مقدمة
طفولتي
كيف تذوقت الأدب العربي قبل أن أعرف القراءة والكتابة؟!
كيف تعلمت القراءة؟
خرافات وأوهام
كيف دخلت المدرسة السنية؟
الشيخ حمزة فتح الله وكيف أثار الطالبات علي؟
الشيخة رمانة
شاب ريفي
طرائف
Unknown page
نهضة تعليم البنات في مصر
نزق الشباب
عزة النفس تنقلب جبنا
الغش في الامتحانات
دروس التربية العملية
حبي الشديد للحرية
نهاية الدراسة بالمدرسة السنية
سفوري
دخولي البكالوريا
أثر حصولي على البكالوريا ومذهبي في الزواج
Unknown page
إحلال النساء محل الرجال في الوظائف ونتائجه السيئة على شخصي الضعيف
صاحبة الجلالة الصحافة وأثرها علي سابقا
نفعني الصدق مرة واحدة في حياتي
عزة النفس تقضي علي دائما
تدريسي اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات
الحرية وهل لها مسمى؟
حنبليتي في البعد عن الرجال
قوة الشباب وغروره
كيف كنت في أول عملي بالفيوم؟
حياتي العملية
Unknown page
المعلمة الإنجليزية
نقل المدير
ابتداء المتاعب
تعييني ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة
في المنصورة
مناهج التعليم ومناورات وزارة المعارف للإشراف على مجالس المديريات في الماضي
غضب يمحو غضبا
إصلاح مدرسة المنصورة أخلاقيا ومخاوفي التي كنت أخشاها بعد إطلاق يدي في المدرسة
ذكريات حديثة
مكائد
Unknown page
سعيد ذو الفقار باشا
مكيدة
نكبة
رضاء بعد الغضب
انتقام
سوء حظ وعناد
إنشاء وتعمير
القوة فوق الحق
وظيفة وكيلة
الدعاية الوطنية
Unknown page
تهمة كاذبة
إيقاف الاضطهاد إلى تحسين الفرص
سوء حظ
زيادة عدو إلى قائمة أعدائي
ضابطة فرنسية
مناوآت
استمرار المناورات
تحريض مستمر
مناورات
إضراب إجباري
Unknown page
إرهاق واستفزاز
زيارة ملكية
نتائج الزيارة الملكية
كيف كانت خطتي في التدريس؟
عملي بالوزارة
إنشاء مدرسة ترقية الفتاة
أول متاعبي في المدارس الحرة
إخراج السكان من المنزل
مناورات
خديعة
Unknown page
مقدمة
طفولتي
كيف تذوقت الأدب العربي قبل أن أعرف القراءة والكتابة؟!
كيف تعلمت القراءة؟
خرافات وأوهام
كيف دخلت المدرسة السنية؟
الشيخ حمزة فتح الله وكيف أثار الطالبات علي؟
الشيخة رمانة
شاب ريفي
طرائف
Unknown page
نهضة تعليم البنات في مصر
نزق الشباب
عزة النفس تنقلب جبنا
الغش في الامتحانات
دروس التربية العملية
حبي الشديد للحرية
نهاية الدراسة بالمدرسة السنية
سفوري
دخولي البكالوريا
أثر حصولي على البكالوريا ومذهبي في الزواج
Unknown page
إحلال النساء محل الرجال في الوظائف ونتائجه السيئة على شخصي الضعيف
صاحبة الجلالة الصحافة وأثرها علي سابقا
نفعني الصدق مرة واحدة في حياتي
عزة النفس تقضي علي دائما
تدريسي اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات
الحرية وهل لها مسمى؟
حنبليتي في البعد عن الرجال
قوة الشباب وغروره
كيف كنت في أول عملي بالفيوم؟
حياتي العملية
Unknown page
المعلمة الإنجليزية
نقل المدير
ابتداء المتاعب
تعييني ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة
في المنصورة
مناهج التعليم ومناورات وزارة المعارف للإشراف على مجالس المديريات في الماضي
غضب يمحو غضبا
إصلاح مدرسة المنصورة أخلاقيا ومخاوفي التي كنت أخشاها بعد إطلاق يدي في المدرسة
ذكريات حديثة
مكائد
Unknown page
سعيد ذو الفقار باشا
مكيدة
نكبة
رضاء بعد الغضب
انتقام
سوء حظ وعناد
إنشاء وتعمير
القوة فوق الحق
وظيفة وكيلة
الدعاية الوطنية
Unknown page
تهمة كاذبة
إيقاف الاضطهاد إلى تحسين الفرص
سوء حظ
زيادة عدو إلى قائمة أعدائي
ضابطة فرنسية
مناوآت
استمرار المناورات
تحريض مستمر
مناورات
إضراب إجباري
Unknown page
إرهاق واستفزاز
زيارة ملكية
نتائج الزيارة الملكية
كيف كانت خطتي في التدريس؟
عملي بالوزارة
إنشاء مدرسة ترقية الفتاة
أول متاعبي في المدارس الحرة
إخراج السكان من المنزل
مناورات
خديعة
Unknown page
تاريخي بقلمي
تاريخي بقلمي
تأليف
نبوية موسى
مقدمة
أنشأت مجلتي «الفتاة» في أكتوبر سنة 1937، وأخذت أكتب فيها بعض ذكرياتي فأقبل الناس عليها، وطلب مني كثيرون أن أدونها في كتاب، وتلبية لهذا الطلب قمت بسرد ذكرياتي حسب تاريخ حدوثها في حياتي؛ فأصبحت بذلك تاريخا مفصلا لما تكبدته من مشاق، وما شعرت به أحيانا من اغتباط، إن كان في ذلك التاريخ معنى للاغتباط.
وهو تحليل نفسي لفتاة قضت عمرها في جهاد مستمر، وهي نفسها لا تعرف إلى الآن أكان سبب هذا الجهاد والنضال المستمر خطأ صدر منها أم هو خطأ المقادير، لهذا أروي تاريخي بالتفصيل، وأترك للقارئ الكريم بعد هذا الحكم لي أو علي، وسأتحرى الصدق فيما أكتبه؛ ليبني القارئ رأيه على حقيقة واضحة لديه.
طفولتي
كان والدي ضابطا في الجيش المصري برتبة «يوزباشي»، وكان الضابط المصري لا يصل إلى تلك الرتبة إلا بعد جهد عظيم؛ لأن رتب الجيش الكبيرة كانت كلها في يد الأتراك والشركس قبل الثورة العرابية، وكان ضباط الجيش يحالون إلى الاستيداع نصف مدة العمل أو أكثر، فكان والدي إذا أحيل إلى الاستيداع ذهب إلى بلدتنا في الريف، وهي بلدة صغيرة في مديرية القليوبية، وكان له بها منزل ريفي كبير جدا، كما كان له بضعة فدادين؛ فكان يكلف خدمه زرعها، حتى إذا طلب للعمل أجر الأطيان، وعاد إلى مقر عمله؛ فكان لهذا أكثر الضباط خدما.
وسافر والدي إلى السودان قبل أن أولد، ولم يعد، وقد ولدت بعد سفره بشهرين، وهكذا نشأت يتيمة، فلم أر والدي إلا في المنام، ورتب لنا مبلغ من معاشه يقوم بحاجتنا أنا ووالدتي والمرحوم شقيقي، وقد سكنت والدتي القاهرة لوجود أخي بالمدارس، ولكنها كانت تذهب أثناء الصيف عندما ينتهي شقيقي من دراسته إلى بلدتنا، فنقضي إجازة الصيف في ذلك المنزل الريفي، وكنت أسر بتلك الإجازة، وأعمل فيها أعمالا كثيرة؛ إذ كان يلتف حولي كثير من أطفال جيراننا في تلك القرية، وكنت أكلفهم العمل معي، فأضرب طوبا صغيرا، وأبني به أفرانا صغيرة، كنا نسوي فيها بعد ذلك ما نصنعه من الطوب، ثم نبني به منازل صغيرة كانت على ما أعتقد غاية في الإتقان، وكان في منزلنا الريفي بئر نأخذ منها الماء اللازم لبناء تلك المنازل، ونحيطها بالحدائق، ولعلها لم تكن غناء لأننا كنا نزرع فيها بعض النباتات فقط كالفول والذرة.
Unknown page
وهكذا كنت أقضي إجازة الصيف لا أعرف للراحة طعما، وكلما انتهيت من منزل بدأت في بناء غيره، وعمل ماشية له كالجاموس والبقر والحمير والخيول والجمال، وكنت أعنى بتمثيلها تمثيلا يقرب من الحقيقة على قدر طاقتي، وكان يعجب بها كثيرون ممن يرونها لقربها من الحقيقة؛ حتى إن الأفران التي كنا نبنيها كانت تحمى، ويظهر في جوفها اللهب كالأفران الحقيقية تماما، وكنت أخبز فيها الخبز الصغير الذي كنت أصنعه أحيانا، ولم أكن مع صغر سني أبرح ذلك المنزل لاشتغالي بتلك الأعمال، ومراقبة مرءوسي من أطفال القرية، ومن المدهش العجيب أني كنت آمر هؤلاء الأطفال فيطيعون، وأنهاهم فيستمعون، وكنا نقضي اليوم في عمل متواصل كأننا نقوم باكتساب قوتنا، وكأني رئيستهم الفعلية.
كنت آمر هؤلاء الأطفال فيطيعون.
وكنت إذا انتهيت من ذلك، وتعب الأطفال الذين يعملون معي ابتدأت أخيط ملابس عروستي، وأعمل للجمال والخيول سروجا من القماش المزين البديع، وهكذا كنت أقضي إجازة الصيف، حتى إذا انتهت تركت ما عنيت بعمله من المنازل والتماثيل، وانتقلت بعروستي وقطتي الصغيرة إلى القاهرة، وكنت مشهورة بحب القطط والعناية بها؛ حتى إني كنت أكسوها ملابس مزخرفة بشتى الزخرف، وكنت أقوم أنا بخياطتها وزخرفتها، وكانت تلك القطط والعروسة هي عملي الوحيد في القاهرة، ولم يكن معي من الأطفال من يساعدني على ما أقوم به من الأعمال إلا خادمة صغيرة في مثل سني، كنت أختلسها اختلاسا من والدتي، وكنت أميل إلى مجالسة شقيقي عند حضوره من المدرسة، وكان يكبرني بنحو 10 سنوات؛ فكنت أستمع لما يقرؤه من القصص، وأجتهد في فهمها، وكثيرا ما كنت أحفظ ما يحفظه هو من المحفوظات، أما أثناء النهار فكنت أقضيه كما قدمت في خياطة ملابس القطط والعروسة، ثم تدرجت من ذلك إلى خياطة ملابسي على آلة الخياطة.
كيف تذوقت الأدب العربي قبل أن أعرف
القراءة والكتابة؟!
كنت في سن السادسة لما كان شقيقي في سن السادسة عشرة، وكان طالبا في المدارس الثانوية، وقد ألف مجالستي، فكان يقرأ لي في كتب الأدب القديمة كالأغاني وغيره، وكنت أصغي إليه باهتمام حتى تعودت فهمها، وكان إذا حاول حفظ قصيدة كلفته المدرسة حفظها، حفظتها معه، ولا يخفى أن موهبة الحفظ قوية عند صغار الأطفال؛ فهم لا يجدون فيها صعوبة؛ ولهذا كنت كثيرا ما أحفظ القصيدة بمجرد استماعي له وهو يقرؤها قبل أن يحفظها هو، وكان يسره ذلك فيسمعها لي، ويطلب مني أن أسمعها له، وهكذا تمت بيننا الصداقة والألفة، واستطعت أنا أن أتذوق الأدب العربي قبل أن أعرف الألف من الباء.
وكنت أصغي إليه باهتمام.
كيف تعلمت القراءة؟
انتهى شقيقي من دراسته الثانوية، ودخل المدرسة الحربية الداخلية، فبعد عني، وعز علي الأمر، وشعرت بالوحدة بعده، وتشوقت للقراءة حتى إذا عاد يوم الخميس من مدرسته توسلت إليه أن يعلمني مبادئ القراءة ففعل، ولم أكد أتعلم الحروف الهجائية وحركاتها حتى بدأت أعالج القراءة بنفسي، وكنت قد حفظت مع شقيقي بعض قصائد من كتاب «مجاني الأدب»، فلما عاد أخي أحد أيام الخميس رجوته أن يدلني على مكان إحدى تلك القصائد من كتاب «مجاني الأدب»، ثم أخذت أقرؤها في بحر ذلك الأسبوع، حتى إذا عاد في الأسبوع التالي أطلعته على مبلغ قراءتي لتلك القصيدة، ولما كنت قد حفظتها عن ظهر قلب قبل أن أقرأها فقد كنت أتعلم منها القراءة، وهكذا قضيت تلك السنة الدراسية في قراءة القصائد التي سبق أن حفظتها، وكنت أعتقد أني لا أستطيع أن أقرأ غيرها.
وحدث في ذات يوم أني ذهبت لزيارة إحدى قريباتي فوجدت في منزلها كتابا صغيرا كتب عليه «قصة حسن الصائغ البصري»، وكم كان سروري عظيما عندما استطعت قراءة ذلك العنوان، وقد اكتشفت في تلك اللحظة أني أستطيع أن أقرأ الكلمات التي لم تشكل والتي لم أحفظها من قبل، فسررت بذلك وطلبت من قريبتي أن تعيرني ذلك الكتاب فلم تمانع، وكانت قراءة ذلك الكتاب عملي مدة الأسبوع، حتى إذا عاد أخي من مدرسته أطلعته على ما استطعت قراءته، وأخذت من ذلك اليوم أقرأ كثيرا من الكتب والروايات؛ فقرأت كتاب ألف ليلة وليلة جميعه، وقصة عنترة بن شداد بأكملها، كما قرأت كثيرا من الروايات الأخرى، لا أطلب من ذلك سوى التسلية، ومع هذا كنت أصل الليل بالنهار في قراءتها، ثم ملت بعد هذا إلى الكتابة محاكية ما قرأته.
Unknown page
لقد قرأت أشعار عمر بن أبي ربيعة، وأبي نواس، ومجنون ليلى، وغيرهم، وكلهم يتغزلون ويتشببون بالنساء، وأخيرا قرأت ديوان المرحومة عائشة هانم التيمورية، وكان فيه كثير من الغزل، واعتقدت لسذاجتي إذ ذاك أن الغزل سهل، وأن الإنسان يستطيع أن يقول في الغزل ما لا يستطيع أن يقوله في أي موضوع آخر؛ إذن يجب أن أقول الشعر في الغزل، وما دمت لا أشعر بالحب فكيف أتغزل أو أتشبب؟ وأخيرا اهتديت إلى حل، وهو أن أكتب قصصا لأقول فيها الشعر الغزلي على لسان غيري، وكتبت أول قصة في كراسة صغيرة، وكان فيها الأبيات الآتية:
أحالت عن العهد الذي كنت أعهده
وموعدنا بالأمس خابت مقاصده
حبيبة قلبي لا تميل لعاذل
فإن عذولي قد دهتني مكايده
وزوري فتى في هواك متيما
عليلا ليشكو ما يلاقي لعائده
ولا أدري لم نصبت متيما وعليلا، وأنا في ذلك الوقت لا أعرف شيئا من أصول النحو؟ كما يرى القارئ الكريم من ذلك البيت الأخير أني لم أكن أعرف حروف الجر؛ ولهذا رفعت عائدا تبعا لقافية الأبيات مع أنه مجرور.
وحدث أن دخل علي شقيقي ومعه مصطفى أفندي عبد الرازق ابن عم والدتي، وفي يدي تلك الكراسة فأخذها، وقرأ الأبيات، ثم ألقى بها إلى الأرض مرسلا ضحكة حلوة عالية، وهو يقول في دعابة وسخرية: «ما لك والكتابة؟! إن هذه اللام لا تجر عربة فقط، بل تجر حمارا أيضا.» ودهشت لما يقوله أخي لأني لم أفهمه، وخجلت من تهكمه على كتابتي، وتناول الكراسة مصطفى أفندي عبد الرازق، وقرأ ما فيها، وقال لي في شيء كثير من التشجيع: «لا يهمك كلامه، واعلمي أنك إن تعلمت فلن يستطيع أحد منا أن يجاريك في الكتابة.» فقلت في خجل وأسف: وما هي اللام التي يذكرها أخي؟ قال: سأرسل لك الجزء الأول من النحو لتتعلمي منه تلك القواعد. وفي اليوم التالي جاءني ذلك الجزء فأخذت أقرؤه وأطبقه على ما أطالع من الروايات والأقاصيص، وقد اتجه فكري في ذلك الوقت إلى تحقيق ما قاله ذلك القريب والالتفات إلى التعليم، وترك قراءة كتب القصص والروايات.
وفي تلك السنة ذهبنا في إجازة الصيف إلى بلدتنا فأخذت معي مصحفا، وجعلت أحفظ بعض سوره، وكنت أختار سور القصص كسورة يوسف ومريم، وكنت أفهمها فهما جيدا، ولكن أحد جيراننا - وكان طالبا في الأزهر - قال لي: إنه من الكفر أن أقرأ القرآن وحدي، فقلت: لم يكون كفرا وأنا لا ألحن فيه؟ وقرأت أمامه بعض الآيات فوافق على أني أقرؤها صحيحة، ولكنه قال: إنه يجب أن أحذر كل الحذر من أن أحاول فهم معناها وإلا عد ذلك كفرا؛ لأنه هو نفسه لا يحاول فهم سورة إلا إذا تلقى تفسيرها على أستاذه في الأزهر، فقلت له: ولكني أفهمها جيدا حسب ما أعتقد. قال: إن ما تعتقدينه شيء والحقيقة شيء آخر. وأردت أن أعرف المعنى الذي تعلمه هو في الأزهر، وأقسمت له إن أفادني أن أمدحه بقصيدة، وإن لم يفعل فلا بد من ذمه بقصيدة أخرى، وسألته عن معنى الآية:
Unknown page
يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون ، وقد كنت أفهم معنى تلك الآية على حقيقتها، فقال لي هو: إن أخاهم اسمه نكتل. وهنا سخرت منه، وقلت له: إن الكفر هو ما تعلمته أنت عن أستاذك. وكتبت له قصيدة الذم كما أوعدته، وكان اسمه محمدا أبا نصرة، ولست أتذكر شيئا من تلك القصيدة إلا البيتين الآتيين:
أمحمد سموك خابت ظنونهم
لو أنصفوك لكنت تدعى باقل
لقبت بالنصرة وفعلك ضدها
فلتعلم الأقوام أنك متخاذل
خرافات وأوهام
تأثير السرور في الصحة
مرضت بعد هذا، وكان المرض غريبا حقا؛ لأني كنت أستيقظ من النوم صارخة دون أن أشعر بذلك الصراخ، حتى إذا شعرت بحالتي أحسست كأن إبرا تغرس في كفي، وكان هذا - ولا شك - هو سبب الصراخ، وكنت لا أبقي طعاما في جوفي، وحاول الأطباء علاجي في غير جدوى.
وعز على والدتي الأمر، وهالها بالطبع مرضي؛ لأني أولا ابنتها الوحيدة، وثانيا ستفقد بفقدي المعاش المقرر لي؛ لهذا هلعت كل الهلع، وأشار عليها بعض صديقاتها بأن تعمل لي حفلة زار، فصممت على ذلك، وكانت قد باعت منزلا صغيرا لنا بمبلغ مائتي جنيه، وأرادت أن تشتري بها منزلا آخر، فلما مرضت لم تبخل علي بالمبلغ، واستعدت لعمل حفلة الزار، وأحضرت كثيرا من «مصاغ» الزار المعروف؛ كخلخال من الفضة، وأحجبة، وغير ذلك، إلا أني لم أسر لذلك المصاغ الغريب، ولم أعره أي التفات، وزارتنا في ذلك الوقت إحدى الدلالات، ومعها قرط ثمين من الماس تبلغ قيمته مائة جنيه، ولكنها كانت تعرضه بخمسين جنيها، فتشبثت بشراء ذلك القرط، ولم تر والدتي بدا من إرضائي فاشترته لي، وكان ذلك في اليوم الذي تمت فيه معدات الزار. وقد سررت بالقرط سرورا عظيما، أعاد إلي صحتي، وقامت شيخة الزار بإعداد الكرسي، ووضعت عليه صينية ملئت برءوس السكر والمكسرات، وزبادي اللبن، وغير ذلك من المأكولات. سررت بكل هذا، وكان أخي ومصطفى أفندي عبد الرازق يحذران من أن أعمل ما تعمله السيدات من ذلك الرقص المستهجن، فلم أفعل، ولكني بعد تلك الحفلة شفيت تماما، ولعل مرضي كان عصبيا فشفاه السرور والابتهاج.
وسرت والدتي بشفائي بعد اليأس، ورأت أن ما بقي معها من ثمن المنزل لا يكفي لشراء أي عقار، فاشترت لي به حليا مختلفة من الذهب كأساور وقلادات وغيرها.
Unknown page
دفعني السرور بذلك الحلي الجديد أن ألبسه وأذهب لأزور إحدى قريباتي، وقد كنت في ذلك الوقت لا أتجاوز الثامنة من العمر، وكان منظري لا شك مضحكا؛ لأني ألبس من المصاغ ما تلبسه الآنسات الرشيدات، وأنا لا أزال طفلة، وقابلتني في الطريق امرأتان من الرعاع فأقبلتا علي، وقالت لي إحداهما: ألست ابنة السيدة فلانة؟ فقلت: نعم أنا هي. قالت: لقد كلفتني أمك أن أصنع لك عروسة كبيرة بحجمك، فتعالي معي لأعطيها لك. ورابني كلامها فقلت لها: وكيف أستطيع حمل عروسة في حجمي أنا؟
فدهشت المرأة وقالت: تعالي معي لأحضرها لك، وأحملها أنا، وأذهب بها إلى والدتك. قلت: لا داعي إلى ذهابي معك، وما دامت والدتي هي التي كلفتك صنع تلك العروسة فعليك أن تذهبي إليها بها، وستحتفظ بها والدتي لي. ودهشت المرأتان لهذا الجواب العجيب من طفلة، ومالت إحداهما على الأخرى هامسة في أذنها: «تكونش دي ست وانسخطت؟!»
أتممت زيارتي، ثم عدت إلى والدتي فأخبرتها الخبر، وقلت لها على مقدار شكي في المرأتين، فقالت: لقد صدق ظنك لأني لم أكلف أحدا عمل عروسة، ولعلهما أرادتا أن تسلباك حليك.
كان هذا الحلي موضع غرابة في الأسرة بأكملها، فقال عم والدتي إن والدتي لا تعرف التربية، وإن ابنها هذا الوحيد سيتلف من تلك التربية، وينشأ ممن يجمعون أعقاب السجاير، أما البنت فلن تفلح بعد ذلك الحلي «والدلع»، وستنشأ على أسوأ سلوك، قال ذلك عم والدتي، وأنا في الثامنة من عمري، وقد أثبتت الأيام خطأه؛ فقد كد أخي وعمل مع هذا الترف الذي كان يعيش فيه وملاينة والدتي له ولي، كد ودأب حتى كان من الأوائل في امتحان شهادة الحقوق؛ لأنه ترك المدرسة الحربية والتحق بالحقوق لأسباب صحية، وعين مساعدا للنيابة في شهر نجاحه؛ إذ كانت الحكومة تعين الأوائل بالترتيب، أما أنا فلم أكد أبلغ الثالثة عشرة من عمري حتى ازدريت لبس الحلي فوضعته في علبة، ولم ألبسه حتى الآن، إذ دخلت في تلك السن المدرسة السنية، ولم أر من اللياقة أن ألبس شيئا من هذا، والظاهر أنني اكتفيت بما تمتعت به من اللبس والدلع من نشأتي إلى سن الثالثة عشرة، ولم أعد بعد ذلك أشتاق لشيء منه.
ولعل حريتنا في صغرنا هي التي قوت من إرادتنا، وجعلتنا؛ أي أنا وأخي نبتعد عن اللهو، ونكد ونعمل فيما نريد، وهذه على ما أعتقد هي التربية الاستقلالية التي نص عليها علماء التربية، ولم تقم بها والدتي لعلم بما ستجنيه منها، ولكن دفعها الجهل والخوف علينا إلى معاملتنا تلك المعاملة اللينة.
وبهذا نشأنا على الصدق، وقوة الإرادة، ولكن هذه التربية لا تصلح في البلاد المستعمرة التي اعتاد أهلها الاستعباد، فأصبح الرئيس يحتقر مرءوسه، ويهينه لسبب وبلا سبب؛ فإذا رفض هذه الإهانة كان عليه أن يحتمل الذل والفقر والطرد، وهذا هو نفس ما صادفني في حياتي؛ فقد فشلت فشلا تاما، وسبب ذلك الفشل هو تلك التربية التي اعتدت منها أن لا أحتمل الضيم مهما كان ضئيلا.
وكانت والدتي بعد هذا إذا مرضت ألحت علي في أن أعمل الزار؛ لأنه تأكد لديها أن لي صاحبا من الجن، وأنني عندما أرضيته، وعملت الزار شفيت ، وهي تجهل أنني شفيت من تأثير السرور بما اشترت لي من الحلي، وأني بعد أن كبرت أصبحت لا أسر بتلك السخافات، بل إن أسباب مرضي كانت في الغالب لكدري من أشياء أهمها قلة المال، ولو أني أطعتها، وعملت حفلة زار لخسرت من النقود ما يضاعف مرضي، وهكذا استمرت هي على اعتقادها، وظللت أنا على نكراني وجحودي لجميل ذلك الزار.
كيف دخلت المدرسة السنية؟
اتجهت إلى التعليم كما قدمت، ولم أكتف بمطالعة القرآن وحفظه، بل أردت أن أتعلم تعليما صحيحا في المدرسة السنية، وعلمت من أخي أني إذا أردت دخول السنة الثالثة، وجب علي أن أعرف مقرر الحساب للسنة الثانية، وهو جمع وطرح وضرب وقسمة الأعداد الصحيحة والكسور الاعتيادية، وكان سني في ذلك الوقت 13 عاما، فطلبت من والدتي أن تعين لي معلما، واستشارت عمها فقال لها جملتهم المأثورة: «علموهن الغزل ولا تعلموهن الخط.» وهكذا رفضت والدتي أن تعين لي معلما، ورفضت أيضا أن تعلمني الغزل؛ إذ إني أجهله حتى الآن.
ساءني ذلك والتجأت إلى أخي، ولكنه في ذلك الوقت كان مشغولا عني بمدرسته، فأحضر لي كتاب الحساب المقرر على السنة الثانية، وكان فيه لحسن الحظ شرح تلك القواعد، فتعلمت منه الأربع قواعد الأصلية للأعداد الصحيحة والكسور الاعتيادية أيضا، ولا أنكر أني وجدت شيئا من الصعوبة في فهم عمليات الكسور الاعتيادية من الكتاب، ولكني تغلبت عليها، وحاولت في الوقت ذاته أن أتعلم ألف باء اللغة الإنجليزية مستعينة بالوقت القليل الذي كنت أختلسه من أخي متحملة تمنعه وسخريته مني، وأخيرا عولت أن ألتحق بالمدرسة السنية، ولما كاشفت والدتي برغبتي، قامت لذلك وقعدت، واعتبرته خروجا على قواعد الأدب والحياء، ومروقا من التربية والدين، وأخذت تقص الحكاية على أقاربها كأنها أحدوثة، وكان يساعدها على ذلك كل من سمع بتلك الرغبة الجامحة، صممت هي على الرفض، وصممت على تنفيذ رغبتي مهما بلغ الأمر، ولكني رأيت أن أخفي عنها تلك الرغبة مؤقتا، وأن أحاول الالتحاق بالمدرسة السنية دون أن أخبرها بذلك، فإذا نجحت وقبلتني المدرسة كان لي ولها شأن، تكتمت الأمر وعولت على تنفيذه سرا، فسرقت ختم والدتي، وذهبت إلى المدرسة السنية، وكتبت استمارة التحاقي بها، وختمتها بختم والدتي، ولا أنكر أن خطي في تلك الاستمارة كان مضطربا رديئا؛ لأني لم أعتد الكتابة، ولم أحسن إمساك القلم، وعجب سكرتير المدرسة السنية والمعلمون من جرأة تلك الفتاة التي جاءت لتقدم لنفسها، ولكي أحملهم على قبول طلبي جعلته بمصروفات، وكان أغلب طالبات السنية في ذلك الوقت يتعلمن بالمجاني؛ لعدم إقبال الأهالي إذ ذاك على تعليم البنات؛ ولهذا ظننت أن طلبا تقوم صاحبته بدفع المصروفات جدير بأن لا يرد.
Unknown page
دخلت الامتحان، وما كان أشده وأقساه على فتاة في سن 13 عاما لم تر نظام المدارس، ولم تحسن إمساك القلم؛ فكان القلم يلعب بي بدلا من أن ألعب أنا به؛ فكم لوثت ورقة، وكسرت قلما في ذلك الامتحان، فكانت ورقتي في اللغة العربية كلاما عربيا صحيحا، وخطا لا يختلف كثيرا عن خطوط الأطفال، وقد تعجب المعلمون من رداءة الخط وجودة الإنشاء؛ إنشاء لا تستطيعه طالبة في المدارس الثانوية، وخط لا تكتبه تلميذة في السنة الأولى الابتدائية.
دخلت امتحان الحساب، وكان واضعه الشيخ أحمد التوني، وكان يشمل ثلاث مسائل عقلية لا تحتاج إلى العمل، ومسألة واحدة عملية فيها عملية ضرب طويلة.
أراد الأستاذ بذلك أن يعجز تلك الطالبة المستجدة بهذه المسائل العقلية، ثم أعطاها مسألة واحدة هي التي ظن أنها تستطيع حلها، وكان الأمر على عكس ما ظنه الأستاذ، فقد كنت قوية في حل المسائل العقلية، وكنت مع ذلك ضعيفة في العمليات، لم أحفظ جدول الضرب بعد، ولما كانت المسائل العقلية لا تحتاج إلا إلى عمل بسيط لا يتجاوز الرقم الواحد؛ فقد ابتدأت بالثلاث مسائل العقلية فحللتها، ثم أخذت بعد ذلك أغالب عملية الضرب لأتغلب عليها فتفوز علي وتقهرني.
وجاء الأستاذ، وكنت وحدي في الغرفة لأنه لم يتقدم إلى امتحان السنة الثالثة سواي، جاء الأستاذ وألقى نظرة على الورقة فدهش إذ كان حلي للمسائل الثلاث صحيحا، فقال باسما: «لقد كان الامتحان سهلا؟» قلت : نعم، ولكني أطلب المساعدة في عملية الضرب هذه. فدهش الأستاذ وقال: «الخبر إيه؟ هل أنت من الفلاسفة؟» قلت: كلا، ولكنني لم أحفظ جدول الضرب. فضحك الأستاذ، وقال: «يكفيك حل ثلاث مسائل.»
أما امتحان اللغة الإنجليزية، فقد كان إملاء سهلا جدا، ومع ذلك فقد أخطأت في نصف كلماته، وخشيت أن لا أقبل بالمدرسة فاتصلت بالمعلمين، ورجوتهم أن يقبلوني مؤكدة لهم أني سأدفع المصروفات؛ لاعتقادي أني سأنجح في النهاية، فإن فشلت فأنا التي سأخسر لا المدرسة، وضحك المعلمون من التماسي هذا، وصمموا على قبولي بالرغم من ضعفي في اللغة الإنجليزية ورداءة خطي.
سررت سرورا عظيما عندما علمت بقبولي في المدرسة السنية، وكنت أحتفظ بالقسط الأول من المصروفات في جيبي فدفعتها، وهي 250 قرشا؛ لأن التلميذة الخارجية كانت تدفع 750 قرشا سنويا، وتتناول الغداء بالمدرسة، والداخلية 15 جنيها.
ولعل القارئ يسأل من أين جئت بالنقود، والواقع أني بعت سوارا من الذهب بخمسة جنيهات؛ إذ أصبحت في ذلك الوقت أحتقر الحلي.
ذهبت إلى المنزل، وأنا أكاد أطير من الفرح، فأخبرت والدتي بالتحاقي بالمدرسة السنية، قالت: إذا فعلت فلا علاقة لي بك. قلت: لقد فعلت، ولا شك في ذلك، وأنا ذاهبة لا محالة، فإن تشبثت بالرفض وعدم القبول؛ فسأدخل المدرسة الداخلية، وفي معاشي ما يقوم بذلك. قالت: أحق ما تقولين؟ قلت: نعم، حق لا ريب فيه، وسأذهب إليها يوم السبت. قالت: إذن، فلا تدخليها داخلية، وكوني خارجية. قلت: حسنا. وفي يوم الجمعة زارني شقيقي فقال لي: تأكدي إن دخلت السنية فلن أعرفك. فابتسمت قائلة: لقد نقص إذن من أقربائي واحد، ولا ضير في ذلك. فغضب أخي وانصرف، وفي يوم السبت ذهبت إلى السنية فكان خجل وكان حياء، وكان اضطراب لحالة لم آلفها؛ فقد كنت قبل ذلك في المنزل، فلم أر من الرجال إلا أخي، أما اليوم فقد رأيت كثيرا من المعلمين والخدم؛ ولهذا كنت أنتقد أية حركة تبدو من أي معلم، بل وأية كلمة تنبو عن موضعها، وكنت أقيس حركاتي وسكناتي بالمللي؛ حتى لا تخرج عن معنى الأدب والكمال الذي تعودته في منزلي تحت إشراف والدتي وملاحظات أخي الكثيرة القاسية.
الشيخ حمزة فتح الله وكيف أثار الطالبات
علي؟
Unknown page