Tarikh Umma Casr Izdihar
عصر الازدهار: تاريخ الأمة العربية (الجزء الخامس)
Genres
ومن الصناعات العربية الرفيعة صناعة الصياغة من ذهبية وفضية وجوهرية، وإن من المعروف أن العرب منذ القديم قد اهتموا بعلم الأحجار الكريمة والبحث عن الجواهر الثمينة من لؤلؤ وياقوت أزرق وأحمر وزمرد وألماس وفيروز وما إلى ذلك، وألفوا في هذا العلم رسائل، وقد كان الأغنياء والأرستقراطيون المسلمون يحرصون منذ القرن الأول على اقتناء الجواهر والمصوغات ونفائس الحجارة، ويقال إن الرشيد اقتنى أجل جوهرة كانت لدى الأكاسرة، وهي من الياقوت الأحمر بحجم كبير ولون صاف، وإنه دفع ثمنها أربعين ألف دينار كما يذكر الطبري (في تاريخه، 3: 603) والمسعودي (في مروج الذهب، 7: 376)، ويقال إن هذا الحجر كان يضيء بالليل مثل المصباح المنير، فإذا وضع في بيت مظلم أشرق ذلك البيت، ويذكر الطبري (في تاريخه، 3: 703) أن يحيى بن خالد البرمكي ساوم بعض تجار بغداد على شراء سقط من الجوهر بسبعة ملايين درهم فأبى أن يبيعه صاحبه إلا بأكثر من ذلك، ولا شك في أن الذي ساعد على رقي هذه الصناعة وتفنن أصحابها بها هو وجود مناجم الحجارة الكريمة في كثير من أرجاء المملكة الإسلامية؛ فالذهب والفضة والزيبق موجود في خراسان وبلاد المشرق، والياقوت واللازورد والألماس فيما وراء النهر، والرصاص في كرمان، واللؤلؤ في البحرين وعمان، والفيروز في نيسابور والعقيق في اليمن، والحديد في لبنان والشام، والرخام والصلصال في تبريز، والكحل في اليمن وأصفهان، والرخام والكبريت والحديد في الشام. (9) خاتمته
كان الرشيد واسطة عقد بني العباس رجولة ومروءة ودينا وعفة وتصدقا، وما كان متزمتا جافا، بل كان يبيح لنفسه أن تلهو لهوا بريئا شريفا، كما كان ذا جهاد في سبيل الله ودمعة سريعة خوفا من الله، ولولا بعض الهنات أخذت عليه من تسييبه الأمر في أول عهده للبرامكة، ومن سوء عملته في قصة ولاية العهد، فقد عهد إلى الأمين مع أن المأمون كان أحزم وأكبر، نزولا عند إرادة زبيدة وبني هاشم، ومن استماعه للوشاة، ومن سماحه للنساء بالمداخلة في شئون الدولة، ومن إقراره لبعض طلبات عماله الظالمة ... أقول: لولا هذه الهنات لكان عصر الرشيد عصر الكمال في تاريخ الدولة الإسلامية؛ فإنه يندر وجود شخص يجمع ما حباه الله به من عقل وعلم وسياسية وتشجيع لأهل الفضل والمروءة، وعناية بشئون الدولة والسهر عليها والحفاظ على مصالحها، وجهاد في سبيلها ورفع شأن الخلافة في نظر العالم، هذه هي صورة هارون الرشيد الحقيقية كما نراها، أما ما يصوره به بعض القصاص والأسطوريين فحديث خرافة سببه «كتاب ألف ليلة وليلة» وبعض أصحاب الروايات والأقاصيص التي كتبت عن عهده بأقلام بعض الأوروبيين أو بعض المشارقة، فلا ينبغي أن نلتفت إلى ذلك بعدما عرفنا حقيقة الرجل؛ فقد كانت حياته وسيرته من أجل سير الرجال وأحفلها بالخير والعمل، منذ أن تولى إمارة المؤمنين إلى أن توفي شابا في معية العمر، ولم يكن له من العمر إلا أربع وأربعون سنة؛ إذ مات في جمادى الأولى سنة 193ه/809م، وقد دامت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين ونصفا، وكان إذ ذاك خارجا من بغداد قاصدا خراسان عندما بلغه خبر ثورة رافع بن الليث، وكان معه ابناه المأمون وصالح، وكان الأمين خليفته في بغداد، فلما وصل إلى طوس اشتدت به علته فمات رحمه الله، وصلى عليه ابنه صالح؛ لأن المأمون كان سبقه إلى مرو، ودفن حيث لفظ أنفاسه بطوس، ولا يزال قبره معروفا هناك إلى جانب مسجد الإمام علي بن موسى الرضا في مدينة مشهد.
الفصل السادس
الأمين بن الرشيد
193ه-198ه/813م (1) أوليته
هو أبو عبد الله وأبو موسى محمد الأمين بن هارون الرشيد، وأمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، ولد سنة 171ه وولاه أبوه العهد في سنة 175ه، عني به والداه عناية زائدة فثقفاه وعلماه ومرساه بالحكم والسيادة والقيادة من نعومة أظفاره؛ فشب فصيحا بليغا كريما نبيلا، وكان الكسائي والأحمر إماما عصرهما في العلم والأدب يشرفان على تهذيبه وتعليمه، ويحدثنا الأحمر أن الرشيد أوصاه حين سلمه ابنه الأمين ليؤدبه بقوله: «لا تعلمه ما يفسد دينه، وأحسن أدبه وفهمه؛ فأقرئه القرآن وفقهه في الدين وروه الشعر، وأخبره بأيام الناس وأخبارهم.»
1
وقد فعل ذلك كما يحدثنا المسعودي (في مروج الذهب، 3: 307، 308)، ويقول: إن الرشيد عهد بالأمين إلى الفضل بن يحيى ليدربه على الإدارة والسياسة، وإن الأمين كان في نهاية القوة والشدة والبطش، ويظهر أن أساتذته قد وجهوه توجيها دينيا، فشب وهو يكره الزندقة والإلحاد، فقد روى الطبري (في تاريخه، 10: 220) ما يفيد أن الأمين كان متشددا في أمر الزنادقة والفتك بهم، ويقول ابن القيم: «إن الأمين أقصى الجهمية وتتبعهم بالقتل والحبس.»
2
ومهما يكن من شيء، فإن الأمين نشأ نشأة فاضلة واعتنى به جماعة من أئمة الفقه والعلم والدين والتأديب والسياسة في عصره، وقد يتجلى لنا ذلك فيما حكيناه عمن ترجموه، كما سيتجلى لنا ذلك في سيرته وتصرفه الرشيد في خلافته وإدارته. (2) بيعته
Unknown page