وقد ذكر «أرسطو»، رجل دائرة المعارف التاريخية القديمة، حدود النظم الفلسفية، وكان «أرسطو» هو منشئ علوم المنطق والأخلاق والذوق والجمال.
الفلسفة هي معرفة أسرار الكون العام وإدراك نواميس التغيير المستمر فيه، وفهم أصل نشأته ونهاية مصيره، أو قل هي معرفة الظواهر الطبيعية المختلفة وأسباب نشأتها، وتحولها من كون إلى فساد ومن فساد إلى كون، والوقوف على ما وراء تلك الظواهر من الأزل إلى الأبد، وشرط هذه المعرفة إنما هو التحرير الفكري من التقاليد القديمة، والاقتداء بالعادات الموروثة والاعتماد على قوانين الديانات القائمة، بحيث يكون هذا المجهود الفلسفي الحكيم راجعا للعقل البشري الحر الطليق، كما أدركه سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وكانت وإسبنسر.
على أن الفلسفة قد تدرجت في معان وإطلاقات كثيرة في حدود التعريف المتقدم، وكان هذا التدرج في معانيها وإطلاقاتها المختلفة تابعا للتدرج في الموضوعات الرئيسية التي اشتغلت بها، ولانتقالها بعنايتها الكبرى من موضوع إلى موضوع إلى أن وصلت أخيرا، وبعد استقلال العلوم عنها، إلى دائرة بعينها من التفكير، هي دائرة التفكير فيما أنتجته العلوم الطبيعة حسب مهمة كل واحد منها في حدود موضوعه وبطريقته الخاصة به في البحث، بأن تأخذ الفلسفة تلك المجهودات العلمية العامة، وتجمعها وتؤلف منها - مجتمعة - معرفة عامة، تبحث بها في حدود ما وراء الطبيعة بحثا يصور للعقل فهم اللانهائية والديمومة من الأزل وما فيه إلى الأبد وما سيصير إليه، وما بينهما من تعاقب في عالم الحدوث، وتغيير مستمر في ظواهره بحكم الكون والفساد أو الوجود والعدم، وفي تلك الدائرة الخاصة والنقطة العويصة، وبتلك الطريقة المذكورة تبحث الفلسفة بحثها الفني الاصطلاحي، تاركة الحكمة الأدبية الاجتماعية تأخذ طريقها محدودة في الأدب العام، وفي فنها العلمي المعروف بعلم الأخلاق، بعد أن كانت في هذا الفن فرعا من فروع الفلسفة «أو الحكمة الفنية الاصطلاحية». وباستقلال العلوم عنها استقل أيضا علم الأخلاق أو الحكمة الاجتماعية بما فيها من مأثور الآداب.
نشأت الفلسفة في اليونان في القرن السابع قبل الميلاد، ولئن كانت الأمم الشرقية القديمة قد أنتجت مجهودا حكيما فنيا يذكر في تاريخ الفلسفة، إلا أن هذا المجهود قد ارتبط عند مجموع هاتيك الأمم بالدين ولم ينفصل عن دائرته وحدوده. واليونان، وإن كانوا قد اتصوا بهذا المجهود الفلسفي القديم ووقفوا عليه، وعلى الأخص ما هو مأثور من ذلك عن قدماء المصريين، غير أنهم ما بنوا تفكيرهم الفلسفي على هذا المجهود الأول المكتنف بسياج الدين، بل أهملوا هذا السياج إهمالا تاما، ومنحوا العقل البشري حريته الكاملة، وابتدءوا يفكرون تفكيرهم الفلسفي بفكر حر طليق من أي تقليد أو عادة أو أي تأثير للدين، ومن أجل هذا كانت الفلسفة بنت الفكر اليوناني الحر، وهديته التي لا تقوم مطلقا إلى الإنسانية. غير أن وميض الفلسفة قد ظهر عند «لأوتسه» الفيلسوف الصيني الكبير، وكان هذا الوميض عند لأوتسه المذكور أظهر وأوضح من وميضها، بل إنها ابتدأت به عند «تاليس» الملطي اليوناني المعروف بأبي الفلسفة الأول.
صارت الحكمة الهندية بعد اجتياز الدور الأرسطوري الذي نشأت عنه، وبعد وصولها إلى دور مذاهب البراهمة الفلسفية التصوفية، حكمة دينية لا تقل عن مثيلتها ، الحكمة الفلسفية الدينية التي ابتدأت عند اليونان قبيل المسيح، واستمرت نحو ثمانية عشر قرنا إلى عهد الفلسفة الحديثة.
وعن الفلسفة الدينية الهندية تفرعت عدة مدارس ومذاهب فلسفية أخرى أساسها الفكر الحر والعقل الطليق، المذهب المادي الجاحد الذي كان من أثر العقل الحر والفكر الطليق، على أن حرية الفكر الباحث عند الهنود - وهي سهلة في دوائر الجحود - لم تقف عند هذا الحد، بل انتقلت إلى ما هو في دوائر الإيمان الديني، واستبعدت منه النظر فيما وراء الطبيعة، وكونت لها نظاما اجتماعيا أو دينا حرا يعتمد على الفضيلة لا على وحي أو رغبة له مثل الدين البوذي.
لهذا كانت الفلسفة اليونانية مشتركة مع الحكمة الهندية مع مذهب لأوتسه الصيني في التفكير الطليق.
والفلسفة اليونانية - إلى هذا - تنفرد عن الفلسفة الهندية في أنها، وهي تتفهم في الوجود في ظواهره وأسراره، تعمد إلى وضع القواعد الثابتة والنظريات المبرهنة والأحكام المسلمة كأساس راسخ للبحث الكلي في المسائل العامة والنتائج الشاملة، فتكونت بهذه الطريقة الفلسفة الحرة اليونانية ومعها مبادئ علمية ما كانت معروفة من قبل، بل وضعها العقل اليوناني وضعا، ولقد نمت هذه المبادئ العلمية شيئا فشيئا حتى صارت علوما مدونة ومبوبة، لكل واحد منها اسمه الخاص به، واستقلاله المنفرد به في موضوعه ومسائله وطريقة البحث فيه، وللمعلم الأول يرجع الفضل الكبير في ذلك، هذا ولا جدال في أن الفلسفة اليونانية - وهي ينبوع فياض قد اتصلت به كل الأمم المفكرة واغترفت منه - كانت الحلقة الأولى في التاريخ الفلسفي، التي نشأت عنها كل علاقاته المحكمة الاتصال.
ثم إن جميع العلوم الإنسانية على اتساعها الآن يرجع، في أصل نشأتها، إلى البذور العلمية الفلسفية الأولى التي نشأت في حجر الفلسفة اليونانية، هذا وما يزال الذوق الأدبي الحاكم في الناس حتى الآن، يستمد روحه الأقوى من الذوق الأدبي اليوناني الذي انبعثت عنه الفلسفة اليونانية. (1) فلسفة سقراط
عند الفلاسفة المتأخرين أمثال تسلر وبترو أن سقراط يعد المؤسس الحقيقي لعلم الأخلاق، الذي مهد له من سبقه من الشعراء والحكماء والفلاسفة بعبارات قوية وتعبيرات دقيقة استمدوها من تجاريبهم في الحياة، وفي سبيل الرد على اعتراضات السفسطائيين وإعداد العقائد والتقاليد، اضطر سقراط إلى تكوين علم غايته إرضاء مطالب العقل والعقائد القديمة وموضوع هذا العلم «تحديد الماهيات»، أو قل إنه تكوين آراء عامة تحصل من الاستقراء وذلك بانتقاله من الجزئيات إلى الطبائع العامة أو الماهيات الكلية التي يعدها سقراط موضوع العلم، والمعاني العملية والمسائل الإنسانية فكان في أفعاله وفي حياته الأخلاقية هو موضوع تفكيره، يقول إكسانوفون: إن سقراط كان يرمي إلى تحديد ماهية جميع الموجودات. لقد عرف سقراط العدالة بأنها قوانين ثابتة، والتقوى بأنها تقديم ما للآلهة من الاحترام إليها، غير أن هذا التعريف لا يحمل طابعا علميا. لقد كانت المحاورات المعروفة بالسقراطية هي التي تؤرخ شباب أفلاطون، وتمتاز بخلوها من أي أثر لنظرية المثل، فهي تبين أن الفيلسوف يناقش في دقة بعض التعاريف، ولكنه لا يخرج منها بنتيجة مطلقا، فإن لاشيز يفرض بعض التعاريف عن الشجاعة، ولكنه يرفضها كلها. وهذا ما نراه كذلك في هيبياس الأصغر في بعض التعاريف الخاصة بالجمال.
Unknown page