ومن ثم انتشر النساطرة في جوف آسيا وبلاد العرب، ينشرون تعاليم المسيحية، ولم يكونوا عاملين على نشر المسيحية فقط، بل أرادوا أن ينشروا معها تعاليمهم الخاصة في طبيعة المسيح، فأخذوا يستعينون على بث أفكارهم بأقوال ومذاهب منتزعة من الفلسفة اليونانية، فأصبح كل مبشر نسطوري بحكم الضرورة معلما في الفلسفة اليونانية، كما أنه مبشر بالدين المسيحي.
ترجم النساطرة كتب زعمائهم، وعلى الأخص كتب «تيودوروس المصيصي» إلى السريانية؛ ليستعينوا بها على بث أفكارهم، ولكنهم لم يقتصروا على ذلك، بل ترجموا كثيرا من كتب أرسطوطاليس والذين علقوا عليها؛ لأنهم وجدوا فيها أكبر نصير يشد عضدهم في فهم المسائل اللاهوتية العويصة، التي كانوا يبشرون بها بين أمم لم تشم من ريح المدنية إلا قدرا يجعل نشر مثل تلك التعاليم متعذرا، ما لم يستعن عليها بمبادئ من الفلسفة ومباحث في التأمل.
غير أن كثيرا من تلك التراجم قد صب في قالب لم يراع فيه نقل الفلسفة اليونانية لذاتها، بل اتخذت التراجم ذريعة لبث مذهب ديني، هو مذهب النساطرة، والطعن في قياصرة الروم، والكنيسة الرومانية، فقلت الثقة بالنقل من هذه الوجهة وحدها، حيث كانت الضرورة تقضي بأن يختلط قليل من الفلسفة بكثير من تعاليم المذهب النسطوري أو بالعكس؛ للاستعانة بذلك على بث المذهب الديني، وهو الغرض الرئيسي.
تلك كانت النواة التي أشعت بالفلسفة اليونانية، وعلى الأخص بفلسفة أرسطوطاليس والأفلاطونية الجديدة في جو آسيا خارج حدود الإمبراطورية البيزنطية، وسوف نرى في سياق هذا البحث كيف أن جماعة من مترجمي النساطرة كانوا أول من نقل تلك الفلسفة من السريانية إلى اللغة العربية، وبذلك انتشرت في العالم العربي كله.
غير أنك تجد رغم هذا أن في الحركة النسطورية أوجها من النقص شأن كل شيء يصدر عن الإنسان، فإن انبتات صلاتها بالعالم اليوناني خارج الإمبراطورية البيزنطية، جعل حركتها التعليمية مصبوغة بصبغة الانحصار في بقعة محدودة من آسيا.
أما «نسطوريوس» فإنه إن كان قد اتهم أمام الكنيسة، وصدر حكم مجمع «إفسوس» عليه، فإنه ترك الكنيسة أمام مشكلة من مشاكلها العظمى، التي ظلت تعمل في رءوس الناس زمانا، حتى انتهت المناقشات الشيعية بمجمع آخر عقد في سنة 448م بمدينة «خلقيدونية»
Chalcedon ، وكانت نتيجته أن أخرجت فئة أخرى من الكنيسة الرئيسية هم فئة المعتقدين بالطبيعة الواحدة في المسيح
Monophysites .
والظن الغالب على كثير من المؤرخين أن الكنيسة المصرية قد تبعت القائلين بالطبيعة الواحدة، ففي القرن السادس قام يعقوب السروجي وأنشأ شيعة اليعاقبة، وهو الذي كون الكنيسة اليعقوبية المصرية، وجمع شمل أعضائها وأقام أسسها، وأكبر دليل على ذلك أن اسم «أقباط» مشتق من يعاقبة، فإن اسم هؤلاء في العالم اللاتيني «جاكوبيت»، وأقباط أقرب الأشياء تحريفا إليه.
اضطهدت إمبراطورية بيزنطية الشيعة اليعقوبية، ولكن أعضاءها لم يخرجوا عن حدود الإمبراطورية، بل ظلوا داخلها كقسم مستقل بصورة خاصة من أصحاب الطبيعة الواحدة
Unknown page