Tarikh Misr Min Fath Cuthmani
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
Genres
2
وبعد أن تباحثوا في الأمر قر قرارهم على أن يسير مراد بك إلى الإسكندرية لصد الأعداء، وأن يبقى إبراهيم بك بالقاهرة للدفاع عنها لو اقتضى الأمر ذلك.
هذا ما كان من أمر المماليك. أما العمارة الفرنسية فإنها وصلت أمام الإسكندرية في (اليوم الثامن عشر من المحرم/أول يوليو) وعند ذلك أرسلت زورقا إلى الميناء يطلب القنصل الفرنسي، فتردد «السيد محمد كريم» أولا في تسليمه ثم أذن له بالذهاب، فعلم منه نابليون ما كان من أمر العمارة الإنجليزية وما يعده المماليك للدفاع عنه البلاد، فأقر على إنزال جيشه إلى البر في الحال، واختار لذلك نقطة غربي الإسكندرية بنحو ثلاثة أميال - العجمي الآن - فسار بأسطوله إليها وشرع في إنزال رجاله وعدده ليلا بكل سرعة، فتم له ذلك من غير أن يعترضه أحد. وبعد أن استراح برهة على الرمال جرد قسما من جيشه وسار على الأقدام قاصدا الإسكندرية، فقابلتهم قبيل الفجر بعض فصائل من عرب «أولاد علي»، تبادلوا معهم بعض الطلقات، ثم فروا مذعورين، فاستمر الجيش في المسير نحو الإسكندرية، حتى صار على مقربة من أسوارها.
فقابلتهم حامية المدينة بما لديها من وسائل الدفاع، فقسم نابليون رجاله إلى ثلاثة أقسام وهاجم بهم الأسوار هجوما عاما من اليمين واليسار والقلب، فدخلوا المدينة عنوة، وانسحب الحاكم ورجاله إلى قلعة «فاروس» في طرف الميناء الشرقية - قايتباي الآن - ولما دخل الفرنسيون المدينة مخترقين شوارعها الضيقة، أمطرهم الأهلون من نوافذ المنازل وابلا من المقذوفات، فقابلهم الفاتحون بأشد منها، وكادوا يفتكون بالعباد فتكا ذريعا لولا أن أرسل نابليون رسولا إلى الإسكندريين يؤمنهم على أموالهم وأرواحهم ودينهم وتقاليدهم، وأخبرهم بأن فرنسا لا تقصد سوءا إلا بالمماليك، وأنها تحرص على مودة الأهلين وود سلطانهم الأعظم؛ فهدأ الناس حقنا للدماء، واستسلم إليه السيد محمد كريم، لقلة ما بقي معه من الذخيرة، فأكرم نابليون مثواه، وقال له: «قد أخضعتك بالقوة، ولي أن أعاملك معاملة الأسير، ولكن نظرا لما أبديته من الشجاعة، ولأن الشجاعة حليفة الشرف، أرد إليك سيفك، أملا أن تخلص للجمهورية الفرنسية بقدر ما أخلصت لتلك الحكومة العاتية.» فأعرب السيد محمد كريم عن رغبته في خدمة الجمهورية، وأبقاه نابليون في منصبه تحت إشراف «الجنرال كليبر» - وكان هذا قد اضطر إلى البقاء بالإسكندرية لجرح أصابه وقت مهاجمة الأسوار.
ولم تكد الجنود الفرنسية تنزل إلى المدينة وتتجول في أنحائها، حتى لحقهم الملل واستولت عليهم الكآبة؛ فإنهم - فضلا عن تألمهم من الحر الشديد الذي لم يعتادوه في بلادهم، والذي كان بالطبع على أقصى درجاته في هذا الفصل من السنة - لم ترق المدينة في أعينهم، ولم يجدوا فيها شيئا من العظمة والبهاء مما سمعوا به قبل مجيئهم، وكان من مميزات الإسكندرية في القرون الأولى ، ثم ذهب باضمحلال شأن المدينة على مدى الأيام. وكل ما وقع عليه نظرهم من شوارع ملتوية، وأزقة ضيقة قذرة، وآثار مهملة، وملابس وأزياء لا تنطبق على ذوقهم الفرنسي؛ لم يزدهم إلا قنوطا واعتقادا بأنهم مسخرون في غزوة لا فائدة فيها.
على أن نابليون ذاته لم يظهر عليه شيء من ذلك، بل بقي ثابت الجأش، كله حركة ونشاط، ولم يكد يتم له الاستيلاء على الإسكندرية حتى أمر بإنزال كل المعدات الحربية إلى البر، كي لا يفاجئه «نلسن» على غير أهبة. ثم التفت إلى تنظيم حكومة الإسكندرية، فعهد بإدارة شئونها إلى ديوان، فشكل من سبعة أشخاص مختارين، وأمر بإنزال جماعة العلماء الذين معه، وكلفهم مباشرة البحث والتنقيب بالإسكندرية ريثما يتم له فتح العاصمة فيستدعيهم إليها، فشرعوا في عملهم بكل همة ونشاط. ومن أنفع ما بدءوا به أنهم رسموا مصورا وافيا للإسكندرية وضواحيها.
وقبل أن يزحف نابليون بجيشه إلى القاهرة أمر بكتابة منشور بالعربية ليلقي به السكينة في قلوب الأهلين، وعهد بكتابته إلى المستشرقين من علمائه، وطبع بالمطبعة العربية التي معهم، وقد رأى نابليون في هذا المنشور أن يخضع المصريين من باب الدين واحترامه لعقائدهم وخليفة نبيهم؛ فغالى في مصانعتهم حتى شك معظم الأهلين في صدق نيته، وأخذوا يهرعون إلى القرى والبلاد التي بمعزل عن طريق الفرنسيين حتى لا يقعوا في حبال مكايدهم. ومما قلل من ثقة الأهلين بهذا المنشور أن نابليون كان وعدهم عند استيلائه على الإسكندرية بعدم التعرض لحريتهم وتقاليدهم، ولكن ما لبث أن جردهم من السلاح وأمرهم أن يحملوا على صدورهم شارة الجمهورية الفرنسية - وهي قطعة مستديرة من القماش مؤلفة من ثلاثة الألوان: الأزرق والأبيض والأحمر - وها هي بعض عبارات هذا المنشور العجيب، نقلا عن كتاب المؤرخ الشهير الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الذي كان معاصرا لهذه الحملة:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، ولا ولد له ولا شريك له في ملكه. من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية؛ السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم. واحسرتاه، من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبنزة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها. فأما رب العالمين القادر على كل شيء، فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم. يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله - سبحانه وتعالى - وأحترم نبيه والقرآن العظيم. وقولوا أيضا لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة؟ فإن كانت الأرض المصرية التزاما للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رءوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية؛ فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور؛ وبذلك يصلح حال الأمة كلها. وسابقا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك.
أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا، الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه، أدام الله ملكه. ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلا إلا لطمع أنفسهم، طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا؛ فلا يجدون بعد ذلك طريقا إلى الخلاص، ولا يبقى منهم أثر.
ترك نابليون «كليبر» بالإسكندرية، وشرع في الزحف على القاهرة في (23 المحرم/7 يوليو) واختار لذلك طريق الصحراء الغربية مخترقا مدينة «دمنهور»، وكان قد أرسل قسما من جيشه بطريق الساحل الشرقي للاستيلاء على «رشيد»
Unknown page