Tarikh Nahw Carabi
تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية
Genres
31
لا سيما العلماء منهم الذين ينتجون المعرفة. يعمل هؤلاء العلماء على أن يظهروا الرصيد المتراكم من الأفكار والمفاهيم التي تبلورت في أذهانهم، وشكلت استجاباتهم. وما يعطي لتوقعات العالم واعتقاداته قيمة تحليلية هو بيان أثرها في سلوك العلماء. ففي مرحلة تاريخية ما يندفع هؤلاء نحو وجهة محددة وواحدة، مطبوعين بجو المرحلة الفكري. هذا الجو الفكري قوة عابرة للقوى الفردية، وليس شرطا أن يكون العلماء واعين بهذه الروح؛ فروح العصر هي قدر الوجود أو الشروط الجدلية لحقبة من حقب التاريخ.
32
وفي مرحلة الدؤلي التاريخية التي نتحدث عنها لا بد من وجود أفكار ومعتقدات تعلق بطبيعة اللغة ووظيفتها وعلاقتها بالفكر.
تنشأ التصورات أفكار العالم ومعتقداته لأسباب ثقافية. ولا يقتصر الأمر على مجال واحد، إنما على مجالات العلوم كلها. وفيما يتعلق بموضوعنا فتصورات المرحلة التي نتحدث عنها لم تؤثر في نشأة النحو فحسب؛ إنما أثرت أيضا في تدوين اللغة الذي صاحب نشأة النحو؛ فالكلمات التي جمعها اللغويون ليست مادة اللغة فحسب؛ إنما تشكل حدثا حيا وانعكاسا لعلاقات اجتماعية؛ فالناس يجتمعون في أسر أو جماعات دينية أو تجمعات مهنية ... إلخ. وإذا ما أخذنا في الاعتبار العلاقة بين الكلمات وبين مستخدميها، فإن شيوع كلمات أو تلاشيها يشير إلى سهولة أو صعوبة اشتغالها بين تلك التجمعات البشرية. ما يتداوله الناس ليس كلمات فحسب، إنما حقائق أو أكاذيب، أشياء حسنة أو قبيحة، مهمة أو مبتذلة، مفرحة أو محزنة، وبالتالي فالكلمة محملة دائما بمضمون أيديولوجي أو وقائعي. لا يستجيب الناس إلا للكلمات التي توقظ في نفوسهم أصداء أيديولوجية؛ لذلك فمقياس التصحيح لا ينطبق على الكلمات إلا في المواقف الشاذة أو الخصوصية. أما في الحياة فإن الناس يتخلون عن مقياس التصحيح لصالح المقياس الأيديولوجي؛ أي إن الناس في حياتهم اليومية لا يهتمون بصحة الكلمة اللغوية أو النحوية بقدر ما يهمهم صدقها أو كذبها أو طابعها الشعري أو طابعها المبتذل.
33
خضع اللغويون والنحويون للعوامل التاريخية والثقافية والفكرية التي ولدت تصوراتهم، وحددت معتقدات كفايتهم العامة التي تتشكل من الخبرات وآراء الآخرين. هذه المعتقدات أثرت في عمليات المعجميين والنحاة المعرفية التي تتضمن التخطيط للأهداف، وتنظيم الأفكار، ومواجهة المصاعب، ومثلت دافعا إلى الإنجاز، وإلى التوقعات المتعلقة بالإنجاز وقيمته. وبالعودة إلى موضوعنا، فقد عرف عن الدؤلي أنه من سادات التابعين وأعيانهم، وأنه «من أكمل الرجال وأسدهم عقلا».
34
ولا شك أن معتقدات كفايته العامة هذه مثلت دافعا لإنجازه، وأثرت في تحديد طبيعة هدفه. لقد أنجزت حديثا دراسات أشارت في مجملها إلى أهمية معتقدات المرء العامة كدافع للمثابرة والإنجاز في المجالات المختلفة، ومنها المجال العلمي. كما أن نظريات التعلم الاجتماعي والمعرفي المعاصرة تشير إلى أن الخبرات الناجحة تدفع الفرد إلى أن يدرك المهام الصعبة من حيث هي تحد للإنجاز، وليس معجزات لا يمكن التغلب عليها. والخلاصة هي أن معتقدات أبي الأسود الدؤلي المتعلقة بكفايته العامة في مواجهة الصعاب والمشكلات التي أرقته هي أساس من أسس ابتكاره.
ما يشير إلى اعتقاد أبي الأسود الدؤلي بكفايته العامة: الحكاية التي تحكى أنه قدم على الخليفة عبد الملك بن مروان، وقد كان أبو الأسود دميما، أعور، وقبيح المنظر. فقال له: «يا أبا الأسود، لو علقت عليك عوذة من العين! فقال: إن لك جوابا يا أمير المؤمنين ... أما والله لئن ابتلتني السنون، وأسرعت إلي المنون، لما أثبت ذلك إلا في موضعه، ولرب يوم كنت فيه إلى الآنسات البيض أشهى منك إليهن ... فقال عبد الملك: قاتلك الله من شيخ، ما أعظم همتك!»
Unknown page