Tarikh Umma Casr Inhidar
عصر الانحدار: تاريخ الأمة العربية (الجزء السابع)
Genres
وفي سنة 806ه هلك تيمورلنك وتخاصم أبناؤه، فاستطاع السلطان فرج أن ينجو من الخطر المغولي تماما، ثم أخذ يستعد لإنقاذ الشام منه، لكنه فوجئ بقيام المصريين عليه، وإعلانهم عدم رضاهم عن تصرفاته، وعمت البلاد ثورة عارمة انتهت بخلعه، وتنصيب أخيه عبد العزيز سلطانا في سنة 808ه/1405م، ولكن فرجا استطاع أن يتغلب على خصومه، ويعود إلى الملك ثانية في أوائل سنة 809ه فسار بالناس سيرة حسنة، ولما أراد استرجاع الديار الشامية أعانوه على ذلك وتم له ما أراد، ولكن لم يلبث مماليك الشام أن أعلنوا عصيانهم وعلى رأسهم جم، فأعلن عصيانه على الشكل الذي أسلفنا تفصيله في القسم الماضي بتاريخ الشام.
وفي سنة 813ه اتفق المملوك أبو النصر شيخ المحمودي مع الخليفة المستعين بالله على خلع السلطان فرج وإقامة الخليفة سلطانا أيضا، وأيدت العامة هذا الخلع لسوء سيرة فرج، وأذاع الخليفة بذلك منشورا قال فيه: «من الإمام أبي الفضل المستعين بالله أمير المؤمنين إلى أهل مصر، اعلموا أننا قد خلعنا فرج بن برقوق عن سلطنة مصر والشام؛ لأن سيدهما الحقيقي إنما هو الخليفة خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فويل لمن خالفه»، وأذيع هذا المنشور بين أنصار فرج وجنوده فتخلوا عنه، وحاول هو أن ينجو بنفسه فقبض عليه، واقتيد إلى مجلس الخلافة، فحوكم وحكم عليه بالقتل في سنة 815ه/1412م، ثم أجمع القواد والأمراء والأعيان على تسمية الخليفة المستعين بالله سلطانا وخليفة، فسار بالناس سيرة حسنة، وعمل على إصلاح الأحوال واكتساب قلوب الأمراء، واستبشر الناس به خيرا؛ لأنهم أملوا الخلاص من حكم المماليك الأجانب، وعودة الخلافة الإسلامية إلى عهدها، فسلم العرب زمام الأمر، ولكن المماليك أحسوا بالخطر وبخاصة الأمير شيخ المحمودي، فإنه أدرك مغبة هذا الأمر، وأخذ يسعى في الخفاء لإيقاع الخليفة في أشراك دسائسه مستعينا على ذلك بالدس وفض المماليك عن الخليفة، ولما تم له ذلك جهر بفكرته، ودعا الخليفة إلى أن يخلع نفسه ، ولم يكن له في الملك إلا نحوا من سنة، فرأى نفسه لا يستطيع المقاومة، واضطر إلى أن يقبل، ونودي بشيخ المحمودي سلطانا في أوائل عام 815ه/1412م وتلقب بالملك المؤيد أبي النصر، ولم يزل حانقا على الخليفة حتى تمكن أن ينفيه إلى الإسكندرية سنة 818ه وأقام أخاه داود مكانه فلقب بالإمام المعتضد بالله ، ولما بلغت هذه الأنباء أهالي الشام ثاروا على شيخ المحمودي بزعامة الأمير نوروز، وأعلنوا الحرب على شيخ وجماعته، والتقى الجيشان المصري بقيادة شيخ نفسه والشامي بقيادة نوروز، وكانت الحرب سجالا، وهزم نوروز أخيرا، ودخل شيخ إلى دمشق، واقتيد نوروز أسيرا إلى القاهرة، وحاول شيخ أن يهدئ دمشق فسكنت، ولكنها لم تلبث أن أعلنت عصيانها من جديد بعد أن غادرها شيخ، فاضطر إلى العودة إليها ثانية، وفتك بعدد كبير من أمرائها وأعيانها، ولم تهدأ حتى استعمل الشدة، ولما هدأت أخذ يهيئ حملة على آسية الصغرى التي انتهز أصحابها العثمانيون وقوع الحوادث في سورية فأخذوا يعبثون بالحدود الشمالية، وزحف السلطان من مصر في حملة قوية ربيع عام 817ه/1414م على طرطوس وما إليها، واستردها ونصب فيها حاكما من قبله، ثم زار بيت المقدس، ودخل القاهرة دخول الظافرين، ولكنه لم يلبث طويلا أن جاءته الأخبار بأن التركمان قد هاجموا الشام، وأن أهالي حلب اضطروا إلى تركها خوفا من فتك هؤلاء القساة، فبعث السلطان بابنه إبراهيم لاسترجاع ما أخذ التركمان من شمالي الشام فاسترجعه في غزوة موفقة، ثم توغل في فتوحاته حتى بلغ مدينة قيسارية، ثم رجع الجيش المصري إلى القاهرة ظافرا، وأمامه مئات من الأسرى.
وفي سنة 824ه/1421م مرض السلطان وهلك بعد أن شاد عدة أبنية ضخمة، من أجلها مسجده في القاهرة المعروف بمسجد المؤيد قرب باب زويلة، ولما مات خلفه ابنه أحمد الملك المظفر، ولم يكن عمره يزيد على سنة ونصف، وتولى الوصاية عليه الأمير ططر، فلم يلبث أن خلع أحمد، وأعلن نفسه سلطانا، ولكنه لم يلبث طويلا حتى مات فخلفه ابنه محمد في الملك، ولم يلبث إلا بضعة أشهر حتى خلعه وصيه برسباي، ونادى بنفسه سلطانا في مطلع عام 825ه/1422م وتلقب بالملك الأشرف وكان عهده عهد خير، وفاض النيل في أول سنة تولاها فيضانا عظيما، واستبشر الناس به، وشبع الفقراء والمعوزون، وكان رجلا حكيما محبا للعمران ونشر الفضل، فشاد عددا من الدور والقصور والأبنية العامة، ومن أجمل آثاره التي خلفها: جامعه، وقد عمت الخيرات في عهده أنحاء القطرين، ومن أعماله الخالدة: تجهيزه أسطولا ضخما لفتح جزيرة قبرص التي كانت موطنا للقراصنة الذين لا يفتئون يغيرون على سواحل الديار الشامية والمصرية، وقد توجه هذا الأسطول القوي واستولى على فيماغوسطة ولارناقة وليما صول من مدن الجزيرة، وعاد بعدد كبير من الغنائم والأسرى، ومن بينهم الملك جان لوسينيان الثالث ملك الجزيرة، ولما وصل الأسطول الإسكندرية دخلها بأبهة واحتفال مهيب، وكانت الغنائم محملة على الجمال، ومن بينها تاج ملك قبرص من ورائه جواده وأعلامه منكسة، ومن ورائهم الملك نفسه وهو راسف في الأغلال، فلما بلغ حضرة السلطان قبل الأرض وخر مغشيا عليه، فحمل إلى القلعة وتوسطه قنصل مملكة البندقية لفدائه وإطلاق سراحه، فقبل السلطان، وأنعم عليه بثوب ملكي وجواد، وسمح له بمغادرة البلاد إلى جزيرته بعد أن دفع مقدار الفدية وقدره ثلاثمائة ألف دينار، وتعهد بدفع جزية سنوية قدرها عشرون ألفا، وكان المؤرخ المصري أبو المحاسن بن تغري بردي من شهود هذا الاحتفال العظيم.
1
وقد عقد السلطان عدة معاهدات سياسية مع بعض ملوك الصليبيين والعثمانيين، كما أنه حارب التركمان ملوك العراق، وقضى على هجماتهم المتعاقبة على الشام، والحق أنه كان من أعظم ملوك المماليك عامة، قال بعض المؤرخين: «إن الملك الأشرف برسباي أحد الملوك الشراكسة، وأجدرهم بالمدح؛ لأنه كان أعلاهم همة، وأشدهم عزيمة، وأكثرهم تدربا في الأحكام»،
2
وقد استمر في حكمه نحوا من ثمانية عشر سنة كان أكثرها عهد يمن وخير، وفي سنة 841ه/1437م مات وخلفه ابنه أبو المحاسن يوسف الملك العزيز، وله من العمر خمسة عشر عاما، ولم يلبث إلا ثلاثة أشهر حتى ثار عليه المماليك بزعامة سيف الدين جقمق «أتابك» الجيش، وخلعوه وولوا زعيم الجيش جقمق في سنة 842ه/1438م فكان أول عمل قام به بعد أن أخضع الثوار المماليك في الشام أنه بعث بحملة قوية على القرصان الفرنجة الذين كانوا يهاجمون السواحل الشامية والمصرية، كما لقيت جزيرة رودس من الأسطول المصري في عهده ما لقيته جزيرة قبرص في عهد برسباي، وكانت صلات جقمق حسنة مع سائر الممالك الإسلامية المجاورة في فارس والعراق وآسية الصغرى، كما أنه كان محبا للعلم وأهله ولإشادة دوره ومعاهده، وقد ازدهرت التجارة في عهده، ولما أحس بالشيخوخة طلب من الخليفة والأمراء المماليك أن يعفوه من السلطنة ويقبلوا تنازله لابنه عثمان فقبلوا، ونودي بعثمان سلطانا على مصر والشام في سنة 857ه/1453م ولم يلبث سوى أيام مات بعدها.
ولما تولى عثمان تلقب بالملك المنصور، وقد ابتدأ عهده بالقسوة وسلط مماليكه على الناس فلقوا منه بلاء عظيما، وثار الخليفة عليه فخلعه وولى الأمير إينال قائد الأسطول، ولقبه بالملك الأشرف، وكان رجلا مدربا حاذقا، فشرع منذ تولي السلطنة بترتيب أمور المماليك وتنظيم شئون البلاد، ولكنه فوجئ بثورة أهلية دبرها الخليفة القائم بأمر الله الذي كان يطمع في السلطنة، ولكنه استطاع أن يقضي على الثورة وينفي الخليفة، وساءت حالة البلاد وتدهورت، وظلت على ذلك إلى أن مات في سنة 865ه/1460م فخلفه ابنه الشهاب أحمد الملك المؤيد، واستبشر الناس به خيرا؛ لأنه كان فتى قويا حازما تمرس بالملك والإدارة في عهد أبيه، وكان له من العمر ثلاثون سنة، فقام بالإصلاح، وقضى على المماليك المفسدين، فتكاتفوا ضده بزعامة أميرهم خوش قدم الرومي صاحب دمشق، وحاصروه في قصره، واضطروه إلى أن يخلع نفسه بعد أربعة أشهر من سلطنته ونفوه إلى الإسكندرية سجينا، وتسلطن خوش قدم، وتلقب بالملك الظاهر، وكان قويا فانصرف إلى ترتيب شئون الإدارة، وإقصاء العناصر الفاسدة عن الدواوين، وتخليص الدولة من المماليك المشاغبين وفي طليعتهم المماليك الظاهرية الذين كانوا قد ملئوا البلاد فوضى، وعلى رأسهم جاني بك، ثم استطاع أن يلقي القبض على جاني بك وقتله ظانا أن البلاد ستصفو من الدسائس، ولكن شيئا من ذلك لم يقع، واستمر الفساد لوجود زمر أخرى من المماليك كانوا ينشرون الفوضى والرعب في البلاد.
Unknown page