152

Tarikh Ibn Khaldun

تاريخ ابن خلدون

Genres

السلطان عبد الحميد الأول

فتولى الملك السلطان عبد الحميد الأول والملك جمرة تضطرم، ولم تصل الفوضى في السلطنة العثمانية إلى مثل ما وصلت إليه لذلك العهد، فإن أحمد باشا والى بغداد كان قد أعلن استقلاله، وظاهر العمر الزيداني كان قد استفحل أمره واستولى على بلاد الجليل، التي يقول لها العرب «بلاد الأردن» وحصن عكا واتخذها عاصمة له، وكان محمد بك والى مصر ثائرا تقريبا، وكان محمود باشا والى اشقودره في شمالي ألبانيا قد انفصل عن الدولة، وكان أهم منه علي باشا وإلى يانيا الذي أسس في جنوبي ألبانيا مملكة مستقلة.

دخل عبد الحميد الأول على السلطنة وهي بهذه الحالة، وجاءت الروسيا وأعلنت عليه الحرب انتقاما عن هزائهما الماضية، وأسرع القائد الروسي الكونت رومانسوف فقطع بين الجيش العثماني وبين ميرته التي كانت في فارنة، فوقع الرعب في الجيش وتبدد شمله، ولم يبق مع السرعسكر إلا 12 ألف مقاتل، فرأى السلطان أن مداومة الحرب مستحيلة، وعقد مع الروسيا معاهدة «كوتشوك قينارجي» في 21 يوليو سنة 1794، وبهذه المعاهدة انسلخت بلاد القريم وبلاد بوجاق وبلاد قوبان عن تركيا، واستولى الروس على كيلبورم ويني قلعة وآزوف، وصار لهم حق الملاحة في البحر الأسود، ورجعت الفلاخ والبغدان إلى تركيا، ولكن مع الاعتراف للروسيا بحق إبداء رأيها في شئون تينك الإمارتين، وكذلك صار للروسيا حق آخر وهو التكلم في الشئون العائدة للمسيحيين وكنائسهم، مما كان السبب في الحرب المسماة بحرب القريم سنة 1854.

قال هامر مؤرخ السلطنة العثمانية: من بعد هذه المعاهدة صار السلم والحرب مع الدولة العثمانية في قبضة الروسيا، وقلما وجدت معاهدة على تركيا أشأم منها، ولم ينشف الحبر على الورق حتى أعملت الورسيا دسائسها في شبه جزيرة القريم، فثار الأهالي وخلعوا دولة غرائي الأمير الشرعي وبايعوا شاهين غرائي الذي انضوى تحت لواء الروسيا، فلم يقبل أشراف البلاد أن يدخلوا في طاعة الخان الجديد، فاستنجد هذا كاترينة فأرسلت إليه جيشا سبعين ألف عسكري، فقبضوا على أشراف البلاد وأعيانها وقتلوا منهم وغربوا وارتكبوا الفظائع، وانتهى الأمر بخضوع القريم للحكم الروسي، وبعد أن قضت الروسيا وطرها من القريم نفمت الخان شاهين هذا إلى الخارج، فلجأ إلى تركيا فنفوه إلى رودس وقيل إنهم قتلوه، وصارت القريم والقوبان من ذلك العهد جزءا من الروسيا، واعترف الباب العالي بذلك سنة 1784، وكانت النمسا والروسيا متفقتين حينئذ، وتعاهد الإمبراطور يوسف الثاني صاحب النمسا والقيصرة كاترينة على اقتسام تركيا، فاضطر الباب العالي أن يعلن الحرب على الدولتين، فزحفت الجيوش النمسوية من جهة بلغراد فكسرها الصدر الأعظم في لاغوس واكتسح بلاد البانات التي كانت لتركيا من قبل، وهاجم الأتراك مدينة كليبورم فامتنعت عليه لأن الروس أحسنوا الدفاع عنها، واستولوا على هوفسيم وعلى اوقزاقوف، وجاء قبطان البحر حسن باشا لينقذ أوقزاقوف، فخسر خمس عشرة سفينة وأحد عشر ألف مقاتل، فكانت نتيجة هذه الفادحة أن الروس دخلوا اوقزاقوف وذبحوا 25 ألف نسمة من أهلها.

وفي أثناء هذه الحرب ظهر رجل في الأناضول تسمى بالشيخ أوعلان أولو، وزعم أنه المهدي وكاد يثير الأناضول كلها على الدولة، ومن الغريب أن هذا المهدي كان في الحقيقة رجلا طليانيا اسمه الأصلي «جيوفني فاتيستابوتي» “Jiovanni Battisla Boalti” ، ولد في بيازانو من إيطالي ودخل راهبا عند الدومينيكان في أوفين “Ravenne”

فأرسلوه إلى الموصل، فاختلف هناك مع المطران وخرج من الدير، وأخذ يجوب بلاد الأناضول وبلاد إيران، وانقلب من الرهبانية إلى القيادة العسكرية، وإلى الدعاية المهدوية، وأخذ يخطب في الأمصار في إعادة الإسلام إلى نقائه الأول كما كان عليه السلف، فانقاد الناس إلى كلامه وأطاعوه، وزحف إلى أرضروم واستولى عليها وتلقب بالمنصور، واراد أن يتقدم منها إلى سيواس، فأرسل الباب العالي رسله إلى هذا المهدي يقول له: إنه ما دام المهدي المنتظر فليظهر حماسته الدينية في محاربة الروسيا، فاقتنع المهدي المنصور بهذا الكلام وسار إلى القوقاس يحارب الروس وانتصر في الوقعة الأولى على القائد الروسي أبركسين، ثم انكسر، وما زال يحارب مدة أربع سنوات، والحرب بينه وبين الروس سجال، إلى أن وقع في أيدي الروس أسيرا فعاملته كاترينة معاملة حسنة، وأجرت عليه رزقا كافيا وعاش في دير الأرمن الكاثوليك إلى سنة 1798.

أما السلطان عبد الحميد الأول فبعد توالي هذه المصائب على المملكة مات غما وذلك في 7 أبريل سنة 1787.

السلطان سليم الثالث

وتولى مكانه ابن أخيه السلطان سليم الثالث، وكان عبد الحميد بخلاف السلاطين السابقين برا بأهله، فكان يعامل السلطان سليما معاملة الأب لأبنه.

فجلس السلطان سليم أسوأ ما كانت السلطنة حالا، وكان سليم مقتنعا بوجوب إصلاحها والأخذ في إدارتها بالطرق العلمية الأوروبية، وكانت هذه الفكرة وقد ملأت دماغه، فتجشم مشقة إجرائها وأنفذ كثيرا منها، وكان حميد الخصال عاقلا حليما، فبدأ ملكه بالعفو والمرحمة وساعد المديونين بأداء ثلاثين في المئة إلى دائنيهم من خزانة السلطنة تخفيفا للأزمة الاقتصادية، ولكن طالع الحرب كان لا يزال مشئوما، فإن قبطان البحر حسن باشا انكسر في «فورشاني» في 21 يوليو سنة 1789، وبعد ذلك بشهرين لحقت بالعثمانيين هزيمة أخرى، وكانت الفلاخ ومولدافيا وبلاد العرب في أيدي الأعداء، والروس يحاصرون قلعة إسماعيل التي هي معقل العثمانيين الأعظم على الدانوب، وكانت الخزانة فارغة، فكانت من كل جهة علامات الشؤم مطبقة، إلا أن حادثا جاء فخفف الأزمة، وهو موت يوسف الثاني إمبراطور النمسا سنة 1790، فإن أخاه ليوبولد خالف السياسة التي كان سائرا عليها أخوه في عداوة تركيا، وعقد الصلح مع الباب العالي، وأعاد إليه جميع البلاد التي كانت النمسا احتلتها من تركيا سوى بعض أماكن على ضفة نهر الأنة، ولكن الروس لبثوا ظافرين وفتحوا قلعة إسماعيل عنوة بعد حصار شديد يفوق الوصف، فذبح الروس جميع المسلمين كبارا وصغارا رجالا ونساء، واستمرت المذبحة ثلاثة أيام، ولما وصل الخبر إلى استانبول ثار الشعب وطلبوا الاقتصاص من رجال الدولة، فقتلوا لهم الوزير حسن باشا الذي كان قبطان البحر برغم ما كان من بسالته وقيامه بواجباته، وكان السر عسكر يوسف باشا قد انهزم أيضا في ماتشين، فتدخلت إنجلترا وبروسيا في الصلح، وانعقدت معاهدة ياسي في 9 يناير سنة 1792، وبموجبها استولت الروسيا على القريم وعلى شبه جزيرة طامان، وقسم من قوبان وقسم من بسارابيا ومدينة أوقزاقوف وغير ذلك.

Unknown page