Tārīkh al-ṣaḥāfa al-ʿarabiyya
تاريخ الصحافة العربية
Genres
وكان أبوه طبيبا فجعل يدرس الطب في صباه عليه وكان يخدم في صيدليته؛ فأتقن فن الصيدلة فيها علما وعملا. ولما حصل ما تيسر له الحصول عليه عند أبيه جعل يتلقى الدروس الطبية في سبرنكفيلد، ثم أتم دروسه في مدرسة جفرسن الطبية بمدينة فيلادلفيا من مدن الولايات المتحدة حيث نال الدبلوما والرتبة الدكتورية في الطب، وكان تعلمه في هذه المدرسة على نفقة ذويه، فكانت مساعدتهم هذه له أساسا للأعمال العظيمة التي عملها في سورية وسائر البلدان العربية من التعليم والتهذيب والتأليف وخدمة الصحافة وإنشاء المدارس.
وفي الحادية والعشرين من عمره فارق الخلان والأوطان وأتى سورية مرسلا من قبل مجمع المرسلين الأميركيين، وكان قد سبقه طبيب آخر أميركي وهو الدكتور آسادوج الذي توفي في القدس سنة 1835 بعد إقامته فيها نحو سنتين، وكان وصول الحكيم فانديك بعد نحو 5 سنوات لوفاته، وحل في بيروت في 2 أبريل (نيسان) سنة 1840، ولكن لم تطل إقامته فيها حتى قام منها بإيعاز المجمع المذكور، وأتى القدس طبيبا لعيال المرسلين الذين كانوا فيها أيام فتوح إبراهيم باشا في بلاد الشام، فأقام فيها تسعة أشهر ثم قفل راجعا إلى بيروت حيث شرع في درس العربية، وحينئذ تعرف بالمرحوم بطرس البستاني وكانا كلاهما عزبين، فسكنا معا في بيت واحد وارتبطا من ذلك العهد برباط المودة والصداقة وبقيا على ذلك طول الأيام حتى صار يضرب المثل بصداقتهما. ولما توفي البستاني كان أشد الناس حزنا على فقده حتى إنه لما طلب منه تأبينه خنقته العبرات وتلعثم لسانه عن الكلام، وبقي برهة يردد قوله: «يا صديق صباي» حتى لم تعد ترى بين الحاضرين إلا عينا تدمع وقلبا يتوجع.
وجعل يدرس العربية على الشيخ ناصيف اليازجي ثم على الشيخ يوسف الأسير الأزهري وغيرهما من علماء اللغة، وبذل الجهد في درسها والأخذ بحذافيرها حتى صار من المعدودين في معرفتها وحفظ أشعارها وأمثالها وشواهدها ومفرداتها واستقصاء أخبار أهلها وعلمائها وتاريخها وتاريخهم. فهو بلا ريب أول إفرنجي أتقن معرفة العربية والنطق بها والبيان والتأليف فيها حتى لم يعد يمتاز عن أولادها، وبقي على ذلك إلى خريف سنة 1842 ثم انتقل إلى عيتات وهي قرية بلبنان، واقترن هناك بالسيدة جوليا بنت مستر آبت قنصل إنكلترا في بيروت، المشهورة بفضلها وحسن أخلاقها، ثم انتقل من عيتات إلى قريتة عبيه، وهناك أنشأ مع صديقه بطرس البستاني مدرسة عبيه الشهيرة. وشرع من يومه في تأليف الكتب اللازمة للتدريس في تلك المدرسة، فألف كتابا في الجغرافية، وآخر في الجبر والمقابلة، وآخر في الهندسة، وآخر في اللوغارتمات، وفي المثلثات البسيطة والكروية، وفي سلك الأبحر والطبيعيات، وقد طبع بعضها وبعضها لم يطبع. وبعد أن قضى في عبيه أربع سنوات على ما ذكرنا في التدريس والتأليف دعاه مجمع المرسلين إلى صيدا فلبث فيها سبع سنين وسافر سنة 1853 إلى مسقط رأسه، وفي تموز سنة 1854 رجع إلى سورية، وعند وفاة الدكتور سميث سنة 1857 تعين من المرسلين في سورية بتصديق المجمع الأميركي وجمعية الكتب المقدسة لترجمة كتابه تعالى؛ فشمر عن ساعد العزم وأخذ يعاني المشاق بتجشم المصاعب بتطبيق كل كلمة على أصلها حتى تم له ذلك. وكان في هذه الأثناء متوليا إدارة المطبعة الأميركية المشهورة وحسن فيها وزاد الشكل على الحروف حتى صارت من أحسن مطابع الشرق وأشهرها. وأتم الترجمة سنة 1864 وبعثه مجمع المرسلين إلى الولايات المتحدة سنة 1865 ليتولى أمر طبعها وعمل الصفائح بالكهربائية لها هناك. فأقام في الولايات المتحدة سنتين حتى أتم ذلك وعاد إلى سورية سنة 1867.
وفي تلك الأثناء تم أمر إنشاء «المدرسة الكلية السورية» في بيروت على نفقة جماعة من أهل الخير في الولايات المتحدة بأميركا فعرضت عليه عمدتها الكبرى في أميركا أن يكون أستاذا فيها فأجابها إلى ذلك. ثم طلبت إليه أن يعين راتبه السنوي بنفسه فكتب 800 ريال مع أن راتب أصغر أستاذ فيها لا يقل عن 1500 ريال! وقد فعل ذلك حبا بخير البلاد ونفع أهلها.
ولما وصل إلى بيروت باشر ترتيب المدرسة الكلية الطبية مع صديقه الفاضل الدكتور يوحنا ورتبات. ووضعا نظاما لدروسها وشرعا في التعليم من ساعتهما لا يحاسبان على أتعاب ولا ينتظران من أحد تبجيلا لقدرهما ومدحا لاسميهما. بل إن الدكتور فانديك لما رأى أن المدرسة تفتقر إلى أستاذ يدرس الكيمياء فيها أقبل من فوره على تدريسها حال كونه معينا أستاذا لعلم الباثولوجيا وحده. ولم يكن في المدرسة حينئذ من كل أدوات الكيمياء إلا قضيب من زجاج وقنينة عتيقة؛ فأنفق من ماله مائتي ليرة إنكليزية على ما يلزم من الأدوات. ولم يكن في يد التلامذة كتاب يطالعون فيه؛ فجعل يلقي عليهم العلم خطبا، مبتدئا بالتجارب الكيماوية ومستطردا من الجزئيات إلى الكليات على أسلوب يقرب هذا العلم من الأفهام، ويرسخ حقائقه في الأذهان. وألف حينئذ كتابا مختصرا في مبادئ الكيمياء ثم توسع فيه وطبعه على نفقته وهو يعلم أنه لا يسترجع نفقات طبعه قبل مماته. وبقي يدرس هذا الفن ست سنوات متواليات وينفق على لوازم التدريس من جيبه. وجاء أستاذ الكيمياء وبقي سنتين من الزمان يدرس العربية والدكتور فانديك يدرس مكانه مجانا حبا بصالح المدرسة وخير أبناء البلاد. ولما تولج أستاذ الكيمياء أشغاله اعتزل الدكتور فانديك عنها وترك للمدرسة كل ما أنفق عليها ولم يأخذ مقابله إلا مائة ليرة إنكليزية.
ولم يقتصر على هذا التبرع بل إنه تولج منصب أستاذ ثالث وهو أستاذ علم الفلك؛ وذلك أن المدرسة لم يكن عندها مال يقوم بنفقة أستاذ لهذا العلم؛ فتبرع بتدريسه مجانا وألف له كتابا مسهبا وطبعه على نفقته أيضا كما طبع كتاب الأنساب والمثلثات والمساحة والقطوع المخروطية وسلك الأبحر. ولم يكن في المدرسة آلات فلكية يعتد بها، فما لبثت أن شرعت في بناء مرصدها حتى ابتاع له آلات بسبعمائة ليرة إنكليزية من ماله الخاص وأثث وفرش فيه على نفقته. وكان أسلوبه في تعليم الكيمياء والباثولوجيا مبنيا على العمل والمشاهدة حتى يجد الطالب فيه لذة قلما يجدها في درس العلوم العويصة كهذا العلم.
وأنشأ للمرصد اسما كبيرا حتى صار معروفا في المشارق والمغارب مقصودا من القريبين والبعيدين مراسلا لأشهر مراصد الأرض. ولما خلفه الدكتور فارس نمر في تدريس علم الفلك الوصفي ألف كتابا في الفلك العملي وجعل يعلم به الطلبة على الآلات. وكان مع تدريسه علم الباثولوجيا وعلم الكيمياء وعلم الفلك يتولى إدارة المطبعة الأميركية فينقح ما يطبع فيها من الكتب ويهتم بتأليف جريدة «أخبار عن انتشار الإنجيل» وجريدة «النشرة الشهرية» وجريدة «كوكب الصبح المنير» ثم «النشرة الأسبوعية» ويطبب في مستشفى ماري يوحنا حيث كان يتقاطر إليه المرضى أفواجا أفواجا حتى يبلغ عددهم الألوف في السنة. وما بقي من الوقت الذي يخصصه البعض بالنزهة والرياضة والراحة والنوم كان يقضيه في تأليف الكتب العلمية والطبية والدرس والمطالعة والتجارب العلمية وحضور الجمعيات النافعة ومراسلة العلماء في سائر أقطار الأرض؛ ولذلك كنت تراه معدا كل ما يطلب منه قبل زمان طلبه. وكان كلما طلب منه أهل بيته أيام اشتغاله في المدرسة الكلية أن يستريح بين عمل وآخر ويؤخر الأشغال إلى أوقاتها حرصا على صحته يجيبهم: «أخاف أن يفاجئني مرض أو يعارضني معارض فأكون سبب خسارة لكل من تتعلق أشغالهم ومصالحهم بي؛ فالواجب علي أن أكون سابقا في إنجاز أشغالي حذرا من ذلك.» ولكثرة اهتمامه بأشغال المدرسة واشتغاله بمصالحها عن غيرها كان أصحابه يكلمونه في ذلك فلا يسمع لهم، حتى صار من الأقوال الشائعة بين معارفه أنك إذا رمت أن تكون على رضى مع فانديك فإياك أن تشغله بشاغل عن المدرسة الكلية. وإذا أردت أن تسر قلبه فكلمه عن المدرسة والتلامذة والمرصد والتآليف. وقد ألف أثناء وجوده في المدرسة الكلية كتابه في الباثولوجيا وهو مجلد ضخم وكتبا في التشخيص الطبيعي وفي الكيمياء وفي الفلك الوصفي وفي المثلثات والمساحة وفي القطوع المخروطية وكلها مطبوع. وألف كتابا في الفلك العملي وآخر في أمراض العينين وآخر في تخطيط السماء وقد طبع حديثا.
وكان تعليمه متين التحقيق متأنيا في التقرير حسن الفكرة، حافظا للمسائل، صحيح النقل، جامعا بين العلوم القديمة والحديثة، ذاكرا التجارب الماضية، مطلعا وراويا الاكتشافات الحاضرة، كثير الإحسان للطلبة معلما ناصحا وأبا صالحا، يشجع الأقوياء ويرق للضعفاء ويشفق على البلداء. وقد تخرج على يده في الكلية السورية سبعون طبيبا وسبعون بكلوروسيا وسبعة صيادلة كلهم أخذوا الشهادات وتشرفوا بمصادقته عليها بخط يده. وأكثرهم عنه حب العلم أخذوا. ومن مآثره أنه تخرج على يده كثير من مشاهير أرباب الصحف العربية والمحررين فيها كالدكتور يعقوب صروف، والدكتور فارس نمر، والدكتور شبلي شميل، والدكتور بشارة زلزل، والدكتور إسكندر بارودي، والدكتور نقولا نمر، والدكتور خليل سعادة، والصيدلي مراد بارودي، وجرجي زيدان ، والدكتور فارس صهيون، والدكتور لويس الخازن.
وكان وهو أعجمي اللغة عربي المنطق، وله في محاسن اللغة وبدائع منثورها ومنظومها القول الصحيح والرأي الرجيح حتى كان يحسب آية ظاهرة في آدابها وأقوالها، وأعجوبة باهرة في نكاتها وأمثالها؛ لأنه كان قوي البادرة كثير المحفوظات لذيذ العشرة لطيف المنظر جيد المخبر، وهو يجري معها إلى طبع سليم وخلق دمث ومحاورة سارة.
وفيما هو لاه بأشغال التأليف والتدريس والرصد والمراسلات العلمية عما سواها من مطامع البشر نكبت المدرسة الكلية بحادث أبعد عنها أكثر أساتذتها، فتركها محتملا آلام فراقها محافظة على مبادئه، وبقي يطبب في مستشفى ماري يوحنا على جاري عادته إلى أن اضطر أن يتركه على غير رضى منه، لكنه إنما تركه ليحيي في الوجود مستشفى طائفة الروم الأرثوذكسيين الذي صار له فيه أياد تذكر في الرحمة بالمسكين ومعالجة المرضى والبائسين.
Unknown page