وظلت تلك خطة القبائل التي اجتاز في وسطها إلى أن بلغ النهر، على أن الناس المقيمين على الجانب الآخر من النهر قد وجدوا أن الأفضل لهم أن يقاوموه، فهم كانوا على مقربة من البلاد الرومانية، ومن المعدودين على نوع ما تحت النفوذ الروماني؛ هؤلاء كانوا يخافون من استياء الرومانيين إذا هم ساعدوا - ولو بالوقوف على الحياد - تقدم هنيبال ووصوله إلى حيث يقصد بدون أقل معارضة . ولما كان النهر عريضا في ناحيتهم معترضا بينهم وبين أعدائهم، فكروا في مركز يمكنهم أنهم بالنظر إلى النهر في مأمن من بطش هنيبال، وفي مركز يمكنهم من صده عن التقدم.
ولما شرع هنيبال في عبور النهر كان السكان من الجانب الواحد ميالين إلى مساعدته، وتسهيل كل صعوبة تقف في سبيله، وكان سكان الضفة الأخرى يبذلون أقصى جهودهم في عرقلة مساعيه ومنعه عن العبور، وكلاهما مدفوع إلى ذلك بالرغبة نفسها، وهي إبعاد العدو المجتاح عن أرضه، والتخلص من ذلك الجيش الماحق الذي يبلغ عدده التسعين ألفا. وهكذا وقف هنيبال بين أمرين متناقضين؛ أناس على جانبه يسهلون له سبيل العبور مقدمين له السفن والقوارب التي يملكونها، وباذلين منتهى الجهد في إبلاغه غايته من العبور، وأناس على الضفة الأخرى واقفين له صفوفا كالجيش الراصد للكفاح بأسلحته البراقة يهددونه بالويل والثبور، إذا هو أقدم على العبور.
ورآهم هنيبال ألوفا مصفوفة بالسيوف والرماح وخيامهم وراءهم تخفق فوقها راياتهم، وكل حركة من حركاتهم تدل على أنهم يبغون به وبجيشه شرا، وفي غضون تلك الفترة كان الثلاثمائة فارس الذين أرسلهم كرنيليوس للاستكشاف يسيرون على مهل قاصدين أعالي النهر ليستطلعوا طلع العدو. وبعد أن تأمل هنيبال مليا في هذه الحالة وهو ساكت شرع في إعداد ما يلزم لعبور النهر، فجمع كل القوارب التي أمكن الحصول عليها من الغاليين القاطنين على ذلك الجانب للقيام بذلك، على أن هذه القوارب لم تكن سوى مقدمة لذلك العمل الكبير، وبما أنها لاتكفي أخذ في جمع الأخشاب والأدوات لابتناء غيرها، وكانت عادة الغاليين في ذلك الإقليم أن يصنعوا القوارب من جذوع الشجر الضخمة، ويحفرونها كقارب فيقطعون الشجرة حسب طول القارب، وينقرون جوفها بالفأس والقدوم، ويصقلون كعبها الخارجي وجوانبها؛ لكي تجري على الماء بسهولة، وهي طريقة سهلة جدا ما برح الناس يعملون بها إلى هذه الأيام في الأماكن التي يوجد فيها شجر كبير.
وكانت في تلك الناحية أشجار ضخمة كثيرة وهي قريبة من ضفة النهر، وكان جنود هنيبال يراقبون الغاليين في اشتغالهم بحفر القوارب فتعلموا منهم ذلك الفن وأتقنوه، وكان الكثيرون منهم يساعدونهم في قطع الشجر والحفر إلى أن صاروا هم أنفسهم يقطعون الشجر ويحتفرون القوارب وحدهم. ومن الجنود من رأوا في ذلك بعض البطء فصاروا يقطعون الأشجار بقياس معلوم، ويرمونها في الماء، ثم يضعونها القطعة بإزاء الأخرى ويربطونها معا على شكل أرماث طافية، قائلين: إن الأمر لا يحتاج إلى قوارب رسمية فكل ما يطوف على الماء يصلح لعبور الجيش؛ لأن العبور وقتي، ويجب أن تكون وسائله وقتية ما دامت تفي بالحاجة من حمل الجنود ومتاعهم.
وكان الأعداء الراصدون على الجانب الآخر ينظرون، ولا يستطيعون حراكا لمنع تأهب هنيبال، فهم لو كانت لهم مدافع زماننا لأطلقوها عبر النهر، وحطموا ما هنالك من القوارب والأرماث بالقنابل بأسرع ما يقوى على بنائها القرطجنيون والغاليون، فضلا عن أن العمال عنذئذ لا يستطيعون بناءها وهم هدف لضرب المدافع، ولكن الأعداء يومئذ لم يكن لهم سوى الحراب والسهام والأحجار ترمى إما باليد أم بالمجانيق، بحيث لا تصل إلى المكان المقصود، وإن وصلت بعد اجتياز مسافة النهر لا تأتي بالفعل المطلوب.
ومن أجل هذا أرغموا على النظر إلى جماعة هنيبال بسكون وصبر، وأتاحوا لهم على غير رضا منهم المثابرة على إعداد تلك التأهبات العظيمة لمهاجمتهم، بدون أن يكون لهم ما يساعدهم على إيقافها. وكان رجاؤهم الوحيد في الانتظار ريثما يسير العدو في القوارب والأرماث على النهر، ويريد النزول إلى البر وعندئذ يضربونه بما عندهم من سهام وحراب وأحجار؛ لكي يمنعوه من الوصول إلى البر.
ولو أراد جيش عبور النهر، ولم يكن ثم جيش آخر على الضفة الأخرى يعارض عبوره، لكفته قوارب قليلة في العدد؛ وذلك لأنه إذ ذاك ينقل من الجانب الواحد إلى الآخر جماعات جماعات على التوالي، فيعيد القوارب نفسها التي حملت فريقا واحدا إلى حيث تجيء بالفريق الآخر، ولكن عندما يرصد له على الجانب الثاني عدو يريد صده، يكون من الضروري عندئذ أن يعد الوسائل التي تمكنه من نقل قوة كبيرة من رجاله كل مرة؛ لأنه لو أرسل قوة صغيرة إلى حيث العدو واقف، فإنه إنما يرسلها إلى الهلاك المحتم، ويوقعها في أيدي الأعداء الذين يتربصون به ريب المنون.
ومن أجل ذلك صبر هنيبال ريثما تتوفر له القوارب والأرماث والدكات الطافية؛ لكي يحمل عليها قطعة كبيرة من الجيش تكون قوية بعددها ومعداتها فتعارك العدو الراصد ولها أمل بالنجاح، والرومانيون، كما قد سبقنا فقلنا، كانوا يقولون إن هنيبال داهية مكار. فهو لم يكن يميل كالإسكندر إلى الاعتماد في معاركه على التفوق في الشجاعة والقوة، بل كان يبتدع الوسائل المختلفة على الدوام، ويعد التدابير التي ترجح كفة ميزان النصر في جانبه، وذلك ما أتاه في هذه المرة.
فثابر أياما عديدة يتأهب ويبني القوارب ويستعرض الجيش ويصف الأرماث بإزاء الشاطئ على مرأى من أعدائه، مظهرا لهم أن جل اعتماده هو على ما لديه من جموع الرجال الذين يقذف بهم عبر النهر دفعة واحدة، وهكذا عمل على حصر اهتمام العدو بتلك الاستعدادات، وكان في غضون ذلك يدير خطة أخرى، وهي أنه وجه قطعة من الجيش خفية إلى أعالي النهر، وأمرهم بالتسلل خفية في الغاب وعبور النهر من مكان يبعد عنه، حيث كان أميالا معدودة.
وكان التدبير أن هذه القطعة المرسلة، لتعبر النهر من مكان آخر، تنقض بعد التمكن من ذلك على الأعداء ملتفة حولهم ومهاجمة إياهم من الوراء، وذلك لكي تعمل فيهم القتل حينما يكون هنيبال عابرا النهر بأهم كتائب جيشه، فإذا نجحت تلك القطعة من الجيش بعبور النهر يجب أن تعلن ذلك بإشعال نار في الغابة على الجانب الآخر، فيعلم هنيبال من دخان النار المتصاعد في الجو أنها قد اجتازت النهر.
Unknown page