Tariq Ikhwan Safa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Genres
1
فكفى بهذا فرقا بين العلم والإيمان.»
وفي هذا الوقت كان الغرب المسيحي يشهد قيام عملية مشابهة من التوفيق بين الدين والفلسفة، ابتدأت بأول الفلاسفة المسيحيين الكبار وهو كليمنس الإسكندري (ت 215م) الذي اعتبر الفلسفة اليونانية هبة من الله. وقد أسس في الإسكندرية مدرسة لتأهيل معلمي الديانة المسيحية كانت تدرس الفلسفة اليونانية وعلى وجه الخصوص فلسفة أفلاطون. ثم خلفه تلميذه أوريجين (ت 254م) الذي ألف دراسات للكتاب المقدس مبنية على التفكير الفلسفي، واعتبرت بعض كتاباته خارجة عن المعتقد القويم. وقد بلغت هذه الحركة ذروتها مع ظهور كتابات القديس أوغسطين (ت 340م) الذي يعتبر من أبرز الأفلاطونيين المحدثين في الفكر المسيحي، وأكثر المفكرين أثرا في تاريخ الكنيسة. فقد سار أوغسطين على نهج الأفلاطونية المحدثة وصبغه بالصبغة المسيحية، وبفضل مؤلفاته تحولت الفلسفة إلى مصدر من مصادر علم اللاهوت المسيحي؛ ويمكن تشبيه دوره بالدور الذي أداه الفيلسوف الكندي في الثقافة الإسلامية. وفي القرن العاشر الميلادي (الذي نشط فيه إخوان الصفاء) ولدت الفلسفة المدرسية المسيحية (= السكولائية)، عندما عكف رهبان الأديرة على دراسة وترجمة العديد من المخطوطات الفلسفية اليونانية التي كانت محفوظة لديهم، ووضعوا لها الشروح والتفسيرات. وكان من أوائل هؤلاء المدرسين جون سكوت إريجينا، الذي حاول التوفيق بين مفهوم الأفلاطونية عن الفيض الإلهي وتعاليم المسيحية في الخلق والتكوين (ت 877م). وقد بلغت الفلسفة المدرسية عصرها الذهبي في زمن إنسلم أسقف كانتربري (ت 1109م)، الذي أكد بأن على المؤمن أن يجتهد في فهم ما سبق وأن يؤمن به، وذلك اعتمادا على العقل؛
2
وهذا عين ما قال به إخوان الصفاء.
كما يقوم مذهب الإخوان على التوفيق بين الأديان؛ لأن في كل منها جانبا من الحقيقة. يقولون في الرسالة 42: «فاعلم أن الحق في كل دين موجود، وعلى كل لسان جار، وأن الشبهة دخولها على كل إنسان جائز ممكن ، فاجتهد يا أخي أن تبين الحق لكل صاحب دين ومذهب مما هو في يده، أو مما هو متمسك به، وتكشف الشبهة التي دخلت عليه، إن كنت تحسن هذه الصناعة ... ثم اعلم أن الأنبياء، عليهم السلام، لا يختلفون فيما يعتقدون من الدين سرا وعلانية ... وأما الشرائع التي هي أوامر ونواه وأحكام وسنن، فهم فيها مختلفون ... ثم اعلم أن اختلاف الشرائع ليس بضار، إذا كان الدين واحدا» (42: 3، 486-487، 501).
لذلك، فإن التعصب هو آفة العقول يعميها عن رؤية الحقائق: «... ثم اعلم أنه ينبغي لمن يريد أن يعرف حقائق الأشياء أن يبحث أولا عن علل الموجودات وأسباب المخلوقات، وأن يكون له قلب فارغ من الهموم والغموم والأمور الدنيوية ... ويكون غير متعصب لمذهب أو على مذهب؛ لأن العصبية هي الهوى، والهوى يعمي عين العقل، وينهى عن إدراك الحقائق» (40: 3، 376).
من هنا، فإن مذهب الإخوان هو استمرار وتكملة لكل معارف الإنسانية، وعلومهم مأخوذة من أربعة مصادر رئيسية: «أحدها: الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة، من الرياضيات والطبيعيات، والآخر: الكتب المنزلة التي جاءت بها الأنبياء ... والثالث: الكتب الطبيعية، وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك، وأقسام البروج، وحركات الكواكب ومقادير أجرامها، وتصاريف الزمان، واستحالة الأركان، وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات ... والنوع الرابع: الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون» (45: 4، 42).
لقد تأثر الإخوان بالفلسفة اليونانية، ووضعوا فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو في درجة تعادل درجة الأنبياء، واستشهدوا بأقوالهم في سياق واحد مع أقوال عيسى المسيح والرسول الكريم، كما تأثروا بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي نشطت في المشرق العربي في العصر الهيلينستي، لا سيما فيما يتعلق بنظرية الفيض الإلهي التي تفسر كيفية ظهور العالم عن الله؛ وصبت في إنائهم الفكري تيارات قادمة من الهند وفارس، والصابئة المحليين في حران وهم أصحاب عقيدة كوكبية تقدس الأجرام السماوية. ولكنهم خرجوا من ذلك كله بمذهب أصيل أسس لغنوصية إسلامية أعطت ثمارها بعد ذلك في الفكر الصوفي، ولدى الفرق الإسلامية ذات الطابع الفلسفي وهي: الإسماعيلية والنصيرية والدرزية.
الإخوان والغنوصية
Unknown page