108

Tarikh Misr Min Fath Cuthmani

تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر

Genres

على أن الجيش لم يظفر بقتل نمر، ولكنه أحرق شندي بعد أن أخضع كل الإقليم، وبعد ذلك بنى مدينة الخرطوم سنة (1238ه/1823م)، وجعلها حاضرة البلاد.

ومما تقدم نعلم أن الحملة على السودان لم تقم بتحقيق جميع الأغراض التي كان يرمي إليها محمد علي؛ لأنه لم يجد في السودان ذهبا يفي بنفقات استخراجه من مناجمه، ولأن طرق القوافل لم تثمر لكثرة الضرائب الفادحة التي كانت تجبى على البضائع عند الحدود المصرية. أما التجنيد من أبناء السودان فلم يتحقق تماما؛ لأنه جند منهم جيشا عظيما، ولكن جو مصر لم يكن ملائما لهم؛ فمات عدد عظيم من هذا الجيش؛ ولذلك أضرب محمد علي عن التجنيد منهم، وعاد إلى التجنيد من المصريين.

وقد ازداد الاتجار بالرقيق بعد فتح السودان زيادة عظيمة، حتى اضطرت إنجلترا وفرنسا للتدخل في الأمر، فوعد محمد علي أن يقضي على هذه الحرفة الشنيعة التي تنافي الإنسانية؛ ولذلك خرج لزيارة السودان عام (1254ه/1838م)، وأمر بمنع بيع الرقيق جملة، ولكن رغم ذلك كله بقي الاتجار به منتشرا إلى زمن قريب، ولم يضمحل تماما إلا بعد الاحتلال البريطاني كما سيأتي. (4) أعمال محمد علي باشا في الديار المصرية

مقدمة

علمنا ما كانت عليه البلاد من الفوضى في عهد العثمانيين، وكيف كانت تئن تحت ظلم المماليك وعسفهم، وجور الجنود الأتراك الذين ساموا العباد نهبا وسلبا، حتى عم الفقر وكثرت الاضطرابات، وأصبحت البلاد كأنها بلا حكومة؛ فلم يكن إصلاح هذه الحالة بالأمر الهين على كل من أراد النهوض بالبلاد، وجعلها في صف الأمم الراقية.

فلما قبض محمد علي على زمام الأمور بمصر وهم بإصلاح شأنها، ظهرت أمامه كل هذه الصعوبات، وعرف مقدار الأعباء الملقاة على عاتقه، فلم يدع وسيلة في سبيل تحقيق هذه الأمنية إلا اتخذها. وقد كان يشعر بصعوبة المهمة التي أقدم عليها، حتى قال في حديث له عن إصلاحاته: «إن ثمرة غرسي سيجنيها أحفادي من بعدي؛ لأن بلادا عم فيها الارتباك وساد، ودرست فيها معالم الحكومة وآثارها، وأصبح أهلها في الدور الأول من النشء، وبلغوا من الجهل درجة لا يتسنى لهم معها أن تقوم بعمل نافع؛ لا يدخلها التمدين إلا ببطء.»

ولو نظرنا إلى الأعمال الخطيرة التي قام بها في سبيل إصلاح البلاد لدهشنا من أن فردا واحدا وفق لكل هذه الأعمال التي لا زالت خالدة بيننا إلى الآن؛ فهو الذي وضع أساسا متينا لحكومة عادلة منتظمة، وأنقذ البلاد من ذلك النظام الممقوت الذي وضعه السلطان سليم، وهو تقسيم البلاد بين الوالي المولى من قبل الباب العالي وبين المماليك، وأغاثها من جور الجنود العثمانيين الذين كانوا يغيرون على البلاد إذا تأخر ما هو مفروض لهم، وأنشأ الطرق وحفر الترع وأصلح الزراعة، وشيد المعامل ودور الصناعة، وأسس المدارس الابتدائية والثانوية والعالية، واستحضر إليها كبار الأساتذة الغربيين لنشر العلوم الحديثة بين أبناء رعيته، وأوفد البعوث العلمية إلى أوروبا لتعود مزودة بعلومها ومعارفها وأسرار تقدمها، وكان في ذلك يحارب جهل الأمة حتى قضى على ما عندها من خرافة أو عادة ممقوتة، وكان يسوق التلاميذ إلى تلقي العلوم والمعارف رغم معارضة آبائهم وعويلهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.

قام محمد علي بتلك الأعمال الجليلة التي لا ينكرها إنسان، مع أنه لم ينل في صغره نصيبا من التعلم، كما أنه لم يكن ملما تمام الإلمام بالحضارة الأوروبية؛ ولذلك لا يدهش المؤرخ خطؤه أحيانا في بعض الإصلاحات والمشروعات الصناعية، ولا يأخذ عليه ذلك، بل يغتفر له غلطاته بملء صدره بشفاعة أعماله النافعة.

وإذا قلنا بأن غرضه الأول في مصر لم يكن إلا أن ينشئ له ملكا ينصره بجميع الوسائل الممكنة لجمع الأموال، وحشد الجنود لحروبه العديدة التي لم تجن منها مصر ثمرة تذكر؛ فلا يغرب عنا أنه ما لبث حتى أدرك أن لا قيام لملكه إلا بإصلاح مصر، فأخلص في محبتها، وعمل على أن ينهض بها إلى مستوى الرقي والفلاح قدر استطاعته، مقتديا في ذلك بالدول الأوروبية العظيمة، وكفاه فخرا أنه أول حاكم شرقي أدخل المدنية الحديثة في بلاده، وكثيرا ما كان يصرح في خلال أحاديثه بمحبته لمصر وميله لرقيها. من ذلك أنه قال لأحد الغربيين أثناء حديث له:

لا شك أنك تعلم أن مصر كانت في قديم الزمان سيدة ممالك العالم وعلمها الذي يهتدى به. أما الآن فقد أخذت أوروبا هذه المكانة، وإني لآمل أن يأتي يوم تنهض فيه إلى مكانتها الأولى في التمدين والعمران. وما هذه الدنيا إلا صعود وانخفاض. (4-1) الحكومة في عهد محمد علي

Unknown page