Tariq Ikhwan Safa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Genres
على أن الإخوان يختلفون مع الغنوصية التقليدية في أكثر من نظرة وممارسة. فالعالم عند الغنوصيين شر كله ولا سبيل إلى إصلاحه؛ لأنه من صنع إله التوراة الذي يقرنونه بالشيطان، لا من صنع الله الحق، الأب النوراني الأعلى خالق العوالم الروحانية التي تسمو على العالم المادي. وقد رأف الله بالبشر وأرسل إليهم ابنه المسيح من أجل تخليص أرواحهم التي تنتمي إلى العوالم الروحانية العليا. من هنا يأتي رفض الغنوصية للعالم ومحاولة الانسحاب منه. وبما أن الجسد ينتمي إلى العالم المادي علينا أن نرفضه أيضا ونتنكر لشهواته ورغباته، حتى إن بعض الفرق الغنوصية قد شجعت على ترك الزواج والإنجاب والعلاقات الجنسية. أما الإخوان فلا يرون أن العالم شر بطبيعته لأنه من صنع الله، بل هو ناقص، ونقصه ناجم عن كونه الحلقة الأخيرة من سلسلة الفيض الإلهي، حيث قصرت كل حلقة من هذه السلسلة عن اللحوق بسابقتها وعجزت عن التماثل معها، وصولا إلى الحلقة المادية الدنيا التي تلي فلك القمر، وهي أكثر الحلقات نقصا وعجزا. ولكن هذا العالم المادي الأدنى على نقصه وكونه سجنا للنفوس الهابطة، إلا أنه قدم لها في الوقت نفسه فرصة للانفلات من عقاله عن طريق المعرفة. والإخوان يشبهون المدة التي تقضيها النفس الجزئية في العالم بتلك المدة التي يقضيها الجنين في الرحم؛ فكما أن الجنين لا يستطيع الانتفاع بالحياة إلا بعد بقائه المدة الكافية في الرحم لاستكمال الخلقة وتتميم الأعضاء، كذلك هو حال الإنسان الذي يتوجب عليه قضاء المدة اللازمة في هذا العالم من أجل التعلم والتبصر والارتقاء، ومن ثم الانتفاع بالحياة الثانية.
وينجم عن ذلك أن الإخوان، على ذمهم للجسد، لا يجدون فيه شرا إلا بالنسبة إلى أولئك الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مجرد جسد، فينغمسون في اللذات وتلبية دواعي الشهوات، غافلين عن نفوسهم وعن معادها ونشأتها الثانية، أما العارفون الذين يدركون مثنوية الجسد والنفس ويعون العلاقة الجدلية بينهما، فإنهم في موقع السادة لأجسادهم لا في موقع العبيد، ويتحول الجسد عندهم، بما فيه من أعضاء ووظائف نفسية وعصبية ، إلى أداة للمعرفة المنجية. فالجسد على ما يكرر الإخوان هو الصراط المستقيم الذي تجوز عليه النفس لتصل إلى جنات الخلد. والنفوس الجزئية: «إنما ربطت بأجسادها التي هي أجساد جزئية، كيما تكمل فضائلها وتخرج كل ما في القوة والإمكان من الفضائل والخيرات إلى الفعل والظهور، ولا يمكن ذلك إلا بارتباطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها» (الرسالة 9).
فمذهب الإخوان، على عكس الغنوصية التقليدية، مذهب تفاؤلي؛ وهم إذ يدركون ما في العالم من قصور ونقص، يؤمنون بالقدرة على إصلاحه. وهم ينطلقون من قاعدة نقدية واسعة للمجتمع ومؤسساته وللأخلاق السائدة، من أجل تحقيق هذا الإصلاح المنشود.
كما تختلف غنوصية الإخوان في وسائل وأساليب تحقيق المعرفة. فبينما تركز الغنوصية التقليدية على المعرفة الصوفية التي يحققها التأمل الباطني في معزل عن العالم ومؤثراته، فإن الإخوان يرون أن الثمرة الأخيرة للمعرفة، وهي معرفة النفس ومعرفة الله، لن تتأتى قبل معرفة العالم ومجرياته، ومعرفة الجسد الإنساني بجميع وظائفه؛ لأنه مسكن النفس ووسيلتها إلى الانعتاق. نقرأ في الرسالة السابعة: «إن الإنسان لما كان جملة من جسد جسماني ونفس روحانية ... صار من أجل جسده الجسماني مريدا للبقاء في الدنيا متمنيا الخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالبا للدار الآخرة متمنيا البلوغ إليها ... فصارت قنيته أيضا نوعين: جسمانية كالمال ومتاع الدنيا، وروحانية كالعلم والدين. وذلك أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد. وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة وبالدين يصل إليها؛ وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب ينمو الجسد ويزيد ويربو.»
من هنا، فقد ابتدأ الإخوان رسائلهم بأكثر العلوم تجريدا وهو الرياضيات وعلم العدد؛ ثم انتقلوا إلى الهندسة؛ ثم إلى الموسيقى التي عدوها علما رياضيا؛ ثم وجهوا أنظارهم إلى السماء ورسموا خارطة للكون؛ ثم عادوا إلى الغلاف الجوي ورصدوا ظواهره من بروق ورعود وحركة رياح وشهب وما إليها؛ ومنه هبطوا إلى سطح الأرض فدرسوا بيئاتها وتضاريسها ومناخاتها ونباتها وحيوانها، وأدركوا كرويتها فقاسوا قطرها ومحيطها، وحددوا خط الاستواء والمدارين، وخطوط الطول والعرض؛ ثم نزلوا إلى أعماقها وحددوا مركزها واعتبروه مركز الأثقال جميعها مشيرين بذلك بشكل عام إلى قانون الجاذبية، ووصفوا معادنها وتركيبها العمقي؛ وتوقفوا مليا عند جسم الإنسان فوصفوا عملياته البيولوجية ووظائف أعضائه، واكتشفوا الدورة الدموية والسيالات العصبية، ووصفوا آليات السمع والبصر والشم والحس، وتحدثوا عن مراكز الدماغ ووظائفها، والعمليات النفسية من إدراك وإحساس وما إليها، وبسطوا المنطق الأرسطي والبرهان الفلسفي وطبقوا ذلك في مناهجهم البحثية، ووضعوا الأسس الأولى للنظرية الداروينية في ارتقاء الأنواع والتطور بشكل عام. وفي غمار ذلك كانوا يبسطون مذهبهم ويدعون إليه، إثر تعليقهم على كل علم من العلوم وظاهرة من ظواهر الطبيعة والكون.
هذه الذخيرة المعرفية للإخوان قد خطفت أبصار الباحثين الذين تصدوا لدراسة الرسائل، فاعتقدوا أنها مقصودة لذاتها، وأشبعوا فروع المعرفة التي تكلم فيها الإخوان بحثا وتحليلا، ولكنهم لم يولوا مذهب الإخوان ما يستحق من عناية ودراسة، وبعضهم لم يتلمس خيوطه المنسوجة ببطء وعناية عبر الرسائل، سواء بإفصاح أم بتكتم مفصح لمن يريد الغوص إلى بواطن المعاني. وإني إذ أعترف بقيمة ما قدمه هؤلاء جميعا، إلا أنني أختلف معهم في المقاربة، والمنهج، والخلاصات، فيما يتعلق برسالة الإخوان ومذهبهم وغاياتهم.
عن المنهج
كانت قراءتي الأولى للرسائل محبطة، لقد أعطتني الدهشة والفرح، ولكن رسالتها بقيت غائمة ومشتتة. وهذا إحساس يعانيه كل من راود الرسائل عن نفسها في مقاربة أولى. في القراءة الثانية عمدت إلى تفكيك الرسائل، ورصد الأفكار الرئيسية فيها وكيفية تطوير الإخوان لها، ووضعت في ذلك ثبتا طويلا ارتصفت فيه الأفكار والمعلومات دون نظام. في القراءة الثالثة استدركت ما فاتني في القراءة السابقة، ورحت أجمع الأفكار والمعلومات وفق محاور رئيسة استبعدت منها كل تكرار واستطراد ومعالجات إضافية، فتجمعت هذه الحصيلة في سبعة محاور أعطيتها العناوين الآتية: (1)
نظرية التكوين. (2)
صفة العالم. (3)
Unknown page