* تضاريس مكة
تقع مكة على 21 درجة ونصف درجة تقريبا عرضا شماليا وعلى نحو 40 درجة طولا وترتفع عن سطح البحر بنحو 280 مترا.
وتقع في واد تحيط به الجبال وتنحدر سيولها فيه (1)، وإذا عصفت الرياح في مرتفعات الجبال اندفعت الى بطن الوادي فيما يشبه الدوامات وتعذر تعيين ملتقى الرياح إلا في بعض الحالات.
وجوها حار جاف تختلف حرارته بين 18 درجة في شهور الشتاء و30 درجة في شهور الصيف ، وقد ترتفع الحرارة في بعض السنوات الى ما يزيد على 40 درجة.
* أسماء مكة
وقد سماها القرآن مكة كما سماها بكة وأم القرى والبلد الأمين (2).
ويذكر بعض علماء الإسلام أنها سميت مكة لقلة مائها ، وهم يقولون أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتصه ، ويقول بعضهم سميت مكة لأنها تمك الذنوب أي تذهب بها أو لأنها تمك الفاجر أي تخرجه منها ، كما قيل أنها سميت بكة لأن الناس فيها يبك بعضهم بعضا أي يدفع.
Page 21
ونقل عن بطليموس (1) أن اسمها (مكوربا) وهو مشتق من الاسم السبئى مكوارابا ومعناه مقدس أو حرم.
* قدم مكة
وقد عرفت مكة من أحقاب طويلة ممعنة في القدم قبل عهد ابراهيم فقد كانت الكعبة مثابة للناس قبل بناء ابراهيم كما تروي ذلك مصادر اسلامية كثيرة.
ولا نشك أنها كجزء من بلاد العرب استقبلت هجرات سابقة تعدد فيها أنواع المهاجرين من أجناس البشر تعددا لا نستطيع تعيينه لأن المصادر التي توسعت في ذلك لا يمكن التسليم بما كتبت تسليما قاطعا لأن اكثر كتابها عاشوا في العصر الإسلامي الأول متأخرين عن ذلك العهد بأحقاب طويلة المدى ولم يكن لديهم من المصادر إلا المنقول عن تشويش واضطراب.
Page 22
* خصب مكة وجفافها
أما التاريخ الذي أنتجته دراسة الآثار وأسفرت عنه كتابات الجيولجيين فقد أطال في بخوثه لا عن مكة وحدها بل عن جزيرة العرب قاطبة وكان مما ذكره أن صحاريها القفراء كانت في عهد من عهود التاريخ المجهولة مروجا خضراء آهلة بالسكان لأن غيوم الرياح الغربية الشمالية كانت تصل إلى الجزيرة قبل أن تفقد رطوبتها فتنهال الأمطار على قممها العالية وتجري في وديانها أنهارا ، فتروي أراضيها وتسقي مروجها ، ولعل في عمق الوديان التي نشاهدها اليوم ما يشير الى شيء من حقيقة هذا الرأي ويذكر تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام عن الفاكهي بسند رفعه الفاكهي الى ابن اسحاق ان الحجاز كانت أسحر أرض الله وأكثرها ماء.
ويعلل الجيولجيون الحدب الذي طرأ فيقولون أن عوامل الجفاف الطبيعي ما لبثت أن حالت بالتدرج على مر الاحقاب دون وصول الغيوم المرطبة فحرمت الجزيرة من أنهار جارية.
ولا أستبعد هذا لأن المشاهد أن سورة الجفاف في عهودنا الحاضرة اشتدت وطأتها عن عهود سلفت فاختفت واحات كثيرة كانت معروفة في العهد الجاهلي وصدر الإسلام كما اختفى كثير من المناطق الخصبة التي كان يزرعها اليهود في المدينة وثقيف في الطائف وقريش حول مكة ونضب كثير من العيون والآبار وقل شأن السيول التي كان يفيض بها عقيق المدينة والطائف ووادي ابراهيم في مكة (1).
Page 23
والمعمرون في مكة وكثير من مدن الجزيرة يعلمون أن منسوب المياه ومساحة المناطق الخصبة كانت الى قرن سابق أحسن منها اليوم وأن بساتين مكة في أطرافها وضواحيها كانت منتشرة الى مسافات بعيدة مما لم يبق له أثر نتيجة اطراد الجفاف ، ويرى بعض الجيولجيين أن الجفاف سيطرد أمره في الجزيرة على مر العصور وأن نسلنا سيعاني منه أكثر مما نعاني إلا في المناطق الجنوبية لقريبة من المحيط الهندي.
* نشأة مكة
وسواء صح نقل المؤرخين الاسلاميين في شأن من هبط مكة قبل عهد ابراهيم أو لم يصح وسواء ثبت استنتاج الجيولجيين عن خصوبة هذه الأرض في عهود مجهولة من التاريخ أو لم يثبت فان مما لا مجال للشك فيه أنه يصح اعتماد هجرة اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام إلى مكة مبدأ واضحا لتاريخ مكة ولسنا نعني أن جميع التفاصيل التي ذكر المؤرخون أنها لازمت هذه الهجرة أو أعقبتها كانت من الوضوح والصحة بحيث لا يتسرب الينا شك فيها ولكنها
كانت منقولة وحسب كما أن بعضها أشار إليه الحديث الشريف واستكملت البعض الآخر روايات أهل الكتاب وقد بذل المؤرخون الذين جاءوا متأخرين في تصفية ما انتهى اليهم فكان بعضهم دقيقا ما أمكنته الدقة كما أن بعضهم لم يتحرج في ايراد ما صادفه من حشو ولغو.
وإذن فسنبدأ كتابنا من عهد اسماعيل محاولين أن نقتصر على النتائج التي ترتبت عليها نشأة مكة لنربط الماضي بالحاضر تاركين الروايات المطولة التي لابست هجرة اسماعيل لمن أراد أن يستقصيها في كتب التاريخ الإسلامي.
Page 24
* في عهد اسماعيل
قدم اسماعيل مكة أول ما قدمها طفلا في صحبة أمه وأبيه ومكة إذ ذاك فلاة ينبت فيها السلم والسمر (1) وقد قيل أن العماليق سكنوها قبل قدومه (2) وأن اسماعيل لم يصلها حتى كانت جرهم قد حلت محل العماليق في ظروف لم تثبت كيفيتها في التاريخ وبذلك سكنت جرهم وادي مكة أو على مسافة قصيرة منها.
وتتعدد روايات مؤرخي الإسلام في تفسير الظروف التي لابست هجرة اسماعيل الى مكة ونزوله فيها مع أمه وأبيه وهي فلاة لا تنبع فيها قطرة ماء ولكنهم يتفقون على أن ابراهيم عليه السلام ما كاد يودع اسماعيل هذه القفار حتى توجه يدعو الله ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) كما يتفقون على أن اسماعيل عليه السلام ما كاد يرهقه العطش حتى ظهر لأمه نبع زمزم فشربت وأروته (3).
وتسامعت جرهم بخبر البئر في رواية من يقول أن جرهم كانت تسكن على مسافة قصيرة من مكة فاستأذنت لتنقل بيوتها حول البئر واحتضنت اسماعيل فنشأ بينها وتعلم منها العربية وتزوج من فتياتها فأنجبت نسلا أطلق عليه المؤرخون اسم العرب المستعربة.
وجاء إبراهيم عليه السلام ليتفقد ابنه ويبلغه أن الله يأمر ببناء البيت الحرام ويتفقا على رفع قواعده حيث بدت لهم علامات خاصة في القطعة
Page 25
المختارة للبناء على خطوات من بئر زمزم (1) ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ).
ولما ارتفع البناء وشق على الشيخ تناوله قرب اسماعيل عليه السلام حجرا يقوم عليه أبوه ليبلغ به المدى الذي يمكن أن يبلغه فوق الحجر فسمي الحجر مقام ابراهيم لقيامه عليه أو سمي المكان بذلك حيث ترك الحجر والحجر باق الى اليوم على حافة المطاف في المكان الذي تركه فيه ابراهيم في بعض الروايات أو على غير بعيد من المكان الذي تركه فيه في روايات أخرى ، ومن أجل هذا اختلف المفسرون في تفسير كلمة (مقام ابراهيم) فيطلقها بعضهم على الحجر نفسه كما يطلقها بعضهم على المكان الذي وضع فيه الحجر كما يطلقها بعضهم على المسجد أو جميع الحرم إلى حدود الحل.
وهكذا أنشأ اسماعيل مكة ورفع أبوه بمعونته قواعد البيت.
صورة الكعبة كما بناها ابراهيم عليه السلام وهى كما تبدو قليلة الارتفاع واسعة العرض مدورة جهة حجر اسماعيل ويظهر الفرق فى هندستها اذا قورنت بشكل بنائها فيما بعد كما سيأتينا.
والرسم من تصميم الشيخ طاهر الكردى الخطاط بمكة
** جرهم وقطورا :
ولما توفي اسماعيل تولى الأمر أبناؤه حتى انتهى الى حفيده مضاض ابن عمرو الجرهمي (2)، وكان الجرهميون قد انقسموا الى قسمين :
Page 26
جرهم وقطورا ، وقد سكن مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة وقعيقعان كما سكنت قطورا وعلى رأسها السميذع أجيادا وأسفل مكة فما حاز ذلك ، وكان مضاض يعشر من دخل مكة من أعلاها وكان السميدع يعشر من دخل من أسفلها ، وكل من البطنين على جباله لا يدخل واحد منهما على صاحبه (1).
ومن هذا يبدو لنا أن مكة عندما انقضى على تأسيسها العهد الذي عاش فيه اسماعيل الى أن ولى الأمر حفيداه مضاض في جرهم والسميذع (2) في قطورا وهو ما يقدره المؤرخون بنحو قرنين من الزمان كان السكن في مكة قد امتد بجرهم من بطن الوادي بجوار زمزم آخذا سمته الى قعيقعان في الشمال ونسميه أو بعضه اليوم (جبل الهندي) والى الشمال الشرقي بما يحاذي القشاشية والمسعى متوجها الى أعلى مكة ، كما تغلغل أبناء عمومتهم من قطورا في شعب أجياد إلى ما يتصل بالسد من ناحية وفي شارع المالية الى المصافي من ناحية أخرى ، ثم انحدرت منازلهم بانحدار الوادي من أجيادين في ما نسميه المسيال حتى اتصلت بأطراف المسفلة كما يبدو أن الأحياء الأخرى من مكة لم يتصل بها العمران إلا في قرون متأخرة ولعلها كانت كذلك لوعورة الأرض فيها قبل ان تمهدها الحاجة للسكنى.
ولسنا نشك في أن مضارب السكان كانت من الشعر ، وكانت تتلاصق مرة وتتباعد مرات في حواشي الوادي ، وبين ثنيات الجبال في صور لا تختلف كثيرا
Page 27
عما نشاهده في مضارب البدو بين ظهرانينا اليوم.
** الخلاف بين جرهم وقطورا :
وما لبثت أن اختلفت جرهم مع قطورا ، فخرج مضاض بن عمرو من قعيقعان في كتيبة سائرا الى السميذع
والسيوف والجعاب تقعقع معه ، ولذلك سمى جبلهم قعيقعان ، وخرج السميذع بقطورا ومعه الرجال والجياد ، ولذلك سميت منطقتهم أجيادا حتى التقوا بفاضح (1) فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل السميذع ، وتراجعت قطورا ثم تداعوا للصلح.
** ولاية مضاض :
ثم صاروا حتى نزلوا المطابخ (2) حيث اصطلحوا فيه وأسلموا الأمر الى مضاض بن عمرو الجرهمي ، وبذلك استقام له الأمر في مكة (3).
** خزاعة :
وظل الأمر على ذلك حتى استخفت جرهم بأمر البيت فسلط الله عليهم قبيلا من اليمن من أولاد قحطان فأزاحهم في أواخر القرن الثالث أو أوائل القرن الرابع الميلادي ، وذلك أن عمرو بن ماء السماء وينتهي نسبه الى امرىء القيس ثم يعرب بن قحطان وكانت منازله في جنوب الجزيرة ارتحل وقومه من منازلهم فرارا من حوادث سيل العرم ثم سار من بلد الى بلد لا يطأ بلدا إلا غلب عليه أهله وقهرهم ، ثم يرتحل وقومه ليبحثوا عن أفضل منه حتى وصلوا مكة ، وعليها مضاض فأبت جرهم أن تنزلهم طوعا وتعبأت لقتالهم فاقتتلوا ثلاثة أيام ، ثم انهزمت جرهم فلم ينج منهم إلا الشريد ، وبذلك تم الفتح للقحطانيين واستقام الأمر لهم في مكة (4).
Page 28
ولا يتناسب المناخ وطبيعة الجو في مكة مع ما ألفه القحطانيون ، وقد عاشوا في جنوب الجزيرة حيث الخصوبة ووفرة المياه وسهولة الأرض ، فارتحلت أكثر بطون القبيلة ترتاد البلاد التي تتناسب وما ألفت ، وانخزعت بمكة بطن من القحطانيين أي انقسمت وتلك هي خزاعة وبذلك ورثت خزاعة الحكم في مكة ، وقام سيدها ربيعة بن حارثة بالأمر فيها.
وكان بعض بني اسماعيل قد اعتزلوا في فترة الحرب وقبلها أخوالهم من جرهم غير راضين عن أعمالهم في مكة كما أنهم لم يسايروا المغيرين من قحطان أو يناوئوهم بل ظلوا في حيادهم منعزلين حتى إذا استتب الأمر لخزاعة سألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم.
ولما انتهى أمر مكة الى عمر بن لحي سيد خزاعة تمنى عليه رئيس حكومة مكة السابق مضاض الجرهمي (1) أن يأذن له في السكنى بمكة فأبى عليه ذلك ونادى في قومه من وجد منكم جرهميا قد قارب الحرم فدمه هدر (2).
ونزعت ابل لمضاض تريد مكة بعد جلائه عنها فخرج في طلبها حتى وجد آثارها قد دخلت مكة فمضى الى الجبال من ناحية أجياد حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الابل في بطن الوادي فأبصر الابل تنحر وتؤكل ولا سبيل اليها فخاف ان هبط الى الوادي أن يقتل ، فولى منصرفا الى أهله ، وأنشد يقول :
كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
Page 29
في قصيدة أوردها كثير من المؤرخين ولا أجدني جريئا كل الجرأة في الأخذ بصحة نسبتها الى مضاض إلا إذا صح لدي ما يثبت أن لغة الجرهميين كانت في مثل هذه الألفاظ السلسة ، ومثل هذه المعاني الواضحة (1). وظلت خزاعة على أمرها في مكة يحكمها كبيرها عمرو بن لحي الذي بلغ بمكة من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله حتى قالوا ان الرجل منهم كان إذا ملك ألف ناقة فقأ عين فحلها وقد ففأ عمرو بن لحي عين عشرين فحلا (2):
وكان عمرو أول من أطعم الحاج بمكة سدايف الابل ولحمانها على الثريد وعم في تلك السنة جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من برد اليمن ، وكان قوله فيهم دينا متبعا لا يخالف وهو الذي وصل الوصيلة وحمى الحام وسيب السائبة ونصب الأصنام حول الكعبة وجاء بهبل من الجزيرة فنصبه في بطن الكعبة ، فكانت العرب تقتسم بالأزلام وهو أول من غير دين ابراهيم عليه السلام فقد كان كثير الأسفار وربما تأثر بالفينقيين أو الأشوريين أو المصريين وهم جيران الجزيرة العربية فنقل وثنيتهم الى مكة وقد يقال أن العرب
Page 30
تأثرت بجيرانها في عبادة الأوثان قبل عمرو بن لحي ، وكلها أقوال يصح فيها الاجتهاد والحدس (1).
وولى البيت عمرو بن لحي وولده مدة حكمهم لم يخربوا في البيت شيئا ولم يبنوا فيه حتى آل أمره الى قصي بن كلاب في القرن الخامس الميلادي.
* في عهد قريش
** قصي بن كلاب :
لبثت خزاعة على ما هي عليه وظل أولاد اسماعيل بعد جلائهم من مكة متفرقين بين اليمن واليمامة والبحرين وأطراف الحجاز ، وقيل أن بعض قبائلهم وصلت الى العراق والشام ، ويختلف المؤرخون في عدد القبائل التي تفرعت من أولاد اسماعيل ولكنهم يكادون أن يتفقوا على أن أبرزهم عدنان وتفرع من أولاد عدنان ربيعة ومضر واياد وانمار (2) فكان قصي من أولاد مضر ، وقد عاش قصي بعيدا عن موطن أجداده في أرض قضاعة لا ينتمي الا إلى زوج أمه ربيعة بن حرام من قضاعة.
وحدثت بين قصي ورجل من قضاعة شيء فقال له القضاعي ألا تلحق بنسبك وقومك فانك لست منا ، فرجع قصي إلى أمه وفي نفسه مما قال القضاعي شيء فسألها عما قاله فقالت والله يا بني أنت خير منه وأكرم .. أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة من أولاد مضر وقومك أصحاب البيت الحرام وما حوله فأجمع قصي على
Page 31
الخروج الى قومه واللحاق بهم وكره الاقامة في أرض قضاعة فخرج مع الحاج حتى جاء مكة وأمر مكة يومئذ الى حليل بن حبشية الخزاعي ، وفي يده مفتاح الكعبة فخطب اليه ابنته فلما عرف نسبه رغب فيه وزوجه فأقام معها حتى ولدت له وكان حليل إذا اعتل أعطى المفتاح ابنته لتفتح البيت فإذا اعتلت أعطت المفتاح زوجها قصيا أو بعض أولادها منه ولما حضرت حليلا الوفاة دعا قصيا فجعل له ولاية البيت وأسلم له المفتاح فلما هلك حليل أبت خزاعة أن تدعه وذاك وأخذوا منه المفتاح فمشى قصي الى قومه من بني كنانة فأجابوه إلى نصرته وأرسل الى أخ له من أمه في قضاعة فمشى اليه في جمع من قضاعة يبغون نصرته فلما اجتمع الناس بمكة خرجوا إلى الحج فلما كان آخر أيام منى أرسلت قضاعة الى خزاعة يسألونهم ان يسلموا الى قصي ما جعل له حليل وعظموا عليهم القتال فأبت خزاعة فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى فسمي ذلك المكان المفجر لما فجر فيه وسفك من الدماء (1) ثم تداعوا إلى الصلح بعد قتال شديد واحتكموا الى يعمر بن عوف وهو رجل من كنانة فحكم لقصي بحجابة الكعبة وولاية مكة دون خزاعة تنفيذا لوصية حليل وألا تخرج خزاعة عن مساكنها من مكة فسلمت خزاعة لقصي بذلك (2) فولي الأمر وجمع قومه فأنزلهم مكة يستعز بهم وكان ذلك في منتصف القرن الخامس الميلادي تقريبا وظلت خزاعة في رباعها لم يحركوا شيئا وبذلك كان قصي أول رجل من كنانة أصاب ملكا وقد نظم ادارته كما سيأتينا.
Page 32
أولاد قصي :
وتوفي قصي فانتقل الأمر الى ابنه عبد الدار ولم ينافسه في ذلك أخوه عبد مناف ولكن أبناء عبد مناف أبوا على أبناء عمهم عبد الدار انفرادهم بمصالح قريش بعد وفاة الأبوين ، وكاد أن ينشب القتال لولا أن أسرع الوسطاء بينهم بالصلح وقد أرضى الصلح الفريقين بتقسيم مصالح قريش بينهم بالقرعة (1).
وبذلك كانت الرياسة في بني عبد مناف فوليها هاشم ثم نافسه أخوه أمية فكانت منافرات طال شأنها وغلب في نهايتها أمية على أمره فكانت أول منافرة بين الأمويين والهاشميين.
وانتهت الرياسة في قريش بعد هاشم إلى ابنه عبد المطلب فتفاقم الخلاف بينه وبين بني عمومته بني أمية ولكن كان حظ عبد المطلب كحظ أبيه «هاشم» فظفر من الشرف والرياسة والجاه في قريش بما لم يظفر به بنو عمومته (2).
** نثل زمزم :
ومن أهم أعمال عبد المطلب كشفه عن بئر زمزم وكانت قد خفيت معالمها ومحيت آثارها بتقادم السنين وقد قيل انه رأى في منامه من دله على مكانها فصحت عزيمته على نثلها وحفر أعماقها فلم تمكنه قريش من ذلك لقداسة الصنم الذي يقوم مكانها فأسرها في نفسه حتى تقادم العهد على الفكرة
Page 33
واستوى له من صلبه عشرة أولاد فمضى في عزمه مستندا على سواعد أبنائه (1) وبذلك عادت زمزم الى سابق عهدها يستقي منها الشاربون ، وقد وجد عند كشف زمزم غزالين من ذهب وجواهر وسيوفا وذهبا كثيرا كان ساسان ملك الفرس قد أهداها للحرم فدفن ذلك مع زمزم فلما وجدها عبد المطلب صنع باب الكعبة منها.
** موقعة الفيل :
وفي عهد عبد المطلب كانت واقعة الفيل .. وأصحاب الفيل هم طغاة من الأحباش كانوا قد زحفوا على اليمن فاستعمروا أهلها ثم ما لبث قائدهم أبرهة أن تطلع إلى مد نفوذه الى الحجاز كعبة العرب فشرع يناوىء مكانتها الدينية بانشاء كعبة فخمة آملا أن تنصرف اليها أذهان العرب عن مكة فلما لم تنجح فكرته وظلت الكعبة على قدسيتها في نظر العرب أبى ألا أن يضع حدا عمليا لنهاية هذا التقديس فجهز جيشا عظيما وسيره الى مكة لهدم كعبتها (2) فأصبحت قريش ذات يوم على أصوات المغيرين يتقدمهم فيل عظيم ولم يكن للعرب عهد بمثل ذلك فلم يسع عبد المطلب إلا أن ينادي في قريش أن يحجزوا ابلهم ويحموها ويتركوا أمر البيت «فان للبيت ربا يحميه» ثم قام إلى باب الكعبة فأخذ بحلقه وهو يبتهل :
يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
ولئن فعلت فإنه أمر تتم به فعالك
Page 34
ولقد حمى الله البيت بأبلغ ما تكون به الحماية ودفع عنه بأشد ما يكون الدفاع وأعظمه (3).
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل* ألم يجعل كيدهم في تضليل* وأرسل عليهم طيرا أبابيل* ترميهم بحجارة من سجيل* فجعلهم كعصف مأكول ) صدق الله العظيم.
** الانحلال في مكة :
وظل الأمر لعبد المطلب في مكة على أثر هذا ، إلا أن القبائل النازحة الى جوار البيت كانت قد تكاثرت وتفاقم تناسلها فتفرقت بطونا في بادية مكة وشرعت كل بطن تعتز بسيد فيها فتعددت السلطات وتنوعت أحكامها وتقاليدها وتعددت العقائد والديانات وغدا أصحاب الشهوات يتفننون في شهواتهم محتمين بتقاليدهم القبلية لا يهابون حكما ولا يخشون سلطانا.
** اهلال النبي :
وفي خضم هذه الفوضى وغمرة هذا الانحلال كانت آمنة بنت وهب تتمخض في بيت من بيوت عبد المطلب .. وفي ليلة زاهرة من ليالي قريش أهل هلال النبي صلى الله عليه وسلم .
ودرج النبي صلى الله عليه وسلم كأفضل ما يدرج الصبيان أدبا حتى يفع في أطهر ما يفع فيه شاب اختارته العناية الإلهية لا ليقود أمته إلى طريق الخلاص والنور فحسب بل ليضع يده على مقدرات التاريخ فيصوغها من جديد ويترك أثره فيها قويا لا تمحوه جبابرة الأرض وأكاسرتها خالدا لا تعفيه أحداث الحياة أبد الآبدين.
Page 35
** عمارة الكعبة :
وفي هذه الأثناء انتاب قريشا ما انتابها من حريق الكعبة وتصدع بنائها ووهن أحجارها فارتاعت قريش وحارت في أمرها أيما حيرة ولما قال قائلهم بضرورة هدمها واعادة بنائها وقفوا من ذلك وقفة الخائف الملتاع حتى تقدم الوليد بن المغيرة فاقتلع أول حجر وهو يقول : اللهم لا ترع ، لا نريد إلا الخير. فأتبعه الناس وقاموا بمعاولهم على نقضها.
وشارك النبي وهو شاب في نقل حجارتها مع الناقلين من بني هاشم فقد كانت كل قبيلة تجمع ما تنقله على حدتها وشرع البناؤون في البناء وكانت قريش تنقل الحجارة من حراء وثبير ومن جبل المقطع بين الطائف وعرفات ومن خندمة ومن جبل حلحلة بالقرب من الزاهر.
وعندما بلغ البناء موضع الحجر الأسود اختصموا في شأنه (1) كل قبيلة تريد أن ترفعه الى موضعه حتى إذا أعدوا أنفسهم للقتال خرج فيهم أمية بن المغيرة وهو يومئذ أسنهم فقال : يا معشر قريش اجعلوا فيما تختلفون فيه أول داخل إلى المسجد فكان أول داخل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا هذا الأمين وقد
Page 36
رضيناه فلما انتهى اليهم وأخبروه قال صلى الله عليه وسلم هلم الي ثوبا فأخذ الثوب فوضع الحجر فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم رفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا موضعه وضعه هو بيده ثم بني عليه.
وظلوا على عملهم في البناء حتى أتموا البيت في ارتفاع ثمانية عشر ذراعا أي بزيادة تسعة أذرع عما كان بناها ابراهيم عليه السلام ، وكان الحجر ضيقا في عهد ابراهيم فوسعوه بما نقصوه من عرض الكعبة ورفعوا بابها في مصراع واحد ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا وكبسوها بالحجارة وكانت في عهد ابراهيم غير مسقوفة فاتخذوا لها سقفا وجعلوا لها ميزابا لتصريف مياه المطر (1).
* النواحي العامة في عهد قريش
** الناحية العمرانية :
كنا في حديثنا عن جرهم وقطورا أشرنا الى أن العمران في مكة لم يزد عن مضارب من الشعر كانت تتلاصق أو تتباعد في حواشي الوادي وبين ليات جباله ، وما أطل العهد الذي ندرسه عهد حكومة قريش حتى كانت المضارب من الشعر قد حلت محلها البيوت مرصوصة بالحجر أو مبنية بالطين والحجر فيما يحاذى المسجد أو بالطين النى وحده على حوافي الأباطح في أعلى مكة أو على شواطىء المسيل في أسفلها.
** بناء البيوت وتبويبها :
وكان سعيد بن عمرو السهمي أول من بنى بيتا بمكة وقد قيل فيه :
Page 37
وكانوا يبنونها بحيث لا تستوي على سقوف مربعة كما نفعل اليوم. وأول من بنى بيتا مربعا حميد بن زهير ، واستهولت قريش عاقبة التربع في هندسة البيت ، فقالت : «ربع حميد بيتا أما حياة واما موتا» (2) وأول من بوب في مكة «حاطب بن أبي بلتعة» (3) وكانوا يجعلون بين يديها العرصات ينزل الحجاج فيها والمعتمرون ، ولما شرعوا يصنعون لبعض الدور أبوابا كانوا يقصرون ذلك على بعض غرفها ويتركون مداخلها شارعة على عرصاتها دون أبواب ، وقد قيل أن بنت سهيل عندما استأذنت عمر بن الخطاب في أن تجعل على دارها بابين أبى وقال لها : انما تريدون ان تغلقوا دوركم دون الحجاج والمعتمرين قالت : والله ما اريد إلا أن أحفظ على الحجاج متاعهم فأغلقها عليهم من اللصوص فأذن لها فبوبتها.
** منازل القبائل في مكة :
ويستطيع الباحث أن يستنتج أن العمران في مكة في عهدنا الذي ندرسه نشط نشاطا طيبا ، بعد أن تركنا المضارب تتباعد على حوافي وادي إبراهيم من أعلى مكة الى أسفلها ، ثم تعرج في ناحية منها الى مداخل الشامية اليوم نحو قعيقعان نجدها الآن وقد اتصلت وتكاثفت واتخذت كل قبيلة منزلها من الوادي وشعابه ولم يزحف عمرانهم الى مرتفعات الجبال وأكتافها كما نفعل اليوم. بل ظل مستويا باستواء سطح الوادي.
فقد ذكروا أن قصيا خط للكعبة ساحة توازي صحن المسجد (المطاف) اليوم
Page 38
وأباح للناس أن يبنوا دون ذلك حول مدارها من الجهات الأربع وكانوا لا يبيحون لأنفسهم قبل قصى السكني أو المبيت بجوار الكعبة ثم أمرهم أن يجعلوا بين بيوتهم مسالك يفضون منها الى ساحة الكعبة ، وأهم هذه الطرق طريق شيبة وهو في مكان باب بني شيبة اليوم (1) ولم يبوب ساحة الكعبة أو يسورها ، كما أمر بآن لا يرفعوا بيوتهم عن الكعبة لتظل مشرفة عليها وكانوا يتخذون مجالسهم العامة في أفيائها ، كما بنى دار الندوة لاجتماعاتهم الخاصة.
وفي استطاعتنا ان نرسم خطوطا تقريبية لخريطة مكة نبين فيها باختصار مواقع البطون في مكة يومها وسير العمران بين شعابها اعتمادا على ما ذكره الأزرقي في تخطيطه مواقع القبائل في كتابه أخبار مكة (2).
ولتوضيح ذلك في الأذهان نستطيع أن نجعل من باب بني شيبة نقطة ابتداء لتخطيطاتهم ، فقد كان موضع ارتكاز الحركة العمرانية في أم القرى ، كما كان أهم مداخل المسجد الحرام ، وكانت البيوت تتكاثف حوله متجهة في الشرق إلى «حصوة» باب علي ، وفي الشمال قليلا إلى «حصوة» باب السلام تنزلها بطون من غساسنة الشام وبعض السفيانيين وتنخللها متاجر للعطارين ، فإذا مضى بنا الخط مستقيما إلى جهة باب النبي واجهنا بيت العباس ودار جبير ابن معطم ودور لبني عامر بن لوي واستقام أمامنا زقاق أصحاب الشيرق ، وهو إلى جانب زقاق الحجر حيث تقوم دار لابن علقمة ودور أخرى لآل عدي من ثقيف ، فإذا نفذنا من ذلك الى شارعنا العام في القشاشية (3) متوجهين الى أعلى مكة
Page 39
استقام أمامنا سوق كانوا يسمونه سوق الفاكهة ثم سوق الرطب ، ثم رباع كانت لبعض بنى عامر ، وعند سوق الليل تصافحنا الدار التي كانوا يسمونها دار مال الله وكانوا ينفقون فيها على المرضى ويطعمونهم. وبالقرب من الدار يلتوي شعب ابن يوسف وهو ما نسميه اليوم شعب علي وفيه دور عبد المطلب بن هاشم ودور أخرى لأبي طالب واخرى للعباس بن عبد المطلب وإذا عدنا إلى استقامتنا في شارعنا العام يصافحنا دار العاص في فوهة شعب بني عامر ثم يلتوي شعب بني عامر في دروب متعددة تقوم عليها دور لبني بكر واخرى لبني عبد المطلب بن عبد مناف ونستقيم مرة أخرى في شارعنا العام فيواجهنا ردم آل عبد الله ، وكانوا يعارضون به مجرى السيل ويسمونه الردم الأدنى وعنده يقف الحمارون ونمضي قليلا إلى المعلاه لنجد الجزارين عن يميننا في شعب أبي دب ، ثم مكان المقابر وهي بعد حدود شعب عامر ثم بعض بساتين ننتهي منها إلى شعبة الجن ، ثم ثنية الحجون ثم بساتين اخرى نصل بعدها إلى شعب الصفى وهو ما نسميه اليوم المعابدة (1) وفيه دور لبني كنانة وآل عتبة بن أبي معيط ودور لربيعة من بني عبد شمس.
وإذا بدأنا خطا آخر من باب بني شيبة متوجهين الى الشمال الشرقي في المسعى صادفتنا دور لبني عدي قائمة بين باب بني شيبة ورواق باب السلام ، وفي المسعى يتوجه درب الى يميننا كانوا يسمونه الحزامية كان فيه مكان للبانين وفيه سقيفة ودار الحكم بن حزام ودور يتخللها عرصات لبني سهم ويمضي بنا الدرب إلى بيت خديجة حتى يخرج الى مكان المدعى اليوم.
Page 40