الجسمانية، وأما إدراكها الأمور الروحانية فيكفيها ذاتها وجوهرها بعدما تأخذها من الحواس بتوسط الجسد. وإذا حصل لها ذلك فقد استغنت عن الجسد وعن التعليم بالجسم بعد ذلك.
فاجتهد يا أخي في طلب الغنى الأبدي بتوسط هذا الهيكل وآلاته ما دام يمكنك ذلك قبل فناء العمر وتصرم المدة، وفساد الهيكل وبطلان وجوده. واحذر كل الحذر أن تبقى نفسك فقيرة محتاجة إلى هيكل ليتم به ما فاته من الكمال، فتكون ممن يقول: يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل» (35: 3، 246-247). «إن الله لما خلق الإنسان الذي هو آدم أبو البشر، عليه السلام، وفضله على كثير ممن خلق قبله تفضيلا، جعل إحدى فضائله كثرة العلوم وغرائب المعارف، وجعل له إليها عدة طرقات: فمنها طرق الحواس الخمس التي بها يدرك الأمور الحاضرة في الزمان والمكان، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس؛ ومنها طريق استماع الأخبار التي ينفرد بها الإنسان دون سائر الحيوانات، يفهم بها الأمور الغائبة عنه بالزمان والمكان جميعا، كما ذكر الله تعالى ومن به عليه فقال:
خلق الإنسان * علمه البيان
12
ومنها طريق الكتابة والقراءة يفهم بها الإنسان معاني الكلام واللغات والأقاويل ...
واعلم أن فهم القراءة والكتابة ومعرفتها متأخرة عن فهم الكلام والأقاويل، كما أن فهم الكلام والأقاويل ومعرفتها إنما هي متأخرة عن فهم المحسوسات ... وذلك أن الطفل إذا خرج من الرحم فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها ... إلى أن تتم سنة التربية، ويغلق باب الرضاع ويفتح [باب] الكلام والنطق. ثم بعد ذلك تجيء أيام الكتابة والقراءة، والآداب والصنائع والرياضيات، وسماع الأخبار والروايات، والفقه في الدين، والنظر في العلوم والمعارف، وطلب حقائق الموجودات والبحث عن الكائنات، والاستدلال بالحاضرات على الغائبات والمحسوسات على المعقولات، وبالجسمانيات على الروحانيات، وبالرياضيات على الطبيعيات، وبالطبيعيات على الإلهيات التي هي الغاية القصوى في العلوم والمعارف، والسعادة الأبدية والدوام السرمدي. بلغك الله وإيانا إلى هذه الغاية، وشرح صدرك وفتح قلبك» (42: 3، 414-415).
ويرى الإخوان أن التفكر في الأمور العقلية هو في مرتبة أعلى من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع، والوقوف عند هذه العبادات هو شأن العامة والجهال، أما الخواص فيتجاوزونها، دون أن يسقطوها، نحو آفاق المعرفة المنجية للنفوس: «اعلم يا أخي أن جزاء المحسنين يتفاضل في الآخرة بحسب درجاتهم في المعارف واجتهادهم في الأعمال الصالحة. والناس متفاوتو الدرجات في أعمالهم، كل على شاكلته، وأجود أحوال العامة والجهال كثرة الصوم والصدقة والصلاة والقراءة والتسبيح، وما شاكل ذلك من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع، المشغلة لهم عن فضول وبطالة، وما لا ينبغي لهم كي لا يقعوا في الآفات. وأفضل أعمال الخواص التفكر والاعتبار بتصاريف أمور المحسوسات والمعقولات، وبخاصة ما يتعلق بالدين. وقد قيل: أفضل أعمال الخير خصلة واحدة وهي التفكر. قال الله تعالى:
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ... .
13
ثم اعلم أن الإنسان إذا عقل الأمور المحسوسة وعرفها، وتفكر في الأمور العقلية وبحث عنها وعن عللها، استقبلته عند ذلك طريقان: إحداهما ذات اليمين تؤديه إلى الهداية والرشاد، والأخرى ذات الشمال تؤديه إلى الغي والضلال. وذلك أن أمور العالم نوعان: كليات وجزئيات لا غير. فإذا أخذ الإنسان يفكر في كلياتها ويعتبر أحوالها وتصاريفها، ويبحث عن الحكمة فيها بانت له، وأمكنه أن يعرفها بحقائقها وأرشد إليها ... وإذا أخذ يتفكر في جزئياتها، والبحث عنها وعن عللها، خفيت وانغلقت مناحيها، وكلما ازداد تفكرا ازداد تحيرا وشكوكا، ومن الله بعدا ...
مثال ذلك أنه إذا ابتدأ الإنسان أولا وتفكر في نفسه، ونظر إلى بنية هيكلها وكيفية تركيب جسده، وكيف كان أولا في صلب أبيه ماء مهينا، ثم كيف صار نطفة في قرار مكين ... ثم كيف أخرج من الرحم ... [إلخ]. فإذا فكر الإنسان في هذه الحالات التي ينقل فيها من أدونها إلى أتمها، ومن أفضلها إلى أكملها، فيعلم بالضرورة ويشهد له عقله أن له صانعا حكيما هو الذي اخترعه وأنشأه وأنماه ... فهذا هو الطريق ذات اليمين المؤدي سالكه إلى الله تعالى وإلى نعيم جنانه.
وأما الطريق الآخر، ذات الشمال، المؤدي إلى الشكوك والحيرة والضلالة والعمى، فهو أن يبتدئ الإنسان، قبل النظر في العلوم والآداب والرياضيات وقبل أن يحسن أخلاقه ويهذب نفسه، بالكشف عن الأمور الجزئية الخفية المشكلة على الحذاق من العلماء والفلاسفة فضلا عن غيرهم، نحو معرفة ألم الأطفال، وطلب معرفة مصائب الأخيار، والبحث عن الأنباء وتيسير أمور الأشرار، ولم زيد الحازم فقير وعمرو العاجز غني؟ ولم جعفر الغبي أمير وعبد الله الحكيم فقير؟ ولم هذا الرجل ضعيف والآخر قوي صحيح؟ ... ولماذا يصلح البق والذباب والقردان والبراغيث؟ ... وأي حكمة في خلق العقارب والحيات، وما شاكل ذلك من المسائل التي لا يحصي عددها إلا الله ولا يعلم سواه عللها ... فيبتدئ أولا بطلب الأمور المشكلة التي تقدم ذكرها فلا يدركها ولا يعقلها، فيرجع عند ذلك خاسرا متفكرا متحيرا غافلا بنفسه، وسواسا في قلبه، فينظر عند ذلك إلى أمر العالم مهملا، والكائنات باتفاق لا بعناية حكيم ولا صنع صانع عليم، أو نظر إلى أن رب العالمين غافل عن أمر عالمه حتى يجري فيه ما لا يليق بالحكمة، أو يظن أنه لا يعلم ما يجري فيه ... وما شاكل هذه من الظنون والشكوك والحيرة والضلال الذي قد تاهت في طلب معرفته عقول كثير من العقلاء المتقدمين المرتاضين بالعلوم الحكمية، فكيف غيرهم ممن ليست له رياضة ولا معرفة بحقائق الأسرار» (42: 3، 504-507).
فالارتقاء يحصل بالناموس، أي الشريعة، وبالعلوم الحكمية: «اعلم أن الإنسان العاقل إذا سمع أوامر الناموس ونواهيه، ووعيده وزواجره، ثم لم يأتمر بحدوده ولم ينقد لأحكامه، أو سمع العلوم الحكمية فلم يقم بواجبها ... [إلخ]» (30: 3، 79). ولكن الناموس لا يختصر إلى شكليات الصيام والصلاة وما إليها من أحكام وحدود، بل هو أن تحيا بروح المعارف العقلية فتعيش بعيش العلماء الربانيين، وهذا طريق الخاصة من الناس إلى النجاة: «فقد بينا أن خير صناعة تبلغ إليها طاقة البشر [هي] وضع الناموس الإلهي، وقد ذكرنا كيفيتها وشرائطها في رسالة الناموس الإلهي. فاجتهد يا أخي في معرفة أسراره، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف العقلية فتعيش بعيش العلماء الربانيين، وتنال نعيم عالم الروحانيين ... فإن لم يستو لك ذلك فكن خادما في الناموس يحفظ أحكامه والقيام بحدوده، فلعلك تنجو بشفاعة أهله من بحر الهيولى وأسر الطبيعة» (8: 1، 295).
وقد أسهب الإخوان في تعداد أنواع العلوم، ودخلوا في تفاصيل كل علم مما لم نجد ضرورة للخوض في معظمها. ولكننا سوف نتوقف هنا عند تعدادهم لأجناس العلوم لإعطاء فكرة عن الموضوعات التي تطرقوا إليها في مواضع متفرقة من رسائلهم: «واعلم يا أخي بأن العلم إنما هو صورة المعلوم في نفس العالم، وضده الجهل وهو عدم تلك الصورة من النفس. واعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئا سوى إخراج ما في القوة، يعني الإمكان، إلى الفعل، يعني الوجود. فإذا نسب ذلك إلى العالم سمي تعليما، وإن نسب إلى المتعلم سمي تعلما» (7: 1، 262). «فاعلم يا أخي بأن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس: فمنها الرياضية ومنها الشرعية الوضعية ومنها الفلسفية الحقيقية. فالرياضية هي علم الآداب التي وضع أكثرها لطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا. وهي تسعة أنواع، أولها علم الكتابة والقراءة، ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات، ومنها علم الشعر والعروض، ومنها ... علم الحرف والصنائع، ومنها علم البيع والشراء والتجارات ...
فأما أنواع العلوم الشرعية التي وضعت لطب النفوس وطلب الآخرة فهي ستة أنواع: أولها علم التنزيل، وثانيها علم التأويل، والثالث علم الروايات والأخبار، والرابع علم الفقه والسنن والأحكام، والخامس علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف، والسادس علم تأويل المنامات ...
وأما العلوم الفلسفية فهي أربعة أنواع: منها الرياضيات، ومنها المنطقيات، ومنها الطبيعيات ومنها الإلهيات. فالرياضيات أربعة أنواع: أولها الأرتماطيقي [= الحساب] ... والثاني الجومطريا وهو الهندسة ... والثالث الأسطرنوميا وهي النجوم ... والرابع الموسيقى. والعلوم المنطقيات خمسة أنواع: أولها أنولوطيقا وهي معرفة صناعة الشعر، والثاني ريطوريقا وهي معرفة صناعة الخطب، والثالث طوبيقا وهي معرفة صناعة الجدل، والرابع بولوطيقا وهي معرفة صناعة البرهان، والخامس سوفسطيقا وهي معرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل. وقد تكلم الحكماء الأولون والمتأخرون في هذه الصنائع والعلوم وصنفوا فيها كتبا كثيرة، وهي موجودة في أيدي الناس. وقد عمل أرسطاطاليس ثلاثة كتب أخر ، وجعلها مقدمة لكتاب البرهان، أولها قاطيغورياس [= كتاب المقولات]، والثاني باريمنياس [= كتاب العبارة]، والثالث أنولوطيقا الأولى [= كتاب القياس]. وإنما جعل عنايته أكثرها بكتاب البرهان؛ لأن البرهان ميزان الحكماء يعرفون به الصدق من الكذب في الأقوال، والصواب من الخطأ في الآراء، والحق من الباطل في الاعتقادات، والخير من الشر في الأفعال ... وقد عمل فرفوريوس الصوري كتابا وسماه إيساغوجي، وهو المدخل إلى صناعة المنطق الفلسفي. ولكن من أجل أنهم طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن عارفا بها وبمعانيها، انغلق على الناظرين في هذه الكتب فهم معانيها وعسر على المتعلمين أخذها. وقد عملنا في كل واحدة من هذه الصنائع رسالة ذكرنا فيها نكت ما يحتاج إليه وتركنا التطويل ...
وأما العلوم الطبيعية فهي سبعة أنواع: أولها علم المبادئ الجسمانية، وهي معرفة خمسة أشياء: الهيولى والصورة، الزمان والمكان والحركة ... والثاني علم السماء والعالم، وهو معرفة جواهر الأفلاك والكواكب وكميتها وكيفية تركيبها وعلة دورانها ... والثالث علم الكون والفساد، وهو معرفة ماهية جواهر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وكيف يستحيل بعضها إلى بعض بتأثيرات الأشخاص العالية، ويكون منها الحوادث والكائنات من المعادن والنبات والحيوان ... والرابع علم حوادث الجو، وهو معرفة كيفية تغييرات الهواء ... وتصاريف الرياح والضباب والغيوم والأمطار والثلوج والبرد والبروق والرعود والشهب والصواعق ... وما شاكلها مما يحدث فوق رءوسنا من التغييرات والحوادث. والخامس علم المعادن ... والسادس علم النبات ... والسابع علم الحيوان ...
والعلوم الإلهية خمسة أنواع: أولها معرفة الباري، جل جلاله وعم نواله، وصفة وحدانيته، وكيف هو علة الموجودات ... والثاني علم الروحانيات، وهو معرفة الجواهر البسيطة العقلية العلامة الفعالة، التي هي ملائكة الله وخالص عباده، وهي الصور المجردة من الهيولى، المستعملة للأجسام المدبرة لها ... والثالث علم النفسانيات، وهي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية، من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، ومعرفة كيفية إدارتها للأفلاك وتحريكها للكواكب، وتربيتها للحيوان والنبات، وحلولها في جثث الحيوانات، وكيفية انبعاثها بعد الممات. والرابع علم السياسة وهي خمسة أنواع ... والخامس علم المعاد ، وهو معرفة ماهية النشأة الأخرى وكيفية انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد، وانتباه النفوس من طول الرقاد ...» (7: 1، 266-274).
نلاحظ من هذا العرض لأجناس العلوم أن الإخوان قد وضعوا العلوم الفلسفية في نقطة المركز، وأولوها العناية القصوى. فالفلسفة هي أشرف الصنائع بعد النبوة: «واعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل إنه أداة الفيلسوف. وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة، صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين، وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات، لأنه قيل في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
واعلم بأن معنى قولهم: طاقة الإنسان، هو أن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله، ويتجنب من الباطل في اعتقاده، ومن الخطأ في معلوماته، ومن الرداءة في أخلاقه، ومن الشر في أفعاله، ومن الزلل في أعماله، ومن النقص في صناعته. هذا هو معنى قولهم: التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان؛ لأن الله عز وجل لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير. فاجتهد يا أخي في التشبه به في هذه الأشياء، فلعلك توفق لذلك فتصلح أن تلقاه، فإنه لا يصلح للقائه إلا المهذبون بالتأيب الشرعي والرياضيات الفلسفية» (13: 1، 427-428).
وإذا كانت الفلسفة أشرف الصنائع بعد النبوة، فإن الفلاسفة والحكماء يأتون في سلم الارتقاء الإنساني بعد الأنبياء مباشرة: «اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحيوانات زينة الأرض، كما أن الكواكب زينة السماء، وأن أتم الحيوانات هيئة، وأكملها صورة، وأشرفها تركيبا هو الإنسان؛ وأفضل الإنسان هم العقلاء، وأخيار العقلاء هم العلماء، وأعلى العلماء درجة وأرفعهم منزلة هم الأنبياء، عليهم السلام، ثم بعدهم في الرتبة الفلاسفة الحكماء» (47: 4، 124). ولكن الفرق الأساسي بين الأنبياء والفلاسفة يكمن في أن معرفة الأنبياء إلهاما، أما معرفة الفلاسفة فاستنباطا: «واعلم أن من إحدى الخصال التي يضعها صاحب الشريعة أن لا ينسب إلى رأيه واجتهاده وقوته شيئا مما يقول ويفعل ويأمر وينهى في وضع الشريعة، لكنه ينسبها إلى الواسطة التي بينه وبين ربه من الملائكة التي توحي إليه في أوقات غير معلومة. وأما الحكماء والفلاسفة إذا استخرجوا علما من العلوم، وألفوا كتابا أو استخرجوا صنعة من الصنائع، أو بنوا هيكلا، أو دبروا سياسة، نسبوا ذلك إلى قوة أنفسهم واجتهادهم وجودة رأيهم وفحصهم وبحثهم» (47: 4، 136).
من هنا فإن الحكماء والفلاسفة هم ورثة الأنبياء، يقومون مقامهم في الإرشاد والتوجيه إذا مضوا لسبلهم: «ثم اعلم أن الحكماء والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم سفراء الله بينه وبين خلقه، ليعبروا عنه المعاني، ويفهموها الناس بلغات مختلفة، لكل أمة ما تعرفه على قدر احتمال أفهامهم. فإذا مضت الأنبياء لسبلها خلفهم العلماء والحكماء، وقاموا مقامهم ونابوا منابهم فيما كانوا يقولون ويفعلون، ويعلمون الناس من معالم الدين وطريق الآخرة ومصالح الدنيا. فمن قبل منهم ما قالوه وعمل بما أمروه، فهو على طريق النجاة والفوز، ومن أبى وكفر به فهو على خطر عظيم وخوف من الهلاك. فاحذر يا أخي مخالفة الحكماء ومعاندة العلماء، بل كن منهم إذا استوى لك، وينبغي ألا ترضى لنفسك إلا بأعلى مرتبة في العلم والحكمة، فإن بذلك يكون القربة إلى الله، كما ذكر بقوله: ... قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب »
14 (40: 3، 347).
فالفلسفة هي الحكمة ومحبة النفس إياها، كما ورد في أكثر من موضع في رسائل الإخوان: «لفظ الفيلسوف عند اليونانيين معناه الحكيم، والفلسفة تسمى الحكمة. والحكيم هو الذي أفعاله تكون محكمة، وصناعته متقنة، وأقاويله صادقة، وأخلاقه جميلة وآراؤه صحيحة، وأعماله زكية، وعلومه حقيقية. وهي [أي الحكمة] معرفة حقائق الأشياء وكمية أجناسها، وأنواع تلك الأجناس، وخواص تلك الأنواع واحدا واحدا، والبحث عن عللها ...» (40: 3، 345).
والأصل في الحكمة اتفاقها مع الشريعة لا اختلافها معها، فكلاهما يتفقان في الغرض المقصود، وهو تهذيب النفس الإنسانية وإصلاحها والارتقاء بها: «ثم اعلم أن العلوم الحكمية والشريعة النبوية كلاهما أمران إلهيان يتفقان في الغرض المقصود منهما، الذي هو الأصل، ويختلفان في الفروع. وذلك أن الغرض الأقصى من الفلسفة هو ما قيل: إنها التشبه الإله بحسب طاقة البشر، كما بينا في رسائلنا أجمع. وعمدتها أربع خصال؛ أولاها معرفة حقائق الموجودات، والثانية اعتقاد الآراء الصحيحة ، والثالثة التخلق بالأخلاق الجميلة والسجايا الحميدة، والرابعة الأعمال الزكية والأفعال الحسنة. والغرض من هذه الخصال هو تهذيب النفس والترقي من حال النقص إلى التمام، والخروج من حد القوة إلى الفعل بالظهور، لتنال بذلك البقاء والدوام ... وهكذا الغرض من النبوة والناموس هو تهذيب النفس الإنسانية وإصلاحها وتخليصها من جهنم عالم الكون والفساد، وإيصالها إلى الجنة ونعيم أهلها ...
وأما اختلافهما في الطرق المؤدية إليها فمن أجل الطبائع المختلفة والأعراض المتغايرة التي عرضت للنفوس، وبذلك اختلفت موضوعات النواميس وسنن الديانات ومفروضات الشرائع، كما اختلفت عقاقير الأطباء وعلاجاتها بحسب اختلاف الأمراض العارضة للأجساد ... ومثال آخر في اختلاف سنن الديانات النبوية والفلسفية جميعا، وفنون مفروضات النواميس، والمقصد واحد، كاختلاف طرقات القاصدين نحو بيت الله الحرام وتوجههم شطره بحسب مواضع بلدانهم» (27: 3، 30).
وما التناقض الذي يبدو أحيانا بين الحكمة والشريعة إلا لقصور فهم جماعة من العاملين في العلوم الحكمية وجماعة من العاملين في العلوم الشرعية. ولهذا فقد جهد الإخوان في رسائلهم من أجل تبيان الاتفاق بين الدين والفلسفة: «ثم اعلم أن الحكماء الأولين قد تكلمت في فنون من العلوم وضروب من الآداب، وغرائب من الحكم لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار. فمنها من تكلم في تركيب الأفلاك وأحكام النجوم، وتكلموا أيضا في الطب والطبائع والكائنات التي تحت فلك القمر؛ وقوم من العلماء الشرعيين ينكرون أكثره، إما لقصور فهمهم عما وصف القوم، أو لتركهم النظر فيها واشتغالهم بعلم الشرع وأحكامه، أو لعناد بينهما. وكذلك أيضا إن أكثر من ينظر في العلوم الحكمية من المبتدئين فيها والمتوسطين من بينهم يتهاونون بأمر الناموس وأحكام الشريعة ويزرون بأهله، ويأنفون من الدخول تحت أحكامه إلا خوفا وكرها ... كل ذلك لقصور فهم الفريقين جميعا عن معرفة حقائق هذه الأشياء المذكورة ولقلة علمهم أيضا بماهيات الكائنات. ولما كان مذهب إخواننا الفضلاء الكرام النظر فيها جميعا والكشف عن حقائق أشيائها، أعني العلوم الحكمية والنبوية جميعا، وكان هذا العلم بحرا واسعا وميدانا طويلا، احتجنا أن نتكلم في ما دعت الضرورة إلى عمل هذه الرسائل التي هي إحدى وخمسون رسالة، والكلام فيها بأوجز ما يمكن» (27: 3، 29). «فإن اجتهد الإنسان وفعل ما رسم في الشريعة من لزوم أحكامها ومفروضاتها، وعمل بما وصف في الفلسفة وصبر عليه مدة ... فإنه يرجى لتلك النفس أن تهتدي إلى الرجوع إلى عالمها النفساني ومحلها الروحاني، واللحوق بأبناء جنسها الذين مضوا قبلها، ووصلوا إلى هناك، وتخلصوا من دركات عالم الكون والفساد» (25: 2، 449). «وإن مكث الجنين في الرحم مدة ما، إنما هو لكي يتم الجسد وتستكمل صورة البدن. والغرض من ذلك أن المولود ينتفع بالحياة الدنيا بعد الولادة. وكذلك أيضا قد قال الحكيم: إن مكث الإنسان العاقل، الذي هو تحت الأمر والنهي، إما بموجب العقل أو بطريق السمع بأوامر الناموس ونواهيه، وفي طول عمره الطبيعي مدة ما [في هذه الدنيا] إنما هو لأن تتم فضائل النفس، وتستكمل أخلاقها المختلفة، ومعارفها الربانية، بالتأمل والبحث في النظر، والسعي والاجتهاد في العمل ... أو بما رسم في الناموس من الوصايا والأوامر والنواهي، كل ذلك لكيما تستكمل النفس فضائل الملائكة فيها. والغرض من هذا كله هو أن يمكنها ويتهيأ لها الصعود إلى عالم الأفلاك والدخول في سعة السماوات ...
اعلم يا أخي أن الله، جل ثناؤه، لما علم بأن أكثر الناس لا يعيشون أعمارا طبيعية على التمام، ولا يتركون في الدنيا زمانا طويلا تهذب فيها نفوسهم وتستكمل فضائلهم، لطف بهم من أجل ذلك، وبعث إليهم الأنبياء والرسل واضعي النواميس بالوصايا والأوامر والنواهي والسنن الزكية والشرائع المرضية، إذا استعملوها على نحو ما رسم لهم من السيرة العادلة، استتمت فضائل نفوسهم، وتهذبت أخلاقهم [حتى] وإن كانوا قصيري الأعمار ... وأما حكم نفوس الأطفال والمجانين، فهي تنجو بشفاعة الآباء والأمهات والأنبياء والمرسلين ... وإذ قد تبين لك يا أخي ما الغرض من المكث في الرحم مدة ما، وما الغرض من المكث في الدنيا مدة ما أيضا، فبادر الآن وتشمر وتزود، فإن خير الزاد التقوى، وشد وسطك للرحيل من الدنيا الفانية إلى دار القرار الباقية، قبل فناء العمر وتقارب الأجل» (25: 2، 453-455). «فاجتهد يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه ، في تصفية نفسك وتخليصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، وعبودية الشهوات الجسمانية، وافعل كما فعلت الحكماء ووضعت في كتبها ، فإن جوهر نفسك من جوهر نفوسهم، وصف نفسك من الأخلاق الرديئة والآراء الفاسدة والجهالات المتراكمة والأفعال السيئة، فإن هذه الخصال هي المانعة لها عن الصعود إلى هناك بعد الموت ... واعلم يا أخي أن الموت ليس شيئا سوى مفارقة النفس الجسد، كما أن الولادة ليست شيئا سوى مفارقة الجنين الرحم. قال المسيح عليه السلام: من لم يولد ولادتين لم يصعد إلى ملكوت السماء» (5: 1، 226). «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أجل نتائج العقول وأشرف وجدانها، الآراء الجيدة والاعتقادات الصحيحة المصلحة لنفوس معتقديها. وذلك أن الآراء الجيدة والاعتقادات الصحيحة معينة لنفوس معتقديها على الانبعاث من نوم الغفلة ومن رقدة الجهالة ... ثم اعلم أن أحد الآراء الصحيحة المنجية لنفوس معتقديها اعتقاد الموحدين بأن العالم محدث مخترع مطوي في قبضة باريه، محتاج إليه في بقائه مفتقر إليه في دوامه، لا يستغني عنه طرفة عين ولا عن إمداد الفيض عليه ساعة فساعة، وأنه لو منعه ذلك الفيض والحفظ والإمساك لحظة واحدة لتهافتت السماوات وبادت الأفلاك وتساقطت الكواكب وعدمت الأركان وهلكت الخلائق ودثر العالم دفعة واحدة بلا زمان، كما ذكر الله تعالى بقوله:
إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ... .
15 «واعلم يا أخي أن من يعتقد هذا الرأي، ويتحقق هذا الاعتقاد في أمر السماوات والأرض، فهو في دائم الأوقات يكون متعلق القلب بربه، معتصما بحبله ... داعيا له في جميع أوقاته، سائلا منه كل حوائجه، مفوضا إليه سائر أموره؛ فيكون بهذه الأوصاف قربه إلى ربه وحياة لنفسه وهدوء لقلبه ... فأما من يظن ويتوهم أن العالم مستقل بذاته، ومستغن في وجوده عن فيض باريه عليه بالمادة والبقاء والحفظ والإمساك، فهو يكون ... في حيرة وضلال، لا يدري لم ابتلي ولا كيف عوفي هو، ويكون جاهلا بربه حق معرفته، فيبقى محجوبا عن ربه طول عمره في دنياه
فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
16
ومن الآراء الجيدة والاعتقادات النافعة لنفوس معتقديها ... اعتقاد الإنسان العاقل وعلمه اليقين أنه متوجه إلى ربه وقاصد نحوه من يوم خلقه نطفة في قرار مكين، ينقله ربه وخالقه حالا بعد حال من الأدون إلى الأشرف والأفضل إلى أن يلقى ربه ...» (38: 3، 296-297). «ثم اعلم أن الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة كثيرة لا يحصى عددها، ولكن نذكر منها طرفا ... فمن ذلك رأي من رأى واعتقد أن العالم قديم لا صانع ولا مدبر له. وإن هذا الرأي مؤلم لنفوس معتقديه معذب لقلوبهم، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون صاحب هذا الرأي سعيد أهل الدنيا أو من أشقيائهم، فإذا كان من سعدائهم فإنه لا يدري من أين له هذا، وما هو فيه ... وقد علم يقينا أن الذي هو فيه من النعمة ورغد العيش لا يدوم له، وأنه مفارقه على رغمه مع شدة محبته للبقاء ... كلما ذكر الموت والفناء نغص عليه شهواته، فيعيش طول عمره خائفا من الموت ... ثم يموت على رغم وحسرة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرا ... وإن كان من أشقيائها فهو أسوأ حالا وأمر وأشر سيرة من غيره، وذلك أنه يفني العمر كله بجهل وعناء وتعب، وشقاء في طلب ما لم يقدر له ... فهو بجهله بربه يعيش طول عمره مغتما حزينا ضجرا لما رأى أنه فاته ما وجد غيره، ثم يموت بحسرة وغصة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرا ...
ومن الآراء الفاسدة الرديئة المؤلمة لنفوس معتقديها رأي من يرى ويعتقد أن العالم محدث مصنوع وله صانع واحد حكيم، ولكن لا يرى البعث والنشور والقيامة ولا الحشر والحساب ولا لقاء ربه. فمن يعتقد هذا الشأن ... يفني عمره كله في طلب الدنيا وإصلاح أمر المعاش لجر منفعة إلى جسده، أو دفع مضرة عنه، أو نيل شهوة أو الوصول إلى لذة، متمنيا للخلود في الدنيا مع علمه ويقينه أنه لا يدرك فيها ولا يبقى هو له، وأنه لا بد من الموت، ثم لا يرجع ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل ولا جزاء إحسان ، بل يموت بحسرة وندامة آيسا مما يرجوه المؤمنون» (42: 3، 521-522).
في الأخلاق
ترتبط الأخلاق عند إخوان الصفاء ارتباطا وثيقا بعملية الارتقاء النفسي. والإخوان هنا متشائمون بخصوص الطبيعة الإنسانية التي لا يرون أنها خيرة من حيث الأصل؛ لأن الإنسان ورد إلى الدنيا جاهلا توجهه غرائزه ورغباته الطبيعية التي يسعى لإرضائها دون حسبان لمسألة الخير والشر، وهو لا يغدو كائنا أخلاقيا إلا بالكد والاجتهاد من أجل تهذيب نفسه وإصلاح أخلاقه. ولما لم يكن بإمكان كل عاقل أن يفعل ذلك، نظرا لأن كل ما في السلوك الأخلاقي يتعارض مع ما هو مغروس في الجبلة الإنسانية من الرغائب والشهوات وحب الدنيا، فقد خفف الله تعالى على الناس وبعث الأنبياء بالوصايا الشرعية وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم. فالأصل في الأخلاق الحميدة الاكتساب لا الطبع، والخاصة من الناس تهتدي إلى السلوك الأخلاقي بموجب العقل، أما العامة فبموجب الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده. فمن هذب نفسه بسلوك إحدى هاتين الطريقتين أو كلاهما، فهو من أبناء الآخرة؛ ومن اتبع أخلاقه المغروسة في الطبيعة الإنسانية، فهو من أبناء الدنيا: «اعلم يا أخي أن الناس ينقسمون في سعادة الدنيا والآخرة وشقائهما أربعة أقسام: فمنهم سعداء في الدنيا والآخرة جميعا، ومنهم أشقياء فيهما جميعا، ومنهم أشقياء في الدنيا سعداء في الآخرة، ومنهم سعداء في الدنيا أشقياء في الآخرة. فأما السعداء في الدنيا والآخرة جميعا فهم الذين وفر حظهم في الدنيا من المال والمتاع والصحة ومكنوا فيها، فاقتصروا منها على البلغة ورضوا بالقليل وقنعوا به، وقدموا الفضل إلى الآخرة ذخيرة لأنفسهم، كما ذكر الله تعالى بقوله: ... وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ...
17
وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
وأما سعداء أبناء الدنيا وأشقياء أبناء الآخرة، فهم الذين وفر حظهم من متاعها ومكنوا منها وارتقوا فيها، فتمتعوا وتلذذوا وتفاخروا وتكاثروا، ولم يتعظوا بزواجر الناموس، ولم ينقادوا له، ولم يأتمروا لأمره، وتعدوا حدوده ... وهم الذين أشار إليهم بقوله جل ثناؤه: ... ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
18
وآيات كثيرة في القرآن في وصف هؤلاء.
وأما أشقياء الدنيا وسعداء الآخرة، فهم الذين طالت أعمارهم فيها، وكثرت مصائبهم في تصاريف أيامها، واشتدت عنايتهم في طلبها، وفنيت أبدانهم في خدمة أهلها، وكثرت همومهم من أجلها، ولم يحظوا بشيء من نعيمها ولذاتها، وائتمروا بأوامر الناموس ولم يتعدوا حدوده. وقد ذكر الله ذلك في آيات كثيرة من القرآن: ... إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .
19
وأما أشقياء الدنيا والآخرة، فهم الذين بخسوا حظهم من الدنيا ولم يمكنوا منها وشقوا في طلبها، فعاشوا فيها طول أعمارهم بأبدان متعوبة ونفوس مهمومة، ولم ينالوا خيرا، ثم لم يأتمروا بأوامر الناموس، ولم ينقادوا لأحكامه، وتجاوزوا حدوده ... فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعا، ذلك هو الخسران المبين.
وإذا قد تبين بما ذكرنا، بأقسام عقلية، أنه لا يخلو أحد من الناس من أن يكون داخلا في أحد تلك الأقسام الأربعة، فنريد أن نذكر أخلاق أبناء الدنيا وطباعهم، وأخلاق أبناء الآخرة وسجاياهم، ليعرف الفرق بينهم.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أخلاق بني الدنيا هي التي ركزتها الطبيعية في الجبلة من غير كسب منهم ولا اختيار ولا فكرة ولا روية ولا اجتهاد ولا كلفة، فهم يسعون فيها ويعملون عليها مثل البهائم في طلب منافع الأجساد ودفع المضرة عنها، كما قال الله تعالى ذكره: ... ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم .
20
وأما أخلاق أبناء الآخرة فهي التي اكتسبوها باجتهادهم، إما بموجب العقل والفكر والروية، وإما باتباع أوامر الناموس وتأديبه، وتصير عند ذلك عادة لهم بطول الدءوب فيها وكثرة الاستعمال لها، وعليها يجازون ويثابون.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إذا أنعمت النظر بعقلك، وفكرت برويتك، وتأملت أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده ... عرفت وتبينت أن أكثر أوامره هي بخلاف ما في طباع الناس ... وذلك أنه أمر الصيام وترك الأكل والشرب عند شدة الجوع والعطش، وبالطهارة عند البرد، وبالقيام في الصلاة وترك النوم على الفراش الوطيء، وبالمواساة عند القلة وشدة الحاجة، وبالتعفف عند هيجان الشهوة، وبالحلم عند سورة الغضب ، وبالشجاعة عند المخاوف، وبالعفو عند المقدرة ... وما شاكل هذه الأفعال والأعمال والأخلاق والسجايا التي في الجبلة خلافها، وفي الطباع مركوز غيرها ...
واعلم يا أخي بأن أخلاق بني الدنيا وسجاياهم إنما جعلت طبيعة مركوزة في الجبلة؛ لأنهم وردوا إلى الدنيا جاهلين غير مستعدين لها. فأما أبناء الآخرة فصارت أخلاقهم مكتسبة معتادة [لأنهم استعدوا لها] بما أعلموا بها وأخبروا عنها وبشروا بها وجدوا في طلبها وأوضح لهم طريقها ...
واعلم يا أخي أنه لما لم يكن في مكنة كل عاقل أن يفعل ما وصفنا؛ إذ كان يحتاج فيه إلى عناية شديدة وبحث دقيق ونظر قوي، خفف الله تعالى ذلك عليهم، وبعث واضعي النواميس الإلهية مؤيدين مع الوصايا المرضية، وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم، فبنوا لهم الهياكل والمساجد والبيع ومواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأمورهم بالدخول إليها بعد طهارة ونظافة ... وترك أشياء كانت مباحة لهم ... كل ذلك ليكون دلالة لكل عاقل فهم أنه هكذا ينبغي أن تكون سيرة من يريد أن يدخل الجنة ويعرج بروحه إلى هناك» (9: 1، 331-336). «واعلم يا أخي، أيدك الله، بأنه، جل ثناؤه، قد فرض على المؤمنين المقرين به وبأنبيائه أشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها، كل ذلك ليبتليهم بها، وجعلها عللا وأسبابا ليرقيهم فيها وينقلهم حالا بعد حال إلى أن يبلغهم إلى أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.
واعلم يا أخي بأن من بلغه الله درجة ورتبة، فوقف عندها، ولم يرجع القهقرى بعد بلوغها، ثم قام بحقها ووفى بشرائطها، جعل جزاءه وثوابه أن ينقله من تلك الرتبة والدرجة إلى ما فوقها، ويرفعه من تلك إلى ما هو أشرف وأجل منها، ومن جهل قدر النعمة التي في تلك الرتبة فلم يشكرها، ولا اجتهد في طلب ما فوقها، ولا رغب في الزيادة عليها، كان جزاؤه أن يترك مكانه ويوقف حيث انتهى به عمله ويحرم المزيد، فيفوته ما وراء ذلك وفوقه من الدرجات والمراتب، وكان ذلك الفوت والحرمان هو عقوبته» (9: 1، 345-346).
في الخير والشر
تعد آراء إخوان الصفاء في مسألة الخير والشر استمرارا لآرائهم في الأخلاق. فكما أن الخلق السيئ هو تقصير من الإنسان على الكد والاجتهاد في تهذيب نفسه والارتقاء بها، كذلك الشر الذي هو تخلف عن اللحاق بالخير الأفضل المتقدم عليه؛ فمتى غفل المفضول عن اللحاق بالفاضل ورضي لنفسه بالمكان الخسيس فهو الشر البعيد عن الخير. فما من شر كوني وما من مملكة للشر تعارض مملكة الخير، والكون كله خير ومخلوق من قبل إله خير، وما نرى فيه من شر ليس بالقصد الأول وإنما بالقصد الثاني، وليس إبليس إلا تجسيدا للنفس الشهوانية الغضبية المغوية للنفس الناطقة: «إن الشر لا أصل له في الإبداع الأول من جهة المبدع الحق سبحانه. فإن قال قائل: فإذا لم يكن للشر أصل في الإبداع، فمن أين كان؟ وكيف يكون؟ ولم كان؟ فليعلم هذا القائل أن الخير الكلي والجود المحض [هو] إفاضة الباري سبحانه على العقل بجوده، فكان له [أي للعقل] السبق والتمام والكمال والتقدم بالوجود على الأشياء. ثم كانت النفس منبعثة منه تالية له، فكان ما بينهما من التفاضل مرتبة منحطة بالنفس عن اللحوق بالعقل ونقصانا عن درجته فقصرت عن الكمال، فصار ذلك التقصير عنه عجزا، فحدث عن ذلك العجز نقص عن البلوغ إلى الفضل الكلي. ثم حدثت الطبيعة عن النفس، وكانت النفس أفضل منها لكونها أصلا لها، فكان ما بينهما من التفاضل عجزا هو أكثر من عجز النفس عن بلوغ درجة العقل ومرتبته. ثم كانت الأشياء من المركبات بحدوث بعضها من بعض، ولها وجود التفاضل، وبوجود التفاضل وجود العجز، وبوجود العجز وجود النقص، وبوجود النقص معرفة الفاضل والمفضول. فعند ذلك عطف العقل على النفس بخيراته وفضائله ليرقيها إليه، ويبلغها إلى درجته، ويزيل عنها النقص ويرفعها إلى درجة الكمال، ولم يرض لها بالتخلف عن البلوغ إلى درجته واللحوق بمنزلته؛ لأنه ليس من شأنه الحسد ولا الكبر، وإن أحب الأشياء إليه كونها مثله لأنه خير كله؛ وعطفت النفس عند ذلك على الطبيعة، وعطفت الطبيعة على المولدات منها، وعطفت الأشياء كلها بعضها على بعض، فالفاضل أبدا إنما يجتهد ليرقي المفضول إلى درجته ويبلغه منزلته ، دائما في ذلك مجتهدا فيه. فقد بان بالبرهان وصح أن الشر لا أصل له في الإبداع، وسمي عجز الأشياء لحدوث بعضها من بعض شرا، بمعنى التخلف عن اللحوق بالخير الأفضل المتقدم عليه؛ فمتى غفل المفضول عن اللحوق بدرجة الفاضل ورضي لنفسه بالمكان الخسيس الرذل، فهو الشر المحض البعيد عن الخير، وهو النحس البعيد من السعد. فإذا العالم إذا قبل الفيض والجود وارتقى إلى الفاضل صار خيرا كله وسعدا كله، فزال الشر، وعاد الخلق إلى أوله فصار خيرا كله ...
اعلم يا أخي أن الغرض الأقصى في إدارة الأفلاك وتسيير الكواكب، ومجيء الأنبياء والرسل والحكماء ... هو أن يصير العالم خيرا كله ويزول منه العجز والنقص والشر، ويعود إلى ما بدا منه فيصير لاحقا به» (جا: 25-26).
وكمثال على أن الشرور في العالم ليست بالقصد الأول، يعالج الإخوان مسألة الأوجاع والآلام والأمراض، وأكل الكائنات الحية بعضها لبعض، وهي القضايا التي عدها فلاسفة الخير والشر، ولا سيما الثنويين منهم، التجلي الأمثل للشر في العالم: «ثم اعلم أن الله تعالى جعل في جبلة الحيوان أربعة أسباب: آلامها، ودواعي عطب أبدانها، وشقاوة نفوسها، وهلاك هياكلها، وهي الجوع والعطش والشهوات المختلفة واللذات الذليلة. أما قصد الباري الحكيم في فعله ذلك كله فهو لبقاء نسلها وصلاح معاشها. وأما الذي يعرض لها من الآلام والنكب فليس بالقصد الأول ولكن بالعرض، من أجل النقص الذي في الهيولى. وذلك أن الله تعالى جعل لها الجوع والعطش لكيما يدعواها إلى الأكل والشرب ليخلف على أبدانها من الكيموس [= سوائل البدن] بدل ما يتحلل من البدن؛ لأن البدن في التحلل دائما من أسباب خارجة وأسباب داخلة؛ وأما الشهوات فلكيما تدعو إلى المأكولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها وما تحتاج إليه طباعها. وأما اللذة فلكيما تأكل بقدر الحاجة من غير زيادة ولا نقصان.
فإن قيل: لم جعل للنفوس من الآلام والأوجاع والأفزاع عند الآفات العارضة لأجسادها؟ قيل له: لكيما تحرص نفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها إلى وقت معلوم؛ إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها. فإن قيل: لم جعل بعض الحيوانات آكلة لحوم بعض؟ قيل: لكيما لا يضيع شيء مما خلق الله بلا نفع؛ وذلك أنه قد تاهت أوهام العلماء وتحيرت عقولهم في طلب علة أكل الحيوانات بعضها بعضا، وما وجه الحكمة منه؛ إذ كان الباري جعل ذلك في طباعها جبلة، وهيأ بها آلات وأدوات تتمكن بها، كأنياب ومخالب وأظافير حداد ... فلما تفكروا في ذلك ولم تسنح لهم العلة ولا ما وجه العلة والحكمة، اختلفت عند ذلك بهم الآراء والتبست بهم المذاهب، حتى قال بعضهم: إن تسلط الحيوانات بعضها على بعض، وأكل بعضها لبعض ليس من فعل الحكيم، بل فعل شرير قليل الرحمة؛ فلهذا قالوا: إن للعالم فاعلين: خير وشرير؛ ومنهم من نسب ذلك إلى النجوم، ومنهم من قال: عقوبة لها لما سلف منها من الذنوب في الأدوار السالفة، وهم أهل التناسخ، ومنهم من قال بالعرض، ومنهم من قال: إن هذا أصلح، ومنهم من أقر على نفسه بالعجز وقال: لا أدري ما العلة في أكل الحيوانات بعضها بعضا، ولا ما وجه الحكمة فيه، غير أنه قال: الباري الحكيم لا يفعل شيئا إلا بحكمته؛ ومنهم من قال: بل لا حكمة فيه.
وكل هذه الأقاويل قالوها في طلب الحكمة والعلة، وإنما لم يقفوا عليها؛ لأن نظرهم كان جزئيا، وبحثهم عن علل الأشياء خصوصيا، وليس يعلم علل الأشياء الكليات بالنظر الجزئي؛ لأن أفعال الباري إنما الغرض منها النفع الكلي والصلاح العمومي، وإن كان قد نقص من ذلك ضرر جزئي ومكاره خصوصية، وليس يعلم علل الأشياء الكليات أحيانا. والمثال في ذلك أحكام الشريعة النبوية وحدوده فيها، وذلك كحكم القصاص في القتل. قال تعالى:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ...
21
وإن كان موتا وألما للذي يقتص منه. وكذلك قطع يد السارق، فمنه نفع عمومي وصلاح الكل، وإن كان يناله حزن وألم. وكذلك غروب الشمس وطلوعها، والأمطار كان النفع منها عموميا والصلاح كليا، وإن كان يعرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر جزئي ...
ولما كان نزول الأمر في المنقلب إلى الصلاح العمومي والنفع الكلي، كانت الشدائد والجهد والبلوى في جنبه أمرا صغيرا جزئيا. على هذا المثال والقياس ينبغي أن يعتبر من يريد أن يعترض ما العلة وما وجه الحكمة في أكل الحيوانات بعضها بعضا، ليتبين له الحق والصواب. ونحن نريد أن نبين ما العلة وما وجه الحكمة في الكل، وفي أكل الحيوانات بعضها بعضا، ولكن لا بد أن نقدم أشياء لا بد من ذكرها، فنقول:
اعلم أن عقول القوم إنما أنكرت أكل الحيوانات لما ينالها من الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل، ولولا ذلك لما أنكروا، كما لا ينكرون أكل الحيوان النبات، إذ ليس ينال النبات الآلام والأوجاع، فنقول: قصد الله وغرضه في ألم الحيوانات ما جبلت عليه طباعها، والأوجاع التي تلحق نفوسها عند الآفات العارضة، ليس عقوبة لها وعذابا كما ظن أهل التناسخ، بل حث لنفوسها على حفظ أجسادها وصيانة هياكلها من الآفات العارضة لها، إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها؛ ولو لم يكن ذلك كذلك لتهاونت النفوس بالأجساد وخذلتها وأسلمتها إلى الهلاك قبل فناء أعمارها وتقارب آجالها، ولهلكت كلها دفعة واحدة في أسرع مدة. فلهذه العلة جعلت الآلام والأوجاع للحيوان دون النبات، وجعل فيها حب للبقاء، إما بالحرب والقتال، وإما بالهرب والفرار والتحرز لحفظ جثتها من الآفات العارضة إلى وقت معلوم، فإذا جاء أجلها فلا ينفع القتال ولا الهرب ولا التحرز بل التسليم والانقياد ...
وإذ قد ذكرنا ما يحتاج إليه، نقول الآن: إن الله تعالى لما خلق أجناس الحيوانات التي في الأرض، وعلم أنها لا تدوم بذاتها أبد الآبدين، جعل لكل نوع منها عمرا طبيعيا أكثر ما يمكن منه، ثم يجيئه الموت إن شاء أو أبى. وقد علم الله أنه يموت كل يوم منها في البر والبحر والسهل والجبل عدد لا يحصيه إلا الله تعالى. ثم جعل بواجب الحكمة جثة جيف موتاها غذاء لأحيائها ومادة لبقائها، لئلا يضيع شيء مما خلق الله بلا نفع ولا فائدة ، وكان في هذا منفعة لأجسادها ولم يكن فيه ضرر على الموتى. وخصلة أخرى، لو لم تكن الأحياء تأكل جيف الموتى منها، لبقيت تلك الجيف، واجتمع منها على ممر الأيام والدهور، حتى تمتلئ منها الأرض وقعر البحار، وتنتن ويفسد الهواء والماء من نتن روائحها ... فأي حكمة أكثر من هذه أن جعل الباري تعالى في أكل الحيوانات بعضها بعضا من المنفعة للأحياء، ودفع المضرة عنها كلها، وإن كانت تنال بعضها الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل وليس قصد القابض من القاتل من ذبحها وقبضها إدخال الألم والوجع عليها، بل لينال المنفعة فيها لدفع مضرة بها.
ثم اعلم أن الله تعالى لما أبدع الموجودات واخترع الكائنات، قسمها قسمين اثنين: كليات وجزئيات؛ ورتب الجميع ونظمها مراتب الأعداد المفردات، كما بينا في رسالة المبادئ. وكانت مرتبة الكليات أن جعل الأشرف منها علة لوجود أدونها، وسببا لبقائها ومتمما لها، ومبلغا إلى أقصى غاياتها وأكمل نهاياتها. وكانت مرتبة الجزئيات أن جعل الناقص منها علة للكامل وسببا لبقائه، والأدون منها خادما للأشرف ومعينا ومسخرا له. وبيان ذلك من النبات الجزئي: لما كان أدون رتبة من الحيوان الجزئي وأنقص حالة منه، جعل جسم النبات غذاء لجسم الحيوان ومادة لبقائه، وجعل النفس النباتية في ذلك خادمة للنفس الحيوانية ومسخرة لها. وهكذا أيضا لما كانت رتبة النفس الحيوانية أنقص وأدون من رتبة النفس الإنسانية، جعلت خادمة ومسخرة للنفس الإنسانية الناطقة ... ولما كان بعض الحيوانات أتم خلقة وأكمل صورة، كما بينا قبل هذا، جعلت النفس الناقصة منها خادمة ومسخرة للتامة منها الكاملة، وجعلت أجسادها غذاء ومادة للأجساد الناطقة منها وسببا لبقائها، لتبلغ إلى أتم غاياتها وأكمل نهاياتها، كما جعل جسم النبات غذاء لجسم الحيوان ومادة لبقائه وسببا لكماله» (40: 3، 364-369).
وقد كان لا بد للإخوان في مناقشتهم لمسألة الخير والشر من التعرض للعقائد الثنوية القائلة بوجود أصلين للعالم واحد خير والآخر شرير، فنقدوها على قاعدة فلسفية مكينة في أكثر من موضع في رسائلهم. ومن ذلك قولهم: «اعلم، وفقك الله، أن القائلين بالأصلين طائفتان: إحداهما ترى وتعتقد أن لهما فاعلين أحدهما نور خير، والآخر ظلمة شرير. وهذا رأي زرادشت وماني وأتباعهما وبعض الفلاسفة. والطائفة الأخرى ترى وتعتقد أن إحدى العلتين فاعل، والأخرى منفعل، يعنون به الهيولى. وهذا رأي بعض الحكماء اليونانيين، والذي دعاهم إلى هذا الرأي هو نظرهم إلى الشرور التي تجري بين كل اثنين متنازعين من الناس والحيوان، من القتل والحروب والخصومات والعداوات، وما يحدث بينهما من الأسباب والأحوال. فبهذا الاعتبار قالوا، وبهذا القياس حكموا بأن حدوث العالم كان سببه فاعلين اثنين متنازعين، لكن أحدهما خير والآخر شرير ...
فأما القائلون بأن أحد الأصلين فاعل والآخر منفعل، فإنما دعاهم إلى هذا الرأي ما رأوا أنه يلزم القائلين بالفاعلين من الشنعة والقبح، وما يوجب لهما من العجز والنقص من فعالهما وتناقضهما، وما يقتضي دون ذلك من قلة النظام في تركيب العالم وخلق السماوات، وما يعرض من الفساد العام والبوار الكلي ... وذلك أنهم قد تبينوا نظام العالم، وعرفوا إتقان خلق السماوات مع سعتها وكبر أجزائها وكثرة خلائقها التي هناك، وليس فيها شيء من الفساد والشرور البتة، وأنها كلها على أحسن النظام، وأجود الترتيب والهندام، وأن الشرور لا توجد إلا في عالم الكون والفساد التي تحت فلك القمر، ولا توجد الشرور أيضا في عالم الكون والفساد إلا في النبات والحيوان دون سائر الموجودات، ولا في كل وقت أيضا، ولكن في وقت دون وقت، وأسباب عارضة لا بالقصد الأول من الفاعل، بل من جهة نقص الهيولى وعجز فيه عن قبول الخير في كل وقت أو على كل حال ... ومثال ذلك أن الحكيم منا، في الشاهد، في وده أن يعلم كل علم وكل حكمة يحسنها لأولاده وتلامذته، وأن يجعلهم حكماء فضلاء مثله في أسرع ما يكون، ولكنهم لا يقبلون ذلك إلا على التدريج، وفي ممر الأيام والأوقات شيئا بعد شيء، [وذلك] لنقص فيهم لا لعجز في الحكيم ... والنقص في الكمال يسمى شرا، وليس الشر سوى عدم الخير والتمام والكمال.
فأما القائلون بالعلة الواحدة وأنها قديمة فإنهم نظروا أدق من نظر أولئك وبحثوا أجد من بحثهم وتأملوا غير تأملهم، فرأوا من القبيح الشنيع أن يكون محدث العالم [اثنين] قديمين؛ واعتبارهم وقياسهم كان في ذلك هكذا: [فقد] قالوا لا يخلو الأصلان القديمان من أن يكونا متفقين في كل شيء من المعاني، أو مختلفين في كل المعاني، أو متفقين في شيء ومختلفين في شيء. فإن كانا متفقين في جميع المعاني فواحد [هما] لا اثنان، وإن كانا مختلفين في المعاني فأحدهما عدم، وإن كانا متفقين في شيء ومختلفين في شيء فالشيء الثالث، وقد بطلت المثنوية فيجب أن يكون أصل العالم ثلاثة، والقائلون بالثلاثة أو أكثر لازمة بهم هذه الحكومة والشنيعة أيضا» (42: 3، 462-464).
إذن وفي ظل معتقد التوحيد الإسلامي الصارم الذي يتبناه إخوان الصفاء، لا وجود للشر على المستوى الكوني، وما من أصل قديم للشر، ولا من ملحمة للصراع بين الأصلين، سواء أكانا قديمين أم كان أحدهما قديما والآخر محدثا، وما يبدو لنا من شرور جزئية على المستوى الطبيعي إنما تخدم صالحا عاما وخيرا شموليا، حتى وإن خفيت هذه الغاية أحيانا عن الأفهام. وبهذه النظرة لا يبقى من مجال للصراع بين الخير والشر إلا في النفس الإنسانية، وعلى مستوى الحياة الاجتماعية؛ لأن الإنسان هو الكائن الحر الوحيد المخير بين إتيان الشر أو إتيان الخير. فكيف عالج الإخوان هذه المسألة، وما هو دور إبليس في ذلك كله؟
في العديد من المواضع، وفي أكثر من قصة ومثل مما أورده الإخوان في رسائلهم، تم تصوير إبليس على أنه شخصية مستقلة ذات وجود موضوعي يسعى إلى إغواء البشر ودفعهم إلى إتيان الشرور، وذلك جريا على التفسير الظاهري لآيات القرآن الكريم. ولكنهم في غوصات التأويل لا يرون في إبليس إلا نوازع النفس الشهوانية الغضبية إذا تغلبت على نوازع النفس الناطقة. وليس اندحار إبليس في النهاية إلا تعبيرا عن وصول الإنسانية إلى ذروة ارتقائها في نهاية الزمن، وضعف النفس الشهوية الحائدة عن التقوى، وظهور النفس الناطقة عليها بتأييد من النفس الكلية التي تستعد الآن إلى التخلي عن الطبيعة التي تعلقت بها، والعودة إلى التعلق بالعقل لا يشوبها كدر من علق الطبيعة، فتقبل منه الخير الكلي والجود المحض، مما سنبحثه في فصل الآخرة .
وأما إبليس الروحاني الذي يجري مجرى الدم من ابن آدم، فهو كما قلنا في رسالة الأخلاق إنه منزلة النفس الغضبية الشهوانية الحائدة عن التقوى المعتكفة على شهوات الدنيا، فإنها أيضا في أوان دور الكشف [= نهاية الزمن] تضعف قوتها وتقل شهوتها، وتقهرها النفس الناطقة إذ أيدتها النفس الكلية، بظهور النفس الزكية والإفاضات العقلية وتلاشي الأمور الطبيعية وخراب المحاسن الدنيوية، وحدوث أمر الآخرة والنشأة الثانية والبعث الجديد والقيامة الكبرى، فلا يكون حينئذ نفس حيوانية؛ فذلك أن الحيوان لا يكون في مثل ذلك الزمان ... وأنه يترقى على التدريج حتى يلحق التمام. وعند بلوغ الأشياء إلى تمامها، وكونها على أفضل حالاتها وأتم نهاياتها في الفضائل، تتخلى النفس عن الطبيعة دفعة واحدة وترجع إلى التعلق بالعقل لا يشوبها كدر يعلق بها من علق الطبيعة، ولا عائق يعوقها، فتقبل منه الفيض الكلي والجود المحض ...
ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عن إبليس لما قال: ... فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين
22
عنى بهم الذين تخلصت أنفسهم الناطقة من أنفسهم الغضبية وقهروها ... قال:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان .
23
وكل من غلب هواه على عقله فهو إبليس، وكل من أطاع نفسه الغضبية وداخلته الحمية الجاهلية والعصبية للباطل فهو شيطان ... تفقد يا أخي هذا الباب وانظر كيف تغلقه عمن استوجب إغلاقه دونه وتفتحه لمن استحق دخوله ... ولا تكشفه إلا لأهله ولا تظهره إلا لمستحقه بعد مؤكدات العهود ومعقدات المواثيق، وإلا هلكت وأهلكت ... فإن الجاهل عدو للعلم، ومن جهل شيئا عاداه» (جا: 39-40). وأيضا: «النفس الناطقة هي رئيسة الجسد ... وإن معها مقارنا لها يغويها ويخدعها، ويجذبها إلى شهوات الطبيعة ولذاتها، ويدعوها إلى كل ما نهيت عنه، وتناول ما حذرت منه وحظر عليها تناوله، وأمرها ربها بالبعد عنه والتخلي عنه، وأن لا تقربه ولا تدنو إليه إلا بقدر الحاجة إليه وما لا غناء لها عنه؛ وكانت الطبيعة ولذاتها الحسية، والانهماك في رقدة الجهالة ونومة الغفلة، وهي الشجرة المنهي عن قربها والممنوع من أكلها، وقد حذر عنها في بدء الأمر وزجر عنها بتبليغ الذكر. وكانت النفس الناطقة في هذا الموضع مثل آدم، وكانت النفس الشهوانية مثل إبليس الغوي المغوي. ولذلك أنه متى انخضعت النفس الناطقة للنفس الغضبية، وقبلت منها وسارعت إلى شهواتها وانهمكت في لذاتها، وقعت في الخطيئة، وفارقتها الأنوار العقلية وانكشفت عورتها، ونزع عنها لباس التقوى، واستوجبت العقوبة والهوان. كما قيل: إن إبليس كان أكثر همه وأشد عزمه لما أضمره لآدم هو أن يوقعه في الخطيئة ليزول عنه لباسه، ويسخط عليه ربه، وكذلك حال النفس الشهوانية مع النفس الناطقة. ولذلك قال الحكيم الناطق، النبي الصادق: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. [وقد] عنى بالجهاد الأصغر جهاد السيف للعدو والمخالف، وبالجهاد الأكبر مجاهدة النفوس الناطقة للنفوس الشهوانية الغضبية. فتأمل يا أخي هذا القول فإنه يؤيد ما ذكرناه» (جا: 64-65). «قال العالم المستبصر لأخ له من أبناء جنسه فيما جرى بينهما من المذاكرة في أمر الشياطين وعداواتهم: كيف عرفت الشياطين ووساوسهم؟ قال: إني لما نشأت وتربيت، وشدوت من الآداب طرفا، وأخذت من العلم نصيبا ... تبينت ما يجب علي من أحكام الناموس ... ثم قمت بواجبها جهدي وطاقتي بحسب ما وفقت له ... ثم تفكرت في قول الله تعالى:
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ...
24
وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى، وتفكرت في قول النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر؛ يعني مجاهدة النفس ... وفكرت في قوله عليه السلام: لكل إنسان شيطانان يغويانه ... وقوله: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ... وآيات كثيرة في القرآن في مثل هذا المعنى وأحاديث مروية أيضا ... ثم تأملت وبحثت ودققت النظر، فوجدت حقيقة معنى الشياطين، وكثرة جنود إبليس اللعين أجمعين، ومخالفتهم بني آدم، وعداوتهم لهم ووساوسهم إياهم، هي أمور باطنة وأسرار خفية مركوزة في الجبلة، مطبوعة في الخليقة، وهي الأخلاق الرديئة، والطباع المذمومة المنتشئة منذ الصبا مع الإنسان بالجهالات المتراكمة ... المنسوبة إلى النفس الشهوانية والنفس الغضبية. ثم تأملت ونظرت، فوجدت الخطاب في الأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم متوجها كله إلى النفس الناطقة العاقلة المميزة المستبصرة، ووجدتها هي بما توصف من الأخلاق الجميلة والمعارف الحقيقية والآراء الصحيحة والأعمال الزكية ملكا من الملائكة، بالإضافة إلى النفس الشهوانية الغضبية جميعا. ووجدت هاتين النفسين، أعني الشهوانية والغضبية، بما توصفان به من الجهالات المتراكمة والأخلاق المذمومة والطباع المركوزة والأفعال القبيحة التي لهما بلا فكر ولا روية كأنهما شيطانان بالإضافة إلى النفس الناطقة ...» (9: 1، 364-366).
هذا الشيطان الداخلي عند الإنسان، هو شيطان بالقوة، أي بالإمكان، ولكنه يتحول إلى شيطان بالفعل إذا حضرت المنية ولم يستكمل هذا الإنسان عملية الارتقاء وقهر النفس الشهوانية الغضبية: «إن في العالم نفوسا أفعالها ظاهرة وذواتها خفية يسمون الروحانين، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين. فأجناس الملائكة هي نفوس خيرة موكلة بحفظ العالم وصلاح الخليقة، وقد كانت متجسدة قبل وقتا من الزمان [في أجسام بشرية] فتهذبت واستبصرت وفارقت أجسادها واستقلت بذاتها وفازت ونجت، وساحت في فضاء الأفلاك وسعة السماوات، فهي مغتبطة فرحانة مسرورة ملتذة ما دامت السماوات والأرض. وأما عفاريت الجن ومردة الشياطين، فهي نفوس شريرة مفسدة، وقد كانت متجسدة قبل وقتا من الزمان [في أجسام بشرية] فارقت أجسادها غير مستبصرة ولا متهذبة ... فهي سابحة في ظلمات بحر الهيولى، غائصة في قعر من الأجسام المظلمة ...» (30: 1، 142-143).
وأيضا: «اعلم أن النفوس المتجسدة الخيرة ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل ... كذلك النفوس المتجسدة الشريرة هي شياطين بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل. فهذه النفوس الشيطانية بالفعل توسوس للنفوس الشيطانية بالقوة لتخرجها إلى الفعل، كما قال تعالى: ... شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ...
25
فشياطين الإنس هي النفوس المتجسدة الشريرة آنست بالأجساد، وشياطين الجن هي النفوس الشريرة المفارقة للأجسام المحتجبة عن الأبصار. ومثل وسوسة هذه النفوس المفارقة لهذه النفوس المتجسدة، كمثل من قويت شهوته للطعام والشراب، وضعفت حرارته الهاضمة عن نضجها، فهو يشتهي ولا يستمرئ، فعند ذلك تكون همته أن يرى الطعام والآكلين لينظر إليهم، فيستريح عنها لضعف الآلة وبطلان فعل القوة ... وهذه حكم النفوس المفارقة ليست لها آلة تنال بها اللذات المحسوسة، فهي تحب وتوسوس إلى أبناء جنسها ممن لها تلك الآلة على الفعل» (30: 3، 81). فشياطين الجن إذن لا توسوس إلا لشياطين الإنس من أبناء جنسها، وليس لها من سلطان على عباد الله الصالحين وهم الذين أشار إليهم بقوله تعالى:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ...
26
وقوله:
إلا عبادك منهم المخلصين »
27 (جا: 66). وهذه النفوس المفارقة الشريرة تكون مشغولة بتأييد النفوس الشريرة المتجسدة، مثلما تكون النفوس الكاملة المفارقة مشغولة بتأييد النفوس الصالحة المتجسدة لكيما تتم هذه وتكمل تلك، وتتخلص هذه من حال النقص وتبلغ تلك إلى حال الكمال، وترتقي هذه المؤيدة أيضا إلى حالة هي أكمل وأشرف وأعلى» (40: 3، 371).
ويرى إخوان الصفاء، في النهاية، أن الاعتقاد بوجود إبليس باعتباره شخصية موضوعية مجسدة للشر، هو من الآراء الفاسدة التي لا بد للمؤمن الحق من التخلي عنها: «ومن الآراء الفاسدة من يعتقد أن الله خلق خلقا ورباه وأنماه وأنشأه، وسلطه وقواه على عباده متمكنا في بلاده، ثم ناصبه بالعداوة والبغضاء، وهو إبليس وجنوده من الشياطين، وهم يفعلون ما يريدون على رغم منه، وهو الجاعل لهم المشيئة والإرادة والعداوة والاستطاعة وطول العمر والمهلة وسعة الرزق والنعمة. فإن صاحب هذا الرأي إذا فكر في أمر إبليس وجنوده، وما نسب إليه من الشرور، وما يعتقده من مخالفتهم لله وعداوتهم، فإنه امتلأ منهم غيظا وحقدا عليهم وناصبهم العداوة والبغضاء، حتى إنه لو أنه أمكنه قتلهم كلهم ... وإذا لم يقدر على ذلك بقي طول عمره مغتاظا مغتما متألما نفسه معذبا قلبه؛ حتى إنه ربما فكر في خلق الله لهم وتربيته إياهم وسعة رزقه عليهم وتمكينه لهم فيما يفعلون وإمهاله لهم، فعاتب ربه في الضمير وخاصمه في السر، ويقول: لم خلقهم، ولم رباهم ورزقهم، ولم مكنهم وسلطهم ... وما شاكل هذه الوساوس والظنون الموبقة المؤلمة لنفوس المعترضين على الله في تدبير خلقه» (42: 3، 528-529).
الفصل الخامس
الآخرة والنشأة الثانية
في الدنيا والآخرة وحكمة الموت
إن الغاية التي تسعى إليها الحياة هي الموت، والدنيا ليست إلا عارضا مؤقتا في الطريق إلى الآخرة، وليس الكدح العرفاني للإنسان إلا تهيئة للموت الذي هو ولادة ثانية. فإذا كانت الولادة الأولى من الرحم ولادة للجسد الفاني، فإن الولادة الثانية بالموت هي ولادة للروح: «واعلم يا أخي ... أن الدنيا والآخرة هما داران متقابلتان، واسماهما مضادان، ومعناهما وحقيقتهما وصفتهما مختلفات متضادات؛ إحداهما كالقشرة وهي الدنيا، والأخرى كاللب وهي الآخرة ... أما الدنيا فاسمها مشتق من الدنو والقرب، والآخرة من التأخر؛ وأما حقيقتهما، فالدنيا هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم ولادة الجسد إلى يوم الممات الذي هو ولادة النفس ومفارقتها إياه، والآخرة هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم الممات ومفارقة النفس الجسد إلى ما بعدها أبد الآبدين ودهر الداهرين.
واعلم يا أخي بأن الله، جل ثناؤه، سمى الحياة الدنيا عرضا ومتاعا إلى حين؛ لأن كون الإنسان في الدنيا عارض عرض في طريق الآخرة، ولم يكن القصد والغرض المقام فيها، كما أن الغرض في الكون في الرحم لم يكن الغرض والقصد [منه] طول المكث والمقام هناك، ولكن طريقا وجوازا إلى الدنيا؛ فكذلك كون النفس في هذا الجسد، هو سفينة ومركوب ومعبر إلى الدار الآخرة. وذلك أنه لم يكن الورود إلى الدنيا [ممكنا] دون الكون هنالك [أي في الرحم] زمانا لتتميم بنية الجسد وتكميل صورته، كما بينا في رسالة مسقط النطفة، فهكذا أيضا حكم المكث في الدنيا والكون فيها زمانا هو طريق وجواز إلى ما بعدها؛ وذلك أنه لم يمكن الورود إلى الدار الآخرة دون الجواز على الدنيا والكون فيها زمانا ما لكيما تتم أحوال النفس وتكمل فضائلها ...
اعلموا أيها الناس إنكم إنما خلقتم للأبد، ولكن من دار إلى دار تنقلون، ومن الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الجنة أو إلى النار، كما ذكر الله، عز وجل، بقوله:
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون
1
وآيات كثيرة في القرآن في التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، مثل قوله تعالى: ... وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ...
2 [= الحياة] ...
واعلم يا أخي بأن الله، جل ثناؤه، سمى الدار الآخرة الحيوان؛ لأنها عالم الأرواح ومعدن النفوس، والدنيا عالم الأجسام، وجواهر الأجسام موات بطبائعها، وإنما تكسبها الحياة النفوس والأرواح بكونها فيها ومعها، كما تكسب الشمس الهواء النور والضياء بإشراقها عليه» (9: 1، 328-330).
وأيضا: «... وقد تبين مما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم تسعة أشهر إنما هو لكيما تتم البنية، وتستكمل الصورة، وتفيض عليها قوى الأشخاص الفلكية. ولو أمكن تتميمها وتكميلها في يوم واحد لما تركت هناك يومين، ولو أمكن في شهرين. قد يعرف كل عاقل أن من يولد غير تام البنية ولا كامل الصورة، لا ينتفع في هذه الدنيا ونعيمها، ولا يتلذذ ولا يتمتع بلذاتها على التمام والكمال، ولم يزل شقيا منغص العيش، مبتلى كالزمنى [= أصحاب العاهات] والمفاليج والناقصي الخلقة الغير تامي الصورة. فهكذا الحكم والقياس في الدار الآخرة بعد الموت. وذلك أن الإنسان إنما يترك في هذه الدنيا مقدار ما يمكنه تتميم أحوال نفسه مع الجسد ... وتكمل فضائلها بالكون في الدنيا ... فإذا فارقت النفس الجسد عند الموت الذي هو ولادة ثانية، انتفعت بالحياة في الدار الآخرة، ويمكنها الصعود إلى ملكوت السماوات، كما قال المسيح عليه السلام: من لم يولد ولادتين لا يلج في ملكوت السماء» (25: 2، 442-443). «اعلم أن الجسد ميت بجوهره، وأن حياته عرضية لمجاورة النفس إياه، كما أن الهواء مظلم بجوهره، وإنما ضياؤه بإشراق نور الشمس عليه والقمر والكواكب. والدليل على أن الجسد ميت بجوهره ما يرى من حاله بعد مفارقة النفس له كيف يتغير ويفسد ويتلاشى ويرجع إلى التراب كما كان بدئيا:
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ... .
3
اعلم أنما ربطت الأنفس الجزئية [بالجسد الجزئي] كيما تكمل بالرياضة وتخرج ما في جوهرها من الحكمة والصنائع والفضائل من حد القوة إلى حد الفعل، لتتم الهيولى الجزئية، وتكمل هي أيضا، ويتشبه ذلك الجزء بالكل، وهو أن تتعلم النفس الجزئية السياسة والتدبير والتهذيب بالأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة، والأعمال الزكية والمعارف الحقيقية. وهكذا تشبه الجزء بالكل ، كما قيل في حد الحكمة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
وإذا بلغت النفس الإنسانية إلى أقصى مدى غاياتها ، وكملت بما أظهرت من الفضائل، وهدم الجسد، نقلت هذه الأنفس بعد مفارقة الجسد إلى حالة أخرى ونشوء آخر أعلى وأشرف من هذا الجسد المؤلف من اللحم والدم والأخلاط الأربعة القابلة للكون والفساد ...
ثم اعلم أن النفس لا تحس تلك الحال التي تنقل إليها إلا بعد مفارقة الجسد، كما أن الجنين لا يحس بأحوال هذه الدنيا إلا بعد الولادة. فمن أجل هذا قال النبي صلى الله عليه وآله: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ... فإذا جاءت سكرة الموت بالحق، التي هي مفارقة النفس الجسد، وعاينت الحقيقة التي كانوا بها يوعدون كما قال الله تعالى: ... فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد .
4
وقال لنبيه، عليه السلام:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
5
يعني الموت بعد مفارقة الجسد. وقال:
كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون
6
فإذن الموت حكمة؛ إذ لا رجوع لها إلى ربها الرحمن الرحيم إلا بعد الموت، ولا وصول للنفس إلى ما وعد الله ورسوله إلا بعد مفارقتها الجسد ...
اعلم بأن لكل كون ونشوء أولا وابتداء، وله غاية ونهاية إليها يرتقي، ولغايتها ثمرة تجتنى. فمسقط النطفة كون قد ابتدئ، وغايته الولادة التي إليها المنتهى، والولادة أيضا كون قد ابتدئ، والموت غايته التي إليها المنتهى. وكما أن ثمرة مسقط النطفة لا تكون إلا بعد الولادة؛ لأن الطفل لا يتمتع إلا بعد الولادة، فهكذا النفس لا تتمتع إلا بعد مفارقة الجسد؛ لأن موت الجسد ولادة النفس وهي الروح ...
واعلم يا أخي أن مثل النفس مع الجسد كمثل الصبي في المكتب؛ ليتعلم ويتأدب ويرتاض، فإذا تعلم وأحكم ذلك فليس حال أخرى إلا الخروج من المكتب والانتفاع بما حصل في المكتب؛ لأنه قد تم ما يراد منه وبقي الإكرام والمجازاة. فهكذا حكم النفس مع الجسد إذا أحكمت ما يراد منها بكونها معه، ليس من طريقة إلا المفارقة. وكما أن الصبي إذا أحكم ما يراد منه في المكتب، استغنى عن حمل اللوح والدواة والمداد والقلم ... فهكذا حكم النفس مع الجسد إذا هي أحكمت أمر المحسوسات بطريق الحواس، وأمر المعقولات بطريق الفكر والروية، وعرفت حقائق أمور هذا العالم من الكون والفساد، وارتقت بعد ذلك بطريق الرياضيات التي هي البراهين إلى معرفة الأمور الغائبة عن الحواس، وارتاضت فيها وعرفتها حق معرفتها، واستبان لها أمر عالمها ومبدئها ومعادها، وعاينت بعين البصيرة أحوال أبناء جنسها من السابقين الذين مضوا على سنن الهدى، وارتقوا إلى ملكوت السماء وفسحة الأفلاك وسعتها، اشتاقت هي عند ذلك الصعود إلى هناك واللحاق بأبناء جنسها، ولا يمكنها ذلك بهذا الجسد الثقيل إلا بتركها ومفارقتها إياه، وهو الموت. فلو لم يكن الموت لكانت ممنوعة من الوصول إلى هناك. فإذن الموت حكمة ونعمة ورحمة وفضل ورضوان من الله عز وجل للنفوس المخيرة المستبصرة» (29: 3، 40-43).
وللإخوان في ذلك تشبيهات أخرى؛ فملاك الموت في قبضه للأرواح إنما يعبر بها من دار إلى دار، ويساعد على ولادتها الجديدة في الحياة الثانية، فهو بمثابة قابلة الأرواح، ومهمته تشبه مهمة قابلة الأجساد التي تساعد النساء على الوضع والولادة. والنفوس تشبه الدر بينما تشبه الأجساد الصدف ... وما الموت إلا استخراج الدرة من الصدفة ليستأنف بها أمر آخر إذا رمي بالصدف وحصل الدر. والنفوس أيضا تشبه لب الحب إذا نضجت السنابل وآن أوان الحصاد، حيث يرمى بقشورها ويحصل لبها ويستأنف بها أمر آخر. (5: 1، 211-212).
ويورد الإخوان الحوار الآتي في ذم الدنيا ومدح الآخرة: «ويحكى عن بعض من كان يعتقد هذا الرأي أنه لقي أخا من رأيه فقال له: كيف أصبحت يا أخي، وكيف حالك من الدنيا؟ قال: بخير، ونرجو خيرا من هذا إن سلمنا من آفاتها وبلياتها، إن شاء الله تعالى؛ فكيف أنت وكيف حالك؟ قال ... أصبحنا في الدنيا معذبين في صورة المنعمين، مجبورين في صورة المختارين، مغرورين في صورة المغبوطين، أحرارا كراما في صورة عبيد مهانين، مسلطا علينا خمسة حكام يسوموننا سوء العذاب، ينفذون أحكامهم علينا شئنا أم أبينا، ليست لنا حيلة في الخروج عن أحكامهم، ولا دفع سلطانهم ، ولا الخلاص من جورهم إلى الممات.
قال: أخبرني من هؤلاء الحكام؟ قال: نعم. أولهم هذا الفلك الدوار الذي نحن في جوفه محبوسون، وكواكبه السيارة لا تزال تدور علينا ليلا ونهارا لا تقر، تارة تجيئنا بالليل وظلمته، وتارة بالنهار وحرارته، وتارة بالصيف وسمائمه، وتارة بالشتاء وزمهريره، وتارة بالرياح والعواصف في زعازعها، وتارة بالغيوم وأمطارها، وتارة بالرعود والزوابع وصواعقها، وتارة بالجدب والغلاء والموتان والبلاء، وتارة بالحروب والفتن، وتارة بالهموم والأحزان. ليس منها نجاة إلا بجهد وبلوى، وكدر وعناء، وخوف ورجاء إلى الممات. ثم قال: فهذا واحد.
وأما الآخر، فهو هذه الطبيعة وأمورها المركوزة في الجبلة، من حرارة الجوع، ولب العطش، ونار الشبق، وحريق الشهوات والآلام، والأمراض والأسقام، وكثرة الحاجات، وليس لنا شغل ليلا ولا نهارا إلا طلب الحيلة لجر المنفعة، أو لدفع المضرة عن هذه الأجساد المستحيلة [= المتغيرة] التي لا تقف على حالة واحدة طرفة عين، فنفوسنا منها في جهد وبلاء، وكد وعناء، وبؤس وشقاء. ليس لنا راحة إلى الممات. فهذا اثنان.
وأما الثالث فهو هذا الناموس، وأحكامه وحدوده، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، وزجره وتهديده وتوبيخه؛ إن خرجنا من أحكامه ضرب الرقاب والحدود، وإن فررنا منه لم نجد لذة في العيش ولا صلاح الوجود في الوحدة، وإن دخلنا تحت أحكامه فما نقاسي من الجهد والبلوى في إقامة حدوده أكثر مما يحصى، من ألم الجوع عند الصيام، وتعب الأبدان عند القيام بالصلاة، ومقاساة برد الماء عند الطهارات، ومجاهدة شح النفوس عند إخراج الزكاة والصدقات الواجبات، ومشقة الأسفار والأحكام عند قضاء الحج والجهاد؛ وما نقاسي من الألم عند ترك اللذات والشهوات المحرمات؛ وإن لم نأتمر ولم ننته، فالحدود والأحكام بحسب الجنايات. ومع هذه كلها
كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذ عن النعيم .
7
فهذه حالنا، ليس لنا منها خلاص ولا نجاة إلى الممات. فهذه ثلاثة.
وأما الرابع، فهذا السلطان المسلط الجائر الذي قد ملك رقاب الناس بالقهر والغلبة، واستعبدهم جبرا وكرها، يتحكم عليهم كما يشاء، ويرفع ويكرم من يريد ممن يخدمه ويطيعه، ويتصرف بين يديه ويمتثل أمره ونهيه، ويضع ويبعد من خالفه، ويعذب ويقتل من خانه أو غشه. فإذا خرجنا من مملكته، وفررنا من سلطانه، لا عيش لنا في الوجود في هذه الدنيا إلا عيشا نكدا ... وإن خدمناه وقمنا بواجب طاعته، فما نقاسي من الجهد والبلوى أكثر مما يحصى ... فهذه أربعة.
وأما الخامس، فهو شدة الحاجة إلى المواد التي لا قوام لهذا الهيكل إلا بها، من المأكولات والمشروبات واللباس والمسكن والمركب والأثاث ... وما نقاسي من الجهد والبلوى في طلبها ليلنا ونهارنا، في تعلم الصنائع والتجارات المتعبة، والمكاسب الكدة من الحرث والزرع، والبيع والشراء، والمناقشة في الحساب، والحرص والشره، وجمع الأموال وحفظها من حيل اللصوص ومكابرة القطاع، وأخذ السلطان لها بالجور والظلم، وحراستها من الآفات العارضة التي لا يحصى عددها. كل ذلك بالكد والعناء، والهموم والغموم، وتعب الأبدان، وعناء الأرواح، وشقاء النفوس التي لا راحة لنا منها إلى الممات.
فهذه حالنا يا أخي، وحال أبناء جنسنا في هذه الحياة الدنيا. فأما من يريد المقام في الدنيا، ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها، فهو من أجل إحدى خلتين: إما أنه لا يؤمن بالآخرة ولا يصدق بالمعاد، ولا يتصور الوجود إلا هكذا، ويظن ويتوهم أن بعد الموت عدما أو شرا محضا، فمن أجل هذا الرأي وهذا الاعتقاد يريد المقام في الدنيا ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها. ويكون معذورا في تمنيه وإرادته الخلود؛ لأن في جبلة الخلائق وفي طبائع الموجودات محبة البقاء وكراهية الفناء. فمن أجل هذه الخصال والشرائط يرضى أكثر أبناء الدنيا المقام فيها ويتمنون الخلود.
أما من قد تصور كيفية الدار الآخرة، وتحقق أمر المعاد، وعرف فضلها وشرفها وسرورها ولذاتها ونعيمها، فأي عذر له في التمني للخلود في الدنيا، مع ما قد عرف من آفاتها وشرورها، وأحزانها ومصائبها وبلياتها. فاجتهد يا أخي في طلب معرفة الدار الآخرة، وحقيقة أمر المعاد، لكيما تساق نفسك إليها، بعد الفراق، مع أهلك زمرا ، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله:
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ... »
8 (38: 3، 305-309).
9
في البعث والقيامة الصغرى
إن أفكار إخوان الصفاء في البعث وقيامة النفس، وما يتصل بذلك من ثواب وعذاب وجنة ونار، على جانب من الغموض، بسبب محاولتهم التوفيق بين التفسير الظاهري الحرفي والتفسير الباطني لآيات القرآن. وهم يقولون: إن هذا العلم خاف عن أهل التقليد الذين يأخذونه تسليما وتصديقا، وإن أهل الحكمة والعرفان وحدهم من يعرف حقيقته. وبشكل عام، وعلى الرغم من كل محاولاتهم التوفيقية، فإن أفكار إخوان الصفاء في مسألة البعث والقيامة الصغرى التي هي قيامة الفرد إذا مات، تلتزم الخط الغنوصي الواضح، حيث يتركز إيمانهم على بعث النفس وقيامتها لا على بعث الجسد الفاني. ويبلغ تأويلهم ذروته في تصوراتهم عن الجنة والنار والحساب والثواب والعقاب، على ما سنراه في حينه: «اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلوم كثيرة وكلها شريفة، وفي معرفتها عزة، وفي طلبها نجاة من الهلكة، ونيلها حياة للنفوس وراحة للقلوب ... ولكن بعض العلوم أشرف من بعض، وأهلها يتفاضلون. وذلك أن أفضل العلماء هم أهل الدين والورع الذين هم من أمر الآخرة على يقين وبصيرة لا على تقليد ورواية. واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن معرفة حقيقة الآخرة والعلم بالمعاد محجوب عن إبليس وذريته المنكرين لما غاب عن رؤية الأبصار، و[محجوب] عن أهل التقليد الذين لا يعرفون حقيقة ما هم مقرون به من أمر الآخرة والبعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط والمعاد والجزاء هناك ... لأن هذا العلم هو لب الألباب، وسر لأولياء الله دون سواهم ... ونريد أن نلوح من هذا العلم طرفا في هذه الرسالة الجليلة القدر [رسالة البعث والقيامة] بإشارات مرموزة، وأمثال مضروبة للمريدين لله عز وجل، الطالبين دار الآخرة؛ إذ كان الإخبار عن حقيقتها يدق عن البيان، ويبعد عن التصور بالأفكار والتخيل بالأوهام، إلا لأنفس زاكية وأرواح طاهرة وقلوب واعية وآذان سامعة ...
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الذين أنكروا أمر البعث والقيامة ... وما شاكل هذه الأمور المذكورة في كتب الأنبياء عليهم السلام، لشكوك في نفوسهم وحيرة في قلوبهم. والعلة في ذلك طلبهم حقيقة معرفتها ، وكيفيتها وأبنيتها وماهيتها وكميتها، قبل معرفتهم أنفسهم وحقيقة جوهرها، وكيفية كونها مع الجسد، ولم ربطت به وقتا ما ... ومن أين كان مبدؤها، وإلى أين يكون معادها بعد مفارقتها جسدها. وهذه المباحث علم غامض وسر لطيف، ليس إليها طريق للمبتدئين في العلوم الحكمية إلا التسليم والإيمان والتصديق للمخبرين عنها الصادقين عن الله، جل ثناؤه، الذين أخذوا هذا العلم عن الملائكة وحيا وإلهاما بتأييد من الله، جل ثناؤه.
وأما الذين لا يرضون أن يأخذوا هذا العلم تسليما وتصديقا، بل يريدون براهين عقلية وحججا فلسفية، فيحتاجون إلى أن تكون لهم نفوس زكية وقلوب صافية، وأذن واعية وأخلاق طاهرة، وأن يكونوا غير متعصبين في الآراء والمذاهب المختلفة، ومع ذلك يكونون قد ارتاضوا في الرياضيات الفلسفية من علم العدد والهندسة والمنطق والطبيعيات، ثم نظروا في العلوم الإلهيات ...
ثم اعلم يا أخي أن معنى القيامة مشتق من قام يقوم قياما، والهاء فيه للمبالغة، وهي [أي القيامة] من قيامة النفس من وقوعها في بلائها. والبعث هو انبعاثها وانتباهها من نوم غفلتها ورقدة جهالتها. وهي بالفارسية رست خيزاي [أي] قياما مستويا ...
واعلم يا أخي بأن الناس في أمر الآخرة على رأيين ومذهبين: فطائفة مقرة بها، وطائفة منكرة. فالمنكرون أمر الآخرة هم الذين يظنون أن حكم الإنسان بعد الممات كحكم النبات والحيوان ... فقالوا: ... نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ... .
10
فقال الله تعالى: ... ما لهم بذلك من علم ...
11
لأنهم لو سئلوا ما الدهر، لعجزوا عما هو الدهر في البيان، وما دروا ما الدهر.
واعلم يا أخي أن المقرين بالآخرة طائفتان من الناس: إحداهما الذين يقرون بها بألسنتهم من غير تصور منهم لها بقلوبهم، ولا معرفة بحقيقتها بعقولهم؛ فإقرارهم إيمان يسلم لقول الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وتقليد لهم فيما يقولون ويخبرونهم عنها. والطائفة الأخرى الذين هم مع إقرارهم بها وتصديقهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، متصورون لها بقلوبهم عارفون حقيقتها بعقولهم. وقد مدح الله تعالى كلا الطائفتين جميعا وأثنى عليهم بقوله: ... يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ...
12
ولكن فضل الله إحداهما على الأخرى بقوله: ... هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ... .
13
واعلم يا أخي أن العلم هو تصور الشيء على حقيقته وصحته، فأما الإيمان فهو الإقرار بذلك الشيء والتصديق لقول المخبرين عنه من غير تصور له. فالأنبياء، عليهم السلام، وأولياؤهم هم المخبرون عن الآخرة، المتصورون لها بقلوبهم، والعارفون حقيقتها بعقولهم. والمؤمنون هم المقرون بالآخرة بألسنتهم، المصدقون الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، في إخبارهم، المنتظرون لكشفها لهم.
واعلم يا أخي أن المنتظرين لأمر الآخرة طائفتان من الناس: إحداهما ينتظرون كونها وحدوثها في الزمان المستقبل، عند خراب السماوات والأرضين، وهم لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا من الجواهر إلا الجسمانيات، ولا من أحوالها إلا ما ظهر. والطائفة الأخرى ينتظرونها كشفا وبيانا واطلاعا عليها، وهم الذين يعرفون الأمور العقولة والجواهر الروحانية والحالات النفسانية ...
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أفضل مناقب العقلاء كثرة العلوم والمعارف؛ وأن من أشرف العلوم وأجل المعارف التي يبلغها العقلاء العلماء، ويهدي الله أولياءه إليها من المؤمنين المصدقين ويكرمهم بها، [هو] علم البعث، ومعرفة حقيقة القيامة وكيفية تصاريف أحوالها. وقد ذكر الله سبحانه في القرآن تصاريف أحوالها في نحو من ألف وسبعمائة آية، وأشار إليها بأوصاف شتى وإشارات مفننة، مثل قوله تعالى يوم القيامة: «ويوم يبعثون» «ويوم الدين» «ويوم الفصل» «ويوم التغابن» ... وما شاكل هذه الأوصاف والإشارات التي قد تاهت عقول أكثر العلماء في طلب حقائقها وتصور كيفياتها بكنه صفاتها، ولا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم من أولياء الله وأصفيائه الذين يقولون: ... كل من عند ربنا ...
14 ... ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ...
15 ... فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ...
16 ... وهم من خشيته مشفقون
17 ...
ونريد أن نلوح من هذا السر طرفا، ونشير إليه إشارة ما؛ إذ لا يجوز التصريح به، اقتداء بسنة الله عز وجل: ... والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
18
وقال عليه السلام: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. إشارة إلى مثل هؤلاء القوم الذين هم ظالم لنفسه.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما كان العقلاء متفاوتي الدرجات في ذكاء نفوسهم وصفاء أذهانهم وجودة تمييزهم، صاروا أيضا متفاوتي الدرجات في العلوم والمعارف. ولما كان الأمر كما وصفنا، لم يكن [لهم] أن يخاطبوا بصريح الحقائق خطابا واحدا، إلا بألفاظ مشتركة المعاني، ليحمل كل ذي لب وعقل وتمييز بحسب طاقته واتساعه في المعارف والعلوم، كما ذكر الله، جل ثناؤه، بقوله على سبيل المثال:
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ...
19
قال المفسرون: معنى هذه الآية وتأويلها أنه أنزل القرآن من السماء إلى الأرض كما أنزل المطر من الغيم، فاحتملت القلوب من علم القرآن بحسب اتساعها في المعارف وصفاء جواهر النفوس، كما تحمل الأودية من سيل المطر بحسب سعتها وجريانها. ثم أفهم أن لفظ القلب [هنا] ليس هو قطعة لحم صنوبري الشكل، المعلقة من الصدر الموجود في أكثر الحيوانات، وليس المراد بالقلب ها هنا ذاك، بل مراد إخواننا أمر وراء ذلك وهي النفس.
واعلم يا أخي أن لفظ البعث اسم مشترك في اللغة العربية يحمل ثلاثة معان: فمنها قول القائل: بعثت، يعني أرسلت، كما قال الله تعالى: ... فبعث الله النبيين ...
20
يعني أرسلهم. ومنها ما يكون معنى البعث هو بعث الأجساد الميتة من القبور ونشر الأبدان من التراب، كما وعد الكفار والمنكرين بقولهم:
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أوآباؤنا الأولون
21
قال الله تعالى:
قل نعم ...
22
ومنها بعث النفوس الجاهلة من نوم الغفلة وإحياؤها من موت الجهالة، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله:
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ...
23
وقوله تعالى:
ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون
24 ...
واعلم يا أخي أن من لا يوقن ببعث الأجساد ولا يتصوره، فليس من الحكمة أن يخاطب ببعث النفوس؛ لأن بعث الأجساد يمكن تصوره ويقرب فهمه وعلمه ، فأما من لا يقر به ولا يتصوره، فهو لبعث النفوس أنكر وبه أجهل، ومن تصوره أبعد؛ لأن بعث النفوس هو من علم الخواص، ولا يتصوره إلا المرتاضون بالعلوم الإلهية والمعارف الربانية. وإنما وعد الكفار أن يبعث أجسادهم ليوافقهم على تكذيبهم ويجازيهم بسوء أفعالهم، ووعد الله المؤمنين أن يحيي نفوسهم ويبعث أرواحهم؛ ليجازيهم على حسناتهم ويثيبهم بأعمالهم. فلا تكن يا أخي ممن ينتظر بعث الأجساد ويؤمل نشر الأبدان، فإن ذلك ظلم عظيم في حقك إذا كنت تتوهم ذلك. ولكن إن استوى لك، فكن من الذين ينتظرون بعث النفوس، ويؤملون حياتها ووصولها إلى عالمها الروحاني ودار قرارها الحيواني.»
أي إن النفوس الخاطئة هي التي ترد إلى أجسادها مرة أخرى، أما النفوس الناجية فقد تخلصت من عبء أجسادها إلى الأبد: «واعلم يا أخي أن بعث الأجساد من القبور الدراسات وقيامها من التراب، إنما يكون ذلك إذا ردت إليها تلك النفوس والأرواح التي كانت متعلقة بها وقتا من الزمان، فيما سلف من الدهر، فتنتعش تلك الأجساد، وتحيا تلك الأبدان، وتتحرك وتحس بعدما كانت جمودا، ثم تحشر وتحاسب وتجازى؛ لأن الغرض من البعث هو المجازاة والمكافأة.
واعلم يا أخي أن رد النفوس الناجية إلى الأجسام، الفانية في التراب من الرأس، ربما يكون موتا لها في الجهالة، واستغراقا في ظلمات الأجسام، وحبسا في أسر الطبيعة وغرقا في بحر الهيولى. فأما بعث النفوس وقيام الأرواح، فهو الانتباه من نوم الغفلة واليقظة من رقدة الجهالة، والحياة بروح المعارف ... والرجوع إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني ...» (مقاطع مختارة من الرسالة 38: 3، 287-301). «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علم الإنسان المعلومات: بعضها بطريق الحواس، وبعضها بطريق السمع والروايات والأخبار، وبعضها بطريق الفكر والروية والتأمل والعقل الغريزي، وبعضها بطريق الوحي والإلهام، وبعضها بطريق القياس والاستدلال، وهو العقل المكتسب. وبهذا العقل يفتخر العلماء، وبه يتفاضل الحكماء والفلاسفة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا طلبت علم البعث ومعرفة حقيقة القيامة وما يوصف من أحوالها، فليست تخلو معرفتها من أحد هذه الطرق التي تقدم ذكرها. فإن أردت أن تعرفها بطريق القياس والبرهان، فأعمل هذه المسألة وابحث كما يعمل أصحاب [كتاب] المجسطي عند طلبهم معرفة عظم جرم الشمس. وذلك أنهم قالوا: لا يخلو جرم الشمس من أن يكون مساويا لجرم الأرض، أو أعظم أو أصغر منها في المقدار؛ إذ ليس في القسمة العقلية غير هذه. ثم بحثوا عن واحد واحد من هذه الأقسام الثلاثة حتى عرفوا حقيقتها، كما هو مذكور في كتبهم بشرح طويل. فاعمل أنت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، في هذه المسألة مثلما عمل هؤلاء في مسألتهم، وهو أن تقول: لا يخلو أمر البعث ومعنى القيامة، أن تبعث الأجساد دون النفوس، أو النفوس دون الأجساد، أو الجميع؛ إذ كان ليس في القسمة غير هذه الوجوه الثلاثة. ثم ابحث وتصفح عن حقيقة واحد واحد من هذه الوجوه الثلاثة، كما نبين في هذا الفصل.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه،
25
أن من يرى ويعتقد بأن الإنسان ليس هو شيء سوى هذه الجملة المحسوسة: أعني الجسد المؤلف من اللحم والدم والعظم والعروق وما شاكلها، التي هي أجسام طويلة عريضة عميقة، وما يحلها من الأعراض الجسمانية والنوازع الجاذبة لها إلى الأسباب الضرورية من الجوع والعطش ... [إلخ]، فهو لا يتحقق أمر البعث ولا يتصور حقيقة القيامة إلا إعادة هذه الأجساد برمتها، وتلك الأجرام والأعراض بعينها على هذه الحال التي هي عليها الآن، ثم يحشرون ويحاسبون ...
وأما من كان فوق هذه الطوائف في العلوم والمعارف، فهو يرى ويعتقد بأن مع هذه الأجساد جواهر أخرى أشرف منها وأفضل، وليست بأجسام، تسمى أرواحا أو نفوسا. فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا برد تلك النفوس والأرواح إلى تلك الأجساد بعينها، أو أجساد أخر تقوم مقامها، ثم يحشرون ويحاسبون ويجازون بما عملوا من خير أو شر. وهذا الرأي أجود وأقرب إلى الحق، وفي اعتقادهم له صلاح لهم ولغيرهم. و[لكن] اعلم يا أخي أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للنساء والصبيان والجهال والعوام، ومن لا ينظر في حقائق العلوم ولا يعرفها. وذلك أنهم إذا اعتقدوا هذا الرأي وتحققوا هذا الاعتقاد ، يكون ذلك حثا لهم على عمل الخير وترك الشرور واجتناب المعاصي وفعل الطاعات ... [إلخ]. ويكون ذلك صلاحا لهم ولمن يعاملهم ...
وأما من كان فوق هذه الطائفة في العلم والمعارف والدراية، فهو يرى ويعتقد بأن الغرض من كون هذه النفوس والأرواح مع هذه الأجساد في الدنيا مدة ما، هو من أجل أن تستقيم ذواتها وتكمل صورها، وتخرج من حد القوة والكمون إلى الفعل والظهور، ولتستكمل أيضا فضائلها من عرفانها أمر المحسوسات وتخيلها رسوم المعقولات، وتخرج بالآداب والرياضيات والنظر في العلوم الطبيعية والإلهيات، وبالاعتبار والتجارب والتدبير والسياسيات، وليكون ذلك سببا لانتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف، وينفتح لها عين البصيرة؛ لتنظر إلى عالمها الروحاني وتشاهد دارها الحيواني، ويتبين لها أنها في عالم الغربة وموضع المحنة والبلوى، غريقة في بحر الهيولى مبتلاة في أسر الطبيعة، مشتعلة فيها نيران الهاوية الموقدة المطلعة على الأفئدة. ومن كان يرى ويعتقد أمر الحياة في الدنيا على هذه الحال ويرى ويعتقد بأنه محبوس في هذه الدنيا إلى وقت معلوم، كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا مفارقة النفس الجسد بعد استقلالها بذاتها وتفردها بجوهرها ومشاهدتها عالمها، ولا يسأل ربه إلا اللحاق بأبناء جنسها من الماضين من عباد الله الصالحين» (38: 3، 303-305).
في رمزية الجنة والنار
لقد قال لنا الإخوان في أكثر من موضع في رسائلهم إن النفوس التي حققت الارتقاء في المرتبة الإنسانية تصل إلى الرتبة الملائكية في سلم الارتقاء العام، وتنضم إلى أبناء جنسها سائحة في عالم الأفلاك متحررة من قيود الجسد والعالم المادي عالم الكون والفساد ما دامت السماء والأرض؛ فإذا قامت القيامة الكبرى في نهاية الزمن عادت للاتحاد بالنفس الكلية التي تتخلى عن الجسم الكلي لتلحق بالعقل الكلي. أما النفوس الشريرة التي قصرت عن الارتقاء، فتتحول إلى شياطين تبقى سائحة في قعر عالم المادة لا تقدر على الصعود بسبب ثقل خطاياها وأعمالها السيئة. وفي الحقيقة فإن هذه هي نظرة الإخوان للجنة والنار التي عبر عنها الناموس بصور مادية قريبة من أفهام عامة الناس. فعالم الكون والفساد هو جهنم، وعالم الأفلاك هو الجنة، وما من جحيم مادي تحترق فيه أجساد الكفار، أو جنة مادية تتنعم فيها أجساد الأبرار بكل ما لذ وطاب من طعام وشراب وملبس ومسكن ونكاح: «اعلم أن الكفر في لغة العرب [هو] الغطاء، وهو شيء يعرض للنفس من جهة الجسد. وذلك أنه إذا استقرت النفس في الجهالة تغطى عليها أمر ذاتها، وذهب عليها معرفة جوهرها، وتنسى مبدأها ولا تذكر من أمر معادها، حتى تبلغ من جهالتها ألا تعلم بأن لها وجودا خلوا من الجسد ... فمن لا يعرف جوهر النفس فهو لا يعرف شيئا من الأمور الروحانية ولا يتصورها، وإذا سمع ذكرها أنكرها لشدة استغراقه في بحر الهيولى وظلمات الجهالات. فهؤلاء إذا سمعوا بذكر جهنم لا يتصورونها إلا أمرا صناعيا، وهم يظنون أن جهنم هي خندق محفور كبير واسع مملوء من نيران تشتعل وتلتهب، وأن الله تعالى يأمر الملائكة قصدا منه وغيظا على الكفار أن يأخذوهم ويرموا بهم في ذلك الخندق. ثم إنه كلما أحرقت أجسادهم وصارت فحما ورمادا أعاد فيها الرطوبة والدم حتى يشتعل من الرأس ثانيا كما اشتعل أول مرة، وهكذا يكون دأبهم أبدا. ويحتجون بقوله تعالى: ... كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ...
26
ولا يدرون معنى قوله تعالى ولا تأويل كتابه. إنهم إذا سمعوا أن الله غفور رحيم حنان منان رءوف ودود، وما شاكل ذلك من أسمائه الحسنى، وتفكروا فيها، أنكرت عليهم عقولهم ما اعتقدوا فيه من الحقد وقلة الرحمة لخلقه، فعند ذلك يتحيرون ويتشككون فيما أخبرت به الأنبياء، عليهم السلام، إذ لا يعرفون شيئا عن صفة جهنم وعذاب أهلها، ولا يعرفون تأويل كتبهم ولا معاني إشاراتهم ورموزاتهم ودقائق أسرارهم.
فهكذا إذا سمعوا ذكر الجنة ونعيمها وسرور أهلها ولذاتهم، فلا يتصورونها إلا أمورا جسمانية، شبه بساتين فيها أشجار وعليها ثمار، وقصور بينها أنهار، وفي تلك القصور حور وغلمان وولدان مردان على أمثال أبناء الدنيا ونعيم أهلها. وإذا سمعوا بأن أهل الجنة في جوار الرحمن حيث قال:
في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
27
وأنهم يزورون رب العالمين فيرونه وينظرون إليه، كما قال تعالى:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
28
وأن الملائكة يزورونهم بالهدايا والتحف، كما قال تعالى: ... والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ،
29
وما شاكل هذا من وصف أهل الجنة من شرب الشراب أو مباشرة مع الأبكار، وأنهم أحياء لا يموتون، وشبان لا يهرمون، وأصحاء لا يمرضون ... وما شاكل هذه من الصفات ... فإذا فكروا فيها تحيروا أيضا في الجنة وما خبرت به الأنبياء، عليهم السلام، من وصف الجنان ونعيم أهلها وحالاتهم، وما يقصر الوصف عنها. فإذا ذهب عليهم معرفتها وتغطى عليهم علمها، أنكروها بقلوبهم ... فهذا هو حقيقة الكفر والضلال والجهالة وعمى البصر؛ لأن هؤلاء لا يؤمنون إلا بظواهر الآيات والأخبار ...
ثم اعلم وتيقن ولا تشك في أن جهنم هي عالم الكون والفساد الذي هو دون فلك القمر، وأن الجنة هي عالم الأرواح وسعة السماوات، وأن أهل جهنم هم النفوس المتعلقة بأجساد الحيوانات [= الأحياء] التي تنالها الآلام والأوجاع دون سائر الموجودات التي في العالم، وأن أهل الجنة هي النفوس الملكية التي في عالم الأفلاك وسعة السماوات في روح وريحان، البريئة من الأوجاع والآلام. والدليل على ذلك قوله تعالى:
انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب
30
إشارة إلى النفوس المتحدة بالأجسام ذات الطول والعرض والعمق التي دون فلك القمر ...
وإنما قيل: إن جهنم هي سبع طبقات؛ لأن الأجسام التي دون فلك القمر سبعة أنواع: أربعة منها هي الأمهات المستحيلات التي هي الأركان الأربعة، وهي النار والهواء والماء والأرض، وثلاثة هي المولدات الكائنات الفاسدات التي هي المعادن والنبات والحيوان.
ثم اعلم أن تلك النفوس لما أخرجت من الجنة عالم الأفلاك، أهبطت إلى الأرض عالم الكون والفساد الذي دون فلك القمر، وهي ساكنة في عمق هذه الأجساد، وغريقة في بحر الهيولى القابل للكون والفساد، وغائصة في هياكل هذه المتولدات منقطعة فيها، كما قال تعالى:
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ...
31 ... وإنما قال لها سبعة أبواب لكل باب منها جزء مقسوم؛ لأن كل ما يجري في عالم الكون والفساد فبدلائل هذه [الكواكب] السبعة السيارة. وإنما قال: عليها تسعة عشر؛ لأن دلائلها لا تظهر في عالم الكون والفساد إلا بمسيرها في هذه البروج الاثني عشر، فجملتها تكون تسعة عشر، وهي التي بها يكون تقلب أحوال الدنيا وما تقتضيه موجبات أحكامها في مواليد هذه الأجساد، وما يدل عليها مما يصيبهم من الآلام والأوجاع والأسقام والأمراض والأحزان ... وما شاكل هذه المصائب التي لا يحصى عددها» (30: 3، 61-65). «واعلم ... بأن ليس غرض الأنبياء، عليهم السلام، فيما وصفوا من مجلس الجنان ولذات أهلها هو الإقرار باللسان حسب بلا اعتقاد، ولا الاعتقاد حسب بلا تحقيق يظهر لهم، بل الغرض هو التصور لها بحقائقها كيما تقع الرغبة فيها والطلب لها؛ لأن الإنسان لا يطلب ما لا يرغب فيه، ولا يرغب فيما لا يتحققه، ولا يتحقق فيما لا يتصوره، ولا يتصور الشيء الخفي الغائب إلا بالوصف البليغ بالمحاسن. فمن أجل هذا أكثر في القرآن من وصف محاسن الجنان وسرور أهلها ولذات نعيمها، فتارة وصفها أوصافا جسمانية على قدر طاقة القوم، مثل قوله تعالى:
على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق ...
32
ذكر هذا وبين على قدر قبول أفهامهم، لا بمعنى أن هذه الأشياء ستوجد في الجنة على حالات جسمانية، بل ستوجد أشياء روحانية: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ...
وتارة وصفها بأوصاف هي بين الروحانية والجسمانية، مثل قوله تعالى:
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ... .
33
أما ترى يا أخي أنه قال: مثل الجنة، على سبيل التشبيه والتمثيل ليقرب من الفهم تصورها؛ لأنه يقصر الوصف عنها بحقائقها. وإنما خاطب كل طائفة من الناس بحسب عقولهم ومراتبهم في المعارف والفهوم؛ لأن دعوة الأنبياء ، عليهم السلام، عموم للخاص والعام جميعا ومن بينهما من طبقات الناس. وقد صرح المسيح عليه السلام، في وصف الجنان ونعيم أهلها بأوصاف غير جسمانية، فقال للحواريين في وصية لهم: إذا فعلتم ما فعلت وما قلت لكم، تكونون معي غدا في ملكوت السماء عند أبي وأبيكم، وترون ملائكته حول عرشه يسبحون بحمده ويقدسونه، وأنتم هناك ملتذون بجميع اللذات بلا أكل ولا شرب. وإنما صرح المسيح، عليه السلام، ولم يرمز؛ لأن خطابه كان مع قوم قد هذبت نفوسهم التوراة وكتب الأنبياء، عليهم السلام، وكتب الحكماء أيضا، وكانوا غير محتاجين إلى الإشارات والتنبيهات، بل كانوا متهيئين لصورها مستعدين لقبولها.
فأما سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وآله، فقد اتفق مبعثه في قوم أميين من أهل البوادي، غير مرتاضين بالعلوم ولا مقرين بالبعث والنشور ... فجعل أكثر صفة الجنان في كتابه جسمانية، ليقربها من فهم القوم ويسهل عليهم تصورها، وترغب نفوسهم بها. ونحن قد جعلنا بحثنا عن أسرار الكتب الإلهية، وبينا في أكثر رسائلنا معنى أسرار التنزيلات النبوية، وكشفنا عن أكثر الرموزات والإشارات وعن الموضوعات الناموسية. وذلك لأن خطابنا لا يكون إلا مع أقوام علماء فضلاء، مارسوا إخوان الصفاء ورسخوا في العلم، وارتاضوا بالرياضيات الحكمية المقرونة بأسرار الكتب الإلهية وإشارات الأنبياء عليهم السلام» (30: 3، 76-77).
من هنا فإن الاعتقاد بمادية عذاب جهنم ونعيم الجنة هو من الآراء والاعتقادات الفاسدة التي ينبغي على العاقل أن يتخلى عنها في سعيه نحو الارتقاء: «ومن الآراء الفاسدة رأي من يرى ويعتقد أن الله الرحيم الرءوف الحنان يعذب الكفار والعصاة في خندق في النار غيظا عليهم وحنقا، وكلما احترقت أجسادهم وصارت فحما ورمادا، عادت فيها الرطوبة والدم لتحرق مرة ثانية.
واعلم يا أخي أن هذا الرأي يسيء ظن صاحبه بربه، ويعتقد فيه قلة الرحمة وشدة القساوة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومن الآراء الفاسدة أيضا أنه يرى بأن أهل الجنة أجسادهم لحمية، وأجسامهم طبيعية مثل أجساد أبناء الدنيا، قابلة للتغيير والاستحالة، متعرضة للآفات. فإذا تأمل ما وصف الله تعالى في صفات أهل الجنة:
لا يمسهم فيها نصب ...
34
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ...
35
وأنهم خالدون، وما شاكل هذه الأوصاف المذكورة في القرآن، التي لا تليق بالأجساد اللحمية والأجسام الطبيعية، [تحير فكره واضطرمت شكوكه].
36
واعلم أنه لا يليق بالعقلاء أن يعتقدوها،
37
فضلا عن عقول الحكماء، بل النساء والجهال والصبيان جيد لهم، فإن هذا الرأي يليق بأفهامهم ويصلح لهم، ويقرب من عقولهم ما وعدوا به ويوعدون من نعيم الجنان ويضاعف رهبتهم من عذاب النيران، ويزيدهم خوفا من سوء أفعالهم فيتركونها، ويقوي رجاءهم لثواب أعمالهم. وعليكم بدين العجائز [فإنه] لائق في هذا المقام لا في مقام آخر.
وأما من رزقه الله قليلا من التمييز والعقل والفهم، ونظر في علوم الحكمة، فإن هذا الرأي لا يصلح له ولا يليق به؛ لأنه إذا عرضه على عقله أنكره عليه، فيقع عند ذلك في شك وحيرة وسوء ظن وتخيلات فاسدة.
ثم اعلم أن أسوأ الناس مذهبا، وأشنعهم رأيا، من يعتقد أمرا ويكون عقله منكرا عليه، ونفسه مرتابة، وظنه سيئا بربه، كما قال:
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين .»
38 (42: 3، 527-528).
في هذا الإطار، يفسر الإخوان وعيد الله تعالى للمسيئين تفسيرا خاصا: «اعلم أن مسألة الوعيد هي أيضا إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء. وذلك أن منهم من يرى ويعتقد أنه واجب في حكم الله وعدله أن يفي بوعيده كما وفى بوعده؛ لأنه إن لم يفعل كان كاذبا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومنهم من يرى ويعتقد أنه لا يكون كاذبا لأن الكذب هو الخبر بأنه قد فعل ولم يكن فعل، أو يقول: ما فعلت وقد كان فعل. فأما إذا قال: سأفعل، ثم لم يفعل فيكون مخالفا [لا كاذبا]؛ والمخالف في الوعد يكون مذموما غير وفي، فأما في الوعيد فربما كان الخلاف عفوا وصفحا ورحمة وتحننا وإشفاقا وكرما وسماحة وإنعاما. وكذلك هذه الخصال ممدوحة محمودة، تليق بفضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه. ومنه قول بعض العرب:
إني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فإن إخلاف الوعيد مكرمة افتخر بها. وذلك أن وعيد الله لعبيده مماثل لوعيد الأب الشفيق الطيب العالم للولد الجاهل العليل، يقول [له]: لا تأكل ولا تشرب كيت وكيت، وافعل كيت وكيت، فإنك إن لم تفعل ولم تقبل نصيحتي، ضربتك وحبستك وعاقبتك. فإن لم يفعل الولد، ولم يقبل نصيحة والده ولم يأتمر له، ولم ينته عما نهاه عنه، وأكل وشرب ما نهاه عنه، وترك ما كان مأمورا به، بقي عليلا سقيما، وفاتته الصحة والأنفع والأصلح، وبقي متألما وجيعا، فإن الأب الشفيق يشفق عليه أن يفي بوعيده فيضربه ويزيده ألما وعذابا. فهكذا حكم عذاب الله ووعيده لعباده، وهذا أليق به وبرحمته وجوده وكرمه وإحسانه.
وأما وقت وفاء الوعد لثواب المحسنين متى يكون وكيف يكون؟ فإن هذه المسائل هي من غوامض العلوم ودقائق الأسرار، وقد أكثر العلماء فيها القال والقيل، وتحيرت فيها عقول الكثير من الناس أولي الألباب. فمنهم من يرى ويعتقد أنها في الدنيا قبل الممات، ومنهم من يرى أنها تكون في الآخرة بعد الممات. وأما كثير من الناس فينكرون أمر الآخرة فلا يعرفونها ولا يقرون بها. وأما المقرون بها فمختلفون أيضا فيها وفي ماهيتها وكيفيتها وأبنيتها على مذاهب شتى: فمنهم من يرى ويعتقد أن الآخرة ودار الجزاء إنما تكون بعد خراب السماء وفناء الخلق أجمعين، ثم إن الله يعيدهم مرة ثانية خلقا جديدا، فيثيبهم ويجازيهم ما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر، أو عرف أو نكر. وهذا جيد للعامة ولمن لا يعرف من الأمور شيئا، ويرضى الدين تقليدا وإيمانا، وأما الخاص ومن قد نظر في بعض العلوم الرياضية والطبيعية، فإن هذا الرأي لا يصلح لهم. وذلك أن كثيرا من العقلاء الحكماء ينكرون خراب السماوات، ويأبون ذلك إباء شديدا، والجيد لهم إذن أن يعتقدوا أمر الآخرة أن لها وجودا متأخرا عن الكون في الدنيا، كما كان في الدنيا موجودا متأخرا عن الكون في الرحم» (42: 3، 502-504). «فالدنيا: هي مدة بقاء النفس مع الجسد إلى وقت افتراقها الذي يسمى الموت. والموت: هو ترك النفس استعمال البدن، ويقال أيضا الموت: هو بقاء النفس بعد مفارقة الجسد. والآخرة: هي نشوء ثان بعد الموت، وخلودها في عالمها. والجنة: هي عالم الأرواح. وجهنم: هي عالم الأجسام. والجنة أيضا هي المرتبة العليا وجهنم هي المرتبة السفلى؛ فجنة النفس النباتية [هي] صورة الحيوانية، وجنة النفس الحيوانية صورة الإنسانية، وجنة النفس الإنسانية صورة الملائكة. والبعث: هو انتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ... والقيامة: قيام النفس من قبرها وهو الجسد ... والحشر: هو جمع النفوس الجزئية نحو النفس الكلية واتحاد بعضها ببعض» (41: 3، 397-398).
فالآخرة والحالة هذه، وما يرافقها مع ثواب وعقاب، ليس شأنا مؤجلا إلى يوم القيامة الكبرى عندما تنسحب النفس الكلية من الطبيعة، بل هي شأن قائم هنا والآن، والنفوس التي فارقت أجسادها بالموت الذي هو القيامة الصغرى، هي الآن إما معذبة في عالم الكون والفساد لا تستطيع صعودا إلى الأعالي، أو منعمة في فسحة الأفلاك: «معنى القيامة مشتق من القيام، فإذا فارقت النفس قامت قيامتها. قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: «من مات فقد قامت قيامته.» وإنما أراد قيام النفس لا الجسد؛ لأن الجسد لا يقوم عند الموت، بل يقع وقوعا لا يقوم بعده، إلى أن ترد النفس إليه ثانية. فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتزود للرحلة، واستعد للقيامة قبل أن تقوم قيامتك بأن يؤخذ منك هذا الهيكل المبني، مملوءا من آثار الحكمة، قهرا وأنت كاره، فتبقى نفسك بلا سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق ولا لمس، فارغة خاوية تهوي في هاوية البرزخ إلى يوم القيامة [الكبرى] إلى يوم يبعثون. فبادر وشمر واجتهد بأن تكتسب بتوسط هذا الهيكل الجسماني هيكلا روحانيا، وبتوسط هذه الحواس الجسدانية حواس عقلية، ليكون بعد حين، فترجع نفسك من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح بربح لا بخسران» (16: 2، 49-50). «واعلم يا أخي بأن الجنة إنما هي عالم الأرواح، وكله صورة روحانية لا هيولى جرمانية ، بل حياة محضة وراحة ولذة وسرور وغبطة، لا يعرض لها الكون والفساد ولا التغيير والبلى؛ لأنها دار الحيوان لو كانوا يعلمون. فإذا كانت الدار هي الحيوان، فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف حالهم، فإنه يقصر الوصف عنهم بالاختصار، كما ذكر الله تعالى في كتابه على لسان نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم . فقال: ... وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون .
39
واعلم يا أخي أن النار وجهنم هي عالم الأجسام التي تحت فلك القمر، الذي هو دائم في الكون والفساد والتغيير والاستحالة والبلى، وأن أهلها: ... كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ... »
40 (17: 2، 60). «اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العاقل الفهم إذا نظر في علم النجوم، وفكر في سعة هذه الأفلاك وسرعة دورانها، وعظم هذه الكواكب وعجيب حركاتها، وأقسام هذه البروج وغرائب أوصافها، تشوقت نفسه إلى الصعود إلى الفلك والنظر إلى ما هناك معاينة. ولكن لا يمكن الصعود إلى ما هناك بهذا الجسد الثقيل الكثيف، بل النفس إذا فارقت هذه الجثة ولم يعقها شيء من سوء أفعالها، أو فساد آرائها وتراكم جهالاتها أو رداءة أخلاقها، فهي هناك في أقل من طرفة عين بلا زمان؛ لأن كونها حيث همتها ومحبوبها كما تكون نفس العاشق حيث معشوقه. فإذا كان عشقها هو الكون مع هذا الجسد، ومعشوقها هذه اللذات المحسوسة المحرقة الجرمانية، وشهواتها هذه الزينة الجسمانية، فهي لا تبرح من ها هنا ولا تشتاق الصعود إلى عالم الأفلاك ولا تفتح لها أبواب السماوات ولا تدخل الجنة مع زمر الملائكة، بل تبقى تحت فلك القمر سائحة في قعر هذه الأجسام المستحيلة المتضادة، تارة من الكون إلى الفساد، وتارة من الفساد إلى الكون ... كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ... »
41 ،
42 (3: 1، 137).
وأيضا: «اعلم أن الإنسان العاقل إذا سمع أوامر الناموس ونواهيه ووعيده وزواجره، ثم لم يأتمر بحدوده ولم ينقد لأحكامه، أو سمع العلوم الحكمية فلم يقم بواجبها ... بل جعل أكثر عنايته في إصلاح شأن هذا الجسد ... وأفنى عمره كله ساهيا ولاهيا إلى الممات، ثم جاءته سكرة الموت بالحق التي هي مفارقة النفس الجسد على كره منها وإجبار منها ... بقيت عند ذلك نفسه بلا جسد، وقد سلبت آلات الحواس التي كانت تنال بها اللذات الجسمانية وقد اعتادتها بطول الدربة فيها. فانطبع في همتها النزول إليها، [ولكن] لا وصول لها إلا بهذا الجسد وأعضائه، وقد منعت ذلك لكون مثلها عند ذلك كمثل من سلت عيناه، وصمت أذناه، وشلت يداه، وقطعت رجلاه، وخرس لسانه، وشد منخراه، وعمي قلبه ... وما بقي معه إلا الروح في الجسد معذبا، فلا هو حي يلذ بالعيش، ولا ميت يستريح من العذاب، كما قال تعالى: ... لا يموت فيها ولا يحيا ،
43
فتبقى تلك النفوس عند ذلك تائهة بهمومها في طلب ما قد فاتها بما اعتادته من لذات هذه المحسوسات، وقد منعت الوصول إليها والعود ... فعند ذلك تبقى بحسرتها وندامتها متألمة بذاتها، معذبة من سوء عاداتها، عمياء في جهالاتها، دون فلك القمر، سائحة في قعر الأجسام المدلهمة، غريقة في بحر الهيولى، هائمة هاوية في عالم الكون والفساد مع أبناء جنسها من الأمم الخالية إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين، كما ذكر الله تعالى: ... كلما دخلت أمة لعنت أختها ... »
44 (30: 3، 79-80). «... فأما النفوس الصافية غير المتجسدة فهي غير محتاجة إلى الكلام والأقاويل في إفهام بعضها بعضا من العلوم والمعاني التي في الأفكار، وهي النفوس الفلكية؛ لأنها قد صفت من درن الشهوات الجسمانية، ونجت من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، واستغنت عن الكون مع الأجساد المظلمة التي هي أسفل السافلين وعالم الكون والفساد، وارتفعت إلى أعلى أفق العالم العلوي، وسرت في الجواهر النيرة والشفافة التي هي الكواكب والأفلاك، وذلك كما توجب الحكمة الإلهية والعناية الربانية، إذا لم تقرن بالأجسام الساترة ولم تحتج إلى كتمان أسرارها، ولا إلى إخفاء ما في ضمائرها؛ إذ كانت صافية من الخبث والدغل، وبريئة من الإضمار للشر. فقرنت بالجواهر النيرة والأكر الشفافة التي يتراءى الجزء منها في الكل، والكل يتراءى في الجزء، كما تتراءى وجوه المرايا المجلاة بعضها في بعض، وكما تتراءى وجوه الجماعة المتقابلين في عين الواحد منهم، ووجه الواحد في أعين الجميع. فهم غير محتاجين إلى الإخبار عن الإضمار، ولا السؤال عن كتمان الأسرار؛ لأنهم في الإشراق والأنوار التي هي معدن الأخبار والأبرار» (10: 1، 402-403).
وعلى الرغم من أن الإخوان لم يوردوا الكثير من التفاصيل الجزئية عن حال الأرواح بعد الموت، مكتفين بالعموميات، إلا أنهم أوردوا في جملة قصصهم المبعثرة التي قصدوا منها العبرة، قصة عن الرجل التائب، أنهوها بهذا المشهد الحي المؤثر: «ثم إن ذلك الرجل التائب بقي مدة من الزمان مجتهدا في عبادة الله، على عادته، حتى قرب أجله ووقت مفارقته، فرأى في منامه كأن روحه قد خرجت من جسده، وإذا هي على صورة مثل شكل الجسد وهيئته سواء، غير أن هذا الشكل جسماني، وتلك صورة روحانية شفافة، لا ينالها لمس ولا حس، وإذا هي قد ثبتت في الهواء حيث شاءت، وكيف شاءت، بلا كلفة، ولا عناء، وهي تجد من ذاتها خفة وراحة وسرورا، وروحا ولذة وفرحا لا توصف بمثلها حال الأجسام. ولما نظرت إلى جسدها، فإذا هو مطروح لا حراك به، فحنت إليه لطول الصحبة وإلف العادة، فلما دنت منه وتأملته، فإذا هو كأنه قد أتى ثلاثة أيام بعد الموت، وهو منتفخ منتن الرائحة، يسيل منه الدم والقيح والصديد، وتجري بين لحمه الديدان ... فلما رأت ذلك المنظر الهائل اشمأزت منه، وتأخرت عنه، وأنفت من الدنو إليه، وجعلت تغبط حالها حين فارقته، وخرجت منه، ونجت من وسخه ودرنه ووحشته وعاره ووباله. ثم التفتت، فإذا هي أبواب السماء قد فتحت، والمعراج قد امتد من السماء إلى الأرض، والملائكة نزلت وامتلأت الآفاق من النور والضياء. وسمع مناديا ينادي:
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
45
فانتبه من نومه ذلك، ثم أخبر بما رأى، وأوصى وصيته، وما مكث إلا أياما حتى توفي ومضى لسبيله» (46: 4، 98).
في القيامة الكبرى
تدوم الجنة والنار ما دامت السماوات والأرض، على ما ورد في أكثر من آية في كتاب الله عز وجل. ولكن السماوات والأرض لا تدومان، والنفس الكلية التي فاضت قواها في الجسم الكلي زمن التكوين سوف تنسحب من هذا الجسم ويحدث بوار العالم، ويزول منه العجز والنقص، فيغدو الوجود خير كله، ويعتق أهل النار وتبطل جهنم الدنيا، وتبعث الأنفس الجزئية الإنسانية كلها: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه إذا فاضت قوى النفس الكلية الفلكية في الجسم الكلي الذي هو جملة العالم الجسماني، ابتدأت من أعلى فلك المحيط متوجهة نحو مركز العالم، وسرت في الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة والأوقات الزمانية أولا فأولا، حتى إذا بلغت إلى منتهى مركز العالم اجتمعت كلها هناك، ويكون ذلك سببا لكون الأجسام الجزئية الكائنة الفاسدة التي دون فلك القمر، وهي الحيوانات والنباتات والمعادن؛ لأنها إذا علت إلى أقصى مدى غاياتها الذي هو الغرض الأقصى بطول الزمان، وعطفت عند ذلك راجعة، أعني تلك القوى، نحو المحيط، فيكون سبب بعث الأنفس الجزئية الإنسانية الكلية» (29: 3، 37). «ثم اعلم أن غرضنا من ذكر حركات العالم وحركات أجزائه الكليات والجزئيات وفنون تصاريفها، هو بيان بطلان قول من يقول بقدم العالم، وذلك لأن الحركات المختلفة تدل على اختلافها، والمتحرك والمختلف الأحوال لا يكون قديما؛ لأن القديم هو الذي يكون على حالة واحدة لا يتغير ولا يستحيل ولا يحدث له حال، وذلك ليس يوجد موجود هذا شأنه إلا الله الواحد الأحد، ولا يمكن أن يوجد شيء سوى الله تعالى هذا شأنه.
ثم اعلم أن الذين قالوا بقدم العالم ظنوا بأنه ساكن، والساكن لا تختلف أحواله، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا من سكون العالم، كما بينا فيما تقدم بكثرة حركات كلياته وجزئياته ما لا تنكره العقول السليمة؛ فمنها حركات الكواكب، ودوران الأفلاك، واستحالات الأركان، وتكوين المولدات، مما لا خفاء به ...
اعلم أن كل حركة في متحرك فهي متحركة له، وهي سبب لشيء آخر، فمتى عدمت تلك الحركة بطل ذلك السبب. مثال ذلك حركة الرحى عن الدابة التي تديرها أو الماء، وهي سبب الطحن، فمتى وقفت الدابة وانقطع الماء، سكنت الرحى وعدم الطحن ... وهكذا متى وقفت الكواكب السبعة السيارة في البروج عن دورانها، وقفت الأمور التي تحت [فلك القمر] عالم الكون والفساد من الحيوان والنبات عن حركاتها وتكوينها. يعرف حقيقة هذا من كان حاذقا بصناعة النجوم وتكلم عليها. والمثال في ذلك كرواحة متى وقفت عن الدوران سقطت بعدما كانت قائمة منتصبة عند حركاتها. فهكذا حكم العالم، متى وقف المحيط عن الدوران وقفت الكواكب عن المسير والحركات؛ ووقفت عند ذلك مجاري الليل والنهار والشتاء والصيف، فيبطل عند ذلك الكون والفساد، ويبطل نظام العالم، وتذهب الخلائق، وتفارق النفس الكلية الجسم الكلي، وتقوم القيامة الكبرى. وذلك أن العالم هو إنسان كبير، فإذا فارقت نفس العالم الجسم الكلي فقد مات الإنسان الكبير، وقد قامت قيامته الكبرى» (39: 3، 332-333). «اعلم يا أخي أن الغرض الأقصى في إدارة الأفلاك وتسيير الكواكب ومجيء الأنبياء والرسل والحكماء، ونزول الملائكة من السماء إلى الأنبياء بالوحي والأنباء، هو أن يصير العالم خيرا كله ويزول منه العجز والنقص والشر، ويعود إلى ما بدأ منه فيصير لاحقا به، فتتم الحكمة وتكمل الخلقة، ويرتفع عالم الكون والفساد، ويعتق أهل النار، وتبطل جهنم الدنيا، ويصير العالم خيرا كله وسعادة كله، وتقوم القيامة الكبرى، ويمحق الشر وأهله، وينقرض حزبه ويتلاشى. فهذا هو الغرض الأقصى والمعرفة العظمى. فاحفظ ما ألقيناه إليك من هذا العلم المصون والسر المخزون الذي لا يمسه إلا المطهرون. فإذا صح بالبرهان الصحيح أن إدارة الأفلاك، وجريان العالم على ما هو به، إنما الغرض فيه أن يكون العالم خيرا كله ونورا كله وسعادة كله، وأن أصل الإبداع جود الباري سبحانه وفيضه، فإنه عند بلوغ النفس إلى درجة العقل، فيكون سكونها وبطلان الحركة والبلوغ إلى النهاية. وعند ذلك تكون الراحة الدائمة والطمأنينة الكاملة ... كذلك النفس إذا بلغت درجة العقل سكنت عن الحركة الطبيعية واستعمال الطبيعة، وعادت إلى استعمال ذاتها الروحانية في عبادة باريها سبحانه، حتى تقوم بما يجب عليه من الشكر له، إذ أوصلها إلى درجة الكمال. فهذا يا أخي هو معرفة حقيقة الجنة، ومعرفة القيامة بالبرهان في هذا الوجه بغير رمز ولا إشارة» (جا: 25-26).
الفصل السادس
إسلام إخوان الصفاء
تشيع إخوان الصفاء
يؤكد إخوان الصفاء أن مذهبهم يستوعب المذاهب كلها، ويجمع العلوم كلها. وهذا يعني أنهم لا ينتمون فعلا لأي مذهب إسلامي من المذاهب المعروفة، بل يشكلون فرقة إسلامية قائمة بذاتها: «وبالجملة ينبغي لإخواننا، أيدهم الله تعالى، أن لا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعها. وذلك أنه هو النظر في جميع المجودات بأسرها الحسية والعقلية، من أولها إلى آخرها، ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها، بعين الحقيقة من حيث هي كلها من مبدأ واحد، وعلة واحدة، وعالم واحد، ونفس واحدة محيطة جواهرها المختلفة، وأجناسها المتباينة، وأنواعها المفننة، وجزئياتها المتغايرة» (45: 4، 41-42).
ولكن هنالك أمور تجمعهم إلى الشيعة على الرغم من عدم انتمائهم إلى إحدى فرقها. وها هم يخاطبونهم في الفصل المعنون «فصل في مخاطبة المتشيعين» بعبارات تؤكد الصلة دون توكيد التماثل التام: «قد جمع الله بيننا وبينك أيها الأخ البار الرحيم في أسباب شتى وخصال عدة، مما يؤكد المودة بين الإخوان، ويجمع شمل الأصدقاء في جميع صلاح الدين والدنيا، أيدك الله ...
ومما يجمعنا وإياك أيها الأخ البار الرحيم محبة نبينا، عليه السلام، وأهل بيت نبينا الطاهرين، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير الوصيين، صلوات الله عليهم أجمعين» (48: 4، 195).
وأيضا: «واعلم يا أخي أنا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم، كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج، لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا، وفهموا بعض معانيها، وعرفوا ما هم مقرون به من تفضيل أهل بيت النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم خزان علم الله، ووارثو علم النبوات، وتبين له تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة ...» (48: 4، 186).
وفي كل موضع تعرض فيه الإخوان لوصف مذهبهم لم يشيروا من قريب أو بعيد لصلة هذا المذهب بالتشيع، بل يصفونه بالمذهب القديم غير المستحدث: «واعلم أن هذا الأمر الذي قد ندبنا إليه إخواننا وحثثنا عليه أصدقاءنا ليس هو برأي مستحدث ولا مذهب محدث، بل هو رأي قديم قد سبق إليه الحكماء والفلاسفة والفضلاء، وهو طريق سلكه الأنبياء، عليهم السلام، ومذهب مضى عليه خلفاء الأنبياء والأئمة المهديون، وبه كان يحكم النبيون الذين أسلموا للذين هادوان والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله، وهي ملة أبينا إبراهيم وبه سمانا المسلمين من قبل» (47: 4، 126).
ويعلن الإخوان صراحة عدم انتمائهم إلى الشيعة الاثنا عشرية، الفئة الشيعية الرئيسة في ذلك العصر، وذلك عن طريق نقدهم لفكرة غيبة الإمام والإمام المختفي: «ومن الشيعة من يقول إن الأئمة يسمعون النداء ويجيبون الدعاء، ولا يدرون حقيقة ما يقرون به وصحة ما يعتقدونه. ومنهم من يقول إن الإمام المنتظر مختف من خوف المخالفين، كلا بل هو ظاهر بين ظهرانيهم وهم له منكرون» (48: 4، 148).
وأيضا: «من الآراء الفاسدة والاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها رأي ... من يرى ويعتقد أن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين. واعلم أن صاحب هذا الرأي يبقى طول عمره منتظرا لخروج إمامه، متمنيا لمجيئه مستعجلا لظهوره، ثم يفني عمره ويموت بحسرة وغصة، لا يرى إمامه، ولا يعرف شخصه من هو» (42: 3، 523).
وبشكل عام لم تأخذ مسألة الإمامة، على مركزيتها في العقيدة الشيعية، حيزا يذكر في رسائل الإخوان، ولم يتعرضوا لها إلا لماما. ولعل من أهم ما أوردوه فيها هذا المقطع الطويل من الرسالة 42 الذي يحتوي ضمنا إنكارهم لفكرة الإمامة: «اعلم أن مسألة الإمامة هي أيضا من إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء، قد تاه فيها الخائضون إلى حجج شتى، وأكثروا فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين فيها العداوة والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال ... وهي باقية إلى يومنا هذا لم تنفصل ... فنحتاج أن نذكر أولا ما الأصل المتفق عليه بين أهلها، ثم نذكر أسباب الخلاف في فروعها فنقول:
اعلم أن الأمة كلها تقول إنه لا بد من إمام يكون خليفة لنبيها في أمته بعد وفاته، وذلك لأسباب شتى وخصال عدة؛ أحدها هو أن يحفظ الإمام الشريعة على الأمة، ويحيي السنة في الملة ... وقوم آخرون يكونون خلفاءه في سائر البلدان للمسلمين بالنيابة عنه في جباية الخراج وأخذ الأعشار والجزية، وتفريقها على الجند والحاشية ليحفظ بها ثغور المسلمين ... ويقهر الأعداء ويحفظ الطرقات من اللصوص والقطاع ... وينصف ويعدل بين الناس فيما يتعاملون به، وما شاكل هذه الخصال التي لا بد للمسلمين من قيم بها في ظاهر أمور دنياهم.
وخصلة أخرى هي أن يرجع فقهاء المسلمين وعلماؤهم عند مشكلاتهم في أمر الدين إليه، وعند مسائل الخلاف، فيحكم هو بينهم فيما هم فيه يختلفون ... ويصدرون كلهم عن رأيه وتدبيره ... فهذا هو الأصل المتفق بينهم في حاجتهم إلى الإمام.
وأما من ينبغي أن يكون الإمام؟ ومن هو؟ فهم فيه مختلفون على رأيين ومذهبين. فمنهم من يرى ويعتقد أنه لا ينبغي إلا أن يكون أفضلهم كلهم بعد نبيها [أي الأمة]، وأقربهم إليه نسبة، ويكون قد نص عليه، ومنهم من يرى بخلاف ذلك ... ولكن نحتاج إلى أن نذكر علة اختلافاتهم من أين كان بدؤها، ومن أين أشكل الأمر عليهم فيه.
واعلم أن الإمامة إنما هي خلافة، والخلافة نوعان: خلافة النبوة وخلافة الملك ... ونحتاج إلى أن نذكر أولا خصال النبوة قبل خصال الملك فنقول: إن أول خصال النبوة الوحي ... ثم إظهار الدعوة في الأمة، ثم تدوين الكتاب المنزل بالألفاظ الوجيزة، وتبيين قراءته في الفصاحة، ثم إيضاح تفسير معانيه وبلوغ تأويله، ثم وضع السنن المركبة ... وإجراء السنة في الشريعة ... وتفصيل الحدود والأحكام في أمور الدنيا جميعا ... وما شاكل هذه الخصال ... فأما خصال الملك فأولها أخذ البيعة على الأتباع المستجيبين ... وجباية الخراج والعشر والجزية من الملة، وتفريق الأرزاق على الجند والحاشية، وحفظ الثغور ... وقبول الصلح والمهادنة من الملوك والرؤساء ... وما شاكل هذه الخصال ...
ثم اعلم أنه ربما تجتمع هذه الخصال في شخص واحد من البشر في وقت من الزمان، فيكون هو النبي المبعوث وهو الملك، وربما تكون في شخصين اثنين: أحدهما النبي المبعوث إلى تلك الأمة، والآخر المسلط عليهم. واعلم أنه لا قوام لأحدهم إلا بالآخر كما قال ملك الفرس أزدشير في وصيته: إن الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بالآخر ...
ثم اعلم أن الله تعالى قد جمع لنبيه محمد، عليه الصلاة والسلام والتحية، خصال الملك والنبوة جميعا ... ولما أضاف إلى نبوته الملك، لم يضفها لرغبته [أي النبي] في الدنيا وحرصه عليها، ولكن أراد الله تعالى أن يجمع لأمته الدين والدنيا جميعا، وكان القصد الأول هو الدين، والملك عارض لأسباب شتى، أحدها أنه لو كان الملك في غير أمته لم يكن يؤمن أن يردهم عن دينهم أو يسومهم سوء العذاب من كان مسلطا عليهم، مثلما كان يفعل فرعون ببني إسرائيل ... وخصلة أخرى هي أن الناس في طباعهم وجبلتهم لا يرغبون إلا في دين الملوك، ولا يرهبون إلا منهم. وبهذه الخصال وخصال أخرى يطول شرحها جمع الله الملك والنبوة لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام والتحية والرضوان ... واعلم يا أخي أن الله تعالى قد جمع لمحمد، عليه السلام، الملك والنبوة، وأيده بروح منه، حتى إنه قام بواجب حقهما لما خصه الله به من الجبلة القوية والقوة المتينة، كما قال تعالى:
وإنك لعلى خلق عظيم
1
وقل من يكون كذلك؛ لأن النبوة تتم بنيف وأربعين خصلة من فضائل البشرية» (42: 3، 493-497).
وأيضا: «... وأما سبب اختلافهم في الأئمة الذين هم خلفاء الأنبياء، عليهم السلام، في أممهم بعدهم، فمن أجل أن صاحب الناموس يحتاج في وضعه للناموس وتتميمه وتكميله إلى نيف وأربعين خصلة من الفضائل البشرية والملكية جميعا؛ فإذا أحكم صاحب الناموس أمر الشريعة وسنن الدين ومنهاجه، وبين المنهاج وأوضح الطريق، ومضى لسبيله، بقيت الخصال وراثة في أصحابه وأنصاره الفضلاء من أمته، ولكن لا تكاد تجتمع كلها أجمع وراثة في واحد منهم، ولا يخلو أحد من شيء منها» (42: 3، 489).
في هذين المقطعين يقوض الإخوان الأسس التي تقوم عليها نظرية الإمامة. فالإمامة هي خلافة نبوة وخلافة ملك، والنبوة والملك يحتاجان إلى ما يزيد عن أربعين خصلة لن تجتمع لشخص واحد بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وإنما تتفرق في الجيل الأول من أصحاب الرسول وفضلاء أمته: «فإذا اجتمعت تلك الأمة، بعد وفاة نبيها، وتعاونت وتعاضدت وتناصرت مع ائتلاف القلوب ... بقوا هادين راشدين منصورين على أعدائهم، سعداء في الدنيا والآخرة جميعا. ثم إذا مضى أولئك على منهاج الذين تقدموهم، خلفهم من بعدهم قوم آخرون من ذرياتهم وتلامذتهم، متمسكين بسننهم في أي بلد كانوا، وأي منازل نزلوا، هادين راشدين» (42: 3، 489). وأغلب الظن هنا أن الإخوان يشيرون إلى أنفسهم وتنظيمهم الذي يقوم بجميع مهام الإمامة، وإلى مذهبهم الذي يقوم على حكم العقل، فقد قالوا في موضع آخر: «واعلم أنه ما من جماعة تجتمع على أمر من أمور الدين والدنيا ... إلا ولا بد لها من رئيس يرأسها ليجمع شملها ويحفظ نظام أمرها ... ونحن قد رضينا بالرئيس على جماعة إخواننا، والحكم بيننا، العقل الذي جعله الله تعالى رئيسا على الفضلاء من خلقه الذين هم تحت الأمر والنهي، ورضينا بموجبات قضاياه على الشرائط التي ذكرناها في رسائلنا وأوصينا بها إخواننا، فمن لم يرض بشرائط العقل وموجبات قضاياه ... فعقوبته في ذلك أن نخرج من صداقته ونتبرأ من ولايته ...» (47: 4، 127).
وأيضا: «واعلم أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة، فليس يحتاجون إلى رئيس يرأسهم ويأمرهم وينهاهم ويزجرهم ويحكم عليهم؛ لأن العقل والقدرة لواضع الناموس يقومان مقام الرئيس الإمام، فهلم بنا أيها الأخ أن نقتدي بسنة الشريعة، ونجعلها إماما لنا ...» (47: 4، 137).
وفي كل موضع تحدث فيه الإخوان عن مراتب النفس الإنسانية على طريق الارتقاء لم يتحدثوا عن المرتبة الإمامية التي تلي النبوة في العقيدة الشيعية: «اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحيوانات زينة الأرض، كما أن الكواكب زينة السماء، وأن أتم الحيوانات هيئة، وأكملها صورة، وأشرفها تركيبا هو الإنسان، وأفضل الإنسان هم العقلاء، وأخيار العقلاء هم العلماء، وأعلى العلماء درجة وأرفعهم منزلة هم الأنبياء، عليهم السلام، ثم بعدهم في الرتبة الفلاسفة الحكماء» (47: 4، 124). في هذا النص وأشباهه لا يوجد ذكر للأئمة، وورثة الأنبياء هم الحكماء لا الأئمة، وهؤلاء الحكماء لم يرثوا المرتبة وراثة عن آل البيت ولكنهم حصلوها بكدحهم الروحي: «ثم اعلم أن الحكماء والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم سفراء الله بينه وبين خلقه ... فإذا مضت الأنبياء لسبلها خلفهم العلماء والحكماء، وقاموا مقامهم ونابوا منابهم فيما كانوا يقولون ويفعلون» (40: 3، 317).
الإخوان والإسماعيلية
وإذا لم يكن إخوان الصفاء ينتمون إلى إحدى الجماعات الشيعية المعروفة، وعلى الأخص إلى الشيعية الاثنا عشرية التي كانت تشكل الاتجاه الشيعي الرئيس، فمن الأولى عدم انتمائهم إلى الإسماعيلية التي وصل تركيزها على الإمامية حد قول بعض مفكريهم بأن الله وضع وحدته في الإمام وخلع عليه ألوهيته. وقد انشق الإسماعيليون عن الاتجاه الشيعي الرئيس عقب وفاة الإمام السادس جعفر الصادق عام 148 للهجرة. فقد كان الإمام قد أوصى بالإمامة من بعده لإسماعيل، ابنه من زوجته الأولى فاطمة حفيدة الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان يكبر أخاه غير الشقيق موسى الكاظم بنحو خمس وعشرين سنة. ولكن إسماعيل توفي في أواخر حياة والده. وعندما توفي جعفر الصادق دون وصية جديدة، قاد النزاع على خلافته إلى الانقسام الشيعي الكبير إلى موسوية تبعوا موسى الكاظم الأخ الأصغر غير الشقيق لإسماعيل، وإسماعيلية قالوا إن الإمامة لا تنتقل من أخ لأخيه، وإنما هي نازلة في الأعقاب، وبالتالي فإن الإمامة تنتقل من إسماعيل إلى ابنه محمد. وبعد سلسلة من الأئمة المكتومين من أعقاب محمد بن إسماعيل الذين أقام معظمهم في مدينة سلمية بالمنطقة السورية الوسطى، آلت الإمامة إلى عبد الله المهدي الذي تولى القيادة عام 286ه، ثم رحل إلى شمال أفريقيا حيث أسس الدولة الفاطمية.
لقد عاصر إخوان الصفاء صعود الخلافة الفاطمية التي كان على رأسها الأئمة الإسماعيليون، ولكن رسائلهم لم تشر من قريب أو بعيد إلى هؤلاء الأئمة، ولم تبد معنية بدعوتهم، وإنما كانت تبشر بدولة إخوان الصفاء ومملكتهم الروحانية. «واعلم أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من قوم علماء حكماء وخيار فضلاء يجتمعون على رأي واحد، ويتفقون على مذهب واحد ودين واحد، ويعقدون بينهم عهدا وميثاقا أن لا يتجادلوا ولا يتقاعدوا عن نصرة بعضهم بعضا، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفس واحدة في جميع تدبيرهم فيما يقصدون من نصرة الدين وطلب الآخرة» (4: 1، 181). «وينبغي لنا أيها الأخ بعد اجتماعنا على الشرائط التي تقدمت من صفوة الإخوان، أن نتعاون ... ونبني مدينة فاضلة روحانية، ويكون بناء هذه المدينة في مملكة صاحب الناموس الأكبر الذي يملك النفوس والأجساد» (48: 4، 171).
وبالمقابل فإننا لا نجد لإخوان الصفاء ورسائلهم ذكرا لدى المفكرين الإسماعيليين إبان عصر نهضة الفكر الإسماعيلي في القرنين الرابع والخامس الهجري، من أمثال القاضي النعمان، والكرماني، والنسفي، والرازي، والسجستاني. ولو كانت رسائل الإخوان تشكل المصدر الأكبر للفكر الإسماعيلي، لاعتمد عليها هؤلاء المفكرون صراحة وأشادوا بها، ولكن شيئا من هذا لم يحدث. على أن هذا التجاهل لا يعني أن هؤلاء المفكرين والدعاة الإسماعيليين لم يعرفوا الرسائل أو يتأثروا بها، بل لقد عرفوها وتداولوها ونهلوا منها الكثير، ودخلت أفكارها في صلب العقائد الإسماعيلية، ولكنهم كانوا يعرفون أيضا أن مؤلفي الرسائل لم يكونوا إسماعيليين، ولم يكن لهم بالتالي أن يعطوا أفكارهم مصداقية رسمية، أو أن يعتبروها بقضها وقضيضها تراثا إسماعيليا. وفي الحقيقة فإن الرسائل لم تعتبر مصدرا رسميا معتمدا من قبل أي فئة إسماعيلية عدا فئة الإسماعيلية الطيبية التي شكلت لها دولة في اليمن في القرن السابع الهجري، أي بعد انهيار الخلافة الفاطمية في مصر.
بعد زوال الخلافة الفاطمية عام 569ه، وأثناء فترات ضعف الدعوة الإسماعيلية، أخذ بعض المؤلفين الإسماعيليين بإعادة الاعتبار للرسائل، وصنفوها في عداد الأعمال الإسماعيلية المبكرة، حتى إن بعضهم عزا تأليفها إلى أحد الأئمة من سلالة محمد بن إسماعيل في دور الستر قبل تأسيس الدولة الفاطمية. وحذا حذوهم في ذلك بعض المفكرين الإسماعيليين المعاصرين الذين دافعوا عن هذه الفكرة بقوة. يورد الدكتور عارف تامر في مقدمته للرسالة الجامعة، وفي كتابه «حقيقة إخوان الصفاء وخلان الوفاء»
2
الشواهد الآتية:
قال المؤرخ اليمني الكبير إدريس عماد الدين المتوفى سنة 872ه في كتابه عيون الأخبار: «وقام الإمام التقي أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل، بعد أبيه بأمر الإمامة، وبث دعاته في الآفاق من مدينة سلمية، واتصل به الدعاة ودعوا إليه وهم مخفون لمقامه كاتمون لاسمه. وكان [الخليفة] المأمون حين احتال على علي بن موسى الرضى بن جعفر ظن أن أمر الله قد انقطع وحجته قد ارتفعت، فحين ظن ذلك الظن ووهم ذلك الوهم سعى في تبديل شريعة محمد وتغييرها لكي يرد الناس إلى الفلسفة وعلم اليونانيين، فخشي الإمام أن يميل الناس إلى ما زخرف المأمون عن شريعة جده، فألف رسائل إخوان الصفاء» ... وذكر هذا المؤلف أيضا فهرست هذه الرسائل على التمام فقال: «هذه فهرست الرسائل التي ألفها الإمام. وقد جمع فيها أنواع العلوم الفلسفية والهندسية، وجعل رسالته الجامعة الغاية التي يتبين منها المراد ويتضح المعنى للمرتاد، وقصرها على خلصاء شيعته وخبرة خاصته. وإنما ألف الإمام تلك الرسائل لتقوم الحجة على المأمون وأتباعه حين انحرفوا عن علم النبوة».
وقال الفقيه اليمني الكبير شرف الدين جعفر المتوفى سنة 834ه، في رسالته «الموقظة»: «حتى هم المأمون أن يرد الأمة إلى دين القول بالنجوم ... وقال: ما جاء محمد إلا بناموس ملك به الناس، وحقيقة وأساس، حتى أظهر ولي الله وابن رسول الله رسائل إخوان الصفاء، وفيها ما تحير به جميع العالم من العلوم في كل فن، والاستشهاد على شريعة الرسول، وهو في كهف التقية مستتر، ودعاته الباقون مغرقون لتلك الرسائل في كل شهر وقطر.»
ويورد المؤرخ الإسماعيلي نور الدين أحمد المتوفى سنة 885ه في بلدة مصياف السورية، في كتابه «فصول وأخبار»: «بعد أن اشتد الضغط على الإمام السابع محمد بن إسماعيل ... لأن الرشيد يريد القبض عليه ... خرج مستترا إلى مدينة تدمر في بلاد الشام، حيث عاش فيها إلى أن أدركته الوفاة، بعد أن نص على إمامة ولده عبد الله، الذي عاش في مدينة سلمية قرب حمص. وبعد وفاته تسلم الإمامة حسب النص الشرعي ولده أحمد، وهو مؤلف رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء.»
وفي الحقيقة فإن هذه الشواهد وأمثالها مما يعتمد عليها أصحاب نظرية إسماعيلية إخوان الصفاء، لا تتمتع بمصداقية تاريخة؛ لأنها متأخرة قرونا عديدة عن عصر إخوان الصفاء في القرن الرابع الهجري. أما المصادر الأقرب إلى عصرهم فإنها تجمع على أن مؤلفي الرسائل هم جماعة من الحكماء، بينهم زيد بن رفاعة، وأبو سليمان المقدسي، وأبو حسن الزنجاني، وأبو أحمد النهرجوري، والعوقي.
وأما الرأي الذي يورده عارف تامر عن المستشرق كازانوفا بأن آراء الإسماعيلية توجد كلها في رسائل إخوان الصفاء، فإن التشابه بين العقيدتين لا يعزى إلى إسماعيلية إخوان الصفاء، بل إلى التأثير الذي مارسه فكر الرسائل في الفكر الإسماعيلي إبان عصر نهضته، وهو تأثير خفي لم يعلن عنه رواد النهضة الإسماعيلية. ولو أن الرسائل كانت فعلا من تأليف الإمام أحمد بن عبد الله، لكان لها مكان الصدارة في الأدبيات الإسماعيلية في ذلك العصر، ولاعترف بفضلها عليهم أولئك المفكرون الذين وضعوا أسس العقيدة الفلسفية الإسماعيلية. يضاف إلى ذلك أننا إذا سلمنا جدلا بأن آراء الإسماعيلية توجد كلها في رسائل إخوان الصفاء، فإن آراء إخوان الصفاء لا توجد كلها في مؤلفات الإسماعيليين، وهناك اختلاف بين بين الفريقين بخصوص بعض الأفكار الاعتقادية الرئيسة، كما هو الحال في نظرية الفيض التي تشكل عماد كوزمولوجيا الإخوان، والتي يرفضها كل المفكرين الإسماعيليين، ويستبدلونها بنظرية الإبداع. وهذه نقطة لن نتوقف عندها طويلا حتى لا ننحرف عن المنهج الذي وضعناه لهذا الكتاب.
مما لا شك فيه أن الإخوان قد نشئوا في بيئة شيعية، وأنهم بشروا بعقيدتهم أول ما بشروا بين الشيعة. ولكن تشيعهم كان تشيعا فضفاضا انطلقوا منه لبناء عقيدة إنسانية شمولية تسمو على الحرفية الأيديولوجية وعلى تعصب المذاهب التي صبت عقائدها في صيغ جامدة متحجرة ... ولكي أشرح ما أعنيه بالتشيع الفضفاض يمكن أن أقارن استقلال إخوان الصفاء عن الخط الشيعي الرئيس باستقلال الشيعة الزيدية، مع الفارق الواسع بين الاتجاهين والجماعتين.
فقد شهدت السنوات الأولى من إمامة جعفر الصادق ظهور حركة انشقاقية قادها زيد بن علي، الأخ غير الشقيق للإمام الخامس محمد الباقر وعم جعفر الصادق، تميزت بالمواقف الصدامية الواضحة في مقابل ما دعاه زيد بالاستكانية التي ميزت مواقف الأئمة الشيعية، وروي عنه قوله إنه إذا ما رغب الإمام في اعتراف الناس به عليه أن يخرج وسيفه بيده. لم يعلق زيد أهمية كبرى على الإمامة الوراثية، ونظر باستخفاف إلى المفاهيم الأخروية المرتبطة بمهدية الإمام، وقال بجواز انتقال الإمامة إلى أي شخص من سلالة علي دون حصرها في نسب الحسين بن علي على ما تقول عامة الشيعة. وقد اعترف زيد بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان مظهرا تجاههم موقفا إيجابيا نابعا عن براجماتية سياسية أوضحها بقوله الشهير عن جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل. فعلى الرغم من أن عليا كان الأفضل لخلافة النبي، إلا أن البيعة التي أعطيت للخلفاء الثلاثة الأوائل المفضولين تبقى شرعية طالما أن المصلحة في ذلك الوقت تطلب ذلك. وفي هذا الموقف من الخلفاء الأوائل تتفق آراء الزيدية وآراء إخوان الصفاء الذين أشادوا في أكثر من موضع بأبي بكر وعمر وعثمان ودعوهم بالخلفاء الراشدين، وهو نعت لم تستخدمه الشيعة، وأينما ورد ذكر أحدهم أتبعوه بقولهم رضي الله عنه (9: 1، 323 و346). كما أظهر الإخوان الموقف نفسه من عائشة على الرغم من مواقفها المعادية لعلي (9: 1، 358).
على أننا إلى جانب ما أوردناه من نصوص، وغيرها مما لم نورده، والتي تبين الموقف السلبي للإخوان من مفهوم الإمامة، فإننا نجد أنفسنا أمام نصوص قليلة متفرقة تؤكد الإمامة، وتستخدم في التعامل معها مصطلحات إسماعيلية لا لبس فيها، ومعظمها يرد في الرسالة الأخيرة، وفي الرسالة الجامعة. نقرأ في الرسالة الأخيرة على سبيل المثال أن الأئمة: «هم خلفاء الله تعالى، التابعون لأمره، وبهم صلاح العالم. وربما كانوا ظاهرين بالعيان موجودين في المكان في دور الكشف، وبالضد من ذلك في دور الستر. غير أنهم في دور الستر لا يكونون مفقودي الوجه جملة من أعدائهم. فأما أولياؤهم فيعرفون مواضعهم، ومن أراد منهم قصدهم تمكن منه. ولو كان غير ذلك كان منه خلو الزمان من الإمام الذي هو حجة الله على خلقه، وهو تعالى لا يرفع حجته ولا يقطع الحبل الممدود بينه وبين عباده، فهم [أي الأئمة] أوتاد الأرض وهم الخلفاء بالحقيقة في الدورين جميعا، ففي دور الكشف يظهر ملكهم في الأجسام والأرواح، وفي دور الستر يجري أمرهم في الأنفس والعقول ...» (52: 4، 379).
كيف نوفق بين ما يظهر في هذا المقطع من إعطاء أهمية لفكرة الإمامة، وما ورد فيه من مصطلحات وأفكار إسماعيلية، وبين ما أوردناه قبل ذلك من شواهد تدل على عدم أخذ الإخوان بجدية فكرة الإمامة، بل وحتى صرفهم النظر عنها تماما؟ إن التفسير المنطقي الوحيد لهذا التناقض في موقف الإخوان من فكرة الإمامة، وهم الذين عودونا على الاتساق والبعد عن التناقض، هو أن بعض المتحمسين الإسماعيليين للرسائل في الفترات المتأخرة، قد قاموا بإقحام بعض المقاطع أو إعادة تحرير مقاطع أخرى من أجل التوكيد على الآراء التي كانت تظهر في ذلك الوقت عن إسماعيلية الرسائل وصلة الأئمة المتقدمين بتأليفها أو الإشراف على عملية تأليفها. مثل هذا التحريف يبدو ممكنا إذا علمنا أن الحلقات الإسماعيلية كانت وحدها هي المعنية بنسخ وتداول الرسائل بعد تفكك تنظيم الإخوان وتشتت شملهم.
بين الدين والفلسفة
يؤكد الإخوان في كل مكان من رسائلهم ضرورة الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، لا يسقطون منها حرفا، وهم الأولى بها من غيرهم: «واعلم أيها الأخ أن جماعة إخوان الصفاء أحق الناس بالعبادة الشرعية ومراعاة أوقاتها وأداء فروضها ومعرفة تحليلها وتحريمها؛ لأنا أخص الناس بها وأولاهم بحملها وأقرب الناس إلى من جاءت على يديه وأولاهم به» (50: 4، 268).
ولكن الدين الإسلامي لا يختصر إلى أوامر ونواهي الشريعة، بل له جانب فلسفي يحث الإنسان على معرفة نفسه ومعرفة ربه حق المعرفة، والارتقاء من رتبة الحيوانية إلى الرتبة الملائكية على طول طريق الارتقاء الصاعد نحو ملكوت السماوات. وهنا يأتي دور الفلسفة التي تنير لنا هذا الجانب الآخر من الدين وتعيننا على فهمه. إن غرض الأنبياء والفلاسفة واحد، وهو طب النفوس وعونها على النجاة: «واعلم بأن غرض الأنبياء، عليهم السلام، وواضعي النواميس الإلهية [من الفلاسفة والحكماء] أجمع، غرض واحد وقصد واحد، وإن اختلفت شرائعهم وسنن مفترضاتهم، وأزمان عباداتهم، وأماكن بيوتاتهم، وقرابينهم وصلواتهم، كما أن غرض الأطباء كلهم غرض واحد ومقصد واحد في حفظ الصحة الموجودة واسترجاع الصحة المفقودة، وإن اختلفت علاجاتهم ... وذلك أن غرض الأطباء كلهم هو اكتساب الصحة للمريض وحفظها على الأصحاء، ودفع الأمراض وإزالتها عن المرضى. فهكذا غرض الأنبياء، عليهم السلام، وغرض جميع واضعي النواميس الإلهية من الفلاسفة والحكماء. وذلك أنهم أطباء النفوس، وغرضهم هو نجاة النفوس الغريقة في بحر الهيولى، وإخراجها من هاوية عالم الكون والفساد، وإيصالها إلى الجنة عالم الأفلاك وسعة السماوات، [ذلك] بتذكيرها ما قد نسيت من مبدئها ومعادها» (20: 2، 141).
وأيضا: «ثم اعلم أن العلوم الحكمية والشريعة النبوية كلاهما أمران إلهيان يتفقان في الغرض المقصود الذي هو الأصل، ويختلفان في الفروع. وذلك أن الغرض الأقصى من الفلسفة هو ما قيل: إنها التشبه بالإله بحسب طاقة البشر، كما بينا في رسائلنا أجمع. وعمدتها أربع خصال: أولاها معرفة حقائق الموجودات، والثانية اعتقاد الآراء الصحيحة، والثالثة التخلق بالأخلاق الجميلة والسجايا الحميدة، والرابعة الأعمال الزكية والأفعال الحسنة. والغرض من هذه الخصال هو تهذيب النفس والترقي من حال النقص إلى التمام، والخروج من حد القوة إلى الفعل بالظهور؛ لتنال بذلك البقاء والدوام والخلود في النعم مع أبناء جنسها من الملائكة.
وهكذا الغرض من النبوة والناموس، هو تهذيب النفس الإنسانية وإصلاحها وتخليصها من جهنم عالم الكون والفساد، وإيصالها إلى الجنة ونعيم أهلها في فسحة عالم الأفلاك وسعة السماوات، والتنسم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن. فهذا هو المقصود من العلوم الحكمية والشريعة النبوية جميعا. وأما اختلافهما في الطرق المؤدية إليها، فمن أجل الطبائع المختلفة والأعراض المتغايرة التي عرضت للنفوس. وبذلك اختلفت موضوعات النواميس وسنن الديانات ومفروضات الشرائع، كما اختلفت عقاقير الأطباء وعلاجاتها بحسب اختلاف الأمراض» (28: 3، 30).
وليس ما يبدو من تناقض بين الفلسفة والدين إلا من قبيل قصور فهم بعض أهل العلوم الحكمية والعلوم الشرعية: «ثم اعلم أن الحكماء الأولين قد تكلمت في فنون من العلوم وضروب من الآداب وغرائب من الحكم كثيرة لا يحصي عددها إلا الله ... وقوم من العلماء الشرعيين ينكرون أكثره، إما لقصور فهمهم عما وصف القوم، أو لتركهم النظر فيها واشتغال بعلم الشرع وأحكامه، أو لعناد بينهما. وكذلك أيضا إن أكثر من ينظر في العلوم الحكمية، من المبتدئين فيها والمتوسطين من بينهم، يتهاونون بأمر الناموس وأحكام الشريعة ويزرون بأهله، ويأنفون من الدخول تحت أحكامه إلا خوفا وكرها من قوة الملك الذي هو أخو النبوة. كل ذلك لقصور فهم الفريقين جميعا عن معرفة حقائق هذه الأشياء المذكورة، ولقلة علمهم بماهيات الكائنات. ولما كان مذهب إخواننا الفضلاء الكرام النظر فيها جميعا والكشف عن حقائق أشيائها، أعني العلوم الحكمية والنبوية جميعا، وكان هذا العلم بحرا واسعا وميدانا طويلا، احتجنا أن نتكلم فيما دعت الضرورة إلى عمل هذه الرسائل التي هي إحدى وخمسون رسالة، والكلام فيها بأوجز ما يمكن» (28: 3، 29).
ونفوس الفلاسفة والحكماء من طينة نفوس الأنبياء، وهي أكثر قبولا لفيض النفس الكلية من بقية النفوس: «واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يقاربها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة. وكلما كانت أكثر قبولا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء عليهم السلام، فإنها لما قبلت بصفاء جوهرها الفيض من النفس الكلية أتت بالكتب الإلهية ... وما وضعت من الشرائع العلمية النافعة للكل، والسنن العادلة الزكية، فاستنقذوا بها نفوسا كثيرة غريقة في بحر الهيولى وأسر الطبيعة. ومثل نفوس المحققين من الحكماء، التي استنبطت علوما كثيرة حقيقية، واستخرجت صنائع بديعة، وبنت هياكل حكيمة ... وإلى مثل هذه النفوس أشاروا بقولهم: ... من خاصية العقل المنفعل أن يقبل الجزء منه صورة الكل» (15: 2، 10).
من هنا فإن الفلسفة لا تتفق مع الدين فقط، بل إنها تساعد على فهم النص المقدس نفسه، وتفسير آياته، والكشف عن أسراره: «إن نعمة الله تعالى على عباده جمة لا تفنى، ومواهبه كثيرة لا تحصى، ولكن يتفاضل بعضها بعضا بحسب جزالتها وغزارتها. فمن مواهب الله الجزيلة وعطاياه الجميلة لبعض عباده، التي خص بها قوما دون قوم، هي الحكمة البالغة كما ذكر بقوله: ... ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ...
3
يعني به علم القرآن خاصة، وتفسير آياته ومعاني أسراره وإشاراته اللطيفة ... حيث يفسر قوم آيات الله على خلاف ما هو معناه، كما فسروا الاستواء بالجلوس والتمكن على العرش، و[فسروا] الرؤية بالنظر إلى الجسم المشار إليه، وبالسمع والبصر فسروا الأعضاء الإلهية، وفسروا الكلام بالنطق والحروف، وبالنزول الانتقال من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وغير ذلك من الآيات التي لا يعرف تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون ويعرفون تأويل آياته وأسراره. ويقولون: ... آمنا به كل من عند ربنا ...
4
فهذا قول الحكماء الربانيين والعلماء المتفلسفين.
ثم اعلم أن لفظ الفيلسوف عند اليونانيين معناه الحكيم، والفلسفة تسمى الحكمة. والحكيم هو الذي أفعاله تكون محكمة وصناعته متقنة، وأقاويله صادقة، وأخلاقه جميلة، وآراؤه صحيحة، وأعماله زكية، وعلومه حقيقية ...» (40: 3، 344-345). «ثم اعلم أن الحكماء والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم سفراء الله بينه وبين خلقه ... فإذا مضت الأنبياء لسبلها خلفهم العلماء والحكماء، وقاموا مقامهم ونابوا منابهم فيما كانوا يقولون ويفعلون، ويعلمون الناس من معالم الدين وطريق الآخرة ومصالح الدنيا. فمن قبل منهم ما قالوه وعمل بما أمروه، فهو على طريق النجاة والفوز، ومن أبى وكفر به فهو على خطر عظيم وخوف من الهلاك. فاحذر يا أخي مخالفة الحكماء ومعاندة العلماء، بل كن منهم إذا استوى لك. وينبغي أن لا ترضى لنفسك إلا بأعلى مرتبة في العلم والحكمة، فإن بذلك يكون القربة إلى الله كما ذكر بقوله: ... قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب .
5 ... ويحتاج كل من يدعي أنه يعرف الحكمة ... أن يكون له قلب فارغ من هموم الدنيا وأمورها، ونفس زكية، وفهم دقيق، وعقل واضح، وأخلاق طاهرة، وصدر سليم من الدغل والغش والآراء الفاسدة، ويكون مرتاضا بالرياضيات الحكمية الأربع، والنظر في المنطق والطبيعيات، ويكون قد عرف السؤالات وأجوبتها، ثم ينظر في هذا الفن الذي يسمى علم الأنبياء الملقب بعلم الإلهيات [= الحكمة]؛ لأن هذا العلم هو الغاية القصوى التي ينتهي إليها الإنسان في علم المعارف» (40: 3، 347-348).
وقبل هذا كله لا بد من إتقان علوم الدين وأحكام الشريعة: «... ويكره النظر في علوم الفلسفة للأحداث والصبيان وكل من لم يتعلم علم الدين، ولا يعرف من أحكام الشريعة قدر ما يحتاج إليه، وما هو فرض عليه، ولا يسعه جهله وتركه. فأما من قد تعلم علم الشريعة وعرف أحكام الدين وتحقق أمر الناموس، فإن نظره في علم الفلسفة لا يضره بل يزيده في علم الدين تحققا، وفي أمر المعاد استبصارا، وبثواب الآخرة وبالعقاب الشديد يقينا، وإليها اشتياقا، وفي الآخرة رغبة» (3: 1، 157).
هذه العروة الوثقى بين الدين والفلسفة تبدو واضحة في الشواهد التي يوردها الإخوان، حيث يقتبسون في حيز واحد أقوالا للفلاسفة والأنبياء معا، كما هو الحال في هذا المقطع الذي يستشهد فيه الإخوان بأرسطو وفيثاغورس وغيرهما من الحكماء، مثلما يستشهدون بأقوال الرسول: «ويحكى في الحكمة القديمة أنه من قدر على خلع جسده ورفض حواسه وتسكين وساوسه، وصعد إلى الفلك، جوزي هناك بأحسن الجزاء. ويقال إن بطليموس كان يعشق علم النجوم، وجعل علم الهندسة سلما صعد به إلى الفلك، فمسح الأفلاك وأبعادها، والكواكب وأعظامها، ثم دونه في [كتاب] المجسطي. وإنما كان ذلك الصعود بالنفس لا بالجسد.
ويحكى عن هرمس المثلث بالحكمة ... إنه صعد إلى فلك زحل ودار معه ثلاثين سنة، حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم ...
وقال أرسطاطاليس في كتاب الثالوجيا، شبه الرمز: إني ربما خلوت بنفسي وخلعت بدني، وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن، فأكون داخلا في ذاتي، خارجا عن جميع الأشياء، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجبا باهتا، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الفاضل الشريف.
وقال فيثاغورس في الوصية الذهبية: إذا فعلت ما قلت لك يا ديوجانس وفارقت هذا البدن حتى تصير نحلا في الجو، فتكون حينئذ سائحا غير عائد إلى الإنسانية ولا قابل للموت.
وقال المسيح، عليه السلام، للحواريين في وصية له: إذا فارقت هذا الهيكل [= البدن] فأنا واقف في الهواء عن يمنة عرش ربي، وأنا معكم حيثما ذهبتم، فلا تخالفوني حتى تكونوا معي في ملكوت السماء غدا.
وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لأصحابه في خطبة له طويلة: أنا واقف لكم على الصراط، وإنكم ستردون على الحوض غدا، فأقربكم مني منزلا يوم القيامة من خرج من الدنيا على هيئة ما تركته. ألا لا تبدلوا بعدي، ألا لا تتبدلوا بعدي.
فهذه الحكايات والأخبار كلها دليل على بقاء النفس بعد مفارقة الجسد، وإن الإنسان العاقل إذا استبصرت نفسه في هذه الدنيا وصفت من دون الشهوات والمآثم، وزهدت في الكون ها هنا، فإنها عند مفارقة الجسد لا يعوقها شيء عن الصعود إلى السماء ودخول الجنة، والكون هناك مع الملائكة» (3: 1، 137-138).
ويروي الإخوان عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «أنا أرسطاطاليس هذه الأمة.» فهو إلى جانب كونه صاحب شريعة، فقد كان متعمقا بالفلسفة الإلهية: «كان، عليه السلام، مؤمنا عارفا بالدعاء في وقت الإجابة، ولذلك كان لا يرد له دعاء. وكان إماما للمسلمين والمؤمنين عارفا بالفلسفة الإلهية. ولما تمت الفضيلة لواحد من أهله وأصحابه قال مفتخرا: أنا أرسطاطاليس هذه الأمة» (50: 4، 263).
إن إسلام إخوان الصفاء يقوم على الميراث الروحي والثقافي الإنساني بأكمله، وعلومهم مستمدة من مصادر متنوعة، وكلها تغني إيمان المسلم وتفتح قلبه لفهم خوافي النص الديني، وإدراك مدلولات الشرائع: «إن علومنا مأخوذة من أربعة كتب: أحدها الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة، من الرياضيات والطبيعيات؛ والآخر الكتب المنزلة التي جاءت بها الأنبياء، صلوات الله عليهم، مثل التوراة والإنجيل والفرقان وغيرها من صحف الأنبياء المأخوذة معانيها بالوحي من الملائكة، وما فيها من الأسرار الخفية؛ والثالث الكتب الطبيعية، وهي صور وأشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك، وأقسام البروج، وحركات الكواكب ومقادير أجرامها، وتصاريف الزمان، واستحالة الأركان، وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات ... والنوع الرابع الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون الملائكة ... وهي [معرفة] جواهر النفوس وأجناسها وأنواعها وجزيئاتها، وتصاريفها للأجسام، وتحريكها لها وتدبيرها إياها وتحكمها عليها، وإظهار أفعالها بها ومنها حالا بعد حال، في ممر الزمان وأوقات القرانات والأدوار، وانحطاط بعضها تارة إلى قعر الأجسام، وارتفاع بعضها تارة من ظلمات الجثمان، وانبعاثها من نوم الغفلة والنسيان ...» (45: 4، 42).
وأيضا: «واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا كتبا نقرؤها مما شاهدها الناس ولا يحسنون قراءتها، وهي صورة أشكال الموجودات بما هي عليه الآن ... ولنا كتاب آخر لا يشاركنا فيه غيرنا ولا يفهمه سوانا؛ وهو معرفة جواهر النفوس ومراتب مقاماتها، واستيلاء بعضها على بعض، وافتنان قواها، وتأثيرات أفعالها في الأجسام من الأفلاك والكواكب، والأركان والمعادن والنبات والحيوانات، وطبقات الناس ... فإن نشطت أيها الأخ البار الرحيم، إلى قراءة هذه الكتب أنت وإخوانك؛ لتعلم ما فيها وتفهم معانيها وتعرف أسرارها، فهلم إلى حضور مجلس إخوان لك فضلاء وأصدقاء لك كرام، تسمع أقاويلهم وترى شمائلهم وتعرف سيرتهم، لعلك تتخلق بأخلاقهم وتتهذب بآدابهم فتنبه نفسك من نوم الغفلة، وتستيقظ من رقدة الجهالة ... فترى ما قد أبصروه بعيون قلوبهم، وتشاهد ما قد عاينوه بصفاء جواهر نفوسهم، وتنظر إلى ما نظروا إليه بنور عقولهم، وتفهم معاني هذه الكتب الأربعة كما فهموها ...» (48: 4، 167-168).
وعلى الرغم من أولوية العقل على النقل عند الإخوان، إلا أنهم يعطون الأسبقية للإيمان على العلم الذي يلي لاحقا، وعلى الإنسان ألا يطلب البرهان أولا، بل يبتدئ بالتصديق ثم يطلب البرهان الفلسفي بعد ذلك: «إن الحكماء قالوا: إن العلم هو تصور النفس رسوم المعلومات في ذاتها. فإذا كان العلم هو هذا فليس كل ما يرد الخبر به من طريق السمع تتصوره النفس بحقيقته؛ فإذن لا يكون ذلك علما بل إيمانا وإقرارا وتصديقا. ومن أجل هذا دعت الأنبياء أممها إلى الإقرار أولا ثم طالبوها بالتصديق بعد البيان، ثم حثوهم على طلب المعارف الحقيقية. والدليل على صحة ما قلنا قول الله عز وجل:
الذين يؤمنون بالغيب ... ،
6
ولم يقل يعلمون بالغيب. ثم حثهم على طلب العلم بقوله: ... فاتقوا الله يا أولي الألباب ...
7
ثم مدح فقال: ... يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ...
8 ... الذين أوتوا العلم والإيمان ...
9
فكفى بهذا فرقا بين العلم والإيمان ...
واعلم يا أخي أن الناس كلهم في المعارف على أربع منازل: فمنهم من قد رزق العلم ولم يرزق الإيمان ، ومنهم من رزق الإيمان ولم يرزق العلم، ومنهم من قد وفر حظه منهما جميعا، ومنهم من قد حرمهما جميعا ... وأما الذين أوتوا الإيمان ولم يرزقوا العلم، فهم طائفة من الناس المقرين بما في كتب الأنبياء، عليهم السلام، من أخبار البعث وأمر المبدأ والمعاد، وأحوال الملائكة ومقاماتهم، وحديث البعث والقيامة والحشر والنشر ... وما شاكلها من الأمور الغائبة عن الحواس، البعيدة عن تصور الأوهام. وهم، مع قلة علمهم، ساكنة نفوسهم ما أخبرت به الأنبياء، وما أشارت إليه الحكماء من الثواب في المعاد ونعيم الجنان، ومصدقون لهم في السر والإعلان، راغبون فيها، طالبون لها، عاملون من أجلها، ولكنهم تاركون البحث عنها والكشف لها والنظر في حقائقها ...
وأما الذين رزقوا حظا من العلم ولم يرزقوا الإيمان، فهم طائفة من الناس نظروا في كتب الفلاسفة والحكماء، وبحثوا عنها، وارتاضوا بما فيها من الآداب، مثل الهندسة والتنجيم والطب والمنطق والجدل والطبيعيات، وما شاكلها، فأعجبوا بها وتركوا النظر في كتب النواميس والتنزيلات النبوية ... فعميت عليهم الأنباء فهم شاكون في حقائقها، متحيرون في معرفة معانيها، جاهلون بلطيف أسرارها، غافلون عن عظيم شأنها، وإليهم أشار بقوله: ... فرحوا بما عندهم من العلم ... .
10
وأما الذين حرموا العلم والإيمان جميعا، فهم طائفة من الذين أترفوا في هذه الحياة الدنيا، فهم مشغولون الليل والنهار في طلب شهواتها، مغرورون بعاجل حلاوات لذات نعيمها، تاركون لطلب الآداب، معرضون عن العلم وأهله، غافلون عن أمر الديانات وأحكام الشرائع ... وإليهم أشار بقوله: ... وأترفناهم في الحياة الدنيا ...
11 ...
فأما الذين أوتوا من العلم والإيمان حظا جزيلا، فهم إخواننا الفضلاء الكرام الأخيار الذين أشار إليهم بقوله: ... يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ... .
12
وقد أخبرنا عن مذهبهم، وعرفناكم أخلاقهم، وبينا آراءهم، وأوضحنا أسرارهم في إحدى وخمسين رسالة ...
واعلم يا أخي أن الإيمان يورث العلم لأنه متقدم الوجود على العلم. ومن أجل هذا دعت الأنبياء، عليهم السلام، الأمم إلى الإقرار أولا بما خبرتهم، والتصديق بما كان غائبا عنهم عن إدراك حواسهم وتصور أوهامهم، فإذا أقروا بألسنتهم سموهم عند ذلك المؤمنين. ثم طالبوهم بتصديق القلب كما ذكر الله: ... ومن يؤمن بالله يهد قلبه ...
13
فإذا وقع التصديق بالقلب سموهم الصديقين، كما قال تعالى:
والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون
14 ... ... واعلم أنك أيضا محتاج إلى الإيمان والتصديق لقول المخبر لك، الذي هو فوقك في العلم وأعلى منك في المعارف؛ لأنك إن لم تؤمن بما يخبرك به حرمت أشرف العلوم وأجل المعارف. وتعلم أنه ليس لك طريق إلى تصديق المخبر لك في أول الأمر إلا حسن الظن بصدقه، ثم على ممر الأوقات تتبين لك حقيقة ذلك. فلا تطلبه بالبرهان في أول الأمر، ولكن اجتهد في أن تتصور في فكرك ما تسمع بأذنك، ثم اطلب السبيل والبرهان بعد ذلك. ولا ترض بالتقليد إذا توسطت في العلم، ولا تطلب البرهان في أوله ...» (46: 4، 62-66).
وإذا كان الإخوان أحق الناس بالعبادة الشرعية وأداء فروضها، كما قدمنا سابقا، فإن لهم إلى جانبها عبادات فلسفية تقام في مواعيد محددة، ويكون لمن اقتدى بها بعد ذلك أعياد فلسفية أيضا: «فأما العبادتان فإحداهما الشرعية الناموسية باتباع صاحب الناموس والانقياد إلى أوامره ونواهيه، والمسارعة إلى ما جاء به وقضاه وحكم به على من استجاب إليه ... والنظر إلى أفعال النبي
صلى الله عليه وسلم
والاقتداء بأفعاله، والتشبه به في جميع أفعاله، كما قال الله:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ... ،
15
والتضرع إلى الله سبحانه بالدعاء والابتهال في وقت الاجتماعات في الأعياد والجمعات ... وأما العبادة الثانية فهي العبادة الفلسفية الإلهية، وهي الإقرار بتوحيد الله عز وجل ...
فاعلم يا أخي أنك متى كنت مقصرا في العبادة الشرعية فلا يجب لك أن تتعرض لشيء من العبادة الفلسفية وإلا هلكت وأهلكت وضللت وأضللت، وذلك أن العمل بالشريعة الناموسية، والقيام بواجب العبادة فيها، ولزوم الطاعة لصاحبها، عليه السلام، إسلام،
16
والعلم بالعبادة الفلسفية الإلهية إيمان. ولا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون مسلما، والإسلام سابق على الإيمان كما قال الله تعالى:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ...
17
وإنما تخصص أصحاب الرسول بعده بالصبر الذي رأوه كان يستعمله في العبادة والطاعة لربه فرضا على نفسه وتعليما لأصحابه، فقام بالأمرين وكمل بالمنزلتين وحاز الفضيلتين؛ لأنه كان مسلما مؤمنا عارفا بالدعاء في وقت الإجابة، ولذلك كان لا يرد له دعاء، وكان إماما للمسلمين والمؤمنين، عارفا بالفلسفة الإلهية.
وأما العبادة الفلسفية الإلهية فإن أول درجة منها، وهي التي كانت الفلاسفة القدماء والأجلة العلماء يأخذون بها أولادهم وتلامذتهم بعد تعليمهم أحكام السياسات الجسمانية والنفسانية والعبادات الناموسية الشرعية، أن يكون لهم في كل شهر من شهور السنة اليونانية ثلاثة أيام في كل شهر: يوم في أوله، ويوم في وسطه، ويوم في آخره.
فأما اليوم الأول من الشهر، فيجب له أن يتطهر أنظف طهور، ويتبخر بأطيب ما يقدر عليه من البخور، ولا يفرط في طهارته وصلواته المفروضة عليه في شريعة الناموس. فإذا انقلب من محراب صلاة العشاء الآخرة، جلس يسبح الله ويقدسه ويهلله ويكبره إلى أن يمضي من الليل الثلث الأول. ثم يقوم ويجدد الوضوء ويسبغ الطهارة ليكون طهور على طهور ونور على نور، ويبرز من بيته إلى أن يحصل تحت السماء بحذاء الجدي، وهو النجم الذي يهتدى به ... فيتأمل الكتاب المبين ويتدبر آياته ويرى الملكوت دائما، وهو يسبح الله ويقدسه ولا يدع التكبير والتهليل ... ولا يزال كذلك حتى يذهب من الليل الثلثان، فيكون الثلث الأول قياما بعبادة الناموس، والثلث الثاني قياما في التفكير في الملكوت.
فإذا زال أوان الثلث الأوسط هبط إلى الأرض ساجدا بتذلل وخضوع لباريه، فلا يزال كذلك ما قدر عليه، ثم يرفع رأسه ببكاء واستغفار وتوبة واستعبار، فيعدد ذنوبه على نفسه، وينوي التوجه بحسناته وصالح أعماله، ويدعو بالدعاء الأفلاطوني والتوسل الإدريسي [= الهرمسي]، والمناجاة الأرسططالية المذكورة في كتبهم. فلا يزال كذلك حتى يبدو الفجر، فيقوم فيسبغ الوضوء ويتطهر، فيرجع إلى محرابه فيصلي صلاة الفجر، ويجلس في مكانه إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس وأقبل أول النهار، ذبح بيده إذا كان ممن قد اعتاد ذلك ما قدر عليه من محلل الحيوان، ويأمر بإصلاح ما كان من الطعام، ويأذن لأهله وإخوانه بالدخول عليه والوصول إليه، ويحضر ذلك بين أيديهم. فإذا فرغوا من طعامهم حمدوا الله، جل وعز اسمه، وشكروه وخروا له سجدا شكرا له بما من عليهم. ثم يخرج إليهم من الحكمة بحسب ما يوجبه الزمان ويسعه المكان. ولا يزالون كذلك بقية يومهم إلى الوقت من [صلاة] العشاء الآخرة. فيرجعون إلى منازلهم ... إلى اليوم الثاني [في وسط الشهر] وهو يوم ليلة البدر ... فيفعل في تلك الليلة وصبيحة ذلك اليوم كما فعل في اليوم الأول وأزيد قليلا ... ثم في آخر الشهر وهو اليوم الخامس والعشرون ...
ويكون لمن اقتدى بهذه السنة ثلاثة أعياد: العيد الأول يوم نزول الشمس برج الحمل، وذلك أنه في هذا اليوم يستوي الليل والنهار في الأقاليم، ويعتدل الزمان، ويطيب الهواء ... ويذوب الثلج، وتسيل الأودية ... وينبت العشب، ويطول الزرع ... وكان الحكماء في هذا اليوم يجتمعون ويجمعون أولادهم وشبان تلامذتهم بأحسن زينة وأنظف طهور إلى الهياكل التي كانت لهم، ويذبحون الذبائح الطاهرة ... فإذا أكلوا وفرحوا أخذوا في استعمال الموسيقى بالنقرات المحركة للأنفس إلى معالي الأمور، والنغمات اللذيذة بتلاوة الحكمة ونشر العلم، فيكون بذلك راحة النفس وكمال الأنس، فلا يزالون كذلك بقية يومهم ثم ينصرفون إلى أشغالهم. ولهذا اليوم اسم باليونانية [وهو] نوء الربيع.
فإذا نزلت الشمس أول السرطان، فإن ذلك اليوم [هو] العيد الثاني: نوء الصيف. وفيه يتناهي طول النهار وقصر الليل، وانصراف الربيع، ومجيء الصيف، واشتداد الحر وهبوب السمائم، ونقصان المياه، ويبس العشب، واستحكام الحب، وإدراك الحصاد والثمار. فيكون ذلك اليوم عيدا لاستقبال زمان جديد تابع للزمان الأول ...
فإذا نزلت [الشمس] أول دقيقة من برج الميزان، استوى الليل والنهار مرة أخرى، ودخل الخريف، وطاب الهواء، وهبت رياح الشمال ... فيكون ذلك اليوم أيضا يوم عيد، فيدخلون إلى الهيكل المبني لذلك اليوم، ويكون استعمالهم من الأكل ما يوافق طبيعة ذلك اليوم والزمان، ومن نشر العلم ما لاق به، ولا عيد لهم بعده إلى أن تبلغ الشمس آخر القوس أول الجدي.
العيد الرابع يتناهى طول الليل وقصر النهار، ويأخذ الليل في النقصان والنهار في الزيادة، وينصرف الخريف، ويدخل الشتاء ويشتد البرد ... ويتساقط ورق الشجر ويموت أكثر النبات ... وكانت الحكماء تتخذ هذا اليوم يوم حزن وكآبة وندم واستغفار، وكانوا يصومونه ولا يفطرون فيه» (50: 4، 261-268).
والإخوان إذ يتبنون هذه الأعياد الفلسفية القديمة، فلأنها تتطابق مع مناسبات معينة في تاريخ التنظيم غامضة علينا، ويصعب إلقاء الأضواء عليها في ظل الوضع الحالي لمعلوماتنا عنهم. وهم في الإشارة إليها لا يزيدوننا إلا غموضا: «فأعيادنا أيها الأخ هي أشخاص ناطقة وأنفس فعالة تفعل بإذن ربها ما يوحيه إليها ويلهمها من الأفعال والأعمال. فاليوم الأول من أيامنا والعيد الفاضل من أعيادنا هو يوم خروج أول القائمين
18
منا، ويكون اليوم الموافق له لنزول الشمس برج الحمل، لمجيء الربيع والخصب والنعمة ... وهو يوم فرح وسرور لنا ولجميع إخواننا. واليوم الثاني هو يوم قيام الثاني، الموافق يوم قيامه يوم نزول الشمس أول السرطان في تناهي طول الليل وقصر النهار؛ إذ كان فيه تصرم دولة أهل الجور وانقضاؤها، وهو فرح وسرور واستبشار. واليوم الثالث هو يوم قيامة ثالثنا الموافق لنزول الشمس أول الميزان واستواء الليل والنهار، ودخول الخريف، وهي مقاومة الباطل الحق، وكون الأمر على خلاف ما كان عليه. ثم اليوم الرابع يوم الحزن والكآبة، يوم رجوعنا إلى كهفنا وكهف التقية والاستتار، وكون الأمر على ما قال صاحب الشريعة: إن الإسلام ظهر غريبا وسيعود غريبا، فيا طوبى للغرباء»
19 (50: 4، 269-270).
ويختم الإخوان حديثهم عن الأعياد بنص أكثر غموضا عن قربان إخوان الصفاء: «واعلم أيها الأخ أن القربان كما ذكرنا قربانان: شرعي وفلسفي لا ثالث لهما. فأما القربان الشرعي فهو المأمور به في الحج من ذبح الحيوانات المذكورة الموصوفة على شرائطها ... وأما الفلسفي فهو مثل ذلك إلا أن النهاية فيه التقرب بالأجساد إلى الله سبحانه بتسليمها إلى الموت وترك الخوف، كما فعل سقراط لما شرب السم المذكورة قصته في كتاب فأذن، وكاستبشار أرسطاطاليس لما نزل الموت به لما حزن عليه تلامذته وما كان من خطابه به ووصيته المذكورة في رسالة التفاحة .
واعلم أيها الأخ أن أعظم القرابين هو ترك النفس محبة الدنيا، والزهد فيها، وقلة الخوف من الموت وتمنيه.
وأما قربان إخوان الصفاء فهو قربان يجمع هذه الخصال كلها بأسرها شرعيها وفلسفيها، وهو التقرب بما تقرب به إبراهيم من الكبش الممنون به عليه فداء لولده الذي قد رعى في أرض الجنة أربعين خروفا. فإن تمكنت أن تتقرب بكبش رعى في أرض الجنة ولو شبرا، فافعل ولا تقعد عنه، واجتهد في ذلك لتكون قد بلغت المجهود وأقمت المثل، وعمرت عالم الله تعالى. وأرجو أن يوفقك الله لفهم ما تسمع ويجعلك من أهله» (50: 4، 270-271).
الظاهر والباطن
تتخلل ثنائية الظاهر والباطن رسائل الإخوان من أولها إلى آخرها، وكل ما في الوجود له ظاهر وباطن بما في ذلك الإنسان الذي يمتلك جسدا ظاهرا ونفسا خفية: «اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال، ومشتركان في الأفعال العارضة والصفات الزائلة، صار الإنسان من أجل جسده الجسماني مريدا للبقاء في الدنيا متمنيا الخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالبا للدار الآخرة متمنيا للبلوغ إليها. وهكذا أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله مثنوية متضادة، كالحياة والممات والنوم واليقظة والعلم والجهالة» (7: 1، 259). «فلما كان الإنسان هو جملة مركبة من جسد جسماني ظاهر جلي، ومن نفس روحانية باطنة خفية، صارت أحكام الدين والإسلام وحدود الشريعة على وجهين ظاهر وباطن. والظاهر هو أعمال الجوارح، والباطن هو اعتقادات الأسرار في الضمائر، وهو الأصل، كما قال، عليه السلام: الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» (42: 3، 486). «فاعلم يا أخي بأن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهرا وباطنا. وظواهر الأمور قشور وعظام، وبواطنها لب ومخ، وأن الناموس هو أحد الأشياء الموجودة في هذا العالم منذ كان الناس، وله أحكام وحدود ظاهرة بينة يعلمها أهل الشريعة وعلماء أحكامها من الخاص والعام، ولأحكامه وحدوده أسرار وبواطن لا يعرفها إلا الخواص منهم والراسخون في العلم» (9: 1، 328). «ثم اعلم، أيدك الله ، أن علم الدين وآدابه وما يتعلق به نوعان: فمنها ظاهر جلي، ومنها ما هو باطن خفي، ومنها ما هو بين ذلك. وأولى ما يصلح للعامة من حكم الدين وآدابه ما كان ظاهرا جليا مكشوفا، مثل علم الصلاة والصوم، والزكاة والصدقات ... وما شاكلها تعليما وتسليما وإيمانا. وأولى علوم الدين بالمتوسطين بين الخاصة والعامة هو التفقه في أحكامها، والبحث عن السيرة العادلة، والنظر في معاني الألفاظ مثل التفسير والتنزيل والتأويل، والنظر في المحكمات والمتشابهات، وطلب الحجة والبرهان، وأن لا يرضى من الدين تقليدا إذا كان يمكنه الاجتهاد ودقة النظر.
والذي يصلح للخواص البالغين في الحكمة الراسخين في العلوم من علم الدين أن يطلبوه ... هو النظر في أسرار الدين وبواطن الأمور الخفية، وأسرارها المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون ... وهي البحث عن مرامي أصحاب النواميس في رموزهم وإشاراتهم اللطيفة، المأخوذة معانيها عن الملائكة، وما تأويلها وحقيقة معانيها الموجودة في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف الأنبياء عليهم السلام، من الأخبار عن بدء كون العالم وخلق السماوات في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وخلق آدم الأول الترابي، وأخذ الميثاق عليه وعلى ذريته، وعتاب الملائكة لربها ... وما شاكل هذه الإشارات والمرامي عن أمور قد مضت مع الزمان وانقضت مع الأيام، وما ينتظر في المستقبل كالمكث في البرزخ، والبعث والقيامة ... وما شاكل هذه الأمور المذكورة في كتب الأنبياء» (42: 3، 511). «واعلم أن الله تعالى جعل الدين طريقا من الدنيا إلى الآخرة، وجعل في قوام الدين صلاحا للدنيا والآخرة جميعا. وذلك أن الدين له ظاهر وباطن وقوامه بها جميعا. فمن الناس من لا يريد بتمسكه بالدين إلا صلاح الدنيا ومنافعها، فيحرص في أحكام الدين وشريعته من الصلاة والصوم وما شاكلهما، ويرائي الناس وبذلك يطلب منافع الدنيا، فيكون في حفظه أحكام الدين قوام له، كما قيل: إن الله ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم. ومن الناس من يريد الدنيا لطلب الآخرة وصلاح المعاد، فهم يزهدون في الدنيا ويتركون الشرور، ويؤدون الأمانات سرا وإعلانا، ويعاملون الناس بالصدق ... وفي ذلك صلاح أمر الدنيا والآخرة جميعا» (42: 3، 492). «اعلم أن اعتقادات الناس كثيرة لا يحصى عددها إلا الله تعالى، ولكن لا تخرج كلها من ثلاثة أنواع: فمنها ما يصلح للخاص دون العام، ومنها ما للعام دون الخاص، ومنها ما بين الخاص والعام» (42: 3، 452). وذلك بحسب استعداداتهم لفهم ما يلقى إليهم: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما كان العقلاء متفاوتي الدرجات في ذكاء نفوسهم، وصفاء أذهانهم وجودة تميزهم، صاروا أيضا متفاوتي الدرجات في العلوم والمعارف. ولما كان الأمر كما وصفنا، لم يكن أن يخاطبوا بصريح الحقائق خطابا واحدا، إلا بألفاظ مشتركة المعاني، ليحمل كل ذي لب وعقل وتمييز بحسب طاقته واتساعه في المعارف والعلوم، كما ذكر الله، جل ثناؤه، بقوله على سبيل المثال:
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ...
20
قال المفسرون معنى هذه الآية وتأويلها أنه أنزل القرآن من السماء إلى الأرض، كما أنزل المطر من الغيم، فاحتملت القلوب من علم القرآن بحسب اتساعها في المعارف وصفاء جواهر النفوس، كما تحمل الأودية من سيل المطر بحسب سعتها وجريانها. ثم افهم أن لفظ القلب ليس هو قطعة لحم صنوبري الشكل، المعلقة من الصدر الموجود في أكثر الحيوانات؛ وليس المراد من القلب ها هنا ذاك، بل مراد إخواننا أمر وراء ذلك وهي النفس» (38: 3، 299-300).
من هنا فإن الأنبياء صرحوا للخواص دون استخدام الرموز، ورمزوا للعوام بمعان محتملة للتأويل بما تفهمها عقولهم وتقبلها نفوسهم: «واعلم يا أخي أن الأنبياء يستعملون في خطابهم للناس ألفاظا مشتركة المعاني، لكيما يفهم كل إنسان بحسب ما يحتمل عقله؛ لأن المستمعين لألفاظهم وقراء تنزيلات كتبهم متفاوتون في درجات عقولهم: فمنهم خاص، ومنهم عام، ومنهم بين ذلك. فالعامة يفهمون من تلك الألفاظ معاني، والخاصة يفهمون معاني أخرى أدق وألطف. وفي ذلك صلاح للجميع؛ لأنه قد قيل في الحكمة: كلموا الناس على قدر عقولهم. وقال المسيح، عليه السلام، للحواريين: لا تضيعوا الحكمة فتضعوها عند غير أهلها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم» (46: 4، 122).
وأيضا: «وإنما يستعمل صاحب النواميس هذه الألفاظ في تنزيله وخطبه؛ لأن كلامه على العموم للناس: الخاص والعام. وفي المخاطبين: نساء وصبيان، وعلماء وجهال، وعقلاء وأغبياء. ما بين ذلك إلا لكي يعقل ويكمل كل إنسان منهم معاني ألفاظه بحسب فهمه وذكائه وصفاء جوهره، فلا يخلو أحد منهم من فائدة إذا سمعوا قراءة التنزيل. وهذا هو من أجل المعجزات في كتب الأنبياء، وخاصة القرآن منها. ومن أجل هذا قال النبي
صلى الله عليه وسلم : نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف. كل آية لها ظاهر وباطن» (42: 3، 488).
وأيضا: «فإذا تحققت هذه الآراء في نفس واضع الشريعة، وتصورها في فكرة كأنه يشاهد يقينا لا شك فيه، دعا عند ذلك إليها أهل دعوته الذين أرسل إليهم، ويجتهد في إنبائهم ما قد اعتقده [وذلك] بالتصريح عنها للخواص من أهل دعوته في السر والإعلان، غير مرموز ولا مكتوم، ثم يشير إليها ويرمز عنها عند العوام بالألفاظ المشتركة، والمعاني المحتملة للتأويل بما يعقلها الجمهور وتقبلها نفوسهم. فمن فهم تلك المعاني وتصور حقائق تلك الأمور التي أشار إليها واضع الشريعة، وتيقن بها، ودام بعد نصرتها مجتهدا في معاونته، محتملا للضيم، صابرا في السر أو الضر طلبا لمرضاة الله تعالى، سماهم واضع الشريعة الصديقين والشهداء والصالحين ... وإنما سماهم الشهداء لمشاهدتهم لتلك الأمور الروحانية المفارقة للهيولى، يعني به: جنة الحياة ونعيمها، وسماهم الصديقين؛ لتصديقهم لها بالطلب والاجتهاد ...
فأما من قصر فهمه عن معرفة تلك المعاني، وعن تصور تلك الأمور بحقائقها، فأقر بما أخبره واضع الشريعة، وصدقه على ما قال، وقام معه بنصرته مجتهدا في معاونته، صابرا تحت أمره ونهيه، سماهم واضع الشريعة المؤمنين، ومدحهم الله تعالى وأثنى عليهم من جهة إيمانهم بما أخبرهم، وتصديقهم له واجتهادهم معه في نصرته ومعاونته فقال:
وعد الله المؤمنين والمؤمنات ... .
21
وأما من أقر بلسانه وشك فيما قال بقلبه سماهم المسلمين، وذمهم الله تعالى قال:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ... »
22 (47: 4، 132).
والناجون من أسر الطبيعة المرشحون للرتبة الملائكية هم أهل الباطن الذين وفقوا لفهم معاني الكتب الإلهية وأسرار موضوعات الشريعة. أما أهل الظاهر فلعلهم ينجون بشفاعة أهل الباطن: «واعلم أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة، وهي الألفاظ المقروءة المسموعة، ولها تأويلات خفية باطنة ... وفي استعمال أحكامها الظاهرة صلاح للمستعملين في دنياهم ، وفي معرفة أسرارها الخفية صلاح لهم في أمر معادهم وآخرتهم. فمن وفق لفهم معاني الكتب الإلهية، وأرشد إلى معرفة أسرار موضوعات الشريعة، واجتهد في العمل بالسنة الحسنة والسير بسيرته العادلة، فإن تلك النفوس هي التي إذا فارقت الجسد ارتفعت إلى رتبة الملائكة التي هي جنات لها، وهي ثماني مراتب، وفازت ونجت من الهيولى ذي ثلاث الشعب التي هي الطول والعرض والعمق ... ومن لم يرشد لفهم تلك المعاني ولا معرفة تلك الأسرار، ولكن وفق للعمل بسنته العادلة وأحكامه الظاهرة، فإن تلك النفوس عند مفارقتها الجسد تبقى محفوظة على صورة الإنسانية التي هي الصراط المستقيم إلى أن يتفق لها الجواز على الصراط المستقيم»
23 (47: 4، 138).
وأيضا: «فقد بينا أن خير صناعة تبلغ إليها طاقة البشر وضع الناموس الإلهي ... فاجتهد يا أخي في معرفة أسراره، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف العقلية، فتعيش بعيش العلماء الربانيين، وتنال نعيم عالم الروحانيين في جوار الملائكة المقربين مخلدا أبد الآبدين، فإن لم يستو لك ذلك فكن خادما في الناموس بحفظ أحكامه والقيام بحدوده، لعلك تنجو بشفاعة أهله من بحر الهيولى وأسر الطبيعة وهاوية عالم الأجسام، بالكون والفساد ذوي الآلام» (8: 1، 295).
إن ثنائية الظاهر والباطن في الدين تجعل من تأويل النص الديني ضرورة لا غنى عنها؛ لأن غرض واضعي النواميس الإلهية بعيد الغور، وقد جاءوا بكلام محتمل للمعاني؛ لتفهم كل طبقة من الناس منه على قدر مبلغها من العلوم: «واعلم أن الحق هو غاية ليست وراءها نهاية، ولكن دونها أمور متشابهة مشكلة. واعلم أن الألفاظ محتملة للمعاني، والأوهام تذهب في طلبها كل مذهب. فينبغي لك إذا سمعت لفظة محتملة للمعاني ألا تحكم عليها حكما دون أن تتبين بعقلك كل المعاني التي تحتملها تلك اللفظة، لعلك تفهم الغرض الأقصى الذي هو الصواب، وتبلغ الغاية القصوى التي هي الحق.
واعلم أن غرض واضعي النواميس الإلهية بعيد الغور جدا في أحكام النواميس، لا يتصور لك في أول وهلة، ولكن بعد النظر الشافي والبحث الشديد» (46: 4، 78).
ففي النص الديني إشارات ورموز مثل: «سبب بدء كون العالم بعد أن لم يكن، ووقوع النفس وغرورها وخلق آدم الأول وسبب عصيانه، وحديث الملائكة وسجودهم لآدم، وقصة إبليس والجان واستكباره عن السجود، وشجرة الخلد والملك الذي لا يبلى، وسبب أخذ الميثاق إلى ذرية آدم، وأخبار القيامة والنفخ في الصور والبعث والنشور والحساب، وفصل القضاء، والجواز على الصراط، وزيارة الرب تبارك وتعالى، وما شاكل هذا من الأخبار المذكورة في كتب الأنبياء، صلوات الله عليهم، وما حقائق معانيها؛ لأن في الناس أقواما عقلاء مميزين متفلسفين، إذا فكروا في هذه الأشياء وقاسوها بعقولهم لا تتصور لهم معانيها الحقيقية، وإذا حملوها على ما يدل عليه ظاهر ألفاظ التنزيل لا تقبله عقولهم، فيقعون عند ذلك في الشكوك والحيرة، وإذا طالت تلك الحيرة بهم أنكروها بقلوبهم، وإن كانوا لا يظهرون ذلك باللسان مخافة السيف.
وفي الناس أقوام دونهم في العلم والتمييز يؤمنون ويعلمون أنها الحق، وأقوام آخرون يأخذونها تقليدا ولا يتفكرون فيها. وفي الناس طائفة إذا سمعوا مثل هذه المسائل نفرت نفوسهم منها واشمأزوا عن ذكرها، وينسبون المتكلم أو السائل عنها إلى الكفر والزندقة والتكلف لما لا ينبغي ... وفي الناس طائفة إذا سمعوا مثل هذه المسائل تطلعت همم نفوسهم إلى أجوبتها ورغبت في معرفة معانيها، فإذا سمعوا الجواب عنها قبلتها بلا حجة ولا برهان، ولكن على التقليد. أولئك قوم نفوسهم سليمة بعد لم تتعوج بالآراء الفاسدة ولم تستغرق بعد في نوم الجهالة، فيحتاج المذكر إلى أن يسلك بهم طريقة التعليم إلى التدريج ... وفي الناس طائفة من أهل العلم قد نظروا في بعض العلوم وأقروا بعض كتب الحكماء ... قد تكلموا في مثل هذه المسائل وأجابوا عنها بجوابات مختلفة، ولم يتفقوا على شيء واحد ولا صح لهم فيها رأي واحد، بل وقعت بينهم في ذلك منازعات ومناقضات. كل ذلك لأنهم لم يكن لهم أصل واحد صحيح ولا قياس واحد مستو يمكن أن يجاب به عن هذه المسائل ... ... ونحن لا نرخص لأحد بالنظر في مثل هذه الأشياء ولا السؤال عنها إلا بعد تهذيب نفسه بمثل ما قلناه ووصفناه ... فمن أجل هذا وجب على الحكماء، إذا أردوا فتح باب الحكمة للمتعلمين
24
وكشف الأسرار للمريدين، أن يروضوهم أولا، ويهذبوا نفوسهم بالتأديب، كيما تصفو نفوسهم وتطهر أخلاقهم؛ لأن الحكمة كالعروس تريد لها مجلسا خاليا فإنها من كنوز الآخرة، وإن الحكم إذا لم يفعل ما هو واجب في الحكمة من رياضة المتعلمين قبل أن يكشف لهم أسرار الحكمة، فيكون مثله في ذلك كمثل حاجب ملك أذن لقوم بله بالدخول على الملك من غير تأديب ولا ترتيب» (43: 4، 9-13).
وللإخوان من التأويل موقف اعتزالي يقوم على تحكيم العقل في فهم النص الديني ورد المتشابه منه إلى المحكم. فالمؤولون هم أهل العقل الراسخون في العلم، والإخوان يقرءون الآية 7 من سورة آل عمران على الشكل الآتي: ... وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ...
25
فالواو قبل كلمة «الراسخون» هي واو العطف، والذي يعرف تأويل الآيات المتشابهات هو الله والراسخون في العلم، الذين يقولون: آمنا به ... الآية. وكما أوردنا من أقوالهم في موضع سابق، فإن: «أفضل الإنسان هم العقلاء، وأخيار العقلاء هم العلماء، وأعلى العلماء درجة وأرفعهم منزلة هم الأنبياء، عليهم السلام، ثم بعدهم في الرتبة الفلاسفة الحكماء» (47: 4، 124).
فالعقل هو الرئيس، والهادي والمرشد للفضلاء من خلق الله: «ونحن قد رضينا بالرئيس على جماعة إخواننا، والحكم بيننا، العقل الذي جعل الله تعالى رئيسا على الفضلاء من خلقه الذين هم تحت الأمر والنهي، ورضينا بموجبات قضاياه على الشرائط التي ذكرناها في رسائلنا وأوصينا بها إخواننا» (47: 4، 127). وأيضا: «واعلم أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة، فليس يحتاجون إلى رئيس يرأسهم ويأمرهم وينهاهم ويزجرهم ويحكم عليهم؛ لأن العقل والقدرة لواضع الناموس يقومان مقام الرئيس الإمام. فهلم بنا أيها الأخ أن نقتدي بسنة الشريعة ونجعلها إماما لنا فيما عزمنا عليه» (47: 4، 137).
من هنا يلجأ الإخوان إلى ذكر العقل والعقلاء وحكم العقل عندما يلجئون إلى التأويل: «ومن الآراء الفاسدة أيضا أنه يرى بأن أهل الجنة أجسادهم لحمية وأجسامهم طبيعية مثل أجساد أبناء الدنيا، قابلة للتغيير والاستحالة، متعرضة للآفات. فإذا تأمل ما وصف الله تعالى في صفات أهل الجنة، [أنهم] لا يمسهم فيها نصب، ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وأنهم خالدون، وما شاكل هذه الأوصاف المذكورة في القرآن، التي لا تليق بالأجساد اللحمية والأجسام الطبيعية. واعلم أنه لا يليق بالعقلاء أن يعتقدوها فضلا عن عقول الحكماء، بل النساء والجهال والصبيان جيد لهم، فإن هذا الرأي يليق بأفهامهم ويصلح لهم ... وأما من رزقه الله قليلا من التمييز والعقل والفهم ونظر في علوم الحكمة، فإن هذا الرأي لا يصلح له ولا يليق به؛ لأنه إذا عرضه على عقله، أنكره عليه» (42: 3، 528).
ومن تأويل الكتاب ما يمكن توضيحه للعامة، ومنه ما يجب أن يبقى وقفا على الخاصة؛ لأن عقول العامة لا تحتمل فهم ذلك: «لأن أكثر كلام الله تعالى وكلام أنبيائه وأقاويل الحكماء رموز لسر من الأسرار مخفيا عن الأشرار، وما يعلمها إلا الله تعالى والراسخون في العلم. وذلك أن القلوب والخواطر ما كانت تحمل فهم معاني ذلك. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: كلموا الناس على قدر عقولهم. و[قال]: إفشاء سر الربوبية كفر. وأما الخواص من الحكماء الذين هم الراسخون في العلم، فهم لا يحتاجون إلى زيادة بيان؛ إذ هم مطلعون على حقائق جميع الأسرار والمرموزات» (22: 2، 343).
وقد جاءت معظم تأويلات إخوان الصفاء، مما عرضنا له في ثنايا هذا الكتاب، في اتفاق مع حكم العقل ومع ما بينت لهم علومهم أنه الحق. وهم غالبا ما يعطون المصطلح الواحد لفظا شرعيا ولفظا عقليا فلسفيا. «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الطبيعة إنما هي قوة من قوى النفس الكلية، منبثة منها في جميع الأجسام التي دون فلك القمر، سارية في جميع أجزائها كلها، تسمى باللفظ الشرعي الملائكة الموكلين بحفظ العالم وتدبير الخليقة بإذن الله، وتسمى باللفظ الفلسفي قوى طبيعية» (18: 2، 63).
وأيضا: «واعلم يا أخي بأن قوى النفس الكلية الفلكية البسيطة التي ذكرنا أنها تعمل أجناس النبات وأنواعها، هي التي ذكرت في كتب الأنبياء عليهم السلام أنها ملائكة الله وجنوده الموكلون بها. وذكر أنه قد ورد في الأخبار المتواترة أن مع كل ورقة وثمرة وحبة تخرجها الأرض من النبات ملكا موكلا يربيها وينشئها ويحفظها من الآفات ...» (21: 2، 156). وأيضا: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن النبات مصنوعات ظاهرة جلية لا تخفى، ولكن صانعها وعلتها باطنة خفية محتجبة عن إدراك الأبصار لها، وهي التي يسميها الفلاسفة القوى الطبيعية، ويسميها الناموس الملائكة وجنود الله الموكلين بتربية النبات وتوليد الحيوانات وتكوين المعادن، ونحن نسميها النفوس الجزئية. والعبارات مختلفة والمعنى واحد. وإنما نسبت الفلاسفة والحكماء هذه المصنوعات إلى القوى الطبيعية، و[نسبها] صاحب الشرع إلى الملائكة، ولم ينسبها إلى الله تعالى؛ لأنه يجل الباري، جل ثناؤه، عن مباشرة الأجسام الطبيعية والحركات الجرمانية والأعمال الجسدانية، كما يجل الملوك والسادة والرؤساء عن مباشرة الأفعال بأنفسهم، وإن كانت تنسب إليهم على سبيل الأمر بها والإرادة لها، كما يقال: بنى الإسكندر السد، وبنى سليمان مسجد إيليا [= القدس]، وبنى المنصور مدينة السلام» (21: 2، 152-153).
ومن أمثلة التأويل العقلاني ما أوردوه في الآية الكريمة:
وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ...
26
فقالوا: «واعلم يا أخي أن الملائكة الحافين بالعرش هم حملة العرش، وهي الكواكب الثابتة الحافة بالفلك التاسع [فلك الكواكب الثابتة] من داخله، كما يحف الحجاج بالبيت في طوافهم من خارجه. فهم يسبحون بحمد ربهم، كما قال:
وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون
27
ويؤمنون ويقرون بأن من وراء مراتبهم ومقاماتهم أمورا أخرى هي أشرف وأعلى، يقصر علمهم عنها، ويقف فهمهم دونها» (20: 2، 142).
وقد رأينا في فصل ارتقاء النفس، كيف فسر الإخوان الصراط المستقيم بأنه الصورة الإنسانية التي تسير عليها النفس في آخر ارتقائها، وهي الصراط المنتصب في مقابل الصراط المنكوس الذي هو صورة النبات، والصراط المقوس الذي هو صورة الحيوان. كما عرضنا لنماذج من تأويلاتهم في الجنة والنار والحساب والحشر وغيرها، في فصل الآخرة والنشأة الثانية، بما لا ضرورة لتكراره هنا.
الإسلام الكوني
لما كان مذهب الإخوان «يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها»، وكانت آراؤهم مستمدة من الموروث الإنساني بكامله «من الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة ... والكتب المنزلة التي جاء بها الأنبياء ... والكتب الطبيعية ... والكتب الإلهية»، على ما قالوه في الرسالة 45، فإن مذهبهم هو إسلام كوني شمولي لا يدعي احتكار الحقيقة المطلقة، ولا يسفه المذاهب الأخرى باعتبارها ضلالا وغيا وبعدا عن جادة الحق. وما اختلاف المذاهب إلا من قبيل دخول الشبهة عليها، فإذا زالت الشبهات زالت الاختلافات وتبينت لنا الوحدة الجوهرية للأديان. قد يكون الإسلام بالنسبة للإخوان أفضل الطرق الموصلة إلى الله وأقصرها، ولكنه ليس الطريق الوحيد المقبول، وقد عرضت له الشبهات مثلما عرضت للأديان الأخرى، بسبب التعصب وضيق الأفق والوقوف عند حرفية النص المقدس: «فاعلم أن الحق في كل دين موجود، وعلى كل لسان جار، وأن الشبهة دخولها على كل إنسان جائز ممكن. فاجتهد يا أخي أن تبين الحق لكل صاحب دين ومذهب مما هو في يده، أو مما هو متمسك به، وتكشف عنه الشبهة التي دخلت عليه إن كنت تحسن هذه الصناعة، وإلا فلا تتعاطاها إن كنت لا تحسنها. ولا تمسك بما أنت عليه الآن من دينك ومذهبك، واطلب خيرا منه، فإن وجدت لا يسعك الوقوف على الأدون، ولكن واجب عليك الأخذ بالأخير الأفضل والانتقال إليه. ولا تشتغلن بذكر عيوب مذاهب الناس، ولكن انظر هل لك مذهب بلا عيب» (42: 3، 501).
لهذا ينبذ الإخوان التعصب البغيض، ويدعون لانفتاح المذاهب على بعضها والإفادة بعضها من بعض؛ لأن في كل مذهب جانبا من جوانب الحق: «وبالجملة، ينبغي لإخواننا، أيدهم الله تعالى، أن لا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب» (45: 4، 41-42). «واعلم أيها الأخ أنا لا نعادي علما من العلوم، ولا نتعصب على مذهب من المذاهب، ولا نهجر كتابا من كتب الحكماء والفلاسفة مما وضعوه وألفوه في فنون العلم، وما استخرجوه بعقولهم وتفحصهم من لطيف المعاني. وأما معتمدنا ومعولنا وبناء أمرنا فعلى كتب الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وما جاءوا به من التنزيل» (48: 4، 167). «... ثم اعلم أنه ينبغي لمن يريد أن يعرف حقائق الأشياء أن يبحث أولا عن علل الموجودات وأسباب المخلوقات، وأن يكون له قلب فارغ من الهموم والغموم والأمور الدنيوية ... ويكون غير متعصب لمذهب أو على مذهب؛ لأن العصبية هي الهوى، والهوى يعمي عين العقل وينهى عن إدراك الحقائق، ويعمي النفس البصيرة عن تصور الأشياء بحقائقها» (40: 3، 376).
والأنبياء لا يختلفون فيما جاءوا به من معتقدات على الرغم من اختلاف شرائعهم باختلاف الأزمنة والأمكنة: «ثم اعلم أن الأنبياء، عليهم السلام، لا يختلفون فيما يعتقدون من الدين سرا وعلانية، ولا في شيء منه البتة، كما قال تعالى: ... أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ...
28
وقد بينا أنها اثنتا عشرة خصلة يعتقدها الأنبياء وأصحاب النواميس الإلهية أجمعون لا يختلفون فيها، كما بينا في رسالة النواميس.
وأما الشرائع التي هي أوامر ونواه وأحكام وحدود وسنن. فهم فيها مختلفون، كما قال تعالى: ... لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ...
29
وقال:
لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ... .
30
ثم اعلم أن اختلاف الشرائع ليس بضار إذا كان الدين واحدا ... لأن أوامر أصحاب النواميس ونواهيهم مماثلة لأمر الطبيب الرفيق الشفيق فيما أمر العليل من الحمية ... وفيما يرى ويأمر له. فمن أجل هذا اختلفت شرائع الأنبياء ... لأنهم أطباء النفوس ومنجموها ... فقد تعرض للنفوس من أهل كل زمان أمراض وأعلال مختلفة من الأخلاق الرديئة والعادات الجائرة والآراء الفاسدة من الجهالات المتراكمة، كما يعرض للأجساد من الأمراض والأعلال من تغييرات الزمان والأهوية والأغذية، فبحسب ذلك يجب أن يكون اختلاف علاجات الأطباء ومداواتهم.
فهكذا شرائع الأنبياء واختلاف سننهم بحسب أهل كل زمان وما يليق بهم أمة أمة، وقرنا قرنا، مثل شريعة نوح، عليه السلام، في زمانه، وشريعة إبراهيم، عليه السلام، بعده في زمان آخر وقوم آخرين، وشريعة موسى ... وشريعة المسيح ... وشريعة سيد الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام ... فهؤلاء كلهم دينهم واحد وإن كانت شرائعهم مختلفة» (42: 3، 486).
فطريق الخلاص مفتوح أمام جميع الأديان وليس حكرا على المسلمين وحدهم، والإخوان عندما يذكرون العابدين التائبين، لا يشيرون إلى المساجد وحدها كأماكن للعبادة ، وإنما يشيرون إلى الهياكل والمساجد والبيع، أي إلى أماكن العبادة لدى جميع الأديان. ومن ذلك قولهم الذي اقتبسناه في موضع سابق: «إن أحق النفوس الإنسانية أن تنتقل إلى رتبة الملائكة، هي النفوس المتعوبة في التعبد، المنقادة لأحكام الشريعة، الخادمة في الهياكل والمساجد والبيع، والصلوات والصوم والقرابين والدعاء والتأله، كما ذكر الله تعالى بقوله:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ... .»
31
إن هذه الآية من سورة البقرة، التي يستشهد بها الإخوان هنا واضحة الدلالة؛ فأهل الأديان السماوية، وكل من آمن بالله واليوم الآخر، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وعلى ما ورد في سورة البقرة، الآية 62: ... فلهم أجرهم عند ربهم ... .
لهذا يذم الإخوان اقتتال أهل الشرائع المختلفة وتكفير بعضهم بعضا وهدر دم بعضهم بعضا، ويعلنون أن مذهبهم هو مذهب الرحمة والشفقة لكل الناس: «... فإن من الناس من يرى ويعتقد في دينه ومذهبه أنه حلال له سفك دم كل مخالف له في مذهبه، مثل اليهود والخوارج، وكل من يكفر بالرب. ومن الناس من يرى ويعتقد في دينه ومذهبه الرحمة والشفقة للناس كلهم، ويرثي للمذنبين ويستغفر لهم، ويتحنن على كل ذي روح من الحيوان، ويريد الصلاح للكل. وهذا مذهب الأبرار والزهاد والصالحين من المؤمنين، وهذا مذهب إخواننا الكرام [إخوان الصفاء]» (45: 4، 44).
وأيضا: «فإذا تأملت في أمور الدنيا وجدتها كدار قد ملئت أجناس حيوانات تعادي بعضها بعضا عداوة طبيعية ... كعداوة البوم والغربان، وعداوة الكلب والسنانير ... فهكذا أمور الدنيا وأهلها، الأشرار أعداء الأخيار، والفقراء أعداء الأغنياء يتمنون لهم المصائب، وإذا قدروا على شيء من أموالهم أخذوه ونهبوه. وكذلك أهل الشرائع المختلفة يقتل بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، كما يفعل النواصب والروافض والجبرية والقدرية والخوارج والأشاعرة، وغير ذلك. وكذلك في الملة العبرانية مثل العينية والسمعية، وفي الملة السريانية كالنسطورية واليعقوبية وما بينهما من الخلاف. وكذلك في الملة الصابئية ... ثم اعلم أنه لا يصلح بين أهل الديانات ولا يؤلف بين المتعاديات ... إلا المعرفة بالحق الذي يجمعهم على كلمة التقوى» (31: 3، 160-161).
ولإيضاح مذهبهم المتسامح البعيد عن الهوى والتعصب، يورد الإخوان الحوار الآتي: «فهذه محاورات جرت بين رجلين، أحدهما: من أولياء الله تعالى وعباده الصالحين الذين نجاهم الله من نار جهنم ... والآخر: من الهالكين المعذبين فيها بألوان العذاب.
قال الناجي للهالك: كيف أصبحت يا فلان؟
قال: أصبحت في نعمة من الله، طالبا للزيادة راغبا فيها حريصا على جمعها، ناصرا لدين الله، معاديا لأعداء الله، محاربا لهم.
قال الناجي: ومن أعداء الله هؤلاء؟
قال: كل من خالفني في مذهبي واعتقادي.
قال: وإن كان من أهل لا إله إلا الله؟
قال: نعم.
قال: إن ظفرت بهم ماذا تفعل بهم؟
قال: أدعوهم إلى مذهبي واعتقادي ورأيي.
قال: فإن لم يقبلوا منك؟
قال: أقاتلهم وأستحل دماءهم وأموالهم، وأسبي ذراريهم.
قال: فإن لم تقدر عليهم ماذا تفعل؟
قال: أدعو عليهم ليلا ونهارا، وألعنهم في الصلاة، كل ذلك تقربا إلى الله تعالى.
قال: فهل تعلم أنك إذا دعوت عليهم ولعنتهم يصيبهم شيء؟
قال: لا أدري! ولكن إذا فعلت ما وصفت لك، وجدت لقلبي راحة، ولنفسي لذة، ولصدري شفاء.
قال له الناجي: أتدري لم ذلك؟
قال: لا، ولكن قل أنت.
قال: لأنك مريض النفس، معذب القلب، معاقب الروح. لأن اللذة هي خروج من الآلام. ثم اعلم أنك محبوس في طبقة من طبقات جهنم، وهي الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، إلى أن تخلص منها وتنجو نفسك من عذابها، إذا لقيت الله عز وجل كما وعد بقوله:
ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
32
ثم قال الهالك للناجي: أخبرني أنت عن رأيك ومذهبك وحال نفسك كيف هي؟
قال: نعم. أما أنا فإني أرى أني قد أصبحت في نعمة من الله وإحسان لا أحصي عددها، ولا أؤدي شكرها، راضيا بما قسم الله لي وقدر، وصابرا لأحكامه، لا أريد لأحد من الخلق سوءا، ولا أضمر لهم دغلا، ولا أنوي لهم شرا. نفسي في راحة، وقلبي في فسحة، والخلق من جهتي في أمان. أسلمت لربي مذهبي، وديني دين إبراهيم عليه السلام، أقول كما قال : ... فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
33
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم »
34 (38: 3، 312-313).
ويورد الإخوان أيضا هذه الحكاية التي تحمل في ثناياها نقدا لاذعا للتعصب وضيق الأفق اليهوديين، على الرغم من أنهم استشهدوا بها في حديثهم عن الأخلاق. وبطلا الحكاية يهودي متعصب يرى أن بقية البشر من غير اليهود على ضلال ويحلل سفك الدماء، ومجوسي متسامح يؤمن بإله أعلى للبشر يريد الخير لكل إنسان: «جاء في الخبر أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان. وكان المجوسي راكبا على بغلة عليها كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره من الزاد والنفقة والأثاث، فهو يسير مرفها، واليهودي كان ماشيا ليس معه زاد ولا نفقة. فبينا هما يتحدثان؛ إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك واعتقادك يا خوشاك؟ قال اليهودي: اعتقادي أن في هذه السماء إلها هو إله بني إسرائيل؛ وأنا أعبده وأسأله وأطلب إليه ومنه سعة الرزق، وطول العمر ... أريد منه الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، ولا أفكر فيمن يخالفني في ديني ومذهبي، بل أرى وأعتقد أن من يخالفني في ديني ومذهبي، فحلال لي دمه وماله، وحرام علي نصرته أو نصيحته أو معاونته أو الرحمة أو الشفقة عليه. ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني عنه، فأخبرني يا مغا أنت أيضا عن مذهبك واعتقادك.
قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي، فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم، ولا أريد لأحد سوءا، لا لمن كان على ديني ويوافقني، ولا لمن يخالفني ويضادني في مذهبي. فقال اليهودي له: وإن ظلمك وتعدى عليك؟ قال: نعم؛ لأني أعلم أن في هذه السماء إلها خبيرا فاضلا عادلا حكيما عليما لا تخفى عليه خافية في أمر خلقه، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين على إساءتهم. فقال اليهودي للمجوسي: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك. فقال المجوسي: وكيف ذلك؟ قال: لأني من أبناء جنسك، وأنت تراني أمشي متعوبا جائعا ، وأنت راكب شبعان مترفها. قال: صدقت، وماذا تريد؟ قال: أطعمني واحملني ساعة لأستريح قد أعييت. فنزل المجوسي عن بغلته، وفتح له سفرته، فأطعمه حتى أشبعه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان. فلما تمكن اليهودي من الركوب وعلم أن المجوسي قد أعيا، حرك البغلة وسبقه، وجعل المجوسي يمشي فلا يلحقه، فناداه: يا خوشاك، قف لي وانزل فقد أعييت. فقال له اليهودي: أليس قد أخبرتك عن مذهبي يا مغا وخبرتني عن مذهبك ونصرته وحققته، وأنا أيضا أريد أن أنصر مذهبي وأحقق اعتقادي؛ وجعل يجري البغلة والمجوسي في أثره يعدو ويقول: ويحك يا خوشاك، قف لي قليلا واحملني معك، ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا، وارحمني كما رحمتك. وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه ولا يلوي عليه حتى مضى وغاب عن بصره.
فلما يئس المجوسي منه وأشرف على الهلاك، تذكر تمام اعتقاده، وما وصف له بأن في السماء إلها خبيرا فاضلا عالما عادلا لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء فقال يا إلهي، قد علمت أني قد اعتقدت مذهبا ونصرته وحققته، ووصفتك بما سمعت وعلمت وتحققت، فحقق عند اليهودي خوشاك ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت. فما مشى المجوسي إلا قليلا حتى رأى اليهودي وقد رمت به البلغة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها. فلما لحق المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت. فناداه اليهودي: يا مغا، ارحمني واحملني ولا تتركني ... وحقق مذهبك وانصر اعتقادك. قال المجوسي: قد فعلت مرة، ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك، ولم تعقل ما وصفت لك ... قال اليهودي: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت. فقال له المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلت لك يا خوشاك؟ فقال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد ألفته وصار عادة وجبلة بطول الدءوب فيه، وكثرة الاستعمال له اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، فقد صار جبلة وطبيعة ثابتة يصعب علي تركها والإقلاع عنها. فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى باب المدينة وسلمه إلى أهله مكسورا» (9: 1، 308-310).
هذا الفكر الكوني للإخوان يربط الإنسان المسلم بالتراث الثقافي والروحي للإنسانية جمعاء، سواء أكان مذهبا فلسفيا أم مسيحيا أم إسلاميا: «اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلم والحكمة للنفس كتناول الطعام والشراب للجسد ... وذلك أن الأنفس الجزئية تتصور بالعلوم جواهرها، وتنمو بالحكمة ذواتها، وتضيء بالمعارف صورها، وتقوى بالرياضيات فكرها، وتنير بالآداب خواطرها ... ويشتد على البلوغ إلى أقصى مد غاياتها عزماتها، من الترقي في المراتب العالية بالنظر في العلوم الإلهية، والسلوك في المذاهب الروحانية الربانية، والتعبد في الأمور الشريفة من الحكمة على المذهب السقراطي، والتصوف والتزهد والترهب على المنهج المسيحي، والتعلق بالدين الحنيفي. وهو التشبه بجوهرها الكلي ولحوقها بعالمها العلوي» (27: 3، 8).
وهم يرون أن الفضائل تجتمع في أحد الأشخاص إذا كان: «الفاضل الذكي، المستبصر، الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة، الملكي الأخلاق، الرباني الرأي، الإلهي المعارف ...» (22: 2، 376).
وهم يعبرون عن معتقدهم في وحدة الأديان أعمق تعبير في هذا النص المرموز الذي لا يخفى تأويله على من مشى معنا حتى الآن على درب إخوان الصفاء: «أو هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتى ترى ملكوت السماوات التي رآها أبونا إبراهيم لما جن عليه الليل حتى تكون من الموقنين؟
أو هل لك يا أخي أن تتم الميعاد وتجيء إلى الميقات عند الجانب الأيمن [من الطور] حيث قيل: يا موسى. فيقضى إليك الأمر، فتكون من الشاهدين؟
أو هل لك يا أخي أن تصنع ما عمل فيه القوم، كي ينفخ فيك الروح فيذهب عنك اللوم، حتى ترى الأيسوع
35
عن ميمنة عرش الرب قد قرب مثواه كما يقرب ابن الأب، أو تر من حوله من الناظرين؟
أو هل لك أن تخرج من ظلمة أهرمن
36
حتى ترى اليزدان
37
قد أشرق منه النور في فسحة أفريحون؟
أو هل لك أن تدخل إلى هيكل عاديمون،
38
حتى ترى الأفلاك التي يحيكها أفلاطون، وإنما هي أفلاك روحانية لا ما يشير إليه المنجمون؟ وذلك أن علم الله تعالى محيط بما يحوي العقل من المعقولات، والعقل محيط بما تحوي النفس من الصور، والنفس محيطة بما تحوي الطبيعة من الكائنات، والطبيعة محيطة بما تحوي الهيولى من المصنوعات. فإذن هي أفلاك روحانية محيطات بعضها لبعض.
أو هل لك أن لا ترقد من أول ليلة القدر، حتى ترى المعراج في حين طلوع الفجر، حيث أحمد المبعوث في مقامه المحمود، فتسأل حاجتك المقضية لا ممنوعا ولا مفقودا، وتكون من المقربين؟
وفقك الله، أيها الأخ البار الرحيم، وجميع إخواننا لفهم هذه الإشارات والرموز، وفتح قلبك وشرح صدرك وطهر نفسك ونور عقلك، لتشاهد بعين البصيرة حقائق هذه الأسرار. فلا تفزع من موت الجسد إذا فارقته، وفيه حياة للنفس» (44: 4، 18-19).
الفصل السابع
طريق النجاة المشترك والمسائل التنظيمية
إن ما يميز مذهب إخوان الصفاء عن كثير من مذاهب الخلاص هو تركيزهم على أن النجاة التي يسعون إليها لا تتحقق إلا بالجهد الجمعي المشترك، وتعاون الأفراد مع بعضهم على تحقيقها. فكما أن البشر محتاجون للتعاون في شئون دنياهم، كذلك هم محتاجون إليه في شئون آخرتهم: «اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان الواحد لا يقدر أن يعيش وحده إلا عيشا نكدا؛ لأنه محتاج إلى طيب العيش من إحكام صنائع شتى، ولا يمكن الإنسان الواحد أن يبلغها كلها؛ لأن العمر قصير والصنائع كثيرة؛ فمن أجل هذا اجتمع في كل مدينة أو قرية أناس كثيرون لمعاونة بعضهم بعضا. وقد أوجبت الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأن يشتغل جماعة منهم بإحكام الصنائع، وجماعة في التجارات، وجماعة بإحكام البنيان ... لأن مثلهم في ذلك كمثل إخوة من أب واحد في منزل واحد، متعاونين في أمر معيشتهم، كل منهم في وجه منها ...
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ينبغي لك أن تتيقن بأنك لا تقدر أن تنجو وحدك مما وقعت من محنة هذه الدنيا وآفاتها بالجناية التي كانت من أبينا آدم، عليه السلام؛ لأنك محتاج في نجاتك وتخلصك من هذه الدنيا ... والصعود إلى عالم الأفلاك ... إلى معاونة إخوان لك نصحاء وأصدقاء لك فضلاء، متبصرين بأمر الدين علماء بحقائق الأمور، ليعرفوك طرائق الآخرة وكيفية الوصول إليها، والنجاة من الورطة التي وقعنا فيها كلنا بجناية أبينا آدم عليه السلام. فاعتبر بحديث الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة، وكيف نجت من الشبكة، لتعلم حقيقة ما قلنا» (2: 1، 99-100). «واعتبر يا أخي كيفية انصراف الحج إلى بلدانهم، فإنك ترى لأهل كل بلد قافلة وطريقا يمرون فيه متعاونين ذاهبين وراجعين؛ فهكذا وردت النفوس إلى هذا العالم في كل أمة بدلالة كوكب وبرج في قران، ولا تنصرف من الدنيا إلا بدين ومذهب، ويكون زاد كل نفس ما كسبت من خير وشر. فلا تظن يا أخي أنك تقدر على أن ترجع بنفسك وحدها.
واعلم أن الطريق بعيدة، والشياطين بالمرصاد قعود كقطاع الطريق، فاعتبر؛ فكما أنك لا تقدر على أن تعيش وحدك إلا عيشا نكدا، ولا تجد عيشا هنيا إلا بمعاونة أهل المدينة، وملازمة شريعة، فهكذا ينبغي لك أن تعتبر لتعلم بأنك محتاج إلى إخوان أصدقاء متعاونين، لتنجو بشفاعتهم من جهنم، وتصعد إلى ملكوت السماء بمعاونتهم، وتدخل الجنة بلا حساب.
واعلم يا أخي علما يقينا أنه لو كان يمكن أن تنجو نفس وحدها بمجردها لما أمر الله تعالى بالتعاون، حيث قال: ... تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ...
1
وقال تعالى:
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ... »
2 (20: 2، 139). «واعلم أن هذا الجسد لهذه النفس، في المثال، بمنزلة دار تسكن، أو دابة تركب، أو آلة تستعمل؛ وما دامت هذه النفس مع هذا الجسد مربوطة به إلى الوقت المعلوم، فلا بد من النظر فيما تصلح به معيشة الدنيا، وما تنال به النجاة والفوز في الآخرة.
واعلم أن هذين الأمرين لا يجتمعان ولا يتمان إلا بالمعاونة، والمعاونة لا تكون إلا بين اثنين أو أكثر من ذلك. وليس شيء أبلغ على المعاونة من أن تجتمع قوى الأجساد المتفرقة، وتصير قوة واحدة، وتتفق تدابير النفوس المؤتلفة وتصير تدبيرا واحدا، حتى تكون كلها كأنها جسد واحد ونفس واحدة، فعند ذلك تغلب كل من رام غلبتها، وتقهر كل من خالفها وضادها. فهلم بنا يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، لنجتمع ونتعاون على ذلك» (48: 4، 169-170). «فهل لك يا أخي بأن تنظر إلى نفسك وتسعى في صلاحها وتطلب نجاتها ... وأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نصحاء، وإخوان لك فضلاء، وادين لك كرماء، حريصين معاونين لك على صلاحك ونجاتك مع أنفسهم، قد خلعوا أنفسهم من خدمة أبناء الدنيا، وجعلوا عنايتهم وكدهم في طلب نعيم الآخرة، بأن تسلك مسلكهم وتقصد مقصدهم، وتخلص سرك معهم وتتخلق بأخلاقهم، وتسمع أقاويلهم لتعرف اعتقادهم، وتنظر في علومهم لتفهم أسرارهم وما يخبرونك به من العلوم النفسية ... إذا دخلت مدينتنا الروحانية وسرت بسيرتنا الملكية وعملت بسنتنا الزكية وتفقمت في شريعتنا العقلية، فلعلك تؤيد بروح الحياة، لتنظر إلى الملإ الأعلى وتعيش عيش السعداء» (15: 2، 23). «واعلموا أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد ويتفقون على رأي واحد ودين واحد ومذهب واحد، ويعقدون بينهم عهدا وميثاقا بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون ويتعاونون ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضا، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفس واحدة في جميع تدابيرهم وفيما يقصدون من نصرة الدين وطلب الآخرة» (48: 4، 187-188).
ويورد الإخوان حكاية رمزية تشير إلى أسلوبهم في الدعوة إلى مذهبهم واكتساب المريدين: «اعلم أنه في الزمان السالف ذكروا أنه كان رجلا من الحكماء عارفا بالطب، دخل إلى مدينة من المدن، فرأى عامة أهلها بهم مرض خفي لا يشعرون بعلتهم، ولا يحسون بدائهم الذي بهم. ففكر ذلك الحكيم في أمرهم كيف يداويهم ليبرئهم من دائهم ويشفيهم من علتهم التي استمرت بهم، وعلم أنه إن أخبرهم بما هم فيه لا يستمعون قوله ولا يقبلون نصيحته، بل ربما ناصبوه بالعداوة، واستعجزوا رأيه، واستنقصوا آدابه، واسترذلوا علمه. فاحتال عليهم في ذلك لشدة شفقته على أبناء جنسه، ورحمته لهم وتحننه عليهم، وحرصه على مداواتهم طلبا لمرضاة الله عز وجل، بأن طلب من أهل تلك المدينة رجلا من فضلائهم الذين كان بهم ذلك المرض، فأعطاه شربة من شربات كانت معه قد أعدها لمداواتهم، وسعطه بدخنة كانت معه لمعالجتهم، فعطس ذلك الرجل من ساعته، ووجد خفة في بدنه، وراحة في حواسه، وصحة في جسمه وقوة في نفسه. فشكر له وجزاه خيرا وقال له: هل لك من حاجة أقضيها لك مكافأة لما اصطنعت إلي من الإحسان في مداواتك لي؟ فقال: نعم، تعينني على مداواة أخ من إخوانك، قال سمعا وطاعة لك. فتوافقا على ذلك، ودخلا على رجل آخر ممن رأيا أنه أقرب إلى الصلاح، فخلوا به من رفقائه وداوياه بذلك الدواء، فبرأ من ساعته. فلما أفاق من دائه جزاهما خيرا وبارك فيهما وقال لهما: هل لكما حاجة أقضيها لكما مكافأة لما صنعتما إلي من الإحسان والمعروف؟ فقال: تعيننا على مداواة أخ من إخوانك. فقال: سمعا وطاعة لكما. فتوافقوا على ذلك، ولقوا رجلا آخر، فعالجوه وداووه بمثل الأول، فبرئ ... ثم تفرقوا في المدينة يداوون الناس واحدا بعد آخر في السر، حتى أبرءوا أناسا كثيرا، وكثر أنصارهم وإخوانهم ومعارفهم ... حتى أبرءوا أهل المدينة كلهم.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن هذا مثل الأنبياء صلوات الله عليهم في بدء دعوتهم الناس ... وذلك أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في أول مبعثه ودعوته ابتدأ أولا بزوجته خديجة، عليها السلام، ثم بابن عمه علي، عليه السلام، ثم بصديقه أبي بكر، ثم مالك وأبي ذر وصهيب وبلال وسلمان وجبير وبشار وغيرهم، حتى التأموا تسعة وثلاثين رجلا وامرأة. ثم دعا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعز الله عز وجل، الإسلام بأحد الرجلين، إما بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فاستجيبت دعوته في عمر وأسلم، والتأموا أربعين رجلا، وأظهروا الدعوة» (44: 4، 14-16).
هذا الرقم الرباعي هو الذي يبني عليه إخوان الصفاء تنظيمهم، تيمنا بما روي عن النبي أنه قال: لا يزال في هذه الأمة أربعون رجلا من الصالحين على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام: «ويقال إن من هؤلاء الأربعين رجلا أربعة منهم الأبدال. وإنما سموا الأبدال؛ لأنهم بدلوا خلقا بعد خلق، وصفوا تصفية بعد تصفية. وذلك أن هؤلاء الأربعين منتقون من جملة أربعمائة من الزاهدين العارفين المحققين، الأربعمائة منتقون من أربعة آلاف من المؤمنين التائبين المخلصين. وكلما مضى شخص من الأربعة قام في رتبته شخص من الأربعين. وإذا مضى شخص من الأربعين قام في رتبته شخص من الأربعمائة، وإذا مضى شخص من الأربعمائة ارتقى إلى منزلته شخص من الأربعة الآلاف، فبلغ مرتبته وقام مقامه، وكلما مضى شخص من الأربعة الآلاف ارتقى مكانه بدلا منه واحد من المؤمنين التائبين المخلصين، فبلغ درجته وقام مقامه» (9: 1، 377).
فمراتب تنظيم إخوان الصفاء أربع، ولكنها تقوم على قاعدة واسعة من الأنصار المهيئين للترقي إلى مرتبة الأعضاء العاملين، وهم الذين دعاهم النص بالمؤمنين التائبين المخلصين. وهذه القاعدة منتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي على ما يقوله لنا الإخوان، ولا نملك إلا تصديقهم فيما يقولون:
شكل 7-1 «واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا إخوانا وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد؛ فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والعمال والكتاب، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتجار والتناء، ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس. وقد ندبنا لكل طائفة منها أحدا من إخواننا ممن ارتضيناه في بصيرته ومعارفه، لينوب عنا في خدمتهم بإلقاء النصيحة إليهم بالرفق والرحمة والشفقة عليهم» (48: 4، 165).
وكل مرتبة من هذه المراتب لها سن معين ودرجة في العلم والرقي الروحي: «واعلم أيها الأخ البار الرحيم أن قوة نفوس إخواننا في هذا الأمر الذي نشير إليه ونحث عليه على أربع مراتب: أولها صفاء جواهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور، وهي مرتبة أرباب ذوي الصنائع في مدينتنا التي ذكرناها في الرسالة الثانية، وهي القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات، الواردة على القوة الناطقة بعد خمس عشرة سنة من مولد الجسد. وإلى هذا أشار [تعالى] بقوله:
وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ...
3
وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الأبرار الرحماء.
وفوق هذه المرتبة مرتبة الرؤساء ذوي السياسة، وهي مراعاة الإخوان، وسخاء النفس وإعطاء الفيض بالشفقة والرحمة والتحنن على الإخوان. وهي القوة الحكمية الواردة على القوة العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد. وإليه أشار بقوله تعالى:
ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما ...
4
وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الأخيار الفضلاء.
والمرتبة الثالثة فوق هذه، وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر والقيام بدفع العناد والخلاف ... وهي القوة الناموسية الواردة على النفس بعد مولد الجسد بأربعين سنة، وإليها أشار بقوله تعالى: ... حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه ...
5
وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الفضلاء الكرام.
والرابعة فوق هذه، وهي التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا، وهي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانا. وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد، وهي الممهدة للمعاد، والمقربة بمفارقة الهيولى، وعليها ترد قوة المعراج، وبها تصعد إلى ملكوت السماء ... وإلى هذه المرتبة أشار بقوله تعالى:
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية »
6 (48: 4، 173-174).
فالمرتبة الدنيا يشغلها من هم بين الخامسة عشرة والثلاثين من العمر، والتي فوقها يشغلها من هم بين الثلاثين والأربعين، والتي فوقها من هم بين الأربعين والخمسين، والتي فوقها من أتم الخمسين.
والإخوان يركزون في دعوتهم على الشباب؛ لأن عقولهم لم تمتلئ بعد بالأفكار المسبقة، ولم يتشكل لديهم بعد هوى وتعصب لمذهب من المذاهب: «واعلم أن مثل أفكار النفوس قبل أن يحصل فيها علم من العلوم واعتقاد من الآراء كمثل ورق أبيض نقي لم يكتب فيه شيء، فإذا كتب فيه شيء، حقا كان أم باطلا، فقد شغل المكان ومنع أن يكتب فيه شيء آخر، ويصعب حكه ومحوه. فهكذا حكم أفكار النفوس، إذا سبق إليها علم من العلوم واعتقاد من الآراء أو عادة من العادات، تمكن فيها، حقا كان أو باطلا، ويصعب قلعها ومحوها، كما قال القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا فارغا فتمكنا
فإذا كان الأمر كما وصفت، فينبغي لك أيها الأخ أن لا تشغل بإصلاح المشايخ الهرمة، الذين اعتقدوا من الصبا آراء فاسدة وعادات رديئة وأخلاقا وحشية، فإنهم يتعبونك ثم لا ينصلحون، وإن صلحوا قليلا قليلا فلا يفلحون. ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور، الراغبين في الآداب، المبتدئين بالنظر في العلوم ... التاركين الهوى والجدل، غير متعصبين على المذاهب.
واعلم أن الله تعالى ما بعث نبيا إلا وهو شاب، ولا أعطى لعبد حكمة إلا وهو شاب، كما ذكرهم ومدحهم فقال عز اسمه: ... إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى
7
وقال تعالى:
قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم
8
وقال أيضا: ... قال موسى لفتاه ... .
9
واعلم أن كل نبي بعثه الله فأول من كذبه مشايخ قومه المتعاطون الفلسفة والنظر والجدل، كما وصفهم تعالى فقال:
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون »
10 (45: 4، 51-52). وأول ما يتلقاه الشاب في فترة تحضيره للانخراط في الجماعة هو التعليم المناسب: «واعلم بأن خير شيء يرزقه الإنسان [هو] السعادة، وأن السعادات نوعان: داخل وخارج؛ فالذي هو داخل نوعان؛ أحدهما في الجسد والآخر في النفس. فالذي في الجسد كالصحة والجمال، والذي في النفس كالذكاء وحسن الخلق، والذي من خارج نوعان: أحدهما ملك اليد كالمال ومتاع الدنيا، والآخر الأقران من أبناء الجنس كالزوجة والصديق والولد والأخ والأستاذ والمعلم ... فمن أسعد السعادات أن يتفق لك يا أخي معلم رشيد عالم عارف بحقائق الأشياء والأمور ... ومن أنحس المناحس أن يكون لك ضد ذلك. واعلم أن المعلم والأستاذ أب لنفسك وسبب لنشوئها وعلة حياتها، كما أن والدك أب لجسدك وكان سببا لوجوده. وذلك أن والدك أعطاك صورة جسدانية ومعلمك أعطاك صورة روحانية ...» (45: 4، 49-50).
لا يقتصر تعاون إخوان الصفاء على النواحي العلمية والروحانية، وإنما يشمل كل نواحي الحياة: «فينبغي لإخواننا ممن رزق المال والعلم جميعا أن يؤدي شكر ما أنعم الله، عز وجل، به عليه بأن يضم إليه أخا من إخوانه ممن قد حرمهما، ويواسيه من فضل ما أتاه الله تعالى من المال؛ ليقيم به حياة جسده في دار الدنيا، ويرفده ويعلمه من علمه لتحيا به نفسه للبقاء في دار الآخرة ... ولا ينبغي له أن يمن عليه بما ينفق عليه من المال ولا يستحقره، ويعلم أن الذي حرم أخاه هو الذي أعطاه؛ وكما أنه لا يمن على ابن له جسداني فيما يربيه وينفقه عليه من ماله ... كذلك لا يجب أن يمن على ابنه النفساني؛ لأنه إذا كان ذلك ابنه الجسداني فهذا ابنه النفساني، كما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال لعلي عليه السلام: أنا وأنت أبوا هذه الأمة. وقال
صلى الله عليه وسلم : المؤمن أخو المؤمن من أبيه وأمه ... وبهذا المعنى قال المسيح، عليه السلام، للحواريين: جئت من عند أبي وأبيكم ... فهذه الأبوة نفسانية لا ينقطع نسبها كما قال النبي، عليه السلام: يا بني هاشم لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا. إنما أراد النسبة الجسدانية لأنها تنقطع إذا اضمحلت الأجسام وبقيت النسبة النفسانية ...
وأما من رزق المال ولم يرزق من العلم من إخواننا، فينبغي له أن يطلب أخا ممن قد رزق العلم ويضمه إليه، ويواسيه هذا من ماله ويرفده هذا من علمه، ويتعاونان جميعا على إصلاح أمر الدين والدنيا ... فهكذا ينبغي أن يكون تعاون إخوان الصفاء في طلب صلاح الدين والدنيا، وذلك أن معاونة الأخ ذي المال للأخ ذي العلم بماله، ومعاونة الأخ ذي العلم للأخ ذي المال بعلمه، في صلاح الدين، كمثل رجلين اصطحبا في الطريق في مفازة، أحدهما بصير ضعيف البدن معه زاد ثقيل لا يطيق حمله، والآخر أعمى قوي البدن ليس معه زاد، فأخذ البصير بيد الأعمى يقوده خلفه، وأخذ الأعمى ثقل البصير فحمله على كتفه، وتواسيا بذلك الزاد، وقطعا الطريق، ونجوا جميعا. فليس لأحدهما أن يمن على الآخر في إنجائه له من الهلكة في معاونته؛ لأنهما نجوا جميعا بمعاونة كل واحد منهما صاحبه» (45: 4، 52-55).
ويقولون في خطاب موجه إلى أخ بعثوه للإشراف على أحد فروع الجمعية: «وقد اخترناك أيها الأخ الرحيم، أيدك الله وإيانا منه، لمعاونتهم ... لتكون مساعدا لهم ومعاضدا لإخوانك؛ لأن جوهرك من جوهرهم، ونفسك من نفوسهم. فانظر بعقلك وميز ببصيرتك من ترى من إخوانك وأصدقائك من الكتاب والعمال، وأهل العلم والفضل، وحملة الدين والأديان، ومن تبعهم من حاشيتهم وغلمانهم، ممن يمكنك الوصول إليهم بأرفق ما تقدر عليه من اللطف والمداراة، بأن تذكر لهم ما ألقيناه عليك من حكمتنا وأسرار علمنا ... فإذا عرفت منهم أحدا وآنست منه رشدا، عرفنا حاله وما هو بسبيله من أمر دنياه وطلب معايشه وتصرفه في حالاته، لكي نعرف ذلك ونعاونه على ما يليق به من المعاونة. فإن كان ممن يخدم السلاطين ويتصرف في أعمالهم، أوصينا إخواننا ممن يكون بحضرة السلاطين والملوك بالنيابة عنه والنصيحة له وحسن الرأي فيه لدى الملوك والسلاطين والوزراء؛ وإن كان من أبناء التناء والدهاقين والأشراف وأرباب الضياع، أوصينا إخواننا ممن يتولى عمل السلطان بصيانته وحسن معاونته في ملته وكف الأذية عنه، وقبض أيدي الظالمين عن البسط إليه؛ وإن كان من أبناء أصحاب النعم وأرباب الأموال عاوناه بحسب ذلك؛ وإن كان من الفقراء المحتاجين واسيناه مما آتانا الله من فضله؛ وإن كان ممن يرغب في العلم والحكمة والأدب وأمر الدين وطلب الآخرة، علمناه مما علمنا الله، عز وجل، وألقينا إليه من حكمتنا وأطلعناه على أسرارنا، بحسب ما يحتمل عقله وتتسع له نفسه وتتوق إليه همته. ... واعلم أننا لا نستعين بأحد من إخواننا على أمر الدين قبل أن نبذل له من المعاونة على أمر الدنيا؛ فإن كان مستغنيا عن معاونتنا فذلك الذي نريد له، وإن كان محتاجا إلينا فذلك الذي نريد منه، حتى إذا كفيناه ما يهمه من أمور دنياه، وأفرغ لنا قلبه وأجمع لنا رأيه واستغنى عن ذلك بقوة نفسه وتمييز عقله وصفاء جوهره، فإن كان عنده علم ليس عندنا تعلمنا منه تعلم صبيان الكتاب ... وإن كان يرغب فيما لدينا من العلم علمناه، بحسب رغبته وطلبته» (48: 4، 165-167). «واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ليس من جماعة يجتمعون على تعاون في أمر من أمور الدنيا والآخرة أشد نصيحة بعضهم لبعض من تعاون إخوان الصفاء. وينبغي أن تعلم أن العلة التي تجمع بين إخوان الصفاء هي أن يرى ويعلم كل واحد منهم أنه لا يتم له ما يريد من صلاح معيشة الدنيا، ونيل الفوز والنجاة في الآخرة، إلا بمعاونة كل واحد منهم لصاحبه. وأما السبب الذي يحفظهم على تلك الحال فهو المحبة والرحمة والشفقة والرفق من كل واحد منهم، والمساواة فيما يريد ويحب ويبغض ويكره لنفسه. واعلم أن هذه الشرائط تتم وتدوم إذا علم كل واحد منهم بأن أنفسهم نفس واحدة وإن كانت أجسادهم متفرقة» (48: 4، 170). «... إنا نحن جماعة إخوان الصفاء، أصفياء وأصدقاء كرام، كنا نياما في كهف أبينا آدم مدة من الزمان تتقلب بنا تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، حتى جاء وقت الميعاد بعد تفرق في البلاد في مملكة صاحب الناموس الأكبر، وشاهدنا مدينتنا الروحانية المرتفعة في الهواء، وهي التي أخرج منها أبونا آدم وزوجته وذريتهما، لما خدعهما عدوهما اللعين وهو إبليس وقال: ... هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى .
11
واغترا بقوله ... وأخرجاهما وذريتهما جميعا بعضهم لبعض عدو. وقيل لهم: اهبطوا منها ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، فيها تحيون وفيها تموتون، ومنها تخرجون يوم البعث، إذا انتبهتم من نوم الجهالة واستيقظتم من رقد الغفلة ... فهل لك يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن تبادر وتركب معنا في سفينة النجاة التي بناها أبونا نوح، عليه السلام، فتنجو من طوفان الطبيعة قبل أن تأتي السماء بدخان مبين، وتسلم من أمواج بحر الهيولى ولا تكون من المغرقين؟» (44: 4، 18). «وتبادر قبل الفوات في فكاك نفسك من أسر الطبيعة ... وتخرجها من قعر الأجسام وظلمة الأجساد ونيران الشهوات المحرقة والغرور باللذات الجرمانية في جوار الشيطان، وتعمل كما يعمل النجباء بأن تصحب إخوانا لك نصحاء وأصدقاء كرماء، محبين لك وادين، مواظبين على نجاتك ونجاة نفوسهم، وأن ترغب في صحبتهم، وتسمع أقاويلهم وتفهم كلامهم بحضورك في مجالسهم، وتنظر في كتبهم لتعرف اعتقادهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتتعلم علومهم، وتسير بسيرتهم العادلة، وتعمل بسنتهم الزكية، وتتفقه في شريعتهم العقلية» (44: 4، 33).
وهنالك إشارات متفرقة تعطينا لمحات عامة وغير وافية عن المسائل التنظيمية: «اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ينبغي لإخواننا، أيدهم الله حيث كانوا من البلاد، أن يكون لهم مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة، لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم، ويتحاورون فيه أسرارهم. وينبغي أن تكون مذاكرتهم أكثرها في علم النفس، والحس والمحسوس، والعقل والمعقول، والنظر والبحث عن أسرار الكتب الإلهية والتنزيلات النبوية، ومعاني ما تضمنها من موضوعات الشريعة. وينبغي أيضا أن يتذاكروا العلوم الرياضيات الأربعة، أعني العدد والهندسة والتنجيم والتأليف. وأما أكثر عنايتهم وقصدهم فينبغي أن يكون البحث عن العلوم الإلهية التي هي الغرض الأقصى» (45: 4، 41).
وهنالك معايير خاصة يمتحن عليها المرشحون للعضوية: «وينبغي لإخواننا، أيدهم الله، حيث كانوا في البلاد، إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقا مجددا أو أخا مستأنفا، أن يعتبر أحواله ويتعرف أخباره، ويجرب أخلاقه، ويسأله عن مذهبه واعتقاده، ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أم لا؛ لأن في الناس أقواما طبائعهم متغايرة ... فمنهم خير وشرير، وكفور وشكور، وذو أمانة وغدار، وحليم وسفيه ... وما شاكل هذه الأخلاق المحمودة والمذمومة، مضادات بعضها لبعض ... فينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقا أو أخا أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير ... واعلم أن الخطب في اتخاذ الإخوان أجل وأعظم خطرا من هذه كلها؛ لأن إخوان الصدق هم الأعوان على أمور الدين والدنيا جميعا ... وهم أعز من الكبريت الأحمر. وإذا واحدا وجدت منهم فتمسك به، فإنه قرة العين ونعيم الدنيا وسعادة الآخرة؛ لأن إخوان الصدق نصرة على دفع الأعداء، وزين عند الأخلاء، وأركان يعتمد عليهم عند الشدائد والبلوى ...» (45: 4، 43-45). «واعلم يا أخي أن الإنسان كثير التلون قليل الثبات على حال واحد؛ وذلك أنه قل من الناس من تحدث له حال من أحوال الدنيا أو أمر من أمورها؛ من غنى إلى فقر، أو من فقر إلى غنى، أو من حضر إلى سفر، أو من عزوبة إلى تزويج، أو من ذل إلى عز ... إلا ويحدث له خلق جديد وسجية أخرى، ويتغير خلقه مع إخوانه، ويتلون مع أصدقائه، إلا إخوان الصفاء الذين ليست صداقتهم خارجة من ذاتهم. وذلك أن كل صداقة تكون لسبب ما، فإذا انقطع ذلك السبب بطلت تلك الصداقة، إلا صداقة إخوان الصفاء فإن صداقتهم قرابة رحم، ورحمهم أن يعيش بعضهم لبعض، ويرث بعضهم بعضا. وذلك أنهم يرون ويعتقدون أنهم نفس واحدة في أجساد متفرقة، فكيفما تغيرت حال الأجساد بحقيقتها فالنفس لا تتبدل ولا تتغير، كما قال القائل:
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه
ولو أن ما في الوجه منه خراب
يغير مني الدهر ما شاء غيرها
فأبلغ أقصى العمر وهي كعاب» (45: 4، 47-48).
ويبدو أن الدعاة يخضعون لتدريب خاص على كيفية مخاطبة وإقناع الشرائح المختلفة من الناس. وهذا ما نجد أثرا له في الرسالة 48 التي أفردت حيزا لهذه المسألة. فقد أفردوا فصلا في كيفية خطاب المتفلسفين الشاكين في أمر الشريعة، وفصلا في خطاب الشاكين في أمر النفس، وفصلا في خطاب الملوك والسلاطين، وفصلا في مخاطبة أهل العلم الغافلين عن أمر النفس، وفصلا في مخاطبة المتشيعين نقتطف فيما يأتي بعض فقراته التي نفهم منها أن هنالك صلة وثيقة بين الإخوان والمتشيعين، ولكنها لا تصل حد التماثل، وهم يخاطبونهم هنا كإحدى الجماعات التي يرغبون في استمالتها: «قد جمع الله بيننا وبينك أيها الأخ البار الرحيم في أسباب شتى وخصال عدة ... فمن إحدى تلك الخصال والأسباب التي تؤكد المودة بين الأصدقاء ملة الإسلام التي هي آكد الأسباب ...
ومما يجمعنا وإياك أيها الأخ البار الرحيم محبة نبينا، عليه السلام، وأهل بيت نبينا الطاهرين، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير الوصيين، صلوات الله عليهم أجمعين. ومما يجمعنا وإياك حرمة الأدب والخروج من جملة العوام، وهو العماد لما نحن بسبيله ونشير إليه. ومما يجمعنا وإياك من الأخلاق الجميلة والأفعال الحميدة وحرية النفس وصفاء جوهرها، وهي التي تدعونا إلى مكاتبتك ومراسلتك، وما نرجو منه النفع لك فيما يستقبل من الأمر، والله يؤيدك وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد. وقد أنفذنا إليك أخا من إخواننا ممن قد ارتضيناه في بصيرته وحمدنا طريقته في دينه وأخلاقه. وأنت أيدك الله تعرف حقه وما يجب من حرمته وتوصله إليك على خلوة من مجلسك وفراغ من قلبك، وتصغي إليه فيما يقول، وتسمع منه ما ألقينا إليك من أسرارنا وما نشير إليه من علمنا، ليتبين لك مذهبنا، وتفهم اعتقادنا في أمر الدين والدنيا جميعا. فإذا سمعت أقاويلنا وفهمت معانيها ... أجبتنا عن رأيك فيما أشرنا إليه ... لا محتشما ولا متهيبا ... والله يوفقك للصواب» (48: 4، 195).
وأيضا: «واعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن شيعتنا وإخواننا المتفرقين في البلاد وسائر من ينسب إلينا، فهم في أحوالهم ومراتبهم على منازل ثلاث: فطائفة منهم خواص عقلاء، متدينون أخيار فضلاء، وطائفة منهم أغبياء أشرار أردياء، وطائفة بين ذلك متوسطون ...
إن من خواص إخواننا الفضلاء أنهم العلماء بأمور الديانات، العارفون بأسرار النبوات، المتأدبون بالرياضيات الفلسفية؛ وإذا لقيت أحدا منهم وأنست منه رشدا، فبشره بما يسره، وذكره باستئناف دور الكشف والانتباه، وانجلاء الغمة عن العباد بانتقال القرآن من برج مثلثات النيران إلى برج مثلثات النبات والحيوان، في الدور العاشر الموافق لبيت السلطان وظهور الأعلام.
واعلم أن من إخواننا وأهل شيعتنا طائفة أخرى بوجودنا شاكون، وفي بقائنا متحيرون فيما يعتقدون من موالاتنا، وطائفة أخرى موقنون ببقائنا لكنهم غافلون عن أمرنا غير عارفين بأسرارنا، وكلهم منتظرون لظهور أمرنا، مستعجلون لمجيء أيامنا، مشتهون نصرة أمرنا. فإذا لقيت منهم أحدا فبشره بما يسره، وأقر عينه بما يظنه بعيدا مما يؤلمه ... وذكر من وثقت بهم من إخواننا بما ألقينا إليك من علمنا ... وأخرج إليهم من رسائلنا ما ترغب نفوسهم فيه وترتاح إليه، وليكن ذلك على النظام والترتيب كما بينا لك. فلعلهم إذا استمعوا إليها وفهموا معانيها انتبهت نفوسهم من نوم الغفلة ورقدة الجهالة .
واعلم يا أخي بأن في الناس طائفة من أهل ملتنا مقرون بفضلنا وفضل أهل بيتنا، ولكنهم جاهلون بعلومنا غافلون عن أسرارنا وحكمتنا؛ فمن ذلك أنهم يجحدون وجودنا وينكرون بقاءنا، ومع هذا فإنهم يزرون بشيعتنا المقرين بوجودنا المنتظرين ظهور أمرنا، ومعاندون لهم متعصبون عليهم مبغضون لهم.
واعلم بأن أحد الأسباب في ذلك هو أن قوما من أشرار الناس جعلوا التشيع سترا لهم عما يحذرون من الآمرين عليهم بالمعروف والناهين لهم عن المنكر فيما يفعلون. وذلك أنهم يركبون كل محظور ويتركون كل مأمور به، وإذا نهوا عن منكر فعلوه، بارزوا بإظهار التشيع ... ومن الناس طائفة ينسبون إلينا بأجسادهم وهم براء بنفوسهم منا، ويسمون أنفسهم العلوية وما هم من العلويين ولكنهم من أسفل سافلين، لا يعرفون من أمرنا إلا نسبة الأجساد، ولا من القرآن إلا اسمه، ولا من الإسلام إلا رسمه ... ومن الناس طائفة قد جعلت التشيع مكسبا لها، مثل النائحة والقصاص، لا يعرفون من التشيع إلا التبري والشتم والطعن واللعنة والبكاء مع النائحة ...
ومن الشيعة من يقول إن الأئمة يسمعون النداء ويجيبون الدعاء، ولا يدرون حقيقة ما يقرون به وصحة ما يعتقدونه. ومنهم من يقول إن الإمام المنتظر مختف من خوف المخالفين، كلا بل هو ظاهر بين ظهرانيهم يعرفهم وهم له منكرون» (48: 4، 145-148).
إن الإشارة في هذا المقطع الأخير إلى الإمام الظاهر ليست إشارة إلى الإمام الإسماعيلي الفاطمي، للأسباب التي بيناها في الفصل السابق، ولم يكن في تلك الفترة من إمام شيعي يدعو إليها الدعاة بعد اختفاء الإمام الثاني عشر. من هنا، فلا بد أن يكون المقصود بالإمام تنظيم إخوان الصفاء نفسه. فهو الإمام وهو الهادي بتنظيمه الذي يتربع على قمته أربعون رجلا صالحا مختارين من أربعمائة تم اختيارهم من أربعة آلاف، من ورائهم شريحة لا نعرف عددها من الأنصار. وفوق هؤلاء جميعا يقوم أربعة أشخاص هم بمثابة الهيئة التنفيذية لهذه القيادة الجماعية التي لا تعترف برئيس ولا بسلطة إلا سلطة العقل. ويدعم رأينا هذا، أن الإخوان عبر رسائلهم كلها لم يظهروا دعوتهم لإمام ما سواء أكان هذا الإمام ظاهرا أم مكتوما، ولم يولوا مسألة الإمامة أهمية تذكر، على ما أشرنا إلى ذلك سابقا. وقد عبر الإخوان عن ذلك بشكل واضح عندما قالوا: «وليس كل أمر يتم بواحد من الناس بل ربما يحتاج فيه إلى الجمع العظيم. وخاصة أمر الناموس، وأقل ما يحتاج فيه إلى أربعين خصلة تجتمع في أحد من الأشخاص، أو أربعين شخصا مؤتلفي القلوب» (48: 4، 177). وبما أن خصال النبوة الأربعين لا يمكن أن تجتمع في واحد من الناس حتى يكون هاديا لهم بعد النبي
صلى الله عليه وسلم ، على ما قالوه لنا في مقطع أوردناه سابقا، فإن الرئاسة تبقى في هؤلاء الأربعين المؤتلفي القلوب، وهم بؤرة تنظيم إخوان الصفاء.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: لماذا لم يصطدم هذا التنظيم الواسع الانتشار في العالم الإسلامي مع السلطة الزمنية في بغداد؟ ولماذا لم يلق إخوان الصفاء من عسف واضطهاد العباسيين ما لقيت جماعات وتنظيمات أخرى عديدة؟ والجواب عن ذلك واضح كل الوضوح، فالسلطة العباسية لم تكن معنية كثيرا بتحري ومراقبة الحركات الفلسفية والروحانية قدر عنايتها بتحري ومراقبة الحركات السياسية المعارضة التي تهدف إلى قلب نظام الحكم وإحلال تغييرات جذرية في المجتمع والسلطة عن طريق القوة. والإخوان لم يكونوا من دعاة الانقلاب على السلطة، ولم يخططوا للصدام معها، والمملكة التي دعوا إلى إخلالها كانت أقرب إلى مفهوم المسيح عن ملكوت الرب السماوي منها إلى المملكة السياسية الأرضية: «واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أنا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفا من سطوة الملوك ذوي السلطنة الأرضية، ولا حذرا من شغب جمهور العوام، ولكن صيانة لمواهب الله عز وجل لنا كما أوصى المسيح قال: لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
واعلم أيها الأخ أنا لا نحسد ملوك الأرضين ولا نتنافس في مراتب أبناء الدنيا، ولكن نطلب الملك السماوي ومراتب الملائكة الذين هم أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع. لأن جوهرنا جوهر سماوي وعالمنا عالم علوي، ونحن ها هنا أسرى غرباء في أسر الطبيعة، غرقى في بحر الهيولى بجناية كانت من أبينا آدم الأول حين خدعه عدوه اللعين إذ قال: ... هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى »
12 (48: 4، 166).
لقد وصفوا الخلافة العباسية بأنها دولة أهل الشر وتوقعوا زوالها وحلول دولة أهل الخير محلها، ولكنهم رأوا أن هذا الزوال محكوم بحتمية تاريخية سوف تقود إليه، وأن عليهم الاستعداد لتلك اللحظة الآتية دون استعجالها بالعنف: «واعلم بأن كل دولة لها وقت منه تبتدي، وغاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي؛ فإذا بلغت إلى أقصى غاياتها ومدى نهاياتها تسارع إليها الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان ... والمثال في ذلك مجاري أحكام الزمان، وذلك أن الزمان كله نصفان، نصفه نهار مضيء، ونصفه ليل مظلم، وأيضا نصفه صيف حار ونصفه شتاء بارد، وهما يتداولان في مجيئهما وذهابهما ... وكلما تناهى أحدهما في الزيادة ظهرت قوته وكثرت أفعاله في العالم، وخفيت قوة ضده وقلت أفعاله. فهكذا حكم الزمان في دولة أهل الخير ودولة أهل الشر: تارة تكون الدولة والقوة وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير، وتارة تكون الدولة والقوة وظهور الأفعال في العالم لأهل الشر ...
وقد نرى أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد تناهت دولة أهل الشر وظهرت قوتهم وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط والنقصان. واعلم بأن الدولة والملك ينتقلان في كل دهر وزمان ودور وقران من أمة إلى أمة، ومن أهل بيت إلى أهل بيت، ومن بلد إلى بلد.
واعلم يا أخي أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من قوم علماء حكماء وخيار فضلاء، يجتمعون على رأي واحد، ويتفقون على مذهب واحد ودين واحد، ويعقدون بينهم عهدا وميثاقا أن لا يتجادلوا ولا يتقاعدوا عن نصرة بعضهم بعضا، ويكونون كرجل واحد في جميع أموره، وكنفس واحدة في جميع تدبيرهم فيما يقصدون من نصرة الدين وطلب الآخرة، لا يبتغون سوى وجه الله ورضوانه جزاء ولا شكورا. فهل لك أيها الأخ البار الحكيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ترغب في صحبة إخوان لك نصحاء، وأصدقاء لك أخيار فضلاء، هذه صفتهم، بأن تقصد مقصدهم وتتخلق بأخلاقهم، وتنظر في علومهم لتعرف مناهجهم، وتكون معهم وتنجو بمفازاتهم، لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون» (4: 1، 180-182).
ومن حديث الإخوان عن المدينة الفاضلة التي يسعون إلى بنائها، يظهر بكل وضوح أنهم ليسوا في سبيل ملك أرضي وإنما في سبيل ملكوت سماوي، وليس تنظيم إخوان الصفاء إلا الصورة الأرضية عن ذلك الملكوت المنشود. فمدينتهم تؤسس على تقوى الله لا على أبنية مادية حجرية، ويشيد بناؤها لا من لبنات الآجر والقرميد بل من لبنات الصدق في الأقاويل والتصديق في الضمائر، وتتم أركانها على الوفاء والأمانة. ولا ينبغي أن يكون بناء هذه المدينة في الأرض ولا على وجه الماء ولا مرتفعا في الهواء وإنما في الأعالي بحيث يشرف على سائر البلدان. أي إن هذه المدينة ستكون منزهة من العناصر التي تؤلف الوجود المادي. وينبغي أن يكون الهيكل التنظيمي لهذه المدينة مرتبا على أربع مراتب هي مراتب تنظيم إخوان الصفاء نفسه: «وينبغي لنا أيها الأخ، بعد اجتماعنا على الشرائط التي تقدمت من صفوة الإخوان، أن نتعاون ونجمع قوة أجسادنا ونجعلها قوة واحدة، ونرتب تدبير نفوسنا تدبيرا واحدا، ونبني مدينة فاضلة روحانية، ويكون بناء المدينة في مملكة صاحب الناموس الأكبر الذي يملك النفوس والأجساد؛ لأن من ملك النفوس ملك الأجساد، ومن لم يملك النفوس لم يملك الأجساد. وينبغي أن يكون أهل هذه المدينة قوما أخيارا حكماء فضلاء مستبصرين بأمور النفوس وحالاتها، وما يتبع ذلك من أمور الأجساد وحالاتها. وينبغي أن يكون لأهل المدينة سيرة جميلة كريمة حسنة يتعاملون بها فيما بينهم، وأن يكون لهم سيرة أخرى يعاملون بها أهل المدن الجائرة.
ولا ينبغي أن يكون بناء هذه المدينة في الأرض حيث تكون أخلاق أهل سائر المدن الجائرة؛ ولا ينبغي أيضا أن يكون بناؤها على وجه الماء؛ لأنه يصيبها من الأمواج والاضطراب ما يصيب أهل المدن التي على السواحل من البحار، ولا ينبغي أن يكون بناء هذه المدينة في الهواء مرتفعا لكيلا يصعد إليها دخان المدن الجائرة فتكدر أهويتها، وينبغي أن تكون مشرفة على سائر المدن ليكون أهلها يشاهدون حالات أهل سائر المدن في دائم الأوقات، وينبغي أن يكون أساس هذه المدينة على تقوى الله كيلا ينهار بناؤها، وأن يشيد بناؤها على الصدق في الأقاويل والتصديق في الضمائر وتتم أركانها على الوفاء والأمانة كيما تدوم ويكون كمالها على الغرض في الغاية القصوى التي هي الخلود في النعيم. فإذا فرغنا من بنائها بنينا المركب الذي هو سفينة النجاة، حتى تكون السفينة مستقلة بثقل الأجساد وتكون المدينة مأوى الأرواح.
وينبغي أن يكون تعاون أهل المدينة مرتبا أربع مراتب: إحداهما مرتبة أرباب الأركان الأربعة ذوي الصنائع، والثانية مرتبة ذوي الرياسات، والثالثة مرتبة الملوك ذوي الأمر والنهى، والرابعة مرتبة الإلهيين ذوي المشيئة والإرادة ...
واعلم أيها الأخ علما يقينا أن هذه المدينة مفروغ من بنائها على هذا الوصف، ولكن لا يمكن أحدا أن يدخل مدينتنا هذه متى لم يكن علمه مساويا لعلمنا؛ لأن حولها أربعة أسوار مبنية من جهالات الناس، ما بين كل سورين خندق من سوء أعمالهم وفساد آرائهم ورداءة أخلاقهم، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. فمن عزم على دخولها فعليه بعلم النفس ومعرفة جوهرها، فإنه أولى بأن يستفتح في مدينتنا. وقد بينا كل ما يحتاج إخواننا، أيدهم الله، إليه من هذا العلم في إحدى وخمسين رسالة. فانظر فيها أيها الأخ إن لم يكن يستوي لك الحضور في مجلسنا، واعرضها على إخوانك الذين ترتضيهم وتأنس منهم الرشد والسداد، لعلكم توفقون لفهم معاني ما ذكرنا فيها من معاني فنون العلم وغرائب الحكم، وترشدون إلى العمل بما يقربكم إلى الله زلفى» (48: 4، 171-172).
هذا السعي الروحي للإخوان وطلبهم لسعادة النفس في العالم الآخر، ولجوئهم للأساليب السلمية في نشر دعوتهم، لم تعن أبدا أنهم قد أداروا ظهورهم لمشكلات عصرهم ومجتمعهم، بل على العكس من ذلك؛ فرسائلهم طافحة بالنقد الاجتماعي والسياسي. ويتركز هذا النقد بشكل خاص في حكاية احتكام الإنس والأنعام إلى ملك الجن بيراست، والتي تشغل عشرات الصفحات من الرسالة 22، وهي الرسالة الثامنة من القسم الثاني الطبيعي. وهي حكاية مليئة بالرموز والتوريات ذات الدلالات العميقة. نقرأ على لسان الببغاء هذا النقد اللاذع الذي لم يستثن حتى مقام الخلافة نفسه: «وأما تجاركم فيجمعون من حرام وحلال، ويبنون الدكاكين والخانات، ويملئونها من الأمتعة ويحتكرونها، ويضنون بها على أنفسهم وجيرانهم وأحبابهم، ويمنعون الفقراء والمساكين حقوقهم، ولا ينفقون حتى تذهب جملة واحدة، إما في حرق أو غرق أو سرقة أو مصادرة سلطان جائر أو قطع طريق، وما شاكل ذلك. ويبقى هو بحزنه ومصيبته معاقبا بما كسبت يداه، فلا زكاة أخرج، ولا صدقة أعطى، ولا يتيما بر ...
وأما الذين ذكرتهم من الكتاب والعمال وأصحاب الدواوين، وافتخرت بهم، فهكذا يليق بكم الافتخار بالأشرار الذين يهتدون إلى أسباب الشرور ما لا يهتدي غيرهم، ويصلون إلى ما لا يصل إليه سواهم، لدقة أفهامهم وجودة تمييزهم، ولطف مكايدهم وطول ألسنتهم، ونفاذ خطابهم في كتبهم. يكتب أحدهم إلى أخيه وصديقه زخرا من القول غرورا، بألفاظ مسجعة وكلام حلو وخطاب فصيح يغريه، وهو من ورائه في قطع دابره، والحيلة في إزالة نعمته، والوصول إلى أسباب نكايته، وتدوين الأعمال في مصادراته وتأويلات الأخذ لماله.
وأما قراؤكم وعبادكم الذين تظنون أنهم أخياركم ... فهم الذين غروكم بإظهارهم الورع والخشوع والتقشف والنسك ... وترك التفقه في الدين ... وترك تهذيب النفس وإصلاح الخلق، واشتغلوا بكثرة السجود والركوع بلا علم، حتى ظهر أثر السجود على جباههم ... وتركوا الأكل والشرب حتى جفت أدمغتهم ونحلت شفاههم ... وقلوبهم مملوءة بغضا وحقدا وجفاء لمن ليس مثلهم، ونفوسهم مملوءة وساوس وخصومة مع ربهم بضمائرهم ...
وأما فقهاؤكم وعلماؤكم، فهم الذين يتفقهون في الدين طلبا للدنيا، وابتغاء للرياسة والولاية والقضاء والفتاوى بآرائهم وقياساتهم، يحللون تارة ويحرمون تارة بتأويلاتهم، ويتبعون ما تشابه ويتركون حقيقة ما أنزل الله من الآيات المحكمات، فنبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ويتبعون ما تتلو الشياطين على قلوبهم من الخيالات. كل هذا طلبا للدنيا وتكسبا للرياسة من غير ورع ولا تقوى من الله تعالى ...
وأما قضاتكم وعدولكم والمزكون لكم، فأدهى وأظلم وأبطر وهم أشر سيرة من الفراعنة والجبابرة. وذلك أنك تجد الواحد منهم قبل الولاية قاعدا بالغدوات في مسجده، حافظا لصلاته، مقبلا على شانه، يمشي بين جيرانه على الأرض هونا، حتى إذا ولي الحكم والقضاء تراه راكبا بغلة فارهة وحمارا مصريا بسرج ومركب، وغاشية يحملها السودان ... قد ضمن القضاء من السلطان الجائر بشيء يؤديه إليه من أموال اليتامى ومال الوقوف. وصالح عدوله بشيء من السحت والبراطيل، فقبل منهم الرشوة، ويرخص لهم في الجنايات وشهادات الزور وترك أداء الأمانات والودائع ...
وأما خلفاؤكم الذين تزعمون أنهم ورثة الأنبياء، عليهم السلام، فكفى وصفهم ما قاله الله تعالى. وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ما من نبوة إلا ونسختها الجبروتية. ويسمون باسم الخلافة، ويسيرون بسيرة الجبابرة، وينهون عن منكرات الأمور، ويرتكبون هم منها كل محظور، ويقتلون أولياء الله وأولاد الأنبياء، عليهم السلام، ويسبونهم ويغصبونهم على حقوقهم، ويشربون الخمر، ويبادرون إلى الفجور ... فبدلوا نعمة الله كفرا ... فويل لهم مما كسبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون! وذلك أنه إذا ولي أحد منهم ابتدأ أولا بالقبض على من تقدمت له حرمة لآبائه وأسلافه، وأزال نعمته، وربما قتل أعمامه وإخوانه وأبناء عمه وأقربائه، وربما كحلهم أو حبسهم ونفاهم ... كل ذلك حرصا على طلب الدنيا وشدة الرغبة فيها، وشحا عليها وقلة الرغبة في الآخرة ...» (22: 2، 358-361).
لقد طال هذا النقد الشامل الذي تحفل به الرسائل جميع شرائح المجتمع، وكل الأخلاق الرديئة والعادات الفاسدة السائدة لدى الناس، وذلك انطلاقا من نظرة الإخوان إلى النجاة من عالم الكون والفساد، والتي لا تتهيأ للفرد المنعزل عن المجتمع، بل للفرد الفاعل فيه الساعي إلى تحسينه وتطويره. فإذا كان الخلاص يبدأ بجهد فردي إلا أنه لا يتحقق فعلا إلا بجهد جمعي، عندما تتحد الإرادات وتتوحد الغايات، لا من أجل قلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة، بل من أجل إحداث انقلاب في صميم الثقافة الإسلامية يهيئها لقدوم دولة أهل الخير، ويمهد لها.
Unknown page