هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئت سلقكم إلى قطينا
فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي ضحك وقال: ما زاد ابن الفاعلة على أن جعلني شرطيا عنده! ثم قال وقد نبض به عرق العصبية لمضر: أما والله لو شاء لسقتهم إليه. ولم يكن ليفت في عضد هذه العصبية الغالية سوى العقيدة الإسلامية التي جعلت الإسلام هو العروة الوثقى، وجعلت أخوته فوق كل رابطة. ولذلك قيل: إن العرب لم يكونوا ليتحدوا في يوم من الأيام إلا بالإسلام، ولولا الإسلام لبقوا شعوبا وقبائل يقتتلون في جزيرة العرب إلى يوم القيامة، وبأسهم أبدا بينهم. فلما جاء الإسلام ووحد بينهم في الدين، وقال الله تعالى:
إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا
لم يلبثوا أن خرجوا من جزيرة العرب بقوة هذا الاتحاد؛ ففتحوا نصف العالم في ثمانين سنة، ولم يقف في وجههم شيء! ولكن بعد أن بعد عهدهم بعهد النبوة وخلافة الراشدين ضعفت فيهم العقيدة التي كانت هي مدار العمل عند سلفهم، وعادت فتجددت بينهم العصبيات الموروثة عن الجاهلية، فرجعوا يقتتلون على المضرية واليمنية في الإسلام، كما كانوا يقتتلون قبل الإسلام، ورجع بذلك زرعهم هشيما، وبذرهم عرجونا قديما.
فكما أن الأنساب كانت تثير فيهم الحمية والنخوة، وتبعث روح التنافس الحافز لهم على طلب المجد؛ كانت تثير بينهم أيضا العداوات والفتن التي تصدع وحدتهم وتخمد في النهاية جمرتهم، فأضرت من حيث نفعت. ولقد أجمع المؤرخون، واتفق علماء الاجتماع، أن سبب سقوط سلطنة العرب هو طبيعة هذه الأمة في الانقسام والانفراد، وغرامها في منافسة بعضها بعضا.
ولولا آفة الانقسام هذه لكان التمسك بالأنساب هو من الفضائل الاجتماعية التي يتنافس بها، ويتمكن بها المصلحون لحكوماتهم وأوطانهم من ترقية أقوامهم بالبحث عن سلائلهم، والاعتناء بحفظ أصالتها ومنع اختلاطها بغيرها مما يشوب نقاوتها.
أفلا ترى كيف ثار الألمان في هذه السنين الأخيرة، وأوجدوا قضية النسب «الآري» ومنعوا بجميع الوسائل اختلاط «السامي» مع «الآري» بالمصاهرات حفظا للنسب الذي ينتمون إليه، والذي لا يرون لهم رقيا إلا به وضمن خصائصه وما فعلوا ذلك إلا بناء على نظريات علمية ثابتة، وهم وإن كانوا غلوا في هذا الأمر إلى حد أوجب انتقاد سائر الأمم لهم فلا يمكن أن يقال إن قاعدتهم هذه غير راجعة إلى أصل صحيح.
ونحن لو نظرنا إلى السبب في حفظ النسب لا نجده منحصرا في معرفة التاريخ ولا في الامتيازات المادية التي يحوزها أصحاب النسب في العادة، ولكن هناك غرض آخر أعلى من ذا وذا، وهو توارث الأخلاق التي تهتف بالفضائل، والأفعال المجيدة، تزكي الأنفس، فمن المعلوم أن أصل البيوت الشريفة هو أن يبرع أحد الناس على أقرانه، ويبذ أبناء زمانه بطبيعة ممتازة في نفسه قد تكون أسبابها النفسية مجهولة، وإنما تظهر آثارها في أفعاله فيمتاز بين قومه وتحصل له رئاسة وسؤدد، ويشيع ذكره، ويرتفع شأنه، وتتمنى الحوامل أن تلد مثله، وهذا ما يقال له المجد الطريف وبعد ذلك إذا أعقب نسلا اجتهد نسله أن يقتدوا به بقدر الإمكان، حتى يمتازوا بالأخلاق التي امتاز بها أبوهم، ويحوزوا مثلما حازه من الشرف والسؤدد، وتعب رهطهم في تقوية هذه الروح فيهم طمعا في استبقاء هذه الغرائز التي أورثهم إياها سلفهم، وهي التي تغريهم بالفضائل، وتبعدهم عن الرذائل، وترتفع بهم عن سفاسف الأمور ويقال لهذا المجد التليد.
ولهذا كان من العادة أنه إذا أقدم أحد أبناء البيوتات الكريمة على عمل خسيس كان أول ما يقرعه به الناس، ويهيبون به إلى التوبة منه؛ أن يقولوا له: أفلست أنت ابن فلان؟ أو من آل فلان؟ أيجمل بك أن تفعل ما هو كذا وكذا! فماذا تركت للسوقة والطغام؟ وأشباه هذه الأقوال التي تدل دلالة واضحة على أن الأصالة مفروض فيها أن تقترن بالنبالة، وبعبارة أخرى إن الأصيل في نسبه ينبغي أن يكون فاضلا في عمله، بارعا بأدبه. وما جاء على خلاف هذه القاعدة فيعد شاذا.
Unknown page