Tarikh Misr Min Fath Cuthmani
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
Genres
وابتدأ العمل في حفر القناة قريبا من موقع مدينة بورسعيد الحالية في (رمضان سنة 1275ه/أبريل سنة 1859م)، فكان سيره في أول الأمر غاية في البطء لما يحيط به من الصعوبات. وأهم ذلك قلة تدرب عمال السخرة على العمل، وصعوبة الحصول على الماء الذي يستقون منه قبل أن يتم حفر الترعة العذبة. ولما كانت الشركة فقيرة - بالنسبة لعظم المشروع - استعان ديلسبس على هذه الصعوبات بالسعي في حمل سعيد باشا على الإكثار من العمال المسخرين بدون مراعاة للاتفاق الأصلي؛ فصارت تساق الآلاف من الفلاحين يحرسهم الجنود إلى الترعة، حيث يشتغلون طوال اليوم تحت مراقبة حراس مسلحين بالسياط، وكان عدد الذين يشتغلون في حفر الترعة لا يقل عن 25000 عامل بدون أجر، وينوب عنهم مثلهم في كل ثلاثة أشهر، وكانوا يعيشون على الشظف، وقد أودى بحياة الكثيرين منهم ما كانوا يقاسونه من الجوع والظمأ والعري وحر الصيف وقر الشتاء وإجهاد الجسم والبؤس. وكان كلما هلك منهم أحد أتي بغيره من الفلاحين، ولو تم مشروع حفر الترعة على حسب الاتفاق الأصلي لسبب نقصا عظيما في تعداد سكان البلاد.
شاع هذا الأمر وأصبح من الفضائح حتى في مصر، وتناولته ألسنة المعارضين لحفر الترعة وخاصة إنجلترا. وكان اللورد بالمرستون رئيس الوزارة الإنجليزية في ذاك الحين يعارض في أمر تسخير الفلاحين؛ لأنه من جهة يعتبره ضربا من الاسترقاق، ولأنه من جهة أخرى كان لا يريد أن يرى النفوذ الفرنسي يسود في مصر؛ لذلك أوعز إلى السفير الإنجليزي في القسطنطينية أن يحتج على تسخير الأهالي في الأراضي العثمانية لفائدة شركة أجنبية.
وبقي الحال كذلك إلى أن تولى الخديوي إسماعيل باشا في (رجب سنة 1279ه/يناير 1863م)، ولم يكن للشركة لديه تلك الحظوة التي كانت لها عند سعيد، فرأى أن ما نالته من الامتيازات مجحف بحقه وحق مصر، وشرع يعمل على إلغاء شيء منها، ولكيلا يكون سببا في إفلاس الشركة وإغضاب الشعب الفرنسي وإمبراطورهم نابليون الثالث أمد الشركة بمعونة مالية، بأن دفع لها مبلغ 2000000 جنيه كان مستحقا على سعيد باشا ثمنا لأسهم اشتراها عددها 177642، إلا أنه بقي مصمما على حرمان الشركة من بعض مزاياها حتى طلب من الباب العالي في (صفر سنة 1280ه/يونيو 1863م) الموافقة على إنقاص عدد العمال الذين يسخرون في حفر القناة، وعلى أن ترد الشركة للحكومة المصرية ما منحه إياها سعيد باشا من الأراضي عام 1856م، فصادف الاقتراح ارتياحا من الباب العالي ولا سيما أن إنجلترا كانت تسعى لديه في إنفاذه؛ فوافق عليه وهدد الشركة بتوقيف العمل إن لم ترض به.
وقد كاد يكون في ذلك القضاء المبرم على المشروع؛ لأن الشركة كانت تعلق كل آمالها على جلب العمال من مصر بدون أجر، وكان العمل لا يزال في مبدئه، والشركة لم يكن في مقدورها أن تقترض مالا جديدا، ولولا ما بذله المسيو ديلسبس من الهمة والحزم لخاب المشروع؛ فإنه تمكن بمساعدة الإمبراطور يوجين وبميل الشعب الفرنسي إلى مشروعه من استجلاب مساعدة الحكومة الفرنسية، ناسبا سعي إنجلترا في إيقاف عمل السخرة في مصر إلى حسدها فرنسا، فمالت إليه قادة السياسة الفرنسية، وانتهى الأمر بتحكيم الطرفين «الإمبراطور نابليون الثالث» في حل هذا المشكل.
فناط الإمبراطور الفصل في هذه المسألة بجماعة من رجال بلاده طبعا، فجاء الاتفاق فوق ما كانت تأمل الشركة؛ إذ ألزمت اللجنة المحكمة إسماعيل باشا أن يدفع للشركة غرامة قدرها 3360000 جنيه نظير إخلاله بشروط الاتفاق الأصلي بشأن أعمال السخرة وغيرها. فمن هذا المبلغ 1560000 جنيه نظير منعه الفعلة المصريين المسخرين من حفر الترعة، و1200000 جنيه لاسترجاعه الأراضي التي على ضفتي القناة ما عدا ما عرضه 200 متر على كلا الجانبين، و640000 جنيه في مقابل حفر ترعة الإسماعيلية، وقد تم دفع كل ذلك في عام 1869م.
بهذا الحل وباستبدال عمال مدربين بعمال السخرة أصبح مركز الشركة المالي ثابت الأركان، لا يخشى معه على المشروع من أي عطلة تعترضه كما حصل ذلك من قبل.
ومن هذا الحين أقبل الخديوي على المشروع؛ يعضده بكل نفوذه الأدبي، ويفتخر بأنه القائم بأكبر مشروع ظهر في القرن التاسع عشر.
وعندما قرب انتهاء العمل استعد إسماعيل باشا استعدادا عظيما للاحتفال بفتح الترعة في (شعبان سنة 1286ه/نوفمبر سنة 1869م)، فكان أكبر وأفخم احتفال حدث في الأزمنة الحديثة، وسنتكلم عليه في موضعه عند الكلام على إسماعيل باشا.
على أن معونة مصر المالية لم تقف عند هذا الحد؛ فإن الشركة حصلت منها عام 1866م على مبلغ يربو على 300000 جنيه لنزولها لها عن أراضي الطميلات، وكانت قد اشترتها قبل ذلك بخمسة أعوام بنحو 74000 جنيه، وفي عام 1868م أخذت الشركة من الحكومة المصرية مبلغا آخر يقرب من 1200000 جنيه لنزولها عن بعض المباني التي أقامتها في منطقة القناة.
أما نفقات حفر القناة فقد بلغت حسب المدون في دفاتر الشركة 432807882 فرنكا؛ أي نحو 17500000 جنيه، وقد قدر مجموع ما أنفقته الحكومة المصرية في ذلك بنحو 16000000 جنيه.
Unknown page