Tarikh Umma Casr Inbicath
عصر الانبعاث: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثامن)
Genres
ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء من الدنايا ما يكفي في نعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد، وأصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه، عبارة عن كتب خرافات وزهد وتلفيق، أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر، وأمور عادية لا ترقي عقلا ولا تزيل جهلا. وحاول أن يرفع من «دعاء القنوت» لفظ: «ونخلع ونترك من يفجرك»؛ لأن فيها لفظ «خلع»، وقلبه ينخلع من هذه اللفظة، ولأنه رأى مخلوعين قبله، وأن يسقط من «صحيح البخاري» أحاديث الخلافة، وأن تصادر «حاشية ابن عابدين»؛ لأن فيها باب الخلع. ورفعت من المعاجم كثير من الألفاظ: كالعدل، والمساواة، والاغتيال، والقانون الأساسي، والجمهورية، ومجلس النواب، والخلع، والديناميت، والقنابل. وغير بعض الأسماء، فلا يقال: «مراد» بل: «مرآة»، ولا: «عبد الحميد» بل: «حامد» أو «حميد» أو «حمدي»؛ لأن مرادا اسم أخيه، وعبد الحميد اسمه. وأصبحت الصحف في أيامه أبواقا تقدسه وتؤلهه على صورة بلغ فيها السخف إلى غاياته.»
3
ولم تكن حالة البلاد المالية والاقتصادية خيرا من الحالة الثقافية؛ فقد كان السلطان ووزراؤه وعماله في الولايات يعملون على ملء جيوبهم وخنق الشعب، وكانت الوظائف العامة تباع بيع السلع، وتقبض أثمانها، وكانت الخزانة العامة في الآستانة فارغة، والعجز يسيطر على موازنة الدولة العامة.
أما السياسة الخارجية للدولة فكانت سياسة المداورة والمخاتلة؛ لأن السلطان كان يعرف الضعف الذي يسيطر على إمبراطوريته، والمرض الدفين الذي يفتك بها، كما أنه كان لا يجهل أن الدول العظمى في ذلك الزمان كانت تتنافس فيما بينها، فلذلك عمد - بما فطر عليه من دهاء - إلى المخاتلة والدس، وخصوصا بعد أن زحفت جيوش الروس على بلاده وطوقت عاصمته، ولم تنسحب حتى فرضت عليه معاهدة تتشح بالعار والذل. ولم تكن معاهدة برلين أقل عارا، وكانت ثالثة الأثافي، حين أراد انتشال البلاد من الإفلاس الاقتصادي، فرهن بعض مواردها الكبرى لدى جماعات من كبار الممولين الأجانب، من إنكليز وفرنسيين وألمان، وأخذ منهم مبالغ ضخمة، زعم أنه يريد بها تقوية الجيش، وقد فعل شيئا كثيرا لتقوية الجيش، وخلق الروح العسكرية خلقا جديدا وتنظيم المعاهد العسكرية تنظيما حديثا، فرفع هذا العمل من مكانته بين رعاياه إلى حد ما، وإلى فترة ما.
ثم إنه عمد من جهة ثانية إلى تسخير رجال الدين في كافة أنحاء الإمبراطورية، لنشر الدعاية له بأنه ظل الله في الأرض، وأنه أمير المؤمنين، وزعيم المسلمين الروحي في كافة أرجاء المعمورة، وأنه خادم الحرمين الشريفين. وقد استطاع بهذا كله أن يفرض سلطانه على الناس، وأن يطيل عهده، وبخاصة حين سلك هو مسلكا دينيا خالصا، فأقصى عن القصور الملكية الموبقات التي كان أدخلها إليها أسلافه، وأحاط نفسه بهالة من رجال الدين وأرباب الوعظ والإرشاد، في طليعتهم الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي الحلبي، الذي كان يتمتع بسلطان روحي كبير، ودهاء وعبقرية دينية كبيرين، فأنشأ في الآستانة معهدا دينيا كبيرا لتخريج القضاة والمفتين والدعاة وغيرهم من رجال الدين، واستطاع أن يجتذب أشراف مكة - وهم حكامها الروحيون - فأخذوا يؤيدونه في سياسته، ويعملون على تمتين أواصر سلطته الروحية بين طبقات الحجاج الوافدين إلى الحجاز من شتى بقاع الإسلام. ولما رأى السلطان أن العرب قد أخذوا يضيقون ذرعا بحكمه، وأن البلاد العربية لا بد من أن تثور عليه، أخذ يعمل على تقريب نفر من كبار رجالاتهم، ويغدق عليهم الأموال الضخمة والمناصب الرفيعة،
4
أو يستدعيهم إلى جواره فيضيفهم «ضيافة طويلة» في العاصمة، كما فعل مع الشريف الحسين بن علي - الملك حسين فيما بعد - فقد بلغه عنه أنه فتى كثير النشاط، كبير المطامع، ينحدر من أسرة عريقة، حكمت بلاد الحرمين عدة أجيال، فاستدعاه إلى الآستانة مع أسرته في سنة 1893م وهو فتى في عنفوان شبابه يصحب معه أولاده الأمير عليا الذي صار ملك الحجاز فيما بعد، والأمير عبد الله الذي صار ملك الأردن فيما بعد، والأمير فيصلا الذي صار ملك سورية فالعراق بعدئذ. وأوصى السلطان بإدخال الأولاد الثلاثة في إحدى مدارس العاصمة التركية على نفقته، ولكن الشريف حسينا أدرك الهدف من تلك الضيافة، فتقبلها صامتا ولقن أبناءه وجوب التحلي بالصبر والسكينة، إلى أن تحين الفرصة للقيام بالدعوة القومية، والعمل على تخليص البلاد العربية من ربقة الظالمين الأتراك، وفي طليعتهم هذا الخليفة الطاغية الذي يتستر بالدين ويرهق أبناء جلدتهم العرب عسفا وجبروتا.
الفصل السادس
العرب في أواخر عهد السلطان عبد الحميد وبداية عهد السلطان محمد رشاد
ظهور الحركة الصهيونية
Unknown page