لم يكن طوسون الشاب قوي البنية أو الإرادة، ولا كان على شيء من الحزم كبير، فأعيته حرب الحجاز وأضنته. ولولا عرب الحجاز لما عقد له النصر في حملته الثانية على عرب نجد. بيد أنه كان مثل أبيه وأخيه إبراهيم متساهلا في دينه، عاملا بتساهله في أمور شتى سياسية وغير سياسية. وكان يميل خصوصا إلى الأوروبيين ويحب الانتفاع بعلومهم واختراعاتهم. قد أشرت إلى أولئك المجازفين منهم المسترزقين الذين كانوا في الجيش المصري. ومن أغرب أمورهم مما يدل على التساهل الذي ذكرت، أن أحدهم، وهو اسكتلندي اسمه ثوماس كيث، تولى برهة حكم المدينة المنورة.
على أنه لم يكن بينهم أديب عالم يدون حوادث تلك الأيام، أو ينقل إلينا شيئا من معلوماته هناك. ولا أظن أن أحدا منهم دخل مكة ولو خلسة عندما استولى طوسون عليها؛ لأنه لم تكن لهم العقلية العلمية التي تحمل صاحبها على التكشف والاستطلاع، إلا واحدا ذكره هوغارث، وقال إن ما كتب يعد تافها.
على أن هناك ثلاثة لم يجيئوا الحجاز محاربين، ولا جاءوا مع المصريين وهم جديرون بالذكر؛ لأنهم من العلماء المستشرقين المستعربين الذين دخلوا مكة يوم كان الوهابيون مستولين عليها، فرأوهم من كثب وكتبوا عنهم بدون تحيز أو تحامل.
أول هؤلاء رجل إسباني اسمه دومنغو باديا أي: لبلخ
10
انتحل اسما ونسبا ودينا عربيا وجاء من قادش عن طريق الجزائر إلى الحجاز. هو علي بك العباسي الأمير المكرم، والعالم المحترم، والحاج الورع الموقر، رسول بونابرت إلى البلاد العربية، أجل قد جاء حاجا مستكشفا فنزل في جدة تحف به الخدم والحشم، وسار إلى مكة المكرمة محرما، مثل من جاءوها من أهل نجد، فدخلها في 23 يناير سنة 1807 /14 ذي القعدة 1221، وقد شاهد جموع الوهابيين، وحج معهم واعتمر.
11
سمع العج، وحضر الثج، وكان في ظاهره عربيا قحا ومسلما حقا، لا تعيبه كلمة يقولها ولا تخونه فعلة أو إشارة، فما شك أحد في دينه أو في نسبه.
وقد اجتمع علي بك بالشريف غالب، فقال: إنه في العقد الرابع من العمر وإنه على جهله ذو حصافة ودهاء. رآه لأول مرة في مجلسه وهو يدخن النارجيلة التي كانت محجوبة خوفا من الوهابيين، فلم ير السائح الأوروبي غير النبريج الذي كان يتصل من خرق في الحائط بالنارجيلة وراءه في الغرفة المجاورة للمجلس.
والعباسي هذا كان عالما يحمل في حقائبه أدوات للرصد والمساحة، فاستخدمها في مكة وجوارها دون أن يعترضه أحد من الناس، بل كان محترما من الجميع. وقد حاز فوق ذلك شرفا لم يحزه سواه من المستشرقين ولا يحوزه إلا الأفراد القلائل من المسلمين، ألا وهو شرف كناسة الكعبة، ولكنه على ما يظهر لم يفلح حتى النهاية في تنكره. فعندما قصد إلى المدينة زائرا صده عنها الوهابيون فعاد إلى ينبع ومنها إلى مصر فباريس حيث اجتمع بنبوليون وعين في حاشية أخيه يوسف بونابرت. وقد عاد علي بك إلى الشرق في سنة 1818م، فسافر من دمشق ليرحل رحلة ثانية في البلاد العربية، ولكنه وهو لا يزال في أول الطريق أصيب بالديزنتاريه فمات في المزاريب.
Unknown page