Tarikh Misr Hadith
تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
Genres
أما بعد فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمة العيسوية، كما أنه لا يخفى علي أنك أمين الأمة المحمدية، وغير خاف عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر، ونقتل منهم الرجال، ونرمل النساء، ونستأسر البنات والصبيان، ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلت لك النصح إلى النهاية فلو حلفت لي بكل الأيمان، وأدخلت علي الأقساء والرهبان، وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلا إليك، وقاتلك في أعز البقاع إليك. فإما أن تكون البلاد لي فهي هدية حصلت في يدي، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة علي فيدك العليا ممتدة إلي، وقد عرفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء.
فلما قرئ الكتاب على السلطان الملك الصالح، وقد اشتد به المرض بكى واسترجع فكتب القاضي بهاء الدين زهير بن محمد الجواب: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإنه وصل كتابك، وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك، وعدد أبطالك؛ فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا فرد إلا جددناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه، ولو رأت عينك - أيها المغرور - حد سيوفنا، وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل؛ لكان لك أن تعض على أناملك بالندم، ولا بد أن تزل بك القدم في يوم أوله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فإذا قرأت كتابي هذا فتكون فيه على أول سورة النحل:
أتى أمر الله فلا تستعجلوه
وتكون على آخر سورة ص:
ولتعلمن نبأه بعد حين
ونعود إلى قول الله تعالى وهو أصدق القائلين:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
وقول الحكماء: إن الباغي له مصرع، وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يقلبك، والسلام.»
وفي اليوم التالي حصلت بين الفريقين مناوشات قتل فيها بعض أمراء المسلمين، وفي المساء فر الأمير فخر الدين لغير داع فتتبعته بنو كنانة، وخرجوا من المدينة فتبعهم الأهلون في الليل على وجوههم لا يلتفتون إلى شيء، ولحقوا بالعسكر في أشمون فخلت المدينة للصليبيين فدخلوها بأمان في 22 صفر، واستولوا على جميع ما فيها من المؤن والزخائر والأسلحة وعدة الحرب، فخسر سلطان مصر بذلك خسارة لا تعوض. فاستشاط الملك الصالح غيظا، وجمع إليه بني كنانة وعنفهم؛ لانهزامهم على حين لم يكن داع للهزيمة، فقالوا: نحن لم نفعل ذلك إلا بعد أن رأينا الأمير فخر الدين فارا ومن ورائه رجاله، فأمر الملك الصالح بإعدام 54 من أمرائهم؛ لأنهم خرجوا من دمياط بغير إذنه.
وفي 24 صفر عسكر في المنصورة وحصنها إلا أنه لم يعش بعد ذلك كثيرا فتوفاه الله في 14 شعبان وسنه أربعون سنة، وكان رجلا مهيبا قليل التكلم يهابه من يجلس في مجلسه، وكان عنده عدد من المماليك لم يسبقه إليه أحد قبله، ولم يوص قبل موته بمن يأخذ السلطان بعده، ولم يكن له من البنين إلا غياث الدين طوران شاه، وكان قد تركه في سوريا.
Unknown page