Tarikh Misr Hadith
تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
Genres
أما السودانيون فاجتمعوا بعد هذا الانهزام، وتكاثروا حتى صاروا نحوا من 15 ألف مقاتل فاستولوا على الصعيد، وأرادوا النزول إلى القاهرة، ونزل بعضهم الإسكندرية، والبعض الآخر في الفسطاط. فهاج الذين في الفسطاط بدسيسة والدة المستنصر؛ فاستشاط ناصر الدولة غضبا، وعزم على قطع دابر السودانيين من القطر المصري، أو أن ينفصل الأمر؛ إما له، وإما عليه. فجمع رجاله وحارب السودانيين في الفسطاط فظهر عليهم، وأثخن في قتلهم وأسرهم.
ثم سار إلى الصعيد فحاربهم وشتتهم، ثم تحول إلى مصر السفلى فأخرجهم منها ومن الإسكندرية، وأقام فيها من يثق به. ثم عاد إلى القاهرة فنظفها من آثارهم، وقتل من وصلت إليه أخباره، ودخلت سنة 460ه والمستنصر يحاول إعادة نفوذه عبثا، فاستشار ذوي شوراه فلم يجده أحدهم نفعا؛ لأنهم هم أنفسهم لم يكونوا يرون فيه اللياقة لهذا المنصب، وكانت الصعيد لا تزال في حوزة السودانيين، ومصر السفلى لا تخضع إلا لناصر الدولة ولا سيما بعد استيلائه على الإسكندرية، وكانت الفسطاط والقاهرة أيضا تحت سيطرته، وأما أوامر المستنصر فكانت لا تكاد تجري على حاشيته، وقد استفحل الأتراك، واستهانوا بالخليفة، واستخفوا بقدره، وصار مقررهم في كل شهر أربعمائة ألف دينار بعد ما كان 28 ألفا. (5-6) حال المستنصر
تلك حال المستنصر في مصر، أما في الخارج فلم تكن أصلح؛ لأن بدر الجمالي - المتقدم ذكره - اغتنم الفرصة واستقل بالشام، والصالحي أمير اليمن كان قد بايع الفاطميين فقتله أحد قواده، ودخلت مكة واليمن في حوزة الخلفاء العباسيين، والفتن قائمة على الحدود بين أمراء الأقسام ومن يعتدي عليهم فيخرجونهم من أماكنهم ويحتلونها فيلجأ أولئك الأمراء إلى القاهرة.
وفي ختام الاضطرابات جاهر الروم بالحرب، وزاد الطين بلة أن المستنصر لسوء تصرفه أفسد العلائق بينه وبين الأمير محمود صاحب حلب، وقد تقدم أنه حصل على رضاه حتى لقبه بأشرف الألقاب. فلما طلب الروم الحرب كتب إليه المستنصر يستنجده بالنقود؛ لحرب الروم، وإخراج الأتراك من بلاده، فأجابه محمود: «أما النقود فلا وجود لها عندي؛ لأني اقترضت المال لاسترجاع حلب لسلطاني، وأصحاب المال يطالبونني. أما الروم فقد عقدت معهم صلحا فأقرضوني مالا لسد حاجتي، وأخذوا ابني رهنا عليها فلا أرى معاداتهم. أما الأتراك فإنهم أقوى مني فإذا أردت طردهم طردوني.» فاستشاط المستنصر غضبا لهذا الجواب، وكتب إلى بدر الجمالي صاحب الشام يعهد إليه الاقتصاص من أمير حلب العاصي فلم يصدق بدر الجمالي أن جاءه هذا الأمير فجند إلى حلب.
وخرج ناصر الدولة في أثناء ذلك من القاهرة لمحاربة السودانيين في الصعيد فلاقى منهم مقاومة لم يلاق مثلها فحاربهم مرارا، وقد غلبوه في كل مرة، فكتب إلى الخليفة يشتكي أمر السودانيين، ويلقي التبعة على والدته بأنها تهيجهم وتمدهم بالعدة والمال سرا على يده. فأجاب الخليفة أنه لا يعلم شيئا عن أمه، وإنما يتكلم عن نفسه، ويقسم أنه لم يدخل في هذا الأمر أولا ولا آخرا. فاشتد ناصر الدولة ورجاله، وضموا إليهم مددا، وعادوا فهاجموا مهاجمة اليأس ففازوا بهم، وأثخنوا فيهم، فمن نجا من القتل لم ير سبيلا للنجاة إلا في الفرار؛ فتبعثروا وتلاشت قوتهم من ذلك الحين.
فأصبح ناصر الدولة حملا ثقيلا على عاتق الخليفة، وأتم ذلك النصر أسباب ضعفه فغدا وقد ذهبت هيبته ونفوذه من عيون رجاله الأتراك فلم يعودوا يكترثون بأوامره ولا بشخصه، وأصبح صعلوكهم يقول عليهم بكل سوء، وتجمهروا يطلبون زياد مرتباتهم، فانزعج الخليفة لذلك، ولم يكن يأمن على حياته، ولا يرتاح في أكله ولا شربه ولا نومه، حتى ولا في صلاته، وأصاب الوزراء نحو ذلك فتنازلوا عن الوزارة. (5-7) منهوبات قصر الخليفة وخزانة الكتب
وكانت مطاليب الأتراك تحكما منهم؛ لأنهم نالوا الزيادة اللازمة فبلغت مرتباتهم الشهرية أربعمائة ألف دينار كما تقدم. فضلا عن قلة المال فبعثوا يطالبونه فاعتذر بعجزه فلم يعذروه، وقالوا: «بع ذخائرك.» فأخرج كل ما كان في القصر من الذخائر الثمينة التي اشتغل الفاطميون بجمعها منذ تأسيس دولتهم، وصاروا يقومون ما يخرج إليهم بأقل الأثمان، ويأخذون ذلك مما لهم، واقتسموها بينهم كما تراءى لهم لا فرق في كونه حقا أو تعديا، وكان الخليفة ووزير ماليته ينظرون إلى المزاد قائما على أمتعتهما بلا قياس، ولا يبديان حراكا.
وقد بالغ المؤرخون في تقدير تلك الأمتعة الثمينة، وقد ذكرها المقريزي، وهي: قبة العشاري، وقاربه، وكسوة رحله، وهو مما استعمله الوزير أحمد بن علي الجرجراي في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان فيه مائة ألف وسبعة وستون ألفا وسبعمائة درهم فضة نقرة، وإن المطلق لصناع الصاغة عن أجرة ذلك، وفي ثمن ذهب لطلائه خاصة ألفان وسبعمائة دينار، وعمل أبو سهل التستري لوالدة المستنصر عشاريا يعرف بالفضي، وحلى رواقه بفضة تقديرها مائة ألف وثلاثون ألف درهم، ولزم ذلك أجرة الصناعة ، ولطلاء بعضه ألفان وأربعمائة دينار، واستعمل كسوة برسمه بمال جليل، وأنفق على العشاريات التي برسم النزهة البحرية التي عدتها ستة وثلاثون عشاريا بالتقدير بجميع آلاتها، وكساها وحلاها من مناطق ورءوس منجوقات وأهلة وصفريات ... وغير ذلك أربعمائة ألف دينار.
ولما نهبوا القصر على ما تقدم كفوا عن مطالبته بزيادة المعاش بعد أن علموا أنه لا يملك شيئا، لكنهم دخلوا مدفن أجداده، وأخرجوا منها كل ما وجدوه بها من التحف، ثم عمدوا إلى خزانة الكتب فأخرجوا منها آلافا من الكتب، في جملتها 2400 ختمة قرآن في ربعاته بخطوط منسوبة محلاة بذهب، وذكر بعض الذين شاهدوا النهب سنة 461ه قال: فرأيت فيها خمسة وعشرين حملا موقرة كتبا محمولة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر المغربي فسألت عنها فعرفت أن الوزير أخذها من خزائن القصر، هو والخطير ابن الموفق في الدين بإيجاب وجبت لهما عما يستقحانه وغلمانهما من ديوان الجبليين، وإن حصة الوزير أبي الفرج منها قومت عليه من جاري مماليكه وغلمانه بخمسة آلاف دينار، وذكر لي من له خبرة بالكتب أنها تبلغ أكثر من مائة ألف دينار، ونهب جميعها من داره يوم انهزم ناصر الدولة بن حمدان من مصر من السنة المذكورة مع غيرها مما نهب من دور من سار معه من الوزير أبي الفرج وابن أبي كدينة وغيرهما، هذا سوى ما كان في خزائن دار العلم مع ما صار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترق بالإسكندرية، ثم انتقل بعد مقتله إلى المغرب، وسوى ما ظفرت به لواتة محمولا مع ما صار إليه بالابتياع والغصب في بحر النيل إلى الإسكندرية في سنة إحدى وستين وأربعمائة وما بعدها من الكتب الجليلة المقدار المعدومة المثل في سائر الأمصار صحة وحسن خط وتجليد وغرابة التي أخذ جلودها عبيدهم وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم، وأحرق ورقها تأولا منهم أنها خرجت من قصر السلطان، وأن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم. سوى ما غرق، وتلف، وحمل إلى سائر الأقطار، وبقي منها ما لم يحرق ، وسفت عليه الرياح فصار تلالا عرفت بتلال الكتب.
وفي سنة 461ه لم يكتف ناصر الدولة بما حط من نفوذ الخليفة السياسي فعمد إلى أن يحيط من نفوذه الديني، ويقيم من يخلفه، ولم يكن ذلك ممكنا إن لم يأت بحجة تجنح المستنصر فلبث يترقب الفرص فاتفق وهو خارج من بيت الوزير أن رجلا طعنه بخنجر فهم به ناصر الدولة وخنقه حالا لأن جرحه لم يكن بليغا، ورأى تلك فرصة لا يحسن ضياعها فادعى أن الخليفة المستنصر أغرى هذا الرجل على قتله وإن مثل هذا الخليفة الغارق في الملاهي والمسكرات لا يستحق الخلافة، وكان ناصر الدولة قد اتفق مع الشريف أبي طاهر، وكان بدر الجمالي قد طرده فأتى إلى القاهرة، وجمع إليه عصابة يشد بها أزره، وكان معروفا بالتقوى والتدين. فوعده ناصر الدولة أن يوليه الخلافة بعد المستنصر بشرط أن يقتل بدر الجمالي صاحب الشام قبلا، وكان هذا مستقلا هناك، وناصر الدولة يخاف قدومه إلى مصر. فانضم إلى الشريف أبي طاهر أميران من عرب سوريا، فأخذ من ناصر الدولة أربعين ألف دينار للنفقات، وسافر الثلاثة إلى الشام، والتف حولهم عدد وافر من الأحزاب، وكان بدر الجمالي ساهرا على حكومته فلم يلبث المؤامرون أن قابلوا حصون بدر الجمالي حتى قبض عليهم، وأخذت أمتعتهم، وقتل الشريف أبو طاهر سلخا. (5-8) ناصر الدولة
Unknown page