Tarikh Misr Hadith
تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
Genres
وقد استغرق بناء هذا الجامع سنتين فانتهى في رمضان سنة 263ه فأذن ابن طولون بالصلاة فيه، ولكن الفقهاء لم يكونوا يدخلونه؛ لئلا يكون مبنيا بمال لم يكتسب بالحق والعدل، فأقسم لهم أنه لم ينفق عليه درهما من الدراهم التي وجدها اتفاقا فصدقوه، فاحتفل بتدشينه في يوم الجمعة التالي، وصار يرد إليه الجماهير من المسلمين، وتذكارا لذلك الاحتفال نقشوا على ألواح كبيرة من الرخام الأبيض بعض الآيات من القرآن الكريم، وقال المقريزي: إنهم كانوا يحرقون أقراص الند في أثناء الصلاة فيعبق الجامع بدخانه والمؤمنون في الصلاة.
وكان القاضي بكار بن قتيبة الإمام الأول، وربيع بن سليمان الخطيب الأول لهذا الجامع، وفي ذلك الحين أنشأ محمد بن ربيع مدرسة في إحدى غرف الجامع، وكان ابن طولون وأولاده وجميع حاشيته لا يتركون الجامع إلا بعد أن يتم محمد تدريسه، وكانت دروس هذه المدرسة محصورة في الحديث، وممن كان يحضر عليه أبناء أحمد بن طولون، وكانوا يواظبون على الحضور والانصراف كسائر التلاميذ كل ذلك بأمر والدهم، وفي مساء يوم التدشين عاد ابن طولون إلى دار الإمارة كسائر التلاميذ كل ذلك بأمر والدهم، وفي مساء يوم التدشين عاد ابن طولون إلى دار الإمارة؛ لإعادة الوضوء، وتغيير الثياب، فمكث مدة طويلة في الجامع يصلي لله ويشكره على ما أولاه من النعم بنجاح أعماله، ووهب الجامع عشرة آلاف دينار، وخصص له رواتب تدفع من ماله ما بقي حيا.
وبنى ابن طولون بجوار الجامع خارج صحنه حوضا، وفسقية للوضوء، ثم بنى صيدلية يحضر فيها بأمره كل يوم جمعة طبيب يعالج الفقراء مجانا، ولا سيما الذين يأتون للصلاة، وحسبت نفقات البناء فبلغت مائة وعشرين ألف دينار غير الأوقاف، ويقال: إن أحمد بن طولون وجد ما عدا الكنزين المتقدم ذكرهما كنزا ثالثا من الذهب النقي، ويقال: إن هذا الذي جعله يضرب الدينار الأحمدي الذي اشتهر بنقاوته، والمفضل على سائر أنواع الذهب القديم للتذهيب به.
وفي أثناء بناء الجامع توفي أماجور الذي كان حاكما في سورية فخلفه ابنه علي، فاغتنم أحمد بن طولون تلك الفرصة؛ ليضم سوريا إلى مصر والموفق مشغول عنه بمحاربة الزنج، فأظهر أنه عازم على محاربة الروم جهادا في سبيل الدين، وجمع جيشا جرارا فيه كثيرون من المتطوعين، فكتب إلى ابن أماجور يستنصره في تلك الحروب، وأن يبايعه على سوريا؛ لأن الخليفة أقطعه إياها فأطاعه. (1-6) عصيان العباس
وفي غرة سنة 265ه برح أحمد بن طولون مصر مستخلفا ابنه العباس وسنه إذ ذاك 23 سنة، وعهد بتدبير الأحكام إلى وزيره أحمد الواسطي، ولما احتشدت جيوش ابن طولون في فلسطين أتاه محمد حاكم الرملة خاضعا فأقره في منصبه، ولما بلغ دمشق رحب به علي بن أماجور وأمر بأن يخطب باسمه فأقره في منصبه أيضا، وهكذا فعل في حمص وعليها عيسى فأقره عليها، ثم استولى على حلب وحماه وكانتا من أعمال أنطاكية، وحاكمها يدعى سيما الطويل فكتب إليه أحمد بن طولون يطلب مبايعته فوعده ولكنه لم يف، فأعاد الطلب فوعد أيضا، ولما تكرر منه الوعد والإخلاف تقدم أحمد بجيشه إلى إسكندرونة، ثم هاجم أنطاكية من جهة باب البحر فلم يقدر عليه؛ لأنه كان منيعا فهاجمها ثانية وثالثة بلا فائدة، وما زال حتى كاد يتولاه اليأس، فأتاه بعض أهالي المدينة ينبئونه بباب آخر في الجهة المقابلة يدعى باب الفرس لجهة الجبال، وقالوا: إنه سهل المأخذ، فسار أحمد بجيشه، وهاجم المدينة من ذلك الباب، وما طلع الفجر إلا والمتاريس في يده، وأما سيما فدافع دفاعا حسنا حتى قتل، وجيء برأسه إلى أحمد بن طولون فشق عليه قتله؛ لأنه كان صديقا له، وأما المدينة فذهبت فريسة الفتك والنهب حتى نودي بالطاعة فسكنت الغوغاء، ووضع أحمد يده على باياس وأطنة وطرسوس، وبينما هو يهم بالتقدم في فتوحه إلى ما وراء ذلك جاءه من مصر أن ابنه العباس الذي استخلفه عليها قد شق عصا الطاعة، ومد يده إلى الخزائن والأحكام، واستبد فيهما فلم يرد أحمد الرجوع إلى مصر قبل إتمام عمله في سوريا؛ فسار إلى محاربة محمد بن أتامش صاحب الرقة، ثم أخيه موسى فأسره، ولم يرجع إلى مصر إلا في نهاية سنة 265ه بعد أن فتح الشام، وبعض آسيا الصغرى، واستخلف في الرقة غلامه لؤلؤا.
أما العباس فبعد أن نبذ طاعة والده انقيادا لذوي الأغراض شعر بخطئه، وخاف سوء العقبى؛ فجمع إليه الخزينة، وفيها مليونان من الدنانير، واستدان فوقها 300 ألف دينار، وفر بمن معه إلى الجيزة على ضفة النيل الغربية، وساق معه أحمد الوساطي وزير والده مغلولا، ولكنه خشي أن لا يكون مكانه هناك أمينا فعهد بحكومته فيه إلى أخيه ربيع مظهرا السفر إلى الإسكندرية، وسافر إلى برقة .
فلما وصل أحمد بن طولون إلى الفسطاط ونزل العسكر ورأى من أمر ابنه ما رأى أحب استقدامه بالحسنى، فكتب إليه كتبا كلها نصح واستعطاف، وأرسلها مع بكار بن قتيبة فعاد بلا نتيجة، وكان ذلك بدسيسة من التف حوله، وهم الذين أغروه على كل ما فعل، وقد أصبحوا يخافون غضب ذلك الأمير الخطير؛ فأوعزوا إلى العباس أن يمعن في إفريقية. ففي سنة 267ه جمع إليه رجال دعوته وسار في داخلية البلاد ساعيا جهده في اجتذاب مشايخ القبائل إليه فلم يفز إلا مع القليل منهم، فكتب إلى إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان أن يبايعه على إفريقية مدعيا أن الخليفة قلده إياها، وكان سعيه مع هذا باطلا أيضا. ثم هاجم حصن لبدة ففتحت له أبوابها فدخلها، وأمعن أتباعه في النهب والقتل فاستاء الأهالي فكتبوا إلى إلياس بن منصور النفوسي رئيس الإباضية فوعدهم بالمساعدة.
وفي أثناء ذلك سار إبراهيم صاحب القيروان بجيش إلى طرابلس الغرب؛ لقتال العباس فقاتله في الليل، وكان العباس مشهورا بالشجاعة والحماسة، وكان شاعرا ينشد الأشعار الحماسية في أثناء القتال، ومما أنشده قوله:
لله دري إذا أعدو على فرسي
إلى الهياج ونار الحرب تستعر
Unknown page