ومن أجل هذا تظل أعالي جبال الألب ومنحدراتها حوالي القمم في شتاء دائم يخف نوعا ولكنه لا ينقضي، فذروة جبل بلانك مغطاة ببساط من الثلج عظيم السمك يماثل ببقائه على حاله ما هنالك من الصخور الصماء الكائنة تحته، ومن المعلوم أن جبال الألب بجملتها أوديتها وتلالها تظل مغطاة في فصل الشتاء، أما في الربيع فالثلوج تأخذ في الذوبان في أوديتها وما فيها من السهول.
وكثيرا ما تنقد منها جلاميد جليدية في وقت ذوبانها، فتنحط من عل بشدة متناهية تجرف معها الصخور والأشجار وتفتك بما يعترضها في طريقها فتكا ذريعا، وفي منحدرات الجبال الشاهقة العلو وحوالي الذرى السامية يبقى الثلج عالقا في مكانه السنة بطولها، فلا يذوب منه إلا اليسير بفعل حرارة أشعة الشمس حتى في شهر تموز، وفي شقوق جبال الألب العليا وأوديته حيث يتجمع الثلج مندفعا إليها بالرياح والعواصف الدائمة الهبوب في فصل الشتاء، تجد ركام الثلوج راسخة كالأطواد لا يزحزحها شيء من حيث هي مقيمة.
وهي في قلبها تصير على توالي الأيام جليدا صلبا تحت سطحها؛ لأن القسم الأعلى منها أو السطح يأخذ في الذوبان شيئا فشيئا، على أن المنحل منه ماء يجمد بعد انفصاله قليلا بفعل الرياح الباردة، ويصير جلاميد من الجليد الصلب بعد انحداره في الأودية، والأخاديد التي كثيرا ما تكون مساحتها بالطول عشرة أو خمسة عشر ميلا وعرضها بين الميلين أو الثلاثة، وهي كتلة واحدة من الجليد الشفاف الصلب الأزرق اللون الذي يبلغ من العمق مئات الأقدام، وتسمى هذه الأجسام الجليدية جبال الجليد.
وهي في حركة دائمة ولكنها بطيئة جدا، وذلك من تفاعيل ما في قلبها من حرارة الأرض المتصلة إليه، فيقال إنها تنزاح قدما واحدة في كل 24 ساعة بالرغم مما يبدو من صلابتها وجمودها، والواقف بإزائها يسمع ارتجاج حركتها جليا من وقت إلى آخر، وقد تحقق الذين رأوها من هذا الأمر بأن وضعوا علامة على الجليد، وعلامة مقابلة على الصخر على جانبي الوادي، فعرفوا بذلك حقيقة تحركها ومقدار تلك الحركة.
وهاتيك الأودية هي في الواقع أنهار من الجليد قائمة بين قمم الجبال، وجارية بكل بطء ولكن باستمرار إلى حيث تجد لها مخرجا في واد كائن في سفح الجبال، فترى المياه هناك خليطا من الجليد تارة تجري تحت طبقاته، وطورا فوقها فتؤلف منظرا يرتعد له المسافر، وإلى الجانبين أسوار من الجليد هائلة كثيرا ما تتصدع منها جلاميد عظيمة فتهوي إلى المجرى فيسمع لها دوي شديد، فإذا أقبل صيف شديد الحرارة يذوب معظمها ويحدث طوفانا في السهول المجاورة يجرف في طغيانه الأشجار والمزروعات والمنازل.
وجبال الألب واقعة بين فرنسا وإيطاليا وأوديتها العظيمة، وسلاسل الجبال مكونة على صورة تجعل عبورها متحتما على مريد المرور من بلاد أخرى، ولكن تلك السلاسل الجبلية ليست على شيء من الانتظام بل تتخللها الوهاد والمهاوي الكثيرة والأخاديد العظيمة، وفي تلك السلاسل ما يرتفع قمما لها في الجو رواعف، ومنها ما يكون بشكل قباب، ومنها ما هو كالمسلات المصقولة لا يعلق بها ثلج، ولا تستطيع الوعول اجتيازها والتوغل فيها.
فحول هذه القمم وبين تلك المضايق تمتد الدروب متعرجة صعدا على الدوام، فيكون السائر فيها حينا على شفا جرف هار، وحينا تحته وقلبه يدق وجلا من شيء يدفعه إلى أعماق الهوة السفلى الفاغرة فاها لالتهام كل من يهبط به نكد الطالع إلى أعماقها التي لا يدرك لها غور. ومن تلك الأعالي المخيفة يطل السائر على سهول منبسطة سندسية الحلة، فيها الأشجار والمزروعات المختلفة التي تجعلها من أجمل ما تقع عليه العيون تتخللها البيوت الجميلة الهندسية، وتسير في طرقاتها وبين حقولها الماشية على اختلاف أجناسها تقتات مما هنالك من الأعشاب والكلأ.
فتصميم هنيبال على اقتياد جيش إلى إيطاليا عبر جبال الألب بدلا من نقل الجنود على الجواري في البحر، كان ولا يزال معدودا من أعظم الأعمال في الأزمنة الذاهبة، فهو قد تروى قليلا مترددا فيما إذا كان يسير نازلا في نهر الرون، ويلاقي سيبيو ويعاركه أو أنه يترك الجيش الروماني ذاهبا في سبيله، ويقصد هو إيطاليا من طريق جبال الألب. وكان ضباط هنيبال وجنوده الذين أدركوا شيئا من مقاصد قائدهم، وعلموا إلى أين هم ذاهبون تائقين لملاقاة الرومانيين.
ولكنهم كانوا خائفين من جبال الألب كارهين لما يتوقعونه من معاناة اجتيازها. أما العدو فإنهم يرغبون في الاقتتال معه أينما وجد؛ لأن الحرب مهنتهم وقد اعتادوا فلا يحسبون لها حسابا؛ لأنهم يفهمونها ولذلك لا يهولهم أمرها كما يهولهم أمر الصعود في جبال شاهقة تغطيها الثلوج وركام الجليد، فلا يدرون في أية ساعة تزل بهم القدم من فوق الجرف والمنحدرات المخيفة، فيهوون إلى حيث يتعذر عليهم الخلاص، ويموتون بردا وجوعا في تلك الثلوج الأزلية.
ولما أدرك هنيبال أن جنوده في خوف من تسلق تلك الجبال دعا إليه قوادهم، وألقى عليهم خطابا لامهم فيه وعنفهم على استسلامهم للجزع الذي لا موجب له، بعد أن لاقوا صعوبات قاصمة للظهور فقهروها وتغلبوا على أعظم الأخطار، فقال لهم: «إنكم اعتليتم قمم جبال البيرنيه وعبرتم نهر الرون، وأنتم الآن مواجهون لجبال الألب التي هي مفتاح بلاد العدو، فماذا تحسبون جبال الألب؟ إنها ليست سوى تلال عالية، وليس فيها ما يخيف أو يوجب كل هذا الذعر.
Unknown page